القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ١

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ١

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٢
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٣٣٥

قرّ (١) الدجاجة ، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة» (٢).

وأخبر الله ـ سبحانه ـ عن جهل الجن بالغيب في ما حكى عنهم مع النبي سليمان (ع) في سورة سبأ ، وقال :

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) (الآية / ١٤)

التفسير : لما قضينا على سليمان بالموت ومات وكان متكأ على عصاه يراقب عمل الجن بقي كذلك متّكأ على عصاه وهو ميّت والجنّ دائبون في عملهم فأكلت الأرضة عصاه وسقط ، فتبين من ذلك أنّ الجن لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا ان سليمان المتكئ على عصاه أمامهم ميت ، ولما لبثوا بعد موته في العذاب المهين لهم.

وأخبر ـ سبحانه ـ عن منشأ علمهم وانهم كانوا يرهقون من يلوذ بهم من الكهنة وانه انقطع عنهم منشأ علمهم بعد مبعث خاتم الأنبياء في قوله تعالى في سورة الجن :

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً* ... وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً* ... وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً* وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) (الآيات / ١ ـ ٢ و ٦ و ٨ ـ ٩)

__________________

(١) القرّ : ترديد الكلام في أذن المخاطب حتى يفهمه وقرّ الزجاجة صوتها إذا قطعتها وقرّ الزجاجة صوتها إذا صبّ فيها الماء.

(٢) صحيح مسلم ص ١٧٥٠ ـ ١٧٥١ ، كتاب السلام ، الحديث ١٢٣ ـ ١٢٥.

٦١

إذا كانوا يسترقون السمع من الملائكة ، ويحدثون بها من يلوذون بهم من كهنة الانس ويزيدونهم في ما يحدثونهم رهقا أي : سفها وكذبا وطغيانا.

وبعد مبعث خاتم الانبياء (ص) منعوا من استراق السمع برمي الشهب إليهم.

من مجموع ما تقدم يظهر أن عمل الجن مع الكهنة كان يستند :

١ ـ إلى اخبارهم الكاهن عن المخبوء عن نظر الانسي ، لان الجان ليس لهم جسم يمنعهم من النفوذ إلى تحت قدم الملك ومعرفة الدينار المخبوء ـ مثلا ـ.

٢ ـ إلى ما استرقوا إليه من كلام الملائكة عما بلغها من أخبار الغيوب من قبل الله سبحانه وهذا ما منعوا عنه بعد مبعث خاتم الأنبياء.

٣ ـ إلى ما يكذبون فيما يسألون عنه من أخبار الغيوب التي لم يعلموا بها ، لأنهم لم يكونوا يقولون في مثل هذه الحالة : لا نعلم هذا الأمر الذي تسألونا عنه ، وفي هذا يزيدون الانسان رهقا.

والكهانة لم تقتصر على العرب الجاهليين قديما ، بل كانت ولا تزال منتشرة بين الامم الجاهلية القديمة والمعاصرة والكهنة كانوا رجال دين الامم الجاهلية يمارسون طقوسهم الدينية.

وقد ظهر أخذ الأنس من الجن في عصرنا على شكل ما يسمى باحضار الأرواح كما يزعمون!

وقد قرأت ان بعضهم أحضر روح ابن سينا كما زعم واستفسر عنه عن عالم ما بعد الموت ، فاجاب. وقرأت عن آخر أنّه زعم أكثر من ذلك. وكل هذا يندرج في باب اتصال الجن بهؤلاء ويجيبهم الجني الوسيط عما يجري في خارج المجلس ويزيدهم رهقا حين يطلب من الانسان الوسيط أن يحضر لهم روح انسان قد توفي ويزعم الجني الوسيط انه ذلك الروح المطلوب حضوره وقد حضر ويجيب عن أسئلتهم بكل كذب يشاؤه.

٦٢

ه ـ التفاؤل والتطير

التفاؤل :

أصل الفأل الكلمة الحسنة يسمعها الإنسان فيتفاءل به مثل عليل يسمع رجلا ينادي من اسمه سالم ، فيتفاءل بأنه سوف يعافى من علته.

والتطير : التشاؤم تطير من الشيء وبالشيء واطّير أي تشاءم من الفأل الرديء وطائر الإنسان عمله ، ويسمّى الشؤم طيرا وطائرا وطيرة على وزن عنبة. وكانت العرب في الجاهلية تتطير بالسوانح والبوارح ، ومفردهما السانح والبارح ، وهما ما مرّ من الطير والوحش من يمينك إلى يسارك ، وكانوا ينفرون الضباء والطيور ، فإن أخذت ذات اليمين ، تبركوا به ، ومضوا في سفرهم وحوائجهم ، وإن أخذت ذات الشمال رجعوا عن سفرهم وحاجتهم وتشاءموا بها ، فكانت تصدّهم في كثير من الأوقات عن مصالحهم (١) وكان بعضهم يتيمنون بالسانح ، وهو الذي جاء من يمينهم إلى يسارهم ، ويتشاءمون بالبارح ، وهو الذي يأتي من اليسار نحو اليمين (٢) ويتطيّرون من نعيق الغراب وغير ذلك.

وكان التطير قبل ذلك موجودا في المجتمعات الجاهلية السحيقة كما أخبر الله سبحانه عنه.

١ ـ في سورة النمل عن قوم ثمود إنهم قالوا لنبيهم صالح (ع) :

(قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) (الآية / ٤٧)

أي أنهم قالوا لصالح : إنا تشاءمنا بك وبمن على دينك ، وذلك لانّهم

__________________

(١) لسان العرب ط. بيروت سنة ١٩٥٦ م مادة (طير) و (برح).

(٢) لسان العرب مادة (سنح).

٦٣

قحطوا وحبس المطر عنهم وجاعوا ، فقالوا : أصابنا هذا الشرّ من شؤمك وشؤم أصحابك فقال لهم صالح (ع) طائركم عند الله أي الشؤم أتاكم من عند الله وأنتم تفتنون تمتحنون بذلك.

وكذلك معنى قول آل فرعون لموسى (ع) كما أخبر سبحانه عنهم في سورة الاعراف :

(وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ* فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (الآيات / ١٣٠ ـ ١٣١)

معناه لما عاقبنا قوم فرعون بالقحط لعلهم يتفكرون في أمرهم ويوحدون الله ، كانوا إذا جاءهم الخصب والنعمة قالوا إنا نستحقّ هذه النعمة لسعة أرزاقنا في بلادنا ، ولم يؤمنوا بأنّها من عند الله ليشكروه ويعبدوه ، وإذا أصابهم حبس المطر وهلاك الزرع والضرع تشاءموا بموسى ومن معه وقالوا : هذا من شؤمكم ، ألا وإن طائرهم والشؤم الّذي لحقهم هو عقاب من عند الله كما وعدهم بذلك.

٢ ـ أخبر عن نظير ذلك في سورة يس وقال سبحانه :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ .... قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ ... قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ ...) (الآيات / ١٣ ـ ١٩).

قالوا : إنا تشاءمنا بكم فقالت الرسل : طائركم معكم أي الشؤم كلّه معكم بإقامتكم على الكفر بالله تعالى.

هكذا كان التطير من عقائد أهل الجهل في الجاهلية القديمة السحيقة وجاهلية عصر الرسول (ص) ولا يزال التطير موجودا في جاهلية عصرنا مثل تشاؤمهم برقم (١٣) وقد أبطل الله ورسوله التشاؤم واستحسن الرسول (ص) الفأل وأثبته وروي أنّه قال : «لا طيرة وخيرها الفأل» ، قيل : يا رسول الله وما

٦٤

الفأل قال : «الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم» (١).

وفي رواية قال : ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم (٢).

وقال أبو عبد الله الصادق (ع) الطيرة على ما تجعلها إن هونتها تهونت وان شددتها تشددت وإن لم تجعلها شيئا لم تكن شيئا (٣).

و ـ الأزلام والميسر

قال الله سبحانه :

١ ـ في سورة المائدة

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الآية / ٣)

٢ ـ في سورة المائدة

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الآية / ٩٠)

__________________

(١) صحيح مسلم ، ط. بيروت دار احياء التراث العربي افست على الطبعة المصرية ص ١٧٤٥ ، باب الطيرة من كتاب الفال.

(٢) المصدر السابق ، ص ١٧٤٩.

(٣) سفينة البحار ، مادة (طير).

٦٥

تفسير الكلمات :

أ ـ الميتة :

كل ما له نفس سائلة ـ دم يجري ـ من حيوانات البر والطير مما أباح الله أكله وفارقها روحها بغير الذبح الذي شرعه الله.

ب ـ الدم :

كانوا يجعلون الدم في المصارين ويشوونه ويأكلونه أو بأنواع أخرى من طبخ الدم.

ج ـ لحم الخنزير :

قال الله سبحانه (لَحْمُ الْخِنْزِيرِ) ليبين أنه حرام بعينه لا لكونه ميتة.

د ـ ما أهل لغير الله :

كان من عادة العرب في الجاهلية أن ينادوا باسم المقصود بالذبيحة من أصنامهم عند ذبحها ويقولون : باسم اللات أو العزى أو غيرهما وهذا هو الاهلال بالذبيحة.

ه ـ المنخنقة :

الحيوان الذي خنق حتى مات بحبل الصيد أو غيره ، وقالوا : ان بعضهم في الجاهلية كان يخنق الحيوان أحيانا ثم يأكله.

و ـ الموقوذة :

الوقذ شدة الضرب كان بعضهم يضربون الانعام بالخشب لآلهتهم ، حتى يقتلوها فيأكلوها أو المقتول بالرمي الذي لا يخترق الجلد.

ز ـ المتردية :

هي التي تتردى من الأعلى إلى الأسفل فتموت كالتي تسقط من جبل أو في بئر.

ح ـ النطيحة :

٦٦

هي التي ينطحها غيرها فتموت.

ط ـ وما أكل السبع إلا ما ذكيتم :

ما افترسه أي نوع من السباع ، فمات إلا ما أدركوه وهو جريح وقاموا بتذكيته وفق الشرع الاسلامي.

ي ـ وما ذبح على النصب :

النصب : النصب والنصب حجر ينصب للعبادة غير منقوش عليه بصورة والصنم صورة حيوان أو انسان أو شيء آخر تخيلوا وجوده وهو غير موجود وكانوا يعبدون أحجارا منصوبة حول الكعبة ، فإذا ذبحوا ، نضحوا الدم عليها.

ك ـ وان تستقسموا بالازلام ، الازلام واحدة الزلم ـ قداح الميسر ـ والزلم قطع من الخشب مسواة ، تصلح أن تكون سهما ، وتستقسموا أي تطلبوا قسمة الذبيحة بالازلام وسيأتي تفصيله بحوله تعالى.

ل ـ الميسر : كل قمار ميسر.

م ـ الرجس : القذر بحسب الطبع أو العقل أو الشرع.

تفسير الآيات :

كانت أزلام العرب ثلاثة أنواع :

أ ـ ما يتخذها الإنسان لنفسه ، ويحملها في خريطة معه ، كتب على أحدها : أمرني ربّي وعلى الثاني : نهاني ربّي والثالث مهمل لم يكتب عليه. فإذا أراد فعل شيء أدخل يده وأخرج أحدها ، فاذا خرج ما عليه الأمر : فعل. وإذا خرج ما عليه النهي امتنع. وإذا خرج المهمل ارجعه وأعاد العمل (١).

ب ـ سبعة قداح كانت عند هبل في جوف الكعبة مكتوب عليها ما يدور

__________________

(١) تفسير الآية الثالثة في تفسير القرطبي ومجمع البيان ومادة قسم من معجم الفاظ القرآن الكريم.

٦٧

بين الناس من النوازل ، كل قدح منها فيه كتاب ، قدح فيه العقل من أمر الديات ، وفي آخر (منكم) وفي آخر (من غيركم) ، وفي آخر (ملصق) ، وفي سائرها أحكام المياه وغير ذلك : وكانوا إذا شكوا في نسب أحدهم ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم وجزور ، فأعطوها صاحب القداح الذي يضرب بها ، ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ، ثم قالوا : يا إلهنا هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا ، فأخرج الحق فيه. ثم يقولون لصاحب القداح : اضرب ؛ فإن خرج عليه (منكم) كان منهم وسيطا ، وان خرج (من غيركم) كان حليفا ، وإن خرج (ملصق) كان على منزلته فيهم لا نسب له ولا حلف.

وهذه السبعة أيضا كانت عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم. على نحو ما كانت في الكعبة عند هبل.

ج ـ قداح الميسر وهي عشرة : سبعة منها فيها حظوظ ، وثلاثة أغفال ، وكانوا يضربون بها مقامرة لهوا ولعبا ، وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين والمعدم في زمن الشتاء وكلب البرد وتعذر التحرف (١).

قال اليعقوبي :

كانت العرب تستقسم بالأزلام في كل أمورها ، وهي القداح ، ولا يكون لها سفر ولا مقام ، ولا نكاح ، ولا معرفة حال ، إلّا رجعت إلى القداح ، وكانت القداح سبعة : فواحد عليه : الله عزوجل ؛ والآخر : لكم ؛ والآخر : عليكم ؛ والآخر : نعم ؛ والآخر : منكم ؛ والآخر : من غيركم ؛ والآخر : الوعد ؛ فكانوا إذا أرادوا أمرا رجعوا إلى القداح ، فضربوا بها ، ثم عملوا بما يخرج من القداح لا يتعدونه ، ولا يجوزونه ، وكان لهم أمناء على القداح لا يثقون بغيرهم.

وكانت العرب ، إذا كان الشتاء ونالهم القحط ، وقلت ألبان الابل ،

__________________

(١) تفسير القرطبي ٦ / ٥٨ ـ ٥٩. وكلب البرد شدته. والتحرف : التكسب للعيال من كل حرفة.

٦٨

استعملوا الميسر ، وهي الازلام ، وتقامروا عليها ، وضربوا بالقداح ، وكانت قداح الميسر عشرة : سبع منها لها أنصبة ، وثلاث لا أنصبة لها ، فالسبع التي لها أنصبة يقال لأولها الفذّ ، وله جزء ؛ والتوأم ، وله جزآن ؛ والرقيب ، وله ثلاثة أجزاء ؛ والحلس ، وله أربعة أجزاء ، والنافس ، وله خمسة أجزاء ، والمسبل ، وله ستة أجزاء ، والمعلى ، وله سبعة أجزاء ، والثلاث التي لا أنصبة لها اغفال ليس عليها اسم يقال لها : المنيح ، والسفيح ، والوغد.

وكانت الجزور تشترى بما بلغت ، ولا ينقد الثمن ، ثم يدعى الجزار ، فيقسمها عشرة أجزاء فإذا قسمت أجزاؤها على السواء أخذ الجزار أجزاءه ، وهي الرأس والأرجل ، وأحضرت القداح العشرة ، واجتمع فتيان الحي ، فأخذ كل فرقة على قدر حالهم ويسارهم ، وقدر احتمالهم ، فيأخذ الأول الفذ ، وهو الذي فيه نصيب واحد من العشرة أجزاء ، فإذا خرج له جزء واحد أخذ من الجزور جزءا ، وإن لم يكن يخرج له غرم ثمن جزء من الجزور ، ويأخذ الثاني التوأم ، وله نصيبان من أجزاء الجزور ، فإن خرج أخذ جزءين من الجزور ، وأن لم يخرج غرم ثمن الجزءين.

وكانوا يفتخرون به ، ويرون أنه من فعال الكرم والشرف ولهم ، في هذا أشعار كثيرة (١).

وكانت المقامرة من وسائل كسب الثروة ، سيّما في مكّة كما يرى مثال ذلك في الخبر الآتي في الأغاني :

(قامر أبو لهب العاص بن هشام في عشر من الإبل ، فقمره أبو لهب ، ثم في عشر فقمره ، ثم في عشر فقمره ، ثم في عشر فقمره ، ثمّ في عشر فقمره ، إلى أن أخلعه ما له فلم يبق له شيء ، فقال له : إني أرى القداح قد حالفتك يا ابن عبد

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ١ / ٢٥٩ ـ ٢٦١ ، وبعض الشرح من لسان العرب مادة الحرضة وما نقله كتاب المفصل ٥ / ١٢٨ ـ ١٢٩ عن بلوغ الإرب.

٦٩

المطلب فهلم أقامرك ، فاينا قمر كان عبدا لصاحبه ، قال : افعل ، ففعل فقمره أبو لهب فكره أن يسترقه ، فتغضب بنو مخزوم ، فمشى إليهم ، وقال : افتدوه مني بعشر من الابل ، فقالوا : لا والله ولا بوبرة ، فاسترقه فكان يرعى له إبلا فلما خرج المشركون إلى بدر كان من لم يخرج أخرج بديلا وكان أبو لهب عليلا فأخرجه وقعد ، على أنه إن عاد إليه أعتقه ، فقتله علي بن أبي طالب (رض) يومئذ) (١).

ز ـ بيع الطعام عيب في الجاهلية :

قال في تاريخ العرب قبل الإسلام :

والعادة عند العرب أن من العيب بيع شيء من الطعام لمن هو في حاجة إليه وهم يشعرون بالخجل وبالإهانة إذا طلب معسر طعاما أو شرابا كلبن أو ماء ثم لا يجاب طلبه ، أو يطلب عن ذلك ثمنا يقبضه مقابل ما قدم من طعام أو شراب ، لأن القرى واجب على كلّ عربي ، ولا يكون القرى بثمن. فكيف يقف إنسان موقف بخل وإمساك ازاء مرمل محتاج (٢).

ح ـ السرقة عيب والغارة فخر :

قال في تاريخ العرب قبل الإسلام :

وتعدّ السرقة عيبا عند العرب ، لأنها تكون دون علم صاحب المسروق وبمغافلته.

والمغافلة والاستيلاء على شيء من دون علم صاحبه عيب عندهم ، وفيه

__________________

(١) الأغاني ط. بيروت (٣ / ٣٠٧ ـ ٣٠٨) والعاص بن هشام بن المغيرة المخزومي جاء نسبه في جمهرة النسب لابن الكلبي ص ٨٦.

(٢) المفصل في تاريخ العرب ط. بيروت ١٩٧٦ م (٥ / ٦٧) ورمل من تاج العروس ط. مصر ١٣٠٦ ه‍.

٧٠

جبن ونذالة.

وأما الاستيلاء على شيء عنوة وباستعمال القوة ، فلا يعد نقصا عندهم ولا شينا ولا يعد سرقة ، لأن السالب قد استعمل حقّ القوة ، فأخذه بيده من صاحب المال المسلوب ، فليس في عمله جبن ولا غدر ولا خيانة. ولذلك فرقوا بين لفظة (سرق) وبين الألفاظ الاخرى التي تعني أخذ مال الغير ، ولكن من غير تستر ولا تحايل ، فقالوا : (السارق عند العرب من جاء مستترا إلى حرز ، فأخذ مالا لغيره. فإن أخذه من ظاهر ، فهو مختلس ومستلب ومنتهب ومحترس ، فإن منع ما في يده فهو غاصب) (١).

ولم تعد (الغارة) سرقة ولا عملا مشينا يلحق الشين والسبّة بمن يقوم به. بل افتخر بالغارات وعدّ المكثر منها (مغوارا) ، لما فيها من جرأة وشجاعة وإقدام وتكون الغارة بالخيل في الغالب ، ولذلك قال علماء اللغة : (أغار على القوم غارة وإغارة دفع عليهم الخيل) (٢) ، وقد عاش قوم على الغارات ، كانوا يغيرون على أحياء العرب ، ويأخذون ما تقع أيديهم عليه ، ومن هؤلاء (عروة بن الورد) ، إذ كان يغير بمن معه على أحياء العرب ، فيأخذ ما يجده أمامه ، ليرزق به نفسه وأصحابه. بعد أن انقطعت بهم سبل المعيشة ، وضاقت بهم الدنيا ، فاختاروا الغارات والتعرض للقوافل سببا من أسباب المعيشة والرزق.

وذكر أهل الأخبار أسماء رجال عاشوا على الغارات وعلى التربص للمسافرين لسلب ما يحملونه معهم من مال ومتاع.

__________________

(١) لسان العرب وتاج العروس مادة ، (سرق).

(٢) تاج العروس مادة (غور).

٧١

ط ـ الخصومات :

قال في كتاب تاريخ العرب قبل الإسلام :

ويقع النزاع بين الناس ، ويقع بين الأهل كما يقع بين الجيران وبين الأباعد. وقد يتحوّل إلى (عراك) وإلى وقوع معارك. والمشاجرة الخلاف والاشتباك. وقد تكون المشاجرة هيّنة بأن يشاتم ويسابب طرف طرفا آخر ويعبر عن ذلك باللحاء.

ونظرا لجهل الناس في ذلك الوقت ، فشا السباب والتشاتم بينهم. بين الرجال والرجال وبين النساء والنساء وبين الجنسين. وإذا طال واشتد تدخل الناس في الأمر لاصلاح ذات البين. وقد تتطور الخصومة البسيطة فتتحول إلى خصومة كبيرة يساهم فيها آل المتخاصمين وأحياؤهم ، وقد يقع بسبب ذلك عدد من القتلى. وقد حفظت كتب الأخبار والأدب أسماء معارك وأيام سقط فيها عدد من القتلى بسبب خصومات تافهة ، كان بالامكان غض النظر عنها ، لو استعمل أحد الجانبين الحكمة والعقل في معالجة الحادث (١).

ي ـ السلب والنهب :

نذكر في هذا الباب مثالا واحدا بخبر سلب زيد وبيعه في سوق عكاظ :

أبو أسامة زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي خرجت به أمّه سعدى بنت ثعلبة من بني معن من طي تزور قومها بني معن ، فأغارت على بني معن خيل بني القين فأخذوا زيدا في ما أخذوا وكان عمره ثماني سنوات.

فقدموا به سوق عكاظ ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة ، فوهبته للنبي (ص) فنشأ في بيت النبي (ص) قبل بعثته وقدم أبوه وعمّه في فدائه إلى

__________________

(١) تاريخ العرب قبل الاسلام ٥ / ٤٤.

٧٢

مكّة فدخلا على النبيّ (ص) فقالا : يا ابن عبد المطلب يا ابن هاشم يا ابن سيد قومه جئناك في ابننا عندك! فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه! فقال : من هو؟ قالوا : زيد بن حارثة فقال رسول الله (ص) فهلّا غير ذلك؟ قالوا : ما هو؟ قال (ص) : ادعوه وخيّروه فإن اختاركم فهو لكم وإن اختارني فو الله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحدا! قالا : زدتنا على النصف وأحسنت : فدعاه رسول الله (ص) فقال : هل تعرف هؤلاء؟ قال : نعم! هذا أبي وهذا عمّي ؛ قال : فأنا من عرفت ورأيت صحبتي لك فاخترني أو اخترهما! قال : ما أريدهما وما أنا بالّذي أختار عليك أحدا أنت منّي مكان الأب والعمّ. فقالا : ويحك! أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وأهل بيتك!؟ قال : نعم ورأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالّذي أختار عليه أحدا أبدا فلما رأى رسول الله (ص) ذلك أخرجه إلى الحجر ـ حجر إسماعيل ـ فقال : يا من حضر إن زيدا ابني يرثني وأرثه فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت نفوسهما وانصرفا فكان يقال له بعد ذلك : زيد بن محمد (ص) وزوجته الرسول (ص) بعد هجرته إلى المدينة ابنة عمّته زينب حفيدة عبد المطلب على كره من أمرها فلم يطق تعاليها عليه واستأذن النبي (ص) في طلاقها فقال النبي (ص) له : أمسك عليك زوجك وأوحى الله إليه أن يتزوجها بعد طلاقها من زيد ليكون عمله اسوة للمؤمنين فلا يكون عليهم حرج في أزواج أدعيائهم وخشي الرسول (ص) من قول الناس : أنه تزوج مطلقة من تبناه وأخفى الأمر في نفسه فأنزل الله عليه :

(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً* ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً* الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً* ما كانَ مُحَمَّدٌ

٧٣

أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (الآيات / ٣٧ ـ ٤٠) (١).

ك ـ القوي يأكل الضعيف :

لم ينحصر كسب المال بالظلم في الجاهلية بالسلب والنهب في الغزوات ، بل كان القوي منهم يأكل الضعيف كلما سنحت له الفرصة لذلك مثل خبر الاراشي ـ من قبائل اليمن ـ مع أبي جهل كما أورده ابن هشام (٢) في سيرته وقال :

قدم رجل من إراش (٣) بإبل له مكة ، فابتاعها منه أبو جهل ، فمطله بأثمانها.

فأقبل الاراشي حتى وقف على ناد من قريش ، ورسول الله (ص) في ناحية المسجد جالس ، فقال : يا معشر قريش ، من رجل يؤديني على أبي الحكم بن هشام ، فإني رجل غريب ، ابن سبيل ، وقد غلبني على حقي؟

قال : فقال له أهل ذلك المجلس : أترى ذلك الرجل الجالس ـ لرسول الله (ص) ، وهم يهزءون به لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة ـ اذهب إليه ، فإنه يؤديك عليه.

فأقبل الاراشي حتى وقف على رسول الله (ص) ، فقال : يا عبد الله ، إن أبا الحكم بن هشام قد غلبني على حق لي قبله ، وأنا [رجل] غريب ابن سبيل ، وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤديني عليه ، يأخذ لي حقي منه ، فأشاروا لي

__________________

(١) راجع تفسير الآيات بتفسير الطبري وأمثاله ممن فسر القرآن بالروايات.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ / ٢٩ ـ ٣٠ وط. القاهرة ١ / ٤١٦ ـ ٤١٧.

(٣) هو ابن الغوث ، أو ابن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ ، وهو والد أنمار الذي ولد بجيلة وخثعم.

٧٤

اليك ، فخذ لي حقّي منه ، يرحمك الله.

قال : انطلق إليه ، وقام معه رسول الله (ص) ، فلما رأوه قام معه ، قالوا لرجل ممن معهم : اتبعه ، فانظر ما ذا يصنع.

قال وخرج رسول الله (ص) حتّى جاءه فضرب عليه بابه ، فقال : من هذا؟ قال : محمد ، فاخرج إلي. فخرج إليه ، وما في وجهه من رائحة (١) ، وقد انتقع (٢). لونه ، فقال : أعط هذا الرجل حقّه. قال : نعم ، لا تبرح حتّى أعطيه الّذي له. قال : فدخل ، فخرج إليه بحقه ، فدفعه إليه.

ثمّ انصرف رسول الله (ص) ، وقال للاراشي : الحق بشأنك ، فأقبل الإراشي ، حتّى وقف على ذلك المجلس ، فقال : جزاه الله خيرا ، فقد والله أخذ لي حقّي.

قال : وجاء الرجل الّذي بعثوا معه ، فقالوا : ويحك! ما ذا رأيت؟ قال : عجبا من العجب ، والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه ، فخرج إليه وما معه روحه ، فقال له : أعط هذا حقّه ، فقال : نعم لا تبرح حتّى أخرج إليه حقّه. فدخل ، فخرج إليه بحقّه ، فأعطاه إياه. قال : ثم لم يلبث أبو جهل أن جاء ، فقالوا له ويلك! مالك؟ والله ما رأينا مثل ما صنعت قطّ!

قال : ويحكم! والله ما هو إلا أن ضرب عليّ بابي ، وسمعت صوته ، فملئت منه رعبا ، ثمّ خرجت إليه ، وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل ، ما رأيت مثل هامته ، ولا قصرته (٣) ، ولا أنيابه لفحل قط ، والله لو أبيت لأكلني.

__________________

(١) أي بقية روح ، فكأن معناه روح باقية ، فلذلك جاء به على وزن فاعلة. والدليل على أنه أراد معنى الروح ، وإن جاء به على بناء فاعلة ، ما جاء في آخر الحديث : خرج إلي وما عنده روحه. وقيل يريد : ما في وجهه قطرة من دم.

(٢) انتقع لونه : تغير. ويروى : امتقع ، وهو بمعناه.

(٣) القصرة : أصل العنق.

٧٥

ل ـ أسواق العرب :

كانت القبائل العربية تجتمع في الأشهر الحرم في أسواق مشهورة لبيع سلعهم سواء أكان مصدرها سلبا ونهبا أم تجارة مجلوبة من بلد بعيد أو قريب أو حصيلة زرع لهم أو ضرع وللمفاخرة والمكاثرة.

وقد ذكر اليعقوبي عشرة أسواق للعرب يجتمعون بها في تجاراتهم وكان أشهرها سوق عكاظ بأعلى نجد.

وفي مادة عكاظ من معجم البلدان ما موجزه : تجتمع قبائل العرب في كل سنة فيها ، يتفاخرون ويحضرها شعراؤهم يتناشدون ما أحدثوا من الشعر وبها كانت مهادناتهم وحمالاتهم ويقيمون فيها عشرون يوما من ذي القعدة (١).

وقال في مادة مجنّة والمجاز ما موجزه :

ينتقلون عشرة أيام آخر ذي القعدة إلى سوق مجنّة بأسفل مكّة على قدر بريد منها ، ثمّ ينتقلون إلى ذي المجاز موضع سوق بعرفة يبقون ثمانية أيام ثمّ يعرفون في اليوم التاسع من ذي الحجة.

__________________

(١) اليعقوبي ١ / ٢٧٠.

٧٦

رابعا ـ أديان العرب في العصر الجاهلي :

أ ـ الوثنية :

قال ابن إسحاق واليعقوبي ما موجزه (١) :

إن بني اسماعيل كانوا لا يفارقون مكة ، حتى كثروا ، وضاقت بهم مكة فتفرقوا في البلاد ، وما ارتحل أحد منهم من مكّة إلّا حمل معه حجرا من حجارة الحرم ، وحيث ما نزلوا وضعوه ، وطافوا به كطوافهم بالكعبة ، حتى أدّى بهم إلى عبادته وخلف من بعدهم خلف نسوا ما كان عليه آباؤهم من دين إسماعيل وعبدوا الأوثان.

وقالا ـ أيضا ـ ما موجزه :

إن عمرو بن لحيّ ـ شيخ خزاعة ـ سافر إلى الشام ، ورأى أهلها يعبدون الأصنام ، فقال لهم ، ما هذه الأصنام الّتي أراكم تعبدون. فقالوا له : هذه أصنام نعبدها ، فنستمطرها ، فتمطرنا ، ونستنصرها ، فتنصرنا ، فأخذ منهم هبل. وأتى به مكّة ونصبه عند الكعبة.

ووضعوا كلّا من إساف ونائلة على ركن من أركان ، البيت فكان الطائف بالبيت يبدأ بإساف ، ويقبله ، ويختم به ، وكانت العرب عند ما تحجّ البيت تسأل قريشا وخزاعة عنها ، فيقولون نعبدها لتقربنا إلى الله زلفى فلما رأت العرب ذلك اتخذت كلّ قبيلة صنما لها يصلّون له تقربا إلى الله على حدّ زعمهم.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ط. مصر سنة ١٣٥٦ ه‍ ١ / ٨٢ ، وتاريخ اليعقوبي ط. بيروت سنة ١٣٧٩ ه‍ ١ / ٢٥٤ ، والاكتفاء للكلاعي ط. القاهرة سنة ١٣٨٧ ه‍ ١ / ٩٢ ـ ٩٤.

٧٧

فكان لكلب بن وبرة وأحياء قضاعة (ودّ) منصوبا بدومة الجندل بجرش وكان لحمير وهمدان (نسر) منصوبا بصنعاء.

وكذلك ذكر اليعقوبي (١) وابن هشام أصنام القبائل وأماكنها قالا : وكان لبعضها بيوت تعظمها العرب مثل بيت اللات بالطائف ، وكانت العرب إذا أرادت حجّ البيت ، وقفت كلّ قبيلة عند صنمها ، وصلّوا عنده ، ثم تلبوا ، حتّى قدموا مكّة وكانت تلبية قريش : لبيك ، اللهم ، لبيك! لبيك لا شريك لك ، الّا شريك هو لك ، تملكه وما ملك ...

وتلبية جذام : لبيك عن جذام ذي النهى والأحلام.

وتلبية مذحج : لبيك رب الشّعرى وربّ اللات والعزّى (٢) وفي ذلك قال الله سبحانه : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)

كانت قبائل العرب إذا دخلوا مكة للحج نزعوا ثيابهم الّتي كانت عليهم ولبسوا ثياب أهل مكّة كراء أو عارية ، وإن لم يمكنهم ذلك طافوا بالبيت عراة ، وكانوا ينكرون المعاد ، كما أخبر الله عنهم في سورة الجاثية وقال سبحانه :

(وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ* وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الآيات / ٢٤ ـ ٢٦)

وكان لهم في الجنّ عقائد مبهمة مشوشة كما نذكرها في ما يأتي بحوله تعالى :

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ١ / ٢٥٥ ، وسيرة ابن هشام ١ / ٨٢ ، والاكتفاء للكلاعي ١ / ٩٤.

(٢) كذلك ذكر اليعقوبي ١ / ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ، تلبية القبائل قبيلة بعد قبيلة.

٧٨

ب ـ عقائد العرب في الجن والغول والسعلاة :

أمّا الجنّ ، فكانت العرب في الجاهلية إذا نزلوا واديا وباتوا فيه قالوا : نعوذ بسيد أهل هذا الوادي من شر أهله أو بعزيز هذا الوادي أو بعظيم هذا الوادي وما شاكله من الاستعاذة بعظيم الجنّ في ذلك الوادي.

روى السيوطي في جملة أخبار الاستعاذة ما موجزه : أن رجلا من تميم نزل ليلة في أرض مجنة ، فقال : أعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ أهله ، فأجاره شيخ منهم ، فغضب شاب منهم ، وأخذ حربته لينحر ناقة الرجل ، فمنعه الشيخ وقال :

يا مالك بن مهلهل مهلا

فدى لك محجري وأزاري

(كذا) عن ناقة الانسان لا تعرض لها ... الأبيات.

فقال له الفتى :

أتريد أن تعلو وتخفض ذكرنا

في غير مرزية أبا العيزار

(١) وأما الغول ، فقد قال ابن الأثير (٢) : جنس من الجنّ والشياطين ، كانت العرب تزعم أن الغول في الفلا تتراءى للناس فتتغول تغولا أي : تتلون تلونا في صور شتى وتغولهم أي : تضلهم عن الطريق وتهلكهم.

وقال المسعودي في ذلك ما موجزه (٣) :

العرب يزعمون أنّ الغول يتغول لهم في الخلوات ، ويظهر لخواصهم في أنواع من الصور ، فيخاطبونها ، وربما ضيفوها ، وقد أكثروا من ذلك في أشعارهم ، فمنها قول تأبّط شرّا :

فأصبحت والغول لي جارة

فيا جارتي أنت ما أهولا

__________________

(١) في تفسير آية وكان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن من الدر المنثور ط. مصر سنة ١٣١٤ ه‍ ٦ / ٢٧١ ، وفي مروج الذهب للمسعودي ط. بيروت سنة ١٣٨٥ ه‍ ٢ / ١٤٠ أخبار نظير ما ذكرناه.

(٢) النهاية في غريب الحديث والأثر ، مادة (الغول) ٣ / ٣٩٦.

(٣) مروج الذهب ٢ / ١٣٤ ـ ١٣٥ ، في باب أقاويل العرب في الغيلان.

٧٩

وطالبتها بضعها فالتوت

بوجه تغول فاستغولا

ويزعمون أن رجليها رجلا عنز ، وكانوا إذا اعترضتهم الغول في الفيافي يرتجزون ويقولون :

يا رجل عنز انهقي نهيقا

لن نترك السبسب والطريقا

وذلك أنها كانت تتراءى لهم في الليالي وأوقات الخلوات ، فيتوهمون أنّها إنسان فيتبعونها ، فتزيلهم عن الطريق الّتي هم عليها ، وتتيههم. وكان ذلك قد اشتهر عندهم وعرفوه ، فلم يكونوا يزولون عما كانوا عليه من القصد ، فإذا صيح بها على ما وصفنا شردت عنهم في بطون الأودية ورءوس الجبال.

وقد ذكر جماعة من الصحابة ذلك ، منهم عمر بن الخطاب (رض) انه شاهد ذلك في بعض أسفاره إلى الشام ، وأنّ الغول كانت تتغول له ، وإنّه ضربها بسيفه ، وذلك قبل ظهور الإسلام ، وهذا مشهور عندهم في أخبارهم.

السعلاة :

قال المسعودي ما موجزه (١) :

وفرقوا بين السعلاة والغول قال عبيد بن أيوب ...

أبيت بسعلاة وغول بقفرة

إذا الليل وارى الجنّ فيه أرنت

وقد وصفها بعضهم فقال :

وحافر العنز في ساق مدملجة

وجفن عين خلاف الأنس بالطول

وقد حكى الله قول الجنّ في عملهم مع الأنس وقال تعالى :

(وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً* وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً* وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً* وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) (الجن / ٦ ـ ٩).

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ١٣٧.

٨٠