القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ١

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ١

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٢
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٣٣٥

سافت يعني هلكت أموالهم خرجوا إلى برار من الأرض فضربوا على أنفسهم الأخبية ثمّ تناوبوا فيها حتّى يموتوا من قبل أن يعلم بخلتهم حتى نشأ هاشم ابن عبد مناف ، فلما نبل وعظم قدره في قومه قال يا معشر قريش إنّ العزّ مع الكثرة ، وقد أصبحتم أكثر العرب أموالا وأعزّهم نفرا ، وإنّ هذا الاعتفاد قد أتى على كثير منكم ، وقد رأيت رأيا.

قالوا : رأيك راشد فمرنا نأتمر قال : رأيت أن أخلط فقراءكم بأغنيائكم فاعمد إلى رجل غني ، فأضم إليه فقيرا عياله بعدد عياله فيكون يوازره في الرحلتين رحلة الصيف إلى الشام ورحلة الشتاء إلى اليمن ، فما كان في مال الغني من فضل عاش الفقير وعياله في ظله وكان ذلك قطعا للاعتفاد (١).

قالوا نعم ما رأيت فألف بين الناس (٢).

وتفصيل الخبر بتفسير السورة عند القرطبي وبعضه بمادة (عفد) من لسان العرب وأكثر لفظ الخبر من القرطبي عن ابن عباس انه قال :

إن قريشا كانوا إذا أصابت واحدا منهم مخمصة (٣) جرى هو وعياله إلى موضع معروف ، فضربوا على أنفسهم خباء فماتوا ، حتى كان عمرو بن عبد مناف ، وكان سيدا في زمانه ، وله ابن يقال له : أسد ، وكان له ترب (٤) من بني مخزوم ، يحبه ويلعب معه ، فقال له : نحن غدا نعتفد وتأويله : ذهابهم إلى ذلك الخباء ، وموتهم واحدا بعد واحد.

قال : فدخل أسد على أمّه يبكي ، وذكر ما قاله تربه.

قال : فأرسلت أم أسد إلى أولئك بشحم ودقيق ، فعاشوا به أياما ، ثم إن تربه أتاه أيضا فقال : نحن غدا نعتفد ، فدخل أسد على أبيه يبكي ، وخبره خبر

__________________

(١) في الاصل نحتفد والاحتفاد تحريف.

(٢) تفسير السيوطي ٦ / ٣٩٧.

(٣) المخمصة : المجاعة.

(٤) الترب (بالكسر) : اللدة ومساويك في السن ومن ولد معك.

٤١

تربه ، فاشتدّ ذلك على عمرو بن عبد مناف ، فقام خطيبا في قريش وكانوا يطيعون أمره ، فقال : إنكم أحدثتم حدثا تقلون فيه وتكثر العرب ، وتذلون وتعزّ العرب ، وأنتم أهل حرم الله ـ جل وعز ـ وأشرف ولد آدم ، والناس لكم تبع ، ويكاد هذا الاعتفاد يأتي عليكم.

فقالوا : نحن لك تبع.

قال : ابتدءوا بهذا الرجل ـ يعني أبا ترب أسد ـ فأغنوه عن الاعتفاد ففعلوا ، ثم إنّه نحر البدن ، وذبح الكباش والمعز ، ثم هشم الثريد ، وأطعم الناس ، فسمّى هاشما ، وفيه قال الشاعر :

عمرو العلا هشم الثريد لقومه

ورجال مكة مسنتون (١) عجاف

ثم جمع كل بني أب على رحلتين : في الشتاء إلى اليمن ، وفي الصيف إلى الشام للتجارات ، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير ، حتّى صار فقيرهم كغنيهم ؛ فجاء الإسلام وهم على هذا ، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالا ولا أعزّ من قريش ، وهو قول شاعرهم :

والخالطون فقيرهم بغنيهم

حتّى يصير فقيرهم كالكافي

فلم يزالوا كذلك ، حتّى بعث الله رسوله محمدا (ص) ، فقال : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) بصنيع هاشم (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) أن تكثر العرب ويقلوا (٢).

ومع ذلك ـ أيضا ـ لم يكن كلّ أفراد قريش أثرياء مرفّهين ، بل كانت الكثرة الكاثرة منهم يتحملون السغب والجوع ، ومن ثمّ كانت كثرة العيال لهم محنة يتعسر عليهم تحمّلها.

ونذكر مثالين من سيرة الرسول كدليل على الوضع الاقتصادي لدى

__________________

(١) مسنتون : أي أصابتهم السنة. والسنة : الجدب والقحط.

(٢) تفسير القرطبي ٢٠ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

٤٢

سروات مكة :

أ ـ روى ابن اسحاق وقال :

إن قريشا أصابتهم أزمة شديدة ، وكان أبو طالب ذا عيال كثير ؛ فقال رسول الله (ص) للعبّاس عمّه ، وكان من أيسر بني هاشم : يا عبّاس ، إن أخاك أبا طالب كثير العيال ، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة ، فانطلق بنا إليه فلنخفف عنه من عياله ، آخذ من بنيه رجلا وتأخذ أنت رجلا فنكلهما عنه ؛ فقال العبّاس : نعم.

فانطلقا حتى أتيا أبا طالب ، فقالا له : إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه.

فقال لهما أبو طالب : إذا تركتما لي عقيلا وطالبا فاصنعا ما شئتما.

فأخذ رسول الله (ص) عليا فضمّه إليه ، وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه ؛ فلم يزل علي مع رسول الله (ص) حتّى بعثه الله ـ تبارك وتعالى ـ نبيّا ، فاتّبعه علي ـ رضي الله عنه ـ وآمن به وصدّقه ؛ ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه (١).

كانت إعالة الذكور من الأولاد مشكلة لغير ذوي اليسار في سنة الجدب والقحط.

أمّا إعالة البنات ، فقد كانت مشكلة في العصر الجاهلي تعمّ الفقير منهم وذوي اليسار في سني الجدب والرخاء كما نرى ذلك في الخبر الآتي :

ب ـ روى ابن اسحاق ـ أيضا ـ وقال :

كان رسول الله (ص) قد زوج عتبة بن أبي لهب رقية أو أمّ كلثوم ، فلما بادى قريشا بأمر الله ـ تعالى ـ وبالعداوة ، قالوا : إنّكم قد فرغتم محمدا من همّه ، فردّوا عليه بناته ، فاشغلوه بهنّ. فمشوا إلى أبي العاص فقالوا له : فارق

__________________

(١) ابن هشام ١ / ٢٦٣.

٤٣

صاحبتك ونحن نزوّجك أي امرأة من قريش شئت ؛ قال : ها لله (١) ، إني لا أفارق صاحبتي ، وما أحبّ أن لي بامرأتي امرأة من قريش.

وكان رسول الله (ص) يثني عليه في صهره خيرا ، فيما بلغني.

ثمّ مشوا إلى عتبة بن أبي لهب ، فقالوا له : طلق بنت محمد ونحن ننكحك أي امرأة من قريش شئت.

فقال : إن زوجتموني بنت أبان بن سعيد بن العاص ، او بنت سعيد بن العاص فارقتها فزوجوه بنت سعيد بن العاص ، وفارقها ، ولم يكن دخل بها فأخرجها الله من يده كرامة لها وهوانا له ، وخلف عليها عثمان بن عفّان بعده (٢).

إنّ قريشا لما أرادت أن تكيد برسول الله كيدا يقعده عن دعوته للتوحيد عمدت الى إرجاع بناته الى بيته ليشغلوه بهنّ عن مقارعتهم ومقابلتهم.

وذلك لان المرأة لم تكن تشترك يومذاك في الغزو ولا في سفر التجارة وغيرهما من الأعمال الجالبة للثروة ، ومن ثم كانت أبدا ودائما عالة على الرجل وكان ذلك أهم سبب لوأد البنات في الجاهلية ، كما نشير إلى بعض أخبارها في ما يأتي بحوله تعالى.

وأد البنات : (٣)

كانت العرب تئد البنات بسبب الفقر وحمية الجاهلية ، أمّا الفقر ، فقد أخبر الله عنه وقال سبحانه في سورة الاسراء :

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) (الآية / ٣١)

__________________

(١) هكذا النص ونراه من خطأ النساخ والصواب : لاها الله.

(٢) ابن هشام ٢ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧ ؛ وط. مصر سنة ١٣٥٦ ، ٢ / ٢٩٦.

(٣) وان وأد البنات يعدّ ـ أيضا ـ من النظم الاجتماعية في العصر الجاهلي.

٤٤

وقال تعالى (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (التكوير / ٨ ـ ٩) قال القرطبي : الموءودة المقتولة ؛ وهي الجارية تدفن وهي حيّة ، سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب ، فيئودها أي يثقلها حتى تموت.

وروى عن ابن عباس أنّه قال :

كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت حفرت حفرة ، وتمخضت على رأسها ، فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة ، وردت التراب عليها ، وإن ولدت غلاما حبسته ، ومنه قول الراجز :

سميتها إذ ولدت تموت

والقبر صهر ضامن زمّيت(١)

الزِّمِّيت الوقور.

وفي تفسير الطبري ما موجزه : كان الرجل من ربيعة أو مضر يشترط على امرأته ، أن تستحي جارية وتئد أخرى ، فإذا كانت الجارية التي توأد غدا الرجل أو راح من عند امرأته ، وقال لها : أنت عليّ كظهر أمّي إن رجعت إليك ولم تئديها ، فتخدّ لها في الأرض خدّا وترسل إلى نسائها فيجتمعن عندها ثم يتداولنها حتّى إذا أبصرته راجعا دستها في حفرتها ثم سوت عليها التراب (٢).

قال المؤلف : ونظير هذا اسقاط الجنين المتداول في عصرنا.

وفي تفسير القرطبي والطبري عن قتادة ، قال : كانت الجاهلية يقتل أحدهم ابنته ، ويغذو كلبه ، فعاتبهم الله على ذلك ، وتوعدهم بقوله : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ)(٣).

قال المؤلف :

__________________

(١) تفسير القرطبي ١٩ / ٢٣٧ ـ ٢٣٣.

(٢) تفسير الطبري ٨ / ٣٨ ، (بولاق) في تفسير (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ).

(٣) ما نقلناه عن القرطبي الى هنا ففي تفسيره الجامع ١٩ / ٢٣٢ ـ ٢٣٣ والخبر الأخير رواه الطبري ـ أيضا ـ في تفسيره ٣٠ / ٤٦.

٤٥

إنّما كانوا يغذون كلبهم ، لأنّه كان ينفعهم في حراسة بيتهم وماشيتهم بينما لم تكن البنت تجلب لاولئك الوائدين نفعا.

***

كانت تلكم أمثلة من الوأد خشية الإملاق ، أما الوأد بسبب الحمية حميّة الجاهلية فكالآتية أخبارها :

الوأد بداعي الحمية الجاهلية

ذكر أهل الأخبار أنّ بعض السبايا من نساء أشراف القبائل اخترن البقاء عند من سباهنّ وأبين الرجوع إلى عشائرهن عند المصالحة فأثار ذلك عندهم حميّة الجاهليّة ووأدوا بناتهم كما روى أبو الفرج في الأغاني في خبر قيس بن عاصم التميمي السعدي وقال :

أن سبب وأد قيس بناته أن المشمرج اليشكري أغار على بني سعد فسبى منهم نساء واستاق أموالا ، وكان في النساء امرأة ، خالها قيس بن عاصم ، فرحل قيس إليهم يسألهم أن يهبوها له أو يفدوها ، فوجد عمرو بن المشمرج قد اصطفاها لنفسه. فسأله فيها ، فقال : قد جعلت أمرها إليها فإن اختارتك فخذها ، فخيرت ، فاختارت عمرو بن المشمرج. فانصرف قيس فوأد كل بنت ، وجعل ذلك سنة في كل بنت تولد له ، واقتدت به العرب في ذلك ؛ فكان كل سيّد يولد له بنت يئدها خوفا من الفضيحة.

وقال :

وفد قيس بن عاصم على رسول الله (ص) فسأل بعض الأنصار عما يتحدث به عنه من الموءودات التي وأدهن من بناته ؛ فأخبر أنّه ما ولدت له بنت قط إلّا وأدها. ثم أقبل على رسول الله (ص) يحدثه فقال له : كنت أخاف سوء الأحدوثة والفضيحة في البنات ، فما ولدت لي بنت قط إلّا وأدتها ، وما رحمت منهن

٤٦

موءودة قط إلّا بنية لي ولدتها أمّها وأنا في سفر فدفعتها أمّها إلى أخوالها فكانت فيهم ؛ وقدمت فسألت عن الحمل ، فأخبرتني المرأة أنها ولدت ولدا ميتا.

ومضت على ذلك سنون حتى كبرت الصبية ويفعت فزارت أمّها ذات يوم ، فدخلت فرأيتها وقد ضفرت شعرها وجعلت في قرونها شيئا من خلوق ونظمت عليها ودعا ، وألبستها قلادة جزع ، وجعلت في عنقها مخنقة بلح : فقلت : من هذه الصبية فقد أعجبني جمالها وكيسها؟ فبكت ثم قالت : هذه ابنتك ، كنت خبرتك أنّي ولدت ولدا ميتا ، وجعلتها عند أخوالها حتّى بلغت هذا المبلغ. فأمسكت عنها حتّى اشتغلت عنها ، ثم أخرجتها يوما فحفرت لها حفيرة فجعلتها فيها وهي تقول : يا أبت ما تصنع بي؟! وجعلت أقذف عليها التراب وهي تقول : يا أبت أمغطيّ أنت بالتراب؟! أتاركي أنت وحدي ومنصرف عني؟! وجعلت أقذف عليها التراب ذلك حتّى واريتها وانقطع صوتها ، فما رحمت أحدا ممن واريته غيرها. فدمعت عينا النبي (ص) ثم قال : «إنّ هذه لقسوة ، وإنّ من لا يرحم لا يرحم» (١).

وقال القرطبي :

انّ قيس بن عاصم سأل النبي (ص) وقال : يا رسول الله! إنّي وأدت ثماني بنات كنّ لي في الجاهلية.

قال : «فأعتق عن كلّ واحدة منهم رقبة».

قال : يا رسول الله إنّي صاحب إبل.

قال : «فأهد عن كلّ واحدة منهن بدنة إن شئت» (٢).

__________________

(١) الأغاني ط. ساسي ١٢ / ١٤٤ وط. بيروت ١٤ / ٦٦. والخلوق : ضرب من الطيب ، والودع : خرز بيض أجوف في بطونها شقّ كشقّ النواة تتفاوت في الصغر والكبر والواحدة : ودعة والجزع : الخرز اليماني الصيني فيه سواد وبياض والمخنقة : القلادة وكيسها : عقلها.

(٢) القرطبي ، التفسير الجامع ، ١٩ / ٢٣٣ و (ثماني) في النص كذا : ثمان.

٤٧

وقال (القرطبي) : «إنّه كان من العرب من يقتل ولده خشية الإملاق ، كما ذكر الله ـ عزوجل ـ وكان منهم من يقتله سفها بغير حجّة منهم في قتلهم ، وهم ربيعة ومضر ، كانوا يقتلون بناتهم لأجل الحميّة.

وروي أنّ رجلا من أصحاب النبيّ (ص) وكان لا يزال مغتما بين يدي رسول الله (ص) ، فقال له رسول الله (ص) : مالك تكون محزونا؟

فقال : يا رسول الله ، إني أذنبت ذنبا في الجاهلية فأخاف ألّا يغفره الله لي وإن أسلمت.

فقال له : أخبرني عن ذنبك.

فقال : يا رسول الله ، إنّي كنت من الّذين يقتلون بناتهم ، فولدت لي بنت ، فتشفعت إلي امرأتي أن أتركها ، فتركتها حتّى كبرت وأدركت ، وصارت من أجمل النساء ، فخطبوها ، فدخلتني الحميّة ، ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيت بغير زواج ، فقلت للمرأة : إني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا وكذا في زيارة أقربائي ، فابعثيها معي ، فسرّت بذلك ، وزيّنتها بالثياب والحلي ، وأخذت علي المواثيق بألّا أخونها.

فذهبت الى رأس بئر فنظرت في البئر ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها في البئر فالتزمتني ، وجعلت تبكي ، وتقول : يا أبت ايش تريد أن تفعل بي؟

فرحمتها ، ثم نظرت في البئر ، فدخلت علي الحميّة ، ثم التزمتني وجعلت تقول : يا أبت لا تضيع أمانة أمّي! فجعلت مرّة أنظر في البئر ومرّة أنظر إليها فأرحمها حتّى غلبني الشيطان ، فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة ، وهي تنادي في البئر : يا أبت ، قتلتني.

فمكثت هناك حتى انقطع صوتها فرجعت.

فبكى رسول الله (ص) وأصحابه ، وقال : «لو أمرت أن أعاقب أحدا بما

٤٨

فعل في الجاهلية لعاقبتك» (١).

وفي شأن هؤلاء أنزل الله تعالى في سورة النحل / ٥٨ :

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ)

ولمّا كانوا يعتقدون بأن الله اصطفى من الملائكة بنات له كما سيأتي ذكره بحوله تعالى في بحث أديان العرب قال سبحانه :

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) (الزخرف / ١٧).

قال ابن الاثير في ترجمة صعصعة من أسد الغابة ما موجزه :

صعصعة بن ناجية جدّ الفرزدق همام بن غالب الشاعر ، وكان من أشراف بني تميم ، وكان في الجاهليّة يفتدي الموءودات وقد مدحه الفرزدق بذلك في قوله :

وجدّي الذي منع الوائدات

وأحيا الوئيد فلم يوأد

قال قدمت على النبي (ص) فعرض عليّ الإسلام ، فأسلمت وعلمني آيا من القرآن فقلت : يا رسول الله أنّي عملت أعمالا في الجاهليّة فهل لي فيها من أجر. قال : وما عملت ، قلت : ضلّت ناقتان لي عشراوان ، فخرجت أبغيهما على جمل لي ، فرفع لي بيتان في فضاء من الأرض ، فقصدت قصدهما ، فوجدت في أحدهما شيخا كبيرا فبينما هو يخاطبني وأخاطبه إذ نادته امرأة قد ولدت قال وما ولدت. قالت جارية قال فادفنيها فقلت أنا أشتري منك روحها لا تقتلها فاشتريتها بناقتيّ وولديهما والبعير الّذي تحتي وظهر الإسلام وقد أحييت ثلاثمائة وستين موءودة أشتري كلّ واحدة منهن بناقتين عشراوين وجمل. فهل لي من

__________________

(١) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ٥ / ٩٣ ؛ والقرطبي ، تفسير سورة الأنعام الآية ١٤٠ ، ٧ / ٩٦ ـ ٩٧.

٤٩

أجر؟ فقال رسول الله (ص) هذا باب من البرّ لك أجره إذ من الله عليك بالإسلام (١).

__________________

(١) أسد الغابة ٣ / ٢٢ ـ ٢٣.

٥٠

ثالثا ـ النظم الاجتماعية :

بدأنا بذكر النظم القبيلة والوضع الاقتصادي وما يتصل بهما من شئون العرب في العصر الجاهلي. وفي ما يأتي نذكر بعض مظاهر النظم الاجتماعية في العصر الجاهلي بإذنه تعالى.

ونبدأ بذكر حمية الجاهليّة وحكمها.

أ ـ حميّة الجاهلية وحكمها

قال الله ـ سبحانه ـ :

١ ـ في سورة المائدة :

(... بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ* أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (الآيات / ٤٩ ـ ٥٠)

٢ ـ في سورة الفتح :

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (الآية / ٢٦)

وفي سورة المائدة :

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ

٥١

فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الآيات / ٨٩ ـ ٩٠)

هذا ما أخبر الله ـ سبحانه وتعالى ـ عن حمية الجاهلية ، وفي ما يأتي نذكر بإذنه تعالى تفصيل النظم الاجتماعية في العصر الجاهلي.

ب ـ حكّام العرب :

قال اليعقوبي :

وكان للعرب حكام ترجع إليها في أمورها ، وتتحاكم في منافراتها ، ومواريثها ، ومياهها ، ودمائها ، لأنه لم يكن دين يرجع إلى شرائعه ، فكانوا يحكّمون أهل الشرف ، والصدق والأمانة ، والرئاسة ، والسنّ ، والمجد ، والتجربة.

ثم ذكر أسماء ثلاثة وعشرين منهم من ضمنهم خمسة كانوا من قريش مثل عبد المطلب (١).

ج ـ شعراء العرب وأثر الشعر في الانسان العربي :

قال اليعقوبي وكانت العرب تقيم الشعر مقام الحكمة وكثير العلم ، فإذا كان في القبيلة الشاعر الماهر ، المصيب المعاني ، المخير الكلام ، أحضروه في أسواقهم التي كانت تقوم لهم في السنة ومواسمهم عند حجهم البيت ، حتى تقف وتجتمع القبائل والعشائر ، فتسمع شعره ، ويجعلون ذلك فخرا من فخرهم ، وشرفا من شرفهم.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ١ / ٢٥٨.

٥٢

ولم يكن لهم شيء يرجعون إليه من أحكامهم وأفعالهم إلا الشعر ، فبه كانوا يختصمون ، وبه يتمثلون ، وبه يتفاضلون ، وبه يتقاسمون ، وبه يتناضلون ، وبه يمدحون ويعابون.

فكان ممن قدم شعره في جاهلية العرب على ما اجتمعت عليه الرواة وأهل العلم بالشعر ، وجاءت به الآثار والأخبار من شعراء العرب في جاهليتها مع من أدركه الاسلام ، فسمّي مخضرما ، فإنهم دخلوا مع من تقدم ، فسموا الفحول ، وقدّموا على تقدّم أشعارهم في الجودة ، فإن كان بعضهم أقدم من بعض وهم على ما بينا من أسمائهم ومراتبهم على الولاء ، فأوّلهم امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو آكل المرار بن معاوية بن ثور ، وهو كندة.

ثم ذكر أسماء ثمانية وثمانين شاعرا بأنسابهم (١).

وفي المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام (٢).

ورووا ان المحلق كان ممن رفعه الشعر بعد الخمول ، وذلك أن الأعشى قدم مكة وتسامع الناس به ، وكانت للمحلق امرأة عاقلة ، وقيل بل أم ، وكان المحلق فقيرا خامل الذكر ، ذا بنات ، فأشارت عليه ، أن يكون أسبق الناس اليه في دعوته الى الضيافة ، ليمدحهم ، ففعل. فلما أكل الأعشى وشرب ، وأخذت منه الكأس ، عرف منه أنه فقير الحال ، وأنه ذا عيال ، فلما ذهب الأعشى الى عكاظ أنشد قصيدته :

أرقت وما هذا السهاد المؤرق

وما بي من سقم وما بي معشق

ثم مدح المحلق ، فما أتمّ القصيدة إلا والناس ينسلون الى المحلق يهنئونه ، والأشراف من كل قبيلة يتسابقون إليه جريا يخطبون بناته ، لمكان شعر الأعشى.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ١ / ٢٦٢ ـ ٢٦٩.

(٢) المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام ٩ / ١٠٩ ـ ١١٣.

٥٣

ويذكر الرواة أن القبيلة كانت إذا نبغ فيها شاعر احتفلت به ، وفرحت بنبوغه ، وأتت القبائل فهنأتها بذلك ، وصنعت الأطعمة ، واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر ، وتباشروا به لأنه حماية لهم ، ولسانهم الذاب عنهم المدافع عن أعراضهم وأحسابهم وشرفهم بين الناس. وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو فرس تنتج أو شاعر ينبغ فيهم (١).

فالشاعر هو صحيفة القبيلة و (محطة إذاعتها) ، وصوته ، يحط ويرفع ويخلد ، لا سيما إذا كان مؤثرا ، فيرويه الناس جيلا بعد جيل.

وكان أثره في الناس أثر السيف في الحروب ، بل استعمله المحاربون أول سلاح في المعارك. فيبدأ الفارس بالرجز ، ثم يعمد الى السيف أو الرمح أو آلات القتال الأخرى. ولأثره هذا ، جاء في الحديث عن الرسول قوله : «والذي نفسي بيده ، لكأنما تنضحونهم بالنبل بما تقولون لهم من الشعر» (٢) مخاطبا بذلك شعراء المسلمين ، الذين حاربوا الوثنيين بهذا السلاح الفتاك ، سلاح الشعر.

وقد كان الوثنيون قد أشهروه أيضا وحاربوا به المسلمين.

وطالما قام الشعراء بالسفارة والوساطة في النزاع الذي كان يقع بين الملوك والقبائل ، أو بين القبائل أنفسها ، فلما أسر (الحارث بن أبي شمر) الغساني (شأس بن عبدة) في تسعين رجلا من (بني تميم) ، وبلغ ذلك أخاه (علقمة ابن عبدة) ، قصد (الحارث) فمدحه بقصيدته :

طحا بك قلب بالحسان طروب

بعيد الشباب عصر حان مشيب

فلما بلغ طلبه بالعفو عن أخيه وعن بقية المأسورين ، قال الحارث : نعم وأذنبه ، وأطلق له شأسا أخاه ، وجماعة أسرى بني تميم ، ومن سأل فيه أو عرفه من غيرهم (٣).

__________________

(١) بلوغ الارب ٣ / ٨٤ ، العمدة ، ١ / ٤٩ ، ٦٥ ، المزهر ٣ / ٢٣٦ ، العقد الفريد ٣ / ٩٣.

(٢) الأغاني ١٥ / ٢٦ وط. بيروت ١٦ / ١٦٥.

(٣) العمدة ١ / ٥٧ ، (أسر الحارث بن أبي شمر الغساني مع سبعين رجلا من بني تميم) ، ـ

٥٤

ولم يقلّ أثر الشاعر في السلم وفي الحرب عن أثر الفارس ، الشاعر يدافع عن قومه بلسانه ، يهاجم خصومهم ، ويهجو سادتهم ، ويحث المحاربين على الاستماتة في القتال ، ويبعث فيهم الشهامة والنخوة للإقدام على الموت حتى النصر. والفارس يدافع عن قومه بسيفه ، وكلاهما ذاب عنهم محارب في النتيجة. بل قد يقدم الشاعر على الفارس ، لما يتركه الشعر من أثر دائم في نفوس العرب ، يبقى محفوظا في الذاكرة وفي اللسان ، يرويه الخلف عن السلف ، بينما يذهب أثر السيف ، بذهاب فعله في المعركة ، فلا يترك ما يتركه شعر المديح أو الهجاء من أثر في النفوس ، يهيجها حين يذكر ، وكان من أثره ان القبائل كانت إذا تحاربت جاءت بشعرائها ، لتستعين بهم في القتال. فلما كان يوم (أحد) ، قال (صفوان بن أمية) لأبي عزة عمرو بن عبد الله الجمحي : «يا أبا عزة انك امرؤ شاعر فأعنّا بلسانك ، فاخرج معنا. فقال : إن محمدا قد منّ عليّ ولا أريد أن أظاهر عليه.

قال : فاعنا بنفسك ، فلك الله علي إن رجعت أن أغنيك ، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر ، فخرج أبو عزة يسير في تهامة ويدعو بني كنانة» شعرا الى السير مع قريش لمحاربة المسلمين (١).

وكان للرسول (ص) شاعره (حسان بن ثابت) يدافع عن الإسلام والمسلمين ، وكان للمشركين من أهل مكة شاعرهم (عبد الله بن الزبعرى) يرد عليه ، ويهاجم المسلمين في السلم وفي المعارك.

وقد دوّنت كتب السير والأخبار والتواريخ أشعارهم وما قاله أحدهم في الآخر ، وقد فات منه شيء كثير ، نص رواة الشعر على أنهم تركوه لما كان فيه من سوء أدب وخروج على المروءة.

وكان الى جانب الشاعرين شعراء آخرون ، منهم من ناصر المسلمين ،

__________________

ـ الشعر والشعراء (١ / ١٤٧ وما بعدها.

(١) الروض الانف (٢ / ١٢٦ وما بعدها) ، (غزوة أحد).

٥٥

لأنه كان منهم ، ومنهم من ناصر المشركين لأنه كان منهم. بل كان المحاربون إذا حاربوا ، فلا بد وأن يبدءوا حربهم بتنشيطها وبتصعيد نارها برجز أو بقريض.

ومن خوفهم من لسان الشاعر ما روي من فزع أبي سفيان ، لما سمع من عزم (الأعشى) على الذهاب الى يثرب ومن اعداده شعرا في مدح الرسول ، ومن رغبته في الدخول في الإسلام. فجمع قومه عندئذ ، وتكلم فيما سيتركه شعر هذا الشاعر من أثر في الاسلام وفي قريش خاصة إن هو أسلم ، ولهذا نصحهم أن يتعاونوا معه في شراء لسانه وفي منعه من الدخول في الإسلام بإعطائه مائة ناقة فوافقوا على رأيه ، وجمعوا له ما طلبه ، وتمكن أبو سفيان من التأثير فيه ، فعاد الى بلده (منفوحة) ومات بها دون أن يسلم (١).

قال (الجاحظ) يبلغ من خوفهم من الهجاء ومن شدة السبّ عليهم ، وتخوفهم أن يبقى ذكر ذلك في الأعقاب ، ويسبّ به الأحياء والأموات ، انهم اذا أسروا الشاعر أخذوا عليه المواثيق ، وربما شدوا لسانه بنسعة ، كما صنعوا بعبد يغوث بن وقّاص الحارثي حين أسرته بنو تيم يوم الكلاب (٢). و (عبد يغوث بن وقاص) شاعر قحطاني ، كان شاعرا من شعراء الجاهلية ، فارسا سيد قومه من بني الحارث بن كعب ، وهو الذي قادهم يوم الكلاب الثاني ، فأسرته بنو تيم وقتلته ، وهو من أهل بيت شعر معروف في الجاهلية والاسلام ، منهم اللجلاج الحارثي ، وهو طفيل بن زيد بن عبد يغوث ، وأخوه (مسهر) فارس شاعر ، ومنهم من أدرك الاسلام : جعفر بن علبة بن ربيعة بن الحارث بن عبد يغوث ، وكان شاعرا صعلوكا (٣).

وفي جمهرة أنساب العرب :

__________________

(١) الشعر والشعراء (١٣٦ وما بعدها) ، زيدان ، آداب ١ / ١١٩.

(٢) البيان والتبيين ٢ / ٢٦٨.

(٣) الخزانة ١ / ٣١٧ (بولاق) وط. القاهرة سنة ١٣٨٧ ه‍ ٢ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

٥٦

(وهؤلاء بنو قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة ولد قريع بن عوف : جعفر ، وهو أنف الناقة : لقّب بذلك لأنّ أباه نحر ناقة ، فقسمها في نسائه ، وأعطى ابنه جعفرا رأس الناقة ، فأخذ بأنفها ، فقيل له : ما هذا؟ فقال : «أنف الناقة!».

فلقّب بذلك. فكان ولده يغضبون منه ، إلى أن قال الحطيئة مادحا لهم :

قوم هم الأنف والأذناب غيرهم

ومن يساوي بأنف النّاقة الذّنبا

فصار ذلك مدحا لهم ، يفتخرون به) (١).

وفي المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام ٩ / ١١٣ :

ولما مدح الحطيئة (بغيض بن عامر بن لاي بن شماس بن لاي بن أنف الناقة) ، واسمه (جعفر بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم) ، وهجا (الزبرقان) ، واسمه (الحصين بن بدر بن امرئ القيس بن خلف ابن عوف بن كعب) ، صاروا يفخرون ويتباهون بأن يقال لهم (أنف الناقة) ، وكانوا يعيرون به ويغضبون منه ويفرقون من هذا الاسم ، حتى أنّ الرجل منهم كان يسأل ممن هو فيقول من (بني قريع) فيتجاوز جعفرا أنف الناقة ، ويلغي ذكره فرارا من هذا اللقب ، الى أن قال (الحطيئة) هذا الشعر فصاروا يتطاولون بهذا النسب ، ويمدون به أصواتهم في جهارة ، إذ قال :

قوم هم الأنف والأذناب غيرهم

ومن يسوّي بأنف الناقة الذنبا(٢)

وقد تعزز الأعشى على قومه ، وبين مكان فضله عليهم ، إذ كان لسانهم الذاب

__________________

(١) جمهرة الانساب لابن حزم ص ٢٠٩.

(٢) وفي البيان والتبيين ٤ / ٣٨ ، (هارون ، الاشتقاق ص ١٥٦ وط. مصر ١٣٧٨ ه‍ ص ٢٥٥ ، زهر الآداب ١ / ١٩ ، الخزانة ١ / ٥٦٧ ، العمدة ١ / ٥٠).

٥٧

عنهم المدافع عن أعراضهم ، الهاجي لأعدائهم بشعر هو كالمقراض يقرض أعداء قومه قرضا.

وأدفع عن أعراضكم وأعيركم

لسانا كمقراض الخفاجي ملحبا (١)

وذكر أن بني تغلب كانوا يعظمون معلقة عمرو بن كلثوم ويروونها صغارا وكبارا ، حتى هجاهم شاعر من شعراء خصومهم ومنافسيهم بكر بن وائل ، إذ قال :

الهي بني تغلب عن كلّ مكرمة

قصيدة قالها عمرو بن كلثوم

يروونها أبدا مذ كان أولهم

يا للرجال لشعر غير مسئوم(٢)

ولسلاطة ألسنة بعض الشعراء ، ولعدم تورع بعضهم من شتم الناس ومن هتك الأعراض ، ومن التكلم عنهم بالباطل ، تجنب الناس قدر امكانهم الاحتكاك بهم ، وملاحاتهم والتحرش في أمورهم ، خوفا من كلمة فاحشة قد تصدر عنهم ، تجرح الشخص الشريف فتدميه ، و «جرح اللسان كجرح اليد» ، كما عبر عن ذلك امرؤ القيس أحسن تعبير (٣).

ولأمر ما قال طرفة :

رأيت القوافي تتلجن موالجا

تضايق عنها أن تولجها الإبر

وفي هذا المعنى دوّن (الجاحظ) هذه الأبيات :

وللشعراء ألسنة حداد

على العورات موفية دليله

__________________

(١) ديوان الاعشى ص ١١٧ ، القصيدة ١٤ ، البيت ٣١.

(٢) الاشتقاق ص ٢٠٤ ، وط. مصر ١٣٧٨ ه‍ ص ٣٣٩ ، وقد روى هذا الشعر بأوجه مختلفة ، البيان والتبيين ٤ / ٤١.

(٣) العمدة ١ / ٧٨.

٥٨

ومن عقل الكريم اذا اتقاهم

وداراهم مدارة جميلة

اذا وضعوا مكاويهم عليه

 ـ وإن كذبوا ـ فليس لهنّ حيلة (١)

و «كان عمر بن الخطاب (رض) عالما بالشعر ، قليل التعرض لأهله : استعداه رهط تميم بن أبي مقبل على النجاشي لما هجاهم ، فأسلم النظر في أمرهم الى حسان بن ثابت ، فرارا من التعرض لأحدهما ، فلما حكم حسان أنفذ عمر حكمه على النجاشي كالمقلد من جهة الصناعة ، ولم يكن حسان ـ على علمه بالشعر ـ أبصر من عمر (رض) بوجه الحكم ، وان اعتل فيه بما اعتل» (٢).

د ـ الكهانة

كهن له يكهن وكهن يكهن كهانة أخبره بالغيب والكاهن الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدعي معرفة الاسرار ، ومنهم من كان يزعم ان له تابعا من الجن يلقي إليه الخبر. وكانوا يروجون أقاويلهم باسجاع تروق السامعين يستميلون بها القلوب (٣) كما اشتهر ذلك عن سطيح ربيع بن ربيعة بن مسعود الغساني الذي كان قبل بعثة الرسول (ص).

وروى ان ملك اليمن ذا جدن أراد أن يجرب علم سطيح لما قدم عليه ، فخبأ له دينارا تحت قدمه ثم سأله عما خبأ له.

فقال سطيح : حلفت بالبيت والحرم والحجر الأصم والليل إذا أظلم والصبح إذا تبسم وبكل فصيح وأبكم لقد خبأت لي دينارا بين النعل والقدم.

__________________

(١) العمدة ١ / ٧٨.

(٢) العمدة ١ / ٥٢ ، ٧٦ ، (باب تعرض الشعراء). انتهى ما نقلناه من المفصّل ٩ / ١٠٩ ـ ١١٤.

(٣) مادة كهن من المعجم الوسيط والمعجم المفهرس لالفاظ القرآن الكريم ونهاية اللغة لابن الأثير.

٥٩

فقال الملك : من ابن علمك هذا يا سطيح؟ قال : من قبل أخ لي جني ينزل معي فقال له الملك : أخبرني عمّا يكون في الدهور ... (١).

وفي سيرة ابن هشام :

قيل لسطيح : أنى لك هذا العلم؟ فقال : لي صاحب من الجن استمع أخبار السماء من طور سيناء حين كلم الله ـ تعالى ـ منه موسى (عليه‌السلام). فهو يؤدي إليّ من ذلك ما يؤديه (٢).

وفي صحيح مسلم بسنده عن ابن عباس ما موجزه : بينا الأنصار كانوا جالسين ليلة مع رسول الله (ص) رمي بنجم فاستنار. فقال لهم رسول الله (ص) «ما ذا كنتم تقولون في الجاهلية ، إذ رمي بمثل هذا؟» قالوا : الله ورسوله أعلم. كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم. ومات رجل عظيم. فقال رسول الله (ص) : «فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته. ولكن ربنا ، ـ تبارك وتعالى اسمه ـ إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا. ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش : ما ذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ما ذا قال ، قال فيستخبر بعض أهل السماوات بعضا ، حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا ، فتخطف الجن السمع فيقذفون إلى أوليائهم ، ويرمون به. فما جاءوا به على وجهه فهو حق ، ولكنهم يقرفون (٣) فيه ويزيدون».

وفي رواية قبلها :

سأل أناس رسول الله (ص) عن الكهان؟ فقال لهم رسول الله (ص) «ليسوا بشيء» قالوا : يا رسول الله! فإنهم يحدثون أحيانا الشيء يكون حقا. قال رسول الله (ص) : «تلك الكلمة من الجن يخطفها الجني. فيقرها في أذن وليه

__________________

(١) مادة سطيح من سفينة البحار.

(٢) خبر سطيح بسيرة ابن هشام ١ / ١٦.

(٣) يقرفون فيه أي يضيفون إليه الكذب.

٦٠