القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٣

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٣

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٢
ISBN: 964-5841-63-1
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٨٥٦

الكتب القديمة التي روت هذه الروايات بالسند ، أو وافق على صحتها أئمة القوم المعصومين.

ونحن نلزم أنفسنا في هذا الباب أن لا نورد شيئا إلّا ويكون صادرا من واحد من الائمة الاثني عشر ، ومن كتب الشيعة أنفسهم المعتمدة لديهم والموثوقة عندهم ، لبيان أن الشيعة في عصر الائمة قاطبة من بكرة أبيهم ـ ولا أستثني منهم واحدا ـ كانوا يعتقدون أنّ القرآن محرف ومغير فيه ، زيد فيه ونقص منه كثير».

«فنبدأ من (الكافي) للكليني ، الذي قيل فيه :

هو أجل الكتب الأربعة الأصول المعتمدة عليها ، لم يكتب مثله في المنقول من آل الرسول ، لثقة الاسلام محمد بن يعقوب بن اسحاق الكليني الرازي المتوفى سنة ٣٢٨ ه‍» (١).

ثم أورد ثناء العلماء على كتاب الكافي ومؤلفه ، ثم قال في ص ٣١ منه :

«فذاك هو الكافي وهذا هو الكليني. فهذا الكليني يروي في ذاك الكافي ...»

ثم نقل عن الكافي روايات فيها ذكر مصحف فاطمة (ع) وقد درسناه في باب «مصطلحات قرآنية» من الجزء الاول من هذا الكتاب وروايات أخرى استدلّ بها على القول بتحريف القرآن الكريم والزيادة والنقيصة فيه ـ العياذ بالله ـ ثم قال في ص ٣٤ منه :

«هذه ، ومثل هذه الروايات كثيرة كثيرة في أوثق كتاب من كتب القوم ، الذي عرض على الامام الغائب فأوثقه وجعله كافيا لشيعته. أعرضنا عنها لما أنها وردت في كتاب (فصل الخطاب) الذي خصصنا له الباب الرابع من هذا الكتاب تجنبا عن التكرار».

ثم ذكر في ص ٣٥ ـ ٣٦ ، تفسير المنسوب إلى علي بن إبراهيم القمي (كان

__________________

(١) الذريعة الى تصانيف الشيعة ، لآغا بزرك الطهراني ج ١٧ ص ٢٤٥.

٦١

حيا الى سنة ٣٠٧ ه‍).

وفي ص ٣٧ و ٣٨ ، تفسير العياشي لأبي النظر محمد بن مسعود بن محمد بن عياش السلمي السمرقندي (ت : ٣٢٠ ه‍).

وفي ص ٣٨ و ٣٩ ، بصائر الدرجات لمحمد بن حسن الصفّار (ت : ٢٩٠ ه‍).

وفي ص ٣٩ ـ ٤٢ ، تفسير فرات بن إبراهيم الكوفي (توفي حدود سنة ٣٠٧ ه‍).

وفي ص ٤٢ ، الكتاب المنسوب إلى سليم بن قيس الهلالي أبي صادق العامري (ت : ٩٠ ه‍) الذي أدرك أمير المؤمنين عليا والائمة من ولده : الحسن والحسين وعلي بن الحسين (ع) وتوفي متسترا عن الحجاج ونقل عنهم روايات استدلّ بها على عقيدة الشيعة بتحريف القرآن في ما سمّاه : «في الدور الاوّل» كما استدلّ لذلك بأقوال كل من السيد نعمة الله الجزائري ، والسيد هاشم البحراني ، والشيخ النوري ، نقلا من كتابه فصل الخطاب. ثم قال :

«فهؤلاء محدثوا القوم ومفسروهم ورواتهم الأجلة في العصور الأولى لقوا أئمتهم ورووا عنهم بلا واسطة وبواسطة. فكلهم يروون مثل هذه الروايات ويعتقدون بهذه العقيدة أي عقيدة تحريف القرآن وتغييره وهؤلاء هم عمدة المذهب ، وتلك كتبهم عليها مدار عقائد الشيعة ، لولاهم ولولاها لما ثبت لهم شيء».

إذا فقد اعتمد في ما نسب من القول بالتحريف الى الشيعة في هذا الدور على حد زعمه بأمرين :

أ ـ الروايات التي وردت في تلكم الكتب.

ب ـ أقوال الأعلام الثلاثة الذين نقل أقوالهم.

أما الروايات ، فمجال دراستها في الباب الرابع من كتابه مع ما أورده من روايات هناك. على ان علماءنا المحققين أثبتوا سقوط اعتبار قسم من الكتب التي استدل بها الشيخ النوري أولا والاستاذ الهي ظهير أخيرا ، مثل :

٦٢

أولا ـ التفسير المنسوب إلى القمي :

ان هذا التفسير يحتوي على :

أ ـ بعض ما روي فيه عن علي بن إبراهيم القمي والراوي عنه مجهول حاله ولم نجد له ذكرا في كتب الرجال.

ب ـ ما أدرج فيه الراوي المجهول من تفسير أبي الجارود ، وأبو الجارود زياد بن المنذر رأس الجارودية من الزيديّة ، وسمّوا بالسرحوبيّة ـ أيضا ـ قال الكشي : وكان أبو الجارود مكفوفا أعمى ، أعمى القلب وقد ورد لعنه على لسان الصادق (ع) ، قال : «لعنه الله فانه أعمى القلب ، أعمى البصر» (١).

ج ـ ما أورده الراوي المذكور من سائر مشايخه.

د ـ مقدمة وضعها الراوي المذكور أو غيره للتفسير أورد فيها مختصرا من روايات منسوبة الى أمير المؤمنين (ع) في صنوف آي القرآن الكريم والتي فصّلها وشرحها صاحب التفسير المنسوب إلى النعماني.

ه ـ يبتدئ التفسير بقوله : حدثني أبو الفضل بن العباس بن محمد بن القاسم بن ... (٢)

قال بترجمة الكتاب في الذريعة :

ولخلّو تفسيره هذا عن روايات سائر الأئمة عليهم‌السلام قد عمد تلميذه الآتي ذكره والراوي لهذا التفسير عنه ، الى ادخال بعض روايات الامام الباقر عليه‌السلام التي أملاها على أبي الجارود في أثناء هذا التفسير ، وبعض روايات أخر عن سائر مشايخه مما يتعلق بتفسير الآية ويناسب ذكرها في ذيل تفسير الآية ، ولم يكن موجودا في تفسير على بن إبراهيم فادرجها في أثناء روايات هذا

__________________

(١) فهرست النديم ، ص ٢٦٧.

(٢) تفسير القمي ١ / ٢٧.

٦٣

التفسير تتميما له وتكثيرا لنفعه ، وذلك التصرف وقع منه من أوائل سورة آل عمران إلى آخر القرآن ، والتلميذ هو الذي صدر التفسير باسمه في عامة نسخه الصحيحة التي رأيناها (١) فمن الذي يقول حدثني أبو الفضل بن العبّاس؟ هل هو المؤلف نفسه؟ ومن هو أبو الفضل بن العباس؟ هل هو التلميذ نفسه؟ وهل المؤلف يقول حدثني تلميذي؟ وبناء على ذلك فهو قول مجهول عن قائل مجهول ، ولا نعلم حقيقته!

ثانيا ـ تفسير العياشي

قال بترجمة الكتاب في الذريعة :

«تفسير أبي النضر محمد بن مسعود بن محمد بن عياش السلمي السمرقندي المعروف بتفسير العياشي ، حذف منه الناسخ أسانيد الروايات لغرض الاختصار.

قال العلّامة المجلسي «وذكر في أوله عذرا هو أشنع من جريمته!» (٢) وكيف يستدل على روايات لا يعلم من رواها وهل رواها راو غال ضالّ كذّاب أو نقلها المؤلّف من رواة مدرسة الخلفاء لسنا ندري شيئا من ذلك؟

__________________

(١) راجع الذريعة ج ٤ / ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ترجمة تفسير القمي. وأخيرا قد أثبت البحاثة الرجالي النيقد الفقيه السيد موسى الشبيري الزنجاني في دراسة مقارنة له في مصادر التفسير : انّ هذا التفسير ليس جميع تفسير القمي ، كما انّ ما جاء فيه ـ أيضا ـ ليس للقمي وحده. راجع مجلة : «مرآة التحقيق» الرقم المسلسل ٤٨ ، ص ٥٠.

(٢) الذريعة ٤ / ٢٩٥ ؛ والبحار ط. طهران ١ / ٢٨ ؛ وتفسير العياشي ١ / ٢.

٦٤

ثالثا ـ تفسير فرات الكوفي :

لم نجد لفرات الكوفي ذكرا في كتب تراجم الرواة ولا ضمن تراجم الآخرين ولم نعرف نسبه ومن هو فرات الكوفي؟!

وقد جاء في مقدمة الكتاب الذي لا يعرف قائله : «وتفسير آيات القرآن المروي عن الائمة» في حين ان المصنف جمع فيه من الكتب التفسيرية التي كانت متداولة في عصر الائمة بأسانيد مختلفة ومن مختلف الفئات الاسلامية فمن الشيعة نقل عن الامامية والزيدية والواقفية و... ونقل من السنّة كذلك من مختلف الفئات ولم يقتصر فيها على أحاديث الرسول (ص) أو أهل بيته (ع) عليهم الصلاة والسلام بل تعداها إلى أقوال الصحابة والتابعين وبعض الشخصيات الاخرى.

وربما كان من الناحية الفكرية والعقيدية زيديا أو كان متعاطفا معهم ومخالطا إيّاهم ومتمايلا إليهم على الاقل كما يبدو واضحا لمن يلاحظ في الكتاب مشايخه وأسانيده وأحاديثه ، فهو أشبه ما يكون بكتب الزيدية ، وليس فيه نص على الائمة الاثني عشر ، وإن كان مكثرا في الرواية عن الصادقين بنصوص تؤكد إمامتهما وعصمتهما لكن في المقابل يروي عن زيد أحاديث تنفي العصمة عن غير الخمسة من أهل البيت. وربما كان السبب في عدم ذكر ترجمته في الكتب الرجالية هو أنه لم يكن إماميا لتهتم الامامية به ، ولم يكن سنّيا ، لتهتم السنّة ، به بل هو من الوسط الزيدي في الكوفة ، والزيدية قد انمحت الكثير من آثارهم.

وكيف يصح الركون إلى مرويات كتاب مثل هذا (١)؟!

__________________

(١) رجعنا فيما ذكرنا هنا الى تحقيق الاستاذ المحقق محمد الكاظم باول الكتاب ط. طهران سنة ١٤١٠ ه‍.

٦٥

رابعا ـ ما سمي بأصل سليم بن قيس الهلالي :

كان سليم من أصحاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام. غير ان النسخة المنسوبة إليه انتشرت بعد وفاته.

وقال الشيخ المفيد : «هذا الكتاب غير موثوق به ، ولا يجوز العمل على أكثره ، وقد حصل فيه تخليط وتدليس. فينبغي للمتديّن أن يتجنب العمل بكل ما فيه ولا يعوّل على جملته والتقليد لروايته» (١).

وقال بترجمة الكتاب في الذريعة : رأيت منه نسخا متفاوتة :

أولا ـ في سند مفتتحها.

ثانيا ـ في كمية الأحاديث.

ثالثا ـ لا توجد فيها جملة من الأحاديث المروية عن كتاب سليم في سائر كتب القدماء (٢).

كان ذلكم شأن الكتب التي استدل بما جاء فيها الاستاذ ظهير. وأمّا الاعلام الثلاثة الذين استشهد بأقوالهم ، فقد قال :

أولا ـ عن السيد نعمة الله الجزائري :

قال الاستاذ البحاثة الشيخ معرفت في كتابه : صيانة القرآن من التحريف :

«نعم ، حدثت فكرة وقوع التحريف من قبل فئة هم شرذمة قليلة من هذه الأمة ممّن لا اعتداد بهم في جماعة الشيعة ، وذلك في عهد متأخّر ، منذ أن نبغ نابغتهم الجزائري (١٠٥٠ ـ ١١١٢) في حاشية الخليج.

فأشاد من هذه الفكرة وأسّس بنيانها على قواعد الاسترسال والانطلاق

__________________

(١) تصحيح الاعتقاد ص ٧٢.

(٢) الذريعة ٢ / ١٥٢ ـ ١٥٩.

٦٦

مع شوارد الاخبار وغرائب الآثار.

وانطلقت وراءه زرافات من أهل الخبط والتخليط ، وأخيرا رائدهم النوري (١٢٥٤ ـ ١٣٢٠) في فصل الخطاب ، الذي حاول فيه نقض دلائل الكتاب ، ونفي حجّيته القاطعة ، الثابتة عند أهل الصواب.

وإليك من دلائل الجزائري في كتابه «منبع الحياة!» :

قال : «إنّ الأخبار المستفيضة بل المتواترة قد دلّت على وقوع الزيادة والنقصان والتحريف في القرآن. منها ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام لمّا سئل عن التناسب بين الجملتين في قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) فقال : لقد سقط أكثر من ثلث القرآن.

ومنها : ما روي عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ...) قال : كيف يكون هذه الأمة وقد قتلوا ابن رسول الله ليس هكذا نزلت وإنّما نزولها «كنتم خير أئمة» يعني الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام.

ومنها : ما روي في الأخبار المستفيضة أنّ آية الغدير هكذا نزلت «يا أيّها الرسول بلّغ ما انزل إليك ـ في عليّ ـ فإن لم تفعل فما بلّغت رسالاته»!! إلى غير ذلك ممّا لو جمع لصار كتابا كبير الحجم»!

قال : «وأمّا الازمان التي ورد على القرآن فيها التحريف والزيادة والنقصان ، فهما عصران : العصر الأول عصره (ص) وأعصار الصحابة. وذلك من وجوه :

أحدها : أنّ القرآن كان ينزل منجما على حسب المصالح والوقائع ، وكتّاب الوحي كانوا ما يقرب من أربعة عشر رجلا من الصحابة ، وكان رئيسهم أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقد كانوا في الاغلب ما يكتبون إلّا ما يتعلّق بالاحكام وإلّا ما يوحى اليه في المحافل والمجامع. وأمّا الذي كان يكتب ما ينزل في خلواته

٦٧

ومنازله ، فليس هو إلّا أمير المؤمنين عليه‌السلام لأنّه كان يدور معه كيفما دار ، فكان مصحفه أجمع من غيره من المصاحف».

قال : «ولمّا مضى (ص) إلى لقاء حبيبه ، وتفرّقت الأهواء بعده جمع أمير المؤمنين عليه‌السلام القرآن كما انزل ، وشدّه بردائه وأتى به الى المسجد وفيه الاعرابيان وأعيان الصحابة ، فقال لهم : «هذا كتاب ربّكم كما انزل». فقال له الاعرابي الجلف : «ليس لنا فيه حاجة ، هذا عندنا مصحف عثمان!» فقال عليه‌السلام : «لن تروه ولن يراه أحد حتى يظهر ولدي صاحب الزمان ، فيحمل الناس على تلاوته والعمل بأحكامه. ويرفع الله سبحانه هذا المصحف إلى السماء».

ولمّا تخلّف ذلك الاعرابي احتال في استخراج ذلك المصحف ، ليحرقه كما أحرق مصحف ابن مسعود ، فطلبه من أمير المؤمنين عليه‌السلام فأبى».

قال : «وهذا القرآن عند الأئمة يتلونه في خلواتهم. وربّما أطلعوا عليه بعض خواصّهم ، كما رواه ثقة الاسلام الكليني ـ عطّر الله مرقده ـ باسناده عن سالم بن سلمة قال : قرأ رجل على أبي عبد الله عليه‌السلام وأنا أستمع حروفا من القرآن ليس على ما يقرأها الناس. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : مه كفّ عن هذه القراءة واقرأ كما يقرأ الناس ، حتى يقوم القائم ، فإذا قام قرأ كتاب الله على حدّه وأخرج المصحف الذي كتبه علي عليه‌السلام».

قال : «وهذا الحديث وما بمعناه قد أظهر العذر في تلاوتنا هذا المصحف والعمل بأحكامه».

وثانيها : «أنّ المصاحف لمّا كانت متعدّدة لتعدّد كتّاب الوحي عمد الاعرابيان الى انتخاب ما كتبه عثمان وجملة ما كتبه غيره ، وجمعوا الباقي في قدر فيه ماء حار فطبخوه».

قال : «ولو كانت تلك المصاحف كلّها على نمط واحد لما صنعوا هذا الشنيع الذي صار عليهم من أعظم المطاعن».

٦٨

وثالثها : «أنّ المصاحف كانت مشتملة على مدائح أهل البيت عليهم‌السلام صريحا ، ولعن المنافقين وبني أميّة نصّا وتلويحا. فعمدوا أيضا الى هذا ورفعوه من المصاحف حذرا من الفضائح وحسدا لعترته (ص)».

ورابعها : «ما ذكره الثقة الجليل علي بن طاوس رحمه‌الله في كتاب سعد السعود عن محمد بن بحر الرهني ـ من أعاظم علماء العامّة ـ في بيان التفاوت في المصاحف التي بعث بها عثمان الى أهل الامصار. وعدد ما وقع فيها من الاختلاف بالكلمات والحروف ، مع أنّها كلّها بخطّ عثمان!»

قال : «فإذا كان هذا حال اختلاف مصاحفه التي هي بخطّه فكيف حال غيرها من مصاحف كتّاب الوحي والتابعين!؟

وأمّا العصر الثاني ، فهو زمن القرّاء ، وذلك أن المصحف الذي وقع اليهم خال من الاعراب والنقط كما هو الآن موجود في المصاحف التي هي بخطّ مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وأولاده المعصومين صلوات الله عليهم. وقد شاهدت عدّة منها في خزانة الرضا عليه‌السلام».

قال : «وبالجملة لمّا وقعت اليهم المصاحف على ذلك الحال تصرّفوا في إعرابها ونقطها وإدغامها وإمالتها ونحو ذلك من القوانين المختلفة بينهم على ما يوافق مذاهبهم في اللغة والعربيّة ... (١)».

قلت : ولعلّ مواضع الخلط في كلامه هذا واضحة ، تغنينا عن تكلّف الردّ عليه.

انظر الى مبلغ علم الرجل بتاريخ جمع القرآن ، يقول : إنّ عليا عليه‌السلام لمّا جاء بمصحفه الى القوم ، قام الثاني وقال : يكفينا مصحف عثمان! أين كان

__________________

(١) منبع الحياة ط. بغداد ص ٦٨ ـ ٧٠ ، والمطبوعة ببيروت مع رسالة «الشهاب الثاقب» للفيض الكاشاني ص ٦٦ ـ ٦٩.

٦٩

موضع عثمان يومذاك من جمع القرآن؟!

ويقول : كانت المصاحف المرسلة الى الآفاق كلّها بخطّ يد عثمان؟! وهل كان عثمان يكتب المصاحف بخطّ يده؟!

وتارة يقول : إنّ عمر أحرق مصحف ابن مسعود ، وأراد إحراق مصحف عليّ أيضا ، واحتال في ذلك فلم يقدر!!

واخرى يقول : «إنّ أبا بكر وعمر هما اللذان أحرقا المصاحف ، وانتخبا ما جمعه عثمان في مصحفه ، فجعلوها في قدر وطبخوها!!».

وأخيرا فإنّه يجعل من اختلاف القراءات دليلا على تحريف القرآن؟!

وقد أسبقنا ـ في بحث القراءات ـ أنّ القرآن شيء والقراءات شيء آخر.

والعمدة استناده الى لفيف من روايات زعمها متواترة ووافية باثبات المطلوب ، وذكر منها نماذج حسبها من أجلى الدلائل النقلية لاثبات المقصود.

ونحن إذ نأتي على روايات الباب جملة وافرادا في مجاله المناسب الآتي ، نحاول نقد هذه النماذج عاجلا ، ليتبيّن وهن مستمسك القوم فيما عرضوه من روايات. إذ ما دلّ منها على التحريف لا اسناد له صالحا للاعتبار ، وما صحّ سنده لا مساس له بمسألة التحريف. وعليه فقس ما سواه.

أمّا حديث إسقاط ثلث القرآن من آية النساء / ٣ ، فهذا ممّا تفرّد به صاحب الاحتجاج (١) نقلا مرسلا على عادته في ايراد المراسيل ، ومن ثمّ فإنّ كتابه غير صالح للاعتماد وعليه لم يعتمده الاصحاب حتى إنّ السيد هاشم البحراني (ت : ١١٠٧) لم يعتبره ، ولم يورد الحديث في تفسيره «البرهان» الذي وضعه على

__________________

(١) راجع ج ١ ص ٣٧٧ ط. نجف. أبي منصور أحمد بن علي الطبرسي (٦٢٠) وراجع تفصيله في البحث عن احتجاج الطبرسي الآتي واعتراض الشيخ النوري على الصدوق فيما أورد من الرواية مسندا وعاريا عما جاء في الاحتجاج مرسلا.

٧٠

أساس جمع الاحاديث الواردة بشأن الآيات.

وهكذا لم يذكرها العياشي (المتوفى أوائل القرن الرابع) ولا القمي (كان حيا الى ٣٠٧) ولا غيرهما من أصحاب التفسير بالمأثور.

وقد ذكر السيد بحر العلوم ستة من المعاريف ممّن يحتمل انتساب الكتاب اليه (١) ولعلّه طبرسي آخر من أهل طبرستان أو تفرش المعرّب الى طبرس ، كما ذكره أهل التحقيق (٢).

ثمّ إنّ الحديث مستنكر لا يستسيغه العقل ولا الشرع الحنيف. جاء فيه : «وبين القسط في اليتامى وبين نكاح النساء ، من الخطاب والقصص أكثر من ثلث القرآن» يعني أنّ تلك الكميّة العظيمة (ما ينوف على ألفي آية) من الخطابات والقصص كانت ضمن آية واحدة هي الآية الثالثة من سورة النساء ، فأسقطها المنافقون! ولما ذا؟!

ويقول : وهذا وما أشبهه ممّا ظهرت حوادث المنافقين فيه لاهل النظر والتأمّل ، ووجد المعطلون وأهل الملل المخالفة مساغا الى القدح في القرآن. ولو شرحت لك كلّ ما اسقط وحرّف وبدّل ممّا يجري هذا المجرى لطال ، وظهر ما تحظر التقيّة إظهاره! (٣)

وقال ـ قبل ذلك ـ : وليس يسوغ مع عموم التقيّة التصريح بأسماء المبدّلين ولا الزيادة في آياته على ما أثبتوه من تلقائهم في الكتاب ، لما في ذلك من تقوية حجج أهل التعطيل والكفر والملل المنحرفة وإبطال هذا العلم الظاهر ـ إلى قوله ـ فحسبك من الجواب في هذا الموضع ما سمعت ، فإنّ شريعة التقيّة تحظر

__________________

(١) مقدّمة كتاب الاحتجاج : ص ه.

(٢) هامش تصحيح الاعتقاد ص ٥٨ ـ ٦٠.

(٣) الاحتجاج : ج ١ ص ٣٧٧.

٧١

التصريح بأكثر منه (١).

إن هذا إلّا تناقض صريح ، كيف تمنعه التقيّة عن الإفشاء ، وقد أكثر من الإفشاء بشأن الكتاب تجاه زنادقة كانوا من خارجي الملّة ومن أهل الطعن في الدين!

هذا فضلا عن نبوء اسلوب هذا الحديث عن أساليب كلام الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام البليغ البديع الذي هو تلو كلامه تعالى المعجز الوجيز.

والأرجح في النظر أنّ هذا الحديث ـ على طوله وتفنّنه ـ من وضع بعض أهل الجدل في الكلام ، ناقش فيه ما ذكره أهل الزندقة عيبا على اسلوب القرآن ، فأجاب وفق معلوم ذهنه وعلى مستوى ذهنيّته الخاصّة ، ناسبا له الى الامام تعبيرا على العوام! يدلّك على ذلك استعماله لبعض المصطلحات المستحدثة في عصور متأخّرة! كتعبير «بقية الله» عن الامام المهدي المنتظر عجّل الله تعالى فرجه الشريف. وكتعبير الفعل الماضي والمستقبل من مصطلحات أهل النحو (٢).

ثانيا ـ البحراني ومقدمة تفسيره :

فقد قال عن كتابه في لؤلؤة البحرين :

«كتاب البرهان في تفسير القرآن» ستّة مجلدات وقد جمع فيه جملة من الاخبار الواردة في التفسير من الكتب القديمة الغريبة وغيرها».

وقال الشيخ النوري عن مقدمة تفسيره التي استدلّ بما ورد فيها احسان الهي ظهير : (انها) من مؤلفات الشيخ أبي الحسن الفتوني العاملي (ت : ١١٣٨ ه‍) وقال : ومن الحوادث الطريفة انّ مجلّد مقدمات تفسيره موجود الآن بخط مؤلّفه واستنسخناه بتعب ومشقّة وكانت النسخة معي في بعض أسفاري الى طهران

__________________

(١) المصدر نفسه : ص ٣٧١.

(٢) صيانة القرآن من التحريف ص ١٩٧ ـ ٢٠٣ ؛ والاحتجاج ١ / ٣٧٥.

٧٢

فأخذها منّي بعض أركان الدولة وكان عازما على طبع تفسير البرهان وقال لي : ان تفسيره (تفسير البرهان) خال عن البيان ، فيتناسب ان نلحق به هذه النسخة وطبع في مجلّد (١).

وان الاستاذ احسان ظهير اكتفى بنقل ما جاء فيها من كتب مدرسة أهل البيت على حد زعمه ، واسقط منها ما نقلها من كتب مدرسة الخلفاء كما هي عادته في كتابه.

ثالثا ـ الشيخ النوري :

قال الامام الخميني ـ تغمده الله برحمته ـ عن الشيخ النوري :

«وثانيهما : مقالة الاخباريين بالنسبة الى ظواهر الكتاب المجيد ، واستدلّوا على ذلك بوجوه : منها وقوع التحريف في الكتاب حسب أخبار كثيرة ، فلا يمكن التمسك بها لعروض الاجمال بواسطته عليه. وهذا ممنوع بحسب الصغرى والكبرى : أما الاولى ، فلمنع وقوع التحريف فيه جدّا ، كما هو مذهب المحققين من علماء العامّة والخاصّة ، والمعتبرين من الفريقين ، وإن شئت شطرا من الكلام في هذا المقام ، فارجع الى مقدمة تفسير آلاء الرحمن للعلامة البلاغي المعاصر.

وأزيدك توضيحا : أنّه لو كان الامر كما توهم صاحب فصل الخطاب الذي كان كتبه لا يفيد علما ولا عملا ، وإنّما هو إيراد روايات ضعاف أعرض عنها الأصحاب ، وتنزه عنها أولو الألباب من قدماء أصحابنا كالمحمّدين الثلاثة المتقدمين رحمهم‌الله.

هذا حال كتب روايته غالبا كالمستدرك ، ولا تسأل عن سائر كتبه المشحونة بالقصص والحكايات الغريبة التي غالبها أشبه بالهزل منه بالجدّ ، وهو

__________________

(١) راجع ترجمة المؤلف بمقدمة المقدمة ص : ج ـ د.

٧٣

ـ رحمه‌الله ـ شخص صالح متتبّع ، إلّا أنّ اشتياقه لجمع الضعاف والغرائب والعجائب وما لا يقبله العقل السليم والرأي المستقيم ، أكثر من الكلام النافع ، والعجب من معاصريه من أهل اليقظة! كيف ذهلوا وغفلوا حتّى وقع ما وقع ممّا بكت عليه السماوات ، وكادت تتدكدك على الأرض؟!

وبالجملة : لو كان الأمر كما ذكره هذا وأشباهه ، من كون الكتاب الإلهيّ مشحونا بذكر أهل البيت وفضلهم ، وذكر أمير المؤمنين وإثبات وصايته وإمامته ، فلم لم يحتجّ بواحد من تلك الآيات النازلة والبراهين القاطعة من الكتاب الإلهي أمير المؤمنين ، وفاطمة والحسن والحسين ـ عليهم‌السلام ـ وسلمان ، وأبو ذرّ ، ومقداد ، وعمّار ، وسائر الاصحاب الذين لا يزالون يحتجّون لخلافته عليه‌السلام؟!

ولم تشبّث ـ عليه‌السلام ـ بالأحاديث النبويّة ، والقرآن بين أظهرهم؟! ولو كان القرآن مشحونا باسم أمير المؤمنين وأولاده المعصومين وفضائلهم واثبات خلافتهم ، فبأي وجه خاف النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في حجّة الوداع آخر سنين عمره الشريف وأخيرة نزول الوحي الالهي من تبليغ آية واحدة مربوطة بالتبليغ ، حتّى ورد أن (اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)؟!

ولم احتاج النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إلى دواة وقلم حين موته للتصريح باسم علي عليه‌السلام؟!

فهل رأى أنّ لكلامه أثرا فوق أثر الوحي الالهي؟!

وبالجملة : ففساد هذا القول الفضيع والرأي الشنيع أوضح من أن يخفى على ذي مسكة ، إلّا أنّ هذا الفساد قد شاع على رغم علماء الاسلام وحفّاظ شريعة سيّد الانام (١).

__________________

(١) أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية ، الجزء الاول ، ص ٢٤٣ ـ ٢٤٧ ، ط. طهران ، ١٤١٣ ه‍ ـ

٧٤

وقال الاستاذ ظهير في الباب الثاني :

عقيدة الشيعة في الدور الثاني من القرآن

«نحن ذكرنا فيما مر أن الشيعة كانوا يعتقدون التحريف في القرآن في الدور الاول بما فيهم أئمة مذهبهم ، وواضعو شرعتهم حسب مروياتهم ، ولم يثبت عن واحد منهم أنه كان يعتقد خلاف ذلك ، لأنه بعد ما أسسوا مذهبا خاصا بهم جعلوا من أصله وأساسه الامامة والولاية وقالوا : ...»

الى قوله في ص ٥٢ :

«فوجدوا أن الولاية والوصاية والامامة التي اختلقوها واصطنعوها ، ليس لها وجود في القرآن البتة ، فكيف يثبتونها وقد وجد ذكر غير الاهم منها ـ حسب زعمهم ـ في القرآن بالتكرار والاصرار. فالتجئوا الدفع هذا الايراد الى القول بان القرآن قد غير ونقص منه أشياء. ولقد غيره وحذف منه أصحاب رسول الله (ص) عامة ، وخلفاؤه ونوابه الذين خلفوه ونابوا عنه لقيادة هذه الامة المجيدة المرحومة خاصة ، لدفع علي وأهل بيته عن حقهم ، ولايتهم وإمامتهم ، فأسقطوا من القرآن كل ما كان يدل على إمامتهم ووصايتهم ، وخلافتهم ونيابتهم عن النبي (ص) حسب زعمهم».

ثم نقل من احتجاج الطبرسي رواية بلا سند ، جاء فيها :

__________________

ـ مؤسسة تنظيم ونشر آثار الامام الخميني رضوان الله تعالى عليه.

٧٥

«ان زنديقا جاء الى علي وقال : لو لا ما في القرآن من الاختلاف والتناقض لدخلت في دينكم ... الحديث».

الى ص ٥٧ منه ثم قال :

«وكما رووا عن العياشي عن جعفر الصادق (ع) ، انّه قال : لو قرئ القرآن كما أنزل لالفينا مسمّين فيه».

ثم نقل عن مقدمة البرهان ما يؤيد ذلك وسوف تأتي دراسة هذه الرواية باذنه تعالى في بحث «روايات لا أصل لها» من أدلته في الباب الحادي عشر ، ثم قال الاستاذ ظهير في ص ٦٠ منه :

«فهذا هو السبب ـ أي عدم ذكر أسماء الأئمة من أهل البيت في القرآن ـ والمحرض الذي جعلهم يقولون بذاك القول الباطل ، ولكنهم لم يدركوا أنهم باظهار هذه العقيدة أظهروا ما كانوا يريدون كتمانه من التظاهر بالاسلام ، والتغلف بغلاف التقية ، والتنقب بنقاب الخديعة لاضلال المسلمين بلبس ملابسهم ، والصلاة بصلاتهم ، والتوجه الى قبلتهم ، وأكل ذبيحتهم حيث انفصلوا عنهم انفصالا كاملا لانكارهم ذلك الكتاب الالهي ...

وسهل على المسلمين معرفة القوم وحقيقتهم ، فاضطرب عليهم أمرهم واجتمع عمداؤهم وكبراؤهم ففكروا وتدبروا كثيرا حتى يخفوا ما ظهر ويكتموا ما بدا وصدر فلبسوا لباس الخداع والتقية مرة أخرى ، وأظهروا ما لم يكونوا يعتقدون لخداع المسلمين وغشهم. فأول من برز في الشيعة بالقول المخالف لهذه العقيدة العتيقة ، الراسخة الثابتة كان ابن بابويه القمي استاذ الفقيه «المفيد» الذي لقبوه بالصدوق المتوفي سنة ٣٨١ ه‍ لا سابق له في القوم.

فانظروا إليه ما ذا يقول :

اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله هو ما بين الدفتين ، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك ، ومبلغ سوره عند

٧٦

الناس مائة وأربعة عشر سورة ، وعندنا أن «الضحى» و «ألم نشرح» سورة واحدة و «لايلاف» و «ألم تر كيف» سورة واحدة ، ومن نسب إلينا أنا نقول إنه أكثر من ذلك فهو كاذب. وما روى من ثواب قراءة كل سورة من القرآن ، وثواب من ختم القرآن كله ، وجواز قراءة سورتين في ركعة ، والنهي عن القرآن بين سورتين في ركعة فريضة تصديق لما قلناه في أمر القرآن ، وأن مبلغه ما في أيدي الناس. وكذلك ما روي من النهي عن قراءة القرآن كله في ليلة واحدة ، وأنه لا يجوز أن يختم القرآن في أقل من ثلاثة أيام تصديق لما قلنا أيضا (١).

وتبعه في ذلك السيد المرتضى مؤلف نهج البلاغة ومرتبه المتوفى سنة ٤٣٦ ه‍ (٢) كما ذكر أبو على الطبرسي في مقدمة تفسيره (مجمع البيان) تحت الفن الخامس :

«ومن ذلك الكلام في نقصان القرآن وزيادته فانه لا يليق بالتفسير ، فأما الزيادة فيه فمجمع على بطلانه ، وأما النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة أن في القرآن تغييرا ونقصانا. والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه ، وهو الذي نصره المرتضى قدس الله روحه ، واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات ، وذكر في مواضع أن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان ، والحوادث الكبار ، والوقائع العظام ، والكتب المشهورة ، وأشعار العرب المسطورة فان العناية اشتدت ، والدواعي توفرت على نقله وحراسته ، وبلغت الى حد لم يبلغه فيما ذكرناه ، لان القرآن معجزة النبوة ، ومأخذ العلوم الشرعية ، والاحكام الدينية وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته ، فكيف

__________________

(١) الاعتقادات لابن بابويه القمي ، ط. ايران ١٢٢٤ ه‍.

(٢) ان مؤلف نهج البلاغة هو الشريف الرضي أخو الشريف المرتضى والمتوفى سنة ٤٠٦ ه‍.

٧٧

يجوز أن يكون مغيرا أو منقوصا مع العناية الصادقة والضبط الشديد.

وقال أيضا قدس الله روحه :

إن العلم بتفسير القرآن وابعاضه في صحة نقله كالعلم بجملته. وجرى ذلك بجملته مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنفة ككتاب سيبويه والمزني. فان أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما حتى لو أن مدخلا ادخل في كتاب سيبويه بابا في النحو ليس من الكتاب لعرف ، وميز ، وعلم أنه ملحق ، وليس من أصل الكتاب ، وكذلك القول في كتاب المزني.

ومعلوم أن العناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء. وذكر أيضا (رض) أن القرآن كان على عهد رسول الله (ص) مجموعا مؤلفا على ما هو عليه الآن ، واستدل على ذلك بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان ، حتى عين على جماعة من الصحابة في حفظهم له ، وإنه كان يعرض على النبي (ص) ويتلى عليه. وإن جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي (ص) عدة ختمان ، وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعا مرتبا غير مبتور ولا مبثوث. وذكر أن من خالف في ذلك من الامامية والحشوية لا يعتد بخلافهم» (١).

وثالثهم أبو جعفر الطوسي تلميذ السيد المرتضى والشيخ المفيد المتوفى سنة ٤٦٠ ه‍ فقد قال في تبيانه :

وأما الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به أيضا ، لانّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها ، والنقصان منه فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه ، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا ، وهو الذي نصره المرتضى (ره) ، وهو الظاهر في الروايات

__________________

(١) مجمع البيان ، لأبي علي الطبرسي ج ١ ، المقدمة ص ١٥ ط. دار احياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان.

٧٨

ـ الى أن قال ـ ورواياتنا متناصرة بالحث على قراءته ، والتمسك بما فيه ، ورد ما يرد من اختلاف الأخبار في الفروع إليه ، وعرضها عليه ، فما وافقه عمل عليه ، وما خالفه تجنب ، ولم يلتفت إليه ، وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رواية لا يدفعها أحد أنه قال : إني مخلف فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، وهذا يدل على أنه موجود في كل عصر لانه لا يجوز أن يأمرنا بالتمسك بما لا يقدر على التمسك به ، كما أن أهل البيت ومن يجب اتباع قوله حاصل في كل وقت ، وإذا كان الموجود بيننا مجمعا على صحته فينبغي أن نتشاغل بتفسيره ، وبيان معانيه ، وترك ما سواه (١).

فهؤلاء الثلاثة الذين أظهروا الانكار من التحريف في القرآن الكريم الموجود بأيدي الناس ، لا رابع لهم طوال القرون الخمسة الاولى ...

ورابعهم الذي أخذ بقولهم ، وانتهج منهجهم وسلك مسلكهم لاظهار هذا القول هو الذي جاء بعدهم بقرن أبو على الطبرسى صاحب تفسير (مجمع البيان) المتوفى سنة ٥٤٨ ه‍.

فهؤلاء هم الأربعة في الدور الثاني.

يعني لا وجود لهذا القول الى منتصف القرن الرابع في الدور الاول ، حيث أن أئمة القوم كلهم ، ورواتهم المتقدمين ، ومحدثيهم ، ومفسريهم المعتمدين الموثوقين لم يقولوا ، ولم يصرحوا إلّا بعكس ذلك ـ حسب مرويات القوم ومزعوماتهم ـ.

وأما في الدور الثاني أي بعد منتصف القرن الرابع الى القرن السادس في القرنين كلها صدر هذا القول أول مرة في الشيعة من هؤلاء الاربعة لا خامس لهم كما تتبعنا كتب القوم من الحديث والتفسير والاعتقادات.

__________________

(١) التبيان ، ج ١ ص ٣ ط. النجف.

٧٩

الى قوله :

وهذا مع ان عقيدتهم التي أظهروها للناس لم تكن مستندة الى قول من معصوميهم ، ورواية عن أئمتهم الذين يعتقدون أنهم هم الذين وضعوا بذرة الشيعة وأسسوا قواعدها وإن مذهبهم ليس إلا مستقى من أقوالهم ومستمدا من إرشاداتهم ، تعليماتهم وتوجيهاتهم ، بل وبعكس ذلك هم أنفسهم رووا في كتبهم أخبارا وأحاديث من أئمتهم المعصومين تخالفها وتناوئها كما سنبينه إن شاء الله.

فهذا كل ما عند القوم لخداع المسلمين عامة وأهل السنّة خاصة. ولذلك ترى أنه كلما يظهر لهم عوارهم ، ويبين لهم فسادهم ، ويثبت انفصالهم عن المسلمين والشريعة السماوية الغرّاء التي لم تقم إلّا على أساس القرآن إن لا يوجد لم توجد ، التجئوا الى هؤلاء الاربعة ، وركنوا إليهم ، ودخلوا في كنفهم واستظلوا بظلهم ، وتحصنوا وراء مقولاتهم.

وقال في ص ٦٦ منه :

وقبل أن نحلل كلامهم ونخبر عن السّر الذي الجأهم الى الاكتناف بهذا القول والاظهار بهذه العقيدة نتريث لحظة ونتوقف برهة ونطالبهم جميعا هل يستطيع أحد منهم أن يثبت أن في القوم أحدا من سبقهم الى هذا القول أو لهم خامس أظهر هذه المقالة؟

كلا لا يستطيع أحد أن يفعل ذلك ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا وهؤلاء الاربعة لم يقولوا بتلك المقالة إلّا خوفا من بطش الحق ...

ثم قال في ص ٦٨ في مقام نقض القول السابق بالنسبة الى الصدوق :

«انّ الصدوق أورد بنفسه روايات كثيرة في كتبه التي ألفها والتي تدلّ على تغيير القرآن وتحريفه ونقصانه ، بدون أن يقدح فيها ويطعن ، ما يدلّ على أنّ عقيدته الاصليّة كانت طبق ما اعتقدها القوم. فنورد هاهنا روايات تسعة من الاحاديث الكثيرة التي أوردها في كتبه ، وقد يأتي ذكر بعضها في الباب الرابع.

٨٠