القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ١

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ١

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٢
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٣٣٥

كان ذلكم كيفية اقراء الرسول (ص) آي القرآن لأصحابه ، وتعليمهم معنى الآيات مع تعليم اللفظ واهتمامه بما بينه في أحاديثه من الاحكام وفي ما يأتي ندرس كيفية اهتمامه بإقراء القرآن لأهل الصفة بمسجده وبمن يأتي من خارج المدينة ويسلم على يده :

الإقراء لأهل الصفة ولمن جاء من خارج المدينة وأسلم :

وكان في مسجد الرسول (ص) صفة لإيواء الفقراء من المسلمين وكان عبادة بن الصامت يعلّم أهل الصفة القرآن (١).

وفي المستدرك عن عبادة بن الصامت انه قال :

إذا قدم الرجل وقد أسلم على يد رسول الله (ص) دفعه إلى رجل منّا ليعلمه القرآن فدفع إليّ رسول الله (ص) رجلا كان معي في البيت وكنت أقرأته القرآن فرأى ان لي عليه حقا فأهدى إليّ قوسا ما رأيت أجود منها ولا أحسن منها عطافا فأتيت رسول الله (ص) فقلت ما ترى يا رسول الله فيها ، فقال : جمرة بين كتفيك تقلدتها أو تعلقتها (٢).

وفي رواية عن عبادة بن الصامت قال :

كان الرجل إذا هاجر دفعه النبي (ص) إلى رجل منا يعلمه القرآن ، وكان يسمع لمسجد رسول الله (ص) ضجة بتلاوة القرآن حتى أمرهم رسول الله (ص) أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا (٣).

وجاء ـ أيضا ـ في كنز العمال عن الطفيل بن عمرو الدوسي ذي النوران

__________________

(١) راجع سنن ابي داود ٣ / ٢٦٤ ، ومسند احمد ٥ / ٣١٥ ، وسنن ابن ماجة ٢ / ٧٣٠.

(٢) مستدرك الحاكم ٣ / ٣٥٦ ، ومسند احمد ٥ / ٣٢٤ ، وسنن ابن ابي داود ٣ / ٢٦٥ ، وقال صحيح الاسناد.

(٣) مناهل العرفان للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني بكلية اصول الدين في الأزهر ط. دار احياء الكتب العربية بمصر ١ / ٢٣٤.

١٦١

قال : أقرأني أبي بن كعب القرآن ، فأهديت له قوسا فغدا إلى النبي (ص) متقلدها ، فقال له النبي (ص) : من سلّحك هذه القوس يا أبي؟ فقال : الطفيل بن عمرو الدوسي ، أقرأته القرآن ، فقال له رسول الله (ص) : تقلدها شلوة من جهنم ، فقال يا رسول الله : إنا نأكل من طعامهم ، فقال : أما طعام صنع لغيرك فحضرت فلا بأس أن تأكله (١).

بمقارنة هذا الخبر بخبر الإقراء بمكّة الذي رواه الصحابي الخليفة عمر نرى أنّ أهل اليسار بمكّة كانوا يؤون من يقرئهم من المستضعفين بمكّة وفي المدينة كان أهل اليسار يؤون المهاجر الجديد لإقرائه ، ونرى أنّ الرسول يحذّرهم من أخذ هدية ممّن أقرؤه. وعلى هذا يكون الإيواء والإطعام في البلدين على أهل اليسار دون مقابل.

ولم يقتصر تقارؤ القرآن بين الصحابة في الحضر دون السفر ، فقد روى ابن عمر وقال : سافر النبي (ص) واصحابه إلى أرض العدوّ وهم يعلّمون القرآن (٢).

ففي صحيح مسلم وغيره واللفظ لمسلم قال (٣) :

جاء أناس إلى رسول الله (ص) ، فقالوا : أن ابعث معنا رجالا يعلّمون القرآن والسنّة فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار يقال لهم القرّاء ـ وفي لفظ البخاري (٤) : من القراء ـ يقرءون القرآن ويتدارسون بالليل يتعلمون.

وفي كتاب التراتيب الادارية ما موجزه :

__________________

(١) كنز العمال ٢ / ٣٤٢ ، الحديث ٤١٩٤.

(٢) صحيح البخاري ٢ / ١١٣ كتاب الجهاد باب السفر بالمصاحف إلى أرض العدو.

(٣) مسلم كتاب الامارة (باب ثبوت الجنة للشهيد) ص ١٥١١ الحديث ١٤٧.

(٤) البخاري ٢ / ١٣٦ كتاب الجزية باب دعاء الامام على من نكث عهدا. وجاء الخبر في خبر بئر معونة بكتب سيرة الرسول (ص) كسيرة ابن هشام ٣ / ١٨٤ ـ ١٨٥.

١٦٢

أرسل مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف في سيرة ابن إسحاق لما انصرف النبي (ص) من القوم الذين بايعوه في العقبة الأولى قال وهم اثنا عشر بعث معهم مصعبا وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الاسلام ويفقههم في الدين وكان يسمى المقرئ بالمدينة (١).

وفي الاستبصار لابن قدامة المقدسي لما قدم مصعب بن عمير المدينة نزل على أسعد بن زرارة فكان يطوف به على دور الانصار يقرئهم القرآن ويدعوهم الى الله عزوجل فأسلم على يديهما جماعة منهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وغيرهما.

وفي التهذيب للنووي لدى ترجمة مصعب هذا : هاجر الى المدينة بعد العقبة الأولى ليعلم الناس القرآن ، ويصلي بهم بعثه رسول الله (ص) مع الاثني عشر اهل العقبة الثانية ليفقه أهل المدينة ، ويقرئهم القرآن ، فنزل على أسعد بن زرارة ، ومنهم معاذ بن جبل في الاكتفاء لأبي الربيع الكلاعي استخلف رسول الله (ص) عتاب بن أسيد على مكة وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين ويعلمهم القرآن خرّجه ابن سعد في الطبقات عن مجاهد وفي الاستيعاب بعثه النبي (ص) قاضيا على الجند من اليمن يعلم الناس القرآن وشرائع الإسلام ويقضي بينهم وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين باليمن عام فتح مكة ، ومنهم عمرو بن حزم الخزرجى النجاري.

في الاستيعاب استعمله النبي (ص) على نجران ليفقههم في الدين

__________________

(١) كتاب الحكومة النبوية المعروف بالتراتيب الادارية والعمالات والصناعات والمتاجر والحالة العلمية التي كانت على عهد تأسيس الدولة الاسلامية في المدينة المنورة لعبد الحي بن عبد الكبير بن محمد الحسيني الادريسي الكناني. افست دار الكتاب العربي بيروت ١ / ٤٢ ـ ٤٧. وراجع طبقات ابن سعد ط. اوربا ٨ / ٢ / ١٠٨. وسيرة ابن هشام ٢ / ٤٢. والاستبصار لابن قدامة ص ٥٧. والاستيعاب ص ٢٢٧٩ ، ومسند أحمد ٣ / ٢١٢.

١٦٣

ويعلمهم القرآن ويأخذ صدقاتهم وذلك سنة عشر بعد أن بعث إليهم خالد بن الوليد فأسلموا وكتب له كتابا في الفرائض والسنن والصدقات والديات يصح أن يستدرك هنا من المعلمين جماعة فمنهم أبو عبيدة بن الجراح أخرج أحمد في مسنده عن أنس قال لما وفد اهل اليمن على رسول الله (ص) قالوا ابعث معنا رجلا يعلمنا السنة والاسلام ... وسيّره الى الشام اميرا فكان فتح اكثر الشام على يده.

١٦٤

ثالثا ـ نظام المفاضلة بالقرآن :

سنّ رسول الله (ص) نظام المفاضلة بين المسلمين بمقياس القراءة للقرآن ومن جملتها الموارد الّتي نذكرها في ما يأتي :

أ ـ تعيين الأكثر قراءة للقرآن إماما للجماعة.

كثرت الروايات والأخبار في هذا الصدد ونحن نقتصر على ذكر خبر واحد منها كالآتي :

روى أبو داود في سننه وأحمد في مسنده وابن سعد في طبقاته وغيرهم واللفظ لابن سعد قال :

قال عمرو بن سلمة بن قيس الجرمي :

كنّا بحضرة ماء ، ممرّ الناس عليه ، وكنّا نسألهم ما هذا الأمر؟ ـ يقصد أنّهم كانوا يسألون عن خبر بعثة النبي (ص) ـ فيقولون : رجل زعم أنّه نبيّ وأنّ الله أرسله ، وأنّ الله أوحى إليه كذا وكذا ـ يقصد أنّهم كانوا يقرءون عليهم بعض ما سمعوه من القرآن ـ قال : كنت أتلقّى الركبان فيقرءوني الآية.

قال : فجعلت لا أسمع شيئا من ذلك إلّا حفظته كأنّما يغرى في صدري بغراء ، حتّى جمعت فيه قرآنا كثيرا (١).

__________________

(١) طبقات ابن سعد ١ / ٣٣٦ ـ ٣٣٧ ، وط. اوربا ٢ / ٧٠. وسنن أبي داود ١ / ١٥٩ ، رقم الحديث ٥٨٥. ومسند أحمد ٣ / ٤٧٥ و ٥ / ٢٩ و ٧١.

١٦٥

وفي مسند أحمد : وكان الناس ينتظرون بإسلامهم فتح مكّة.

وفي طبقات ابن سعد :

يقولون : انظروا ، فإن ظهر عليهم فهو صادق وهو نبيّ ، فلما جاءتنا وقعة الفتح ـ فتح مكة ـ بادر كل قوم بإسلامهم ، فانطلق أبي بإسلام حوائنا ذلك ـ الحواء بيوت مجتمعة للناس على ماء ـ وأقام مع رسول الله (ص) ، ما شاء الله أن يقيم.

قال : ثمّ أقبل ، فلما دنا منّا تلقّيناه فلمّا رأيناه قال : جئتكم والله من عند رسول الله (ص) حقّا ثمّ قال : إنّه يأمركم بكذا وكذا وينهاكم عن كذا وكذا وأن تصلّوا صلاة كذا وكذا في حين كذا وإذا حضرت الصلاة ، فليؤذن أحدكم ، وليؤمّكم أكثركم قرآنا.

قال : فنظر أهل حوائنا ، فما وجدوا أحدا أكثر قرآنا منّي للّذي كنت أحفظه من الركبان.

قال : وأنا يومئذ غلام عليّ شملة ، فدعوني ، فعلموني الركوع والسجود فقدموني بين أيديهم.

قال وكان عليّ بردة كنت إذا سجدت تقلّصت عنّي ، فقالت امرأة من الحيّ : ألا تغطّون عنّا است قارئكم.

قال : فكسوني قميصا من معقّد البحرين ، فما فرحت بشيء أشدّ من فرحي بذلك القميص.

وفي سنن أبي داود قال : وأنا ابن سبع سنين أو ثماني سنين.

قال : فما شهدت مجمعا من جرم ـ يقصد قبيلته ـ إلّا كنت إمامهم وكنت أصلّي على جنائزهم.

وفي رواية : لم يزل يؤمهم إلى زمن معاوية (١).

__________________

(١) راجع اسناد الخبر في طبقات ابن سعد (١ / ٣٣٦ ـ ٣٣٧) خبر وفد جرم ، وسنن ابى ـ

١٦٦

وجاء عن أبي هريرة انه قال :

بعث رسول الله (ص) بعثا وهم ذو عدد فاستقرأهم فاستقرأ كلّ رجل منهم ما معه من القرآن فأتى على رجل منهم من أحدثهم سنّا فقال ما معك يا فلان قال معي كذا وكذا وسورة البقرة قال : أمعك سورة البقرة؟ فقال نعم قال : فاذهب فأنت أميرهم فقال رجل من أشرافهم والله يا رسول الله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلّا خشية ألّا أقوم بها فقال رسول الله (ص) تعلموا القرآن فاقرءوه وأقرئوه فإنّ مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب محشو مسكا يفوح بريحه كلّ مكان ومثل من تعلمه فيرقد وهو في جوفه كمثل جراب وكئ على مسك (١).

وفي تفسير السيوطي عن الدلائل للبيهقي : عن عثمان بن أبي العاص قال استعملني رسول الله (ص) وأنا أصغر الستة الذين وفدوا عليه من ثقيف ، وذلك اني كنت قرأت سورة البقرة (٢).

ب ـ المفاضلة بعد الحياة وفي القبر.

لما كان يوم أحد وأمر رسول الله (ص) بدفن الشهداء في أحد قال (ص) انظروا أكثر هؤلاء جمعا للقرآن. فاجعلوه أمام أصحابه في القبر ، وكانوا يدفنون الاثنين والثلاثة في القبر الواحد (٣).

ج ـ يوم القيامة.

قال رسول الله (ص) اقرءوا القرآن ، فإنّه يأتي يوم القيامة شفيعا

__________________

ـ داود ١ / ١٥٩ ـ ١٦٠ كتاب الصلاة باب من أحق بالامامة الحديث ٥٨٥ و ٥٨٧ ، ومسند احمد ٥ / ٣٠.

(١) سنن الترمذي ط. الاولى بمصر سنة ١٣٥٣ ه‍ ١١ / ٧ ـ ٨ ، وتفسير سورة البقرة في الدر المنثور ١ / ٢١ ، وتفسير ابن كثير ١ / ٣٣.

(٢) تفسير السيوطي ١ / ٢١.

(٣) مسند احمد ٥ / ٤٣١.

١٦٧

لأصحابه (١)

د ـ في الجنة.

في مسند احمد والترمذي :

يقال لصاحب القرآن : اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتّل في الدنيا ، فإنّ منزلتك عند آخر آية ـ أي : يقال ذلك لصاحب القرآن في الجنّة (٢).

وفي سنن الدارمي :

ان الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به ، فهو مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرؤه وهو يشتد عليه ـ أو هو عليه شاق ـ فله أجران (٣).

من تعلم القرآن ، فاستظهره ، وحفظه ، أدخله الله الجنة ، وشفعه في عشرة من أهل بيته (٤).

وقال : ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ، ويتدارسونه بينهم إلّا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ... (٥).

واجمع كلام للرسول (ص) في المفاضلة قوله :

إنّ أفضلكم من تعلّم القرآن وعلّمه.

وفي رواية :

__________________

(١) صحيح مسلم ص ٥٥٣ كتاب صلاة المسافرين باب فضل القرآن ، الحديث ٢٥٢.

(٢) مسند احمد ٢ / ١٩٢ ، وابي داود ٢ / ٧٣ ، والترمذي ١١ / ٣٦.

(٣) الترمذي ١١ / ٢٩ ، والدارمي ٢ / ٤٤٤ باب فضل من يشتد القرآن عليه ـ أي لا أقوم بعمل ما فيها .. ، ومسلم كتاب صلاة المسافرين ، باب الماهر بالقرآن ص ٥٤٩ ـ ٥٥٠ الحديث ٢٤٤.

(٤) مسند احمد ٥ / ١٤٩ ، وقريب منه في ص ١٤٨.

(٥) صحيح مسلم كتاب الذكر والدعاء باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن ٤ / ٢٠٧٤ الحديث ٣٨ ، ومسند احمد ٢ / ٢٥٢.

١٦٨

خيركم من تعلم القرآن وعلمه (١).

وقال : إنّ أهل القرآن هم أهل الله وخاصته (٢).

وفي كنز العمال كتاب الاذكار ، باب في فضائل القرآن (٢ / ١٨٧) :

عن أنس بن مالك قال قال رسول الله (ص) : يا حملة القرآن ان أهل السموات يذكرونكم عند الله فتحببوا إلى الله بتوقير كتاب الله يزدكم حبا ويحببكم إلى عباده.

وفي ص ٥٢٣ منه الحديث حملة القرآن هم المعلمون كلام الله والمتلبسون بنور الله ، من والاهم فقد والى الله ، ومن عاداهم فقد عادى الله.

وفي رواية ٢٢٩٥ :

حملة القرآن أولياء الله ...

وحملة القرآن من حفظ جميع القرآن عن ظهر قلب.

وفي ص ٥٣٨ منه الحديث ٢٤١٤ :

من ختم القرآن عن ظهر قلبه أو نظرا أعطاه الله شجرة في الجنة.

ونظرا : أي ختم القرآن في المصحف.

وفي ص ٥٣٦ منه : الحديث ٢٤٠٧ :

من قرأ القرآن نظرا متع ببصره.

وفي ص ٥٣١ الحديث ٢٠٧٧ :

يا عليّ تعلم القرآن وعلمه الناس فلك بكل حرف عشر حسنات فان

__________________

(١) صحيح البخاري ٣ / ١٥٤ كتاب فضائل القرآن باب (١٩) خيركم من تعلم القرآن وعلمه ، وابي داود ٢ / ٧٠ ، وسنن الدارمي ٢ / ٤٣٧ باب خياركم من تعلم القرآن وعلمه ، وابن ماجة ١ / ٧٧.

(٢) ابن ماجة ١ / ٧٨ ، ومسند احمد (٣ / ١٢٧ ، ١٢٨ ، ٢٤٢).

١٦٩

متّ متّ شهيدا ، يا عليّ تعلّم القرآن وعلمه الناس فان متّ حجّت الملائكة إلى قبرك كما تحجّ الناس إلى بيت الله العتيق.

وفي ص ٥٣٨ الحديث ٢٤١٦ :

من قرأ القرآن في سبعة كتبه الله من المحسنين ولا تقرءوا في أقل من ثلاثة فمن وجد منكم نشاطا فليجعله في حسن تلاوته.

وممّا يتبع باب المفاضلة ما نجده في سيرة الرسول (ص) من انتهازه الفرص لنشر الاقراء بين المسلمين مثل ما رواه البخاري وغيره واللفظ للبخاري :

قال : أتت النبي (ص) امرأة ، فقالت : انها وهبت نفسها لله ولرسول الله (ص).

فقال : ما لي في النساء من حاجة.

فقال رجل زوجنيها :

قال : اعطها ثوبا.

قال : لا اجد.

قال : اعطها ولو خاتما من حديد ، فاعتل له.

فقال ما معك من القرآن؟.

قال : كذا وكذا.

قال : فقد زوجتكها بما معك من القرآن (١).

وكان لكيفية اقراء الرسول (ص) بمكة والمدينة اثرا امتد من عصره إلى ما بعده كالآتي خبره :

__________________

(١) صحيح البخاري ٣ / ١٥٥ كتاب فضائل القرآن باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه.

١٧٠

أثر كيفية إقراء الرسول (ص) في عصره :

كان لما قاله الرسول (ص) وفعله في شأن إقراء القرآن أبلغ الأثر في الصحابة وسائر المسلمين في عصره وبعده. أما في عصره فقد روى عقبة بن عامر الجهني وقال :

خرج علينا رسول الله (ص) ذات يوم ونحن نتدارس القرآن ، قال : تعلّموا القرآن ، واقتنوه ، فإنّه أشد تفلتا من المخاض في عقلها. أي : أشدّ تفلتا من الناقة المشدودة بالعقال ساعة الولادة (١) :

وكانوا يقرءون أبناءهم ونساءهم القرآن ، فقد روى أحمد وابن ماجة عن زياد بن لبيد الأنصاري أنّه قال :

ذكر النبي (ص) شيئا ، فقال «ذاك عند أوان ذهاب العلم».

قال : قلت : يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال ... أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما (٢).

اهتمام الرسول (ص) بالسور الطوال

وكان الرسول (ص) يعني بسورة البقرة عناية خاصة ثم ما بعدها من السور الكبار ومن موارد ذلك ما رواه.

البيهقي وأحمد بسندهما ، رويا عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت :

«كنت أقوم مع رسول الله (ص) في الليل ، فيقرأ بالبقرة وآل عمران والنساء فاذا مر بآية فيها استبشار ، دعا ورغب ، وإذا مر بآية فيها تخويف ، دعا

__________________

(١) مسند احمد ٤ / ١٥٣.

(٢) سنن ابن ماجة ٢ / ١٣٤٤ كتاب الفتن باب ذهاب القرآن والعلم ، ومسند احمد ٤ / ٢١٩.

١٧١

واستعاذ» (١).

وفي سنن البيهقي : عن عوف بن مالك الاشجعي قال : قمت مع رسول الله (ص) ليلة ، فقام فقرأ البقرة لا يمر بآية رحمة ، إلّا وقف ، فسأل ، ولا يمر بآية عذاب ، إلّا وقف ، فتعوّذ ، ثم ركع بقدر قيامه يقول في ركوعه : سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة ثم سجد بقدر قيامه ثم قال في سجوده مثل ذلك ثم قام فقرأ بآل عمران ثم قرأ سورة سورة (٢).

ويرغّب المسلمين في استظهار سورة البقرة كما جاء في صحيح مسلم ومسند أحمد بسندهما عن أبي امامة الباهلي قال : سمعت رسول الله (ص) يقول : اقرءوا القرآن فانه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه.

اقرءوا الزهراوين سورة البقرة وسورة آل عمران ، فانهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غيايتان أو كأنهما غمامتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما ، اقرءوا سورة البقرة فان أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها بطلة (٣).

وفي صحيح مسلم وسنن النسائي والبيهقي ومسند أحمد بسندهم عن حذيفة قال : صلّيت مع رسول الله (ص) ليلة من رمضان ، فافتتح البقرة ، فقلت يصلي بها ركعة ، ثم افتتح النساء ، فقرأها ثم افتتح آل عمران ، فقرأها مترسلا اذا مر بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مر بسؤال سأل ، واذا مر بتعوّذ تعوذ ، واذا مرّ بآية فيها تنزيه لله عزوجل سبح (٤).

__________________

(١) سنن البيهقي كتاب الصلاة باب الوقوف ٢ / ٣١٠ ، ومسند احمد ٦ / ٩٢ و ١١٩ ، والدر المنثور للسيوطي ١ / ١٨.

(٢) سنن البيهقي كتاب الصلاة باب الوقوف ٢ / ٣١٠ ، والدر المنثور للسيوطي ١ / ١٨.

(٣) مسلم ١ / ٥٥٣ كتاب المسافرين باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة ، ومسند احمد ٤ / ١٨٣ ، والدر المنثور للسيوطي ١ / ١٨. ولا يستطيعها البطلة : أي لا يقدر على تحصيلها السحرة.

(٤) سنن البيهقي كتاب الصلاة باب الوقوف عند آية الرحمة وآية العذاب وآية التسبيح ـ

١٧٢

وفي صحيح مسلم وسنن الترمذي ومسند أحمد بسندهم عن نواس بن سمعان قال : سمعت رسول الله (ص) يقول : يؤتى بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمهم سورة البقرة وآل عمران قال : وضرب لهما رسول الله (ص) ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما ظلتان سوداوان بينهما شرف أو كأنهما فرقان من طير صوافّ يحاجان عن صاحبهما (١).

وفي صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن الدارمي ومستدرك الحاكم وصححه الذهبي عن بريدة قال : قال رسول الله (ص) : تعلموا سورة البقرة فان أخذها بركة وتركها حسرة ، ولا تستطيعها البطلة ثم سكت ساعة ، ثم قال : تعلموا سورة البقرة ، وآل عمران فانهما الزهراوان يظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صوافّ تحاجّان عن صاحبهما اقرءوا سورة البقرة فان أخذها بركة وتركها حسرة ، ولا تستطيعها البطلة (٢).

وفي صحيح مسلم وسنن الترمذي ومسند أحمد ومستدرك الحاكم واللفظ للأوّل عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال : لا تجعلوا بيوتكم مقابر. إنّ

__________________

ـ ٢ / ٣٠٩ ، والنسائى باب تسوية القيام والركوع والقيام بعد الركوع والسجود ٣ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦ ، ومسند احمد ٥ / ٣٨٤ و ٣٩٧ ، ومسلم كتاب الصلاة باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل ١ / ٥٣٦ ـ ٥٣٧ ، والدر المنثور للسيوطى ١ / ١٨.

(١) مسلم كتاب المسافرين باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة ١ / ٥٥٤ ، ومسند احمد ٤ / ١٨٣ ، والترمذي ١١ / ١٤ باب فضائل القرآن ، والدر المنثور للسيوطي ١ / ١٨.

(٢) سنن الدارمي كتاب فضائل القرآن باب في فصل سورة البقرة وآل عمران ٢ / ٤٤٦ و ٤٥٠ ، وصحيح مسلم كتاب المسافرين باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة ١ / ٥٥٣ ، ومسند احمد ٥ / ٢٤٩ و ٢٥١ و ٢٥٥ و ٢٥٧ و ٣٤٨ و ٣٥٢ و ٣٦١ ، ومستدرك الحاكم ٢ / ٢٨٧ كتاب التفسير ، والدر المنثور للسيوطي ١ / ١٨.

١٧٣

الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة ولفظ الترمذي : وإن البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان وفي لفظ الحاكم عن عبد الله عن الرسول (ص) اقرءوا سورة البقرة في بيوتكم فان الشيطان لا يدخل بيتا تقرأ فيه سورة البقرة (١).

إضافة إلى ما قاله الرسول (ص) لأصحابه في فضائل استظهار سورة البقرة جعل لمن حفظها عن ظهر قلب ميزة على غيره ومرّ بنا آنفا ان أبا هريرة قال :

بعث رسول الله (ص) بعثا وهم ذو وعدد ، فاستقر أهم فاستقرأ كل رجل منهم يعني ما معه من القرآن فأتى على رجل منهم من أحدثهم سنّا فقال : ما معك يا فلان؟ قال : معي كذا وكذا وسورة البقرة. قال : أمعك سورة البقرة؟ قال : نعم. قال : اذهب فأنت أميرهم. فقال رجل من أشرافهم : والله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلّا خشية أن لا أقوم بها فقال رسول الله (ص) تعلموا القرآن واقرءوه فان مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب محشوّ مسكا يفوح ريحه في كل مكان ومثل من تعلمه فيرقد وهو في جوفه كمثل جراب أوكئ على مسك (٢).

وفي غزوة حنين قال ابن كثير :

كان رسول الله (ص) لما غشيه القوم قام في الركابين ... ونادى أصحابه فقال ... يا بني الخزرج يا أصحاب سورة البقرة وأمر من أصحابه من ينادي بذلك (٣).

__________________

(١) المستدرك كتاب التفسير ٢ / ٢٦٠ ، وصحيح مسلم باب استحباب صلاة النافلة من بيته وجوازها في المسجد ١ / ٥٣٩ ، والترمذي باب فضائل القرآن ١١ / ١٠ ، ومسند احمد ٢ / ٢٨٤ و ٣٣٧ و ٣٧٨ و ٣٨٨ ، والدر المنثور للسيوطي ١ / ١٩.

(٢) مرّ ذكر مصادره في الصفحة رقم ١٦٧ الهامش رقم ٣.

(٣) تاريخ ابن كثير ط. بيروت سنة ١٤٠٨ ه‍ ٦ / ٣٥٧.

١٧٤

وفي عيون الأثر عن العباس بن عبد المطلب ما موجزه : إني لمع رسول الله (ص) آخذ بحكمة بغلته وقد شجرتها بها. قال وكنت امرأ جسيما شديد الصوت فقال : يا عباس! اصرخ يا معشر الأنصار ... (١).

وفي كنز العمال :

فنادى العباس : اين المهاجرون اين أصحاب سورة البقرة بصوت عال (٢).

هكذا جعل رسول الله (ص) لحفظ سورة البقرة عن ظهر قلب شأنا عظيما ، فاهتم المسلمون بذلك.

وفي مسند أحمد بسنده عن أنس بن مالك قال :

كان الرجل اذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا ، يعني عظم.

وفي رواية يعد فينا عظيما (٣).

وجاء في فضل السبع الأول من القرآن الكريم في كنز العمال ١ / ٥٧٢ الحديث ٢٥٨٤ :

«من أخذ السبع الأول من القرآن فهو خير».

وعلى أثر ذلك تسابق الصحابة في استظهار سورة البقرة.

فقد روى القرطبي في تفسير سورة البقرة بسنده وقال :

تعلم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة ، فلما ختمها نحر جزورا وفي رواية بعدها شكر الله وان عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها (٤).

وفي موطأ مالك :

__________________

(١) عيون الاثر لابن سيد الناس ط. بيروت سنة ١٩٧٤ م ٢ / ١٩١.

(٢) كنز العمال ط. بيروت سنة ١٤٠٩ ه‍ ١٠ / ٥٤٥ رقم الحديث ٣٠٢١٩.

(٣) مسند احمد ٣ / ١٢٠.

(٤) تفسير القرطبي ١ / ٤٠ ، وسيرة عمر لابن الجوزي ص ١٦٥.

١٧٥

عن ابن عمر قال : تعلم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة فلما ختمها نحر جزورا.

وذكر مالك في الموطأ انه بلغه ان عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها (١).

وفي تفسير السيوطي :

أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة معا في المصنف عن عروة قال كان شعار أصحاب النبي (ص) يوم مسيلمة يا أصحاب سورة البقرة (٢).

وذكر الرسول (ص) أهمية سورة هود وأخواتها وقال كما في كنز العمال (١ / ٥٧٣) :

أ ـ الحديث ٢٥٨٦ ـ شيبتني هود وأخواتها.

ب ـ الحديث ٢٥٨٧ ـ شيبتني هود وأخواتها الواقعة والحاقة وإذا الشمس كورت.

ج ـ الحديث ٢٥٨٨ ـ شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعمّ يتساءلون وإذا الشمس كورت.

د ـ الحديث ٢٥٨٩ ـ شيبتني هود وأخواتها قبل المشيب.

ه ـ الحديث ٢٥٩٠ ـ شيبتني سورة هود وأخواتها الواقعة والحاقة وإذا الشمس كورت وسأل سائل.

و ـ الحديث ٢٥٩١ ـ شيبتني هود وأخواتها وما فعل الأمم قبلي.

وذكر (ص) أهمية سور أخرى وقال (ص) :

عن واثلة بن الاسقع أن النبي (ص) قال : أعطيت مكان التوراة السبع وأعطيت مكان الزبور المئين وأعطيت مكان الإنجيل المثاني وفضلت

__________________

(١) موطأ مالك ١ / ٢٠٥ كتاب القرآن باب ما جاء في القرآن الحديث ١١.

(٢) تفسير السيوطي ١ / ٢١ ، وفي تاريخ ابن كثير ٦ / ٣٥٧ في ذكر خبر قتال مسيلمة.

١٧٦

بالمفصل (١).

وأخرج الدارمي : قال عبد الله السبع الطوال مثل التوراة والمئين مثل الانجيل والمثاني مثل الزبور وسائر القرآن بعد فضل (٢).

وقال السيوطي في خاتمة النوع الثامن عشر لجمع القرآن وترتيبه ما موجزه :

السبع الطوال أو لها البقرة وآخرها براءة كذا قال جماعة. وعن ابن عباس قال السبع الطوال البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والسابع الكهف (والمئون) ما وليها سميت بذلك لأن كل سورة منها تزيد على مائة آية أو تقاربها (والمثاني) ما ولي المئين (والمفصل) ما ولي المثاني من قصار السور وآخره سورة الناس بلا نزاع (٣).

***

كان ذلكم بعض أخبار كيفية إقراء الرسول (ص) القرآن لأصحابه وحثه إياهم على حفظه عن ظهر قلب وأخبار اهتمامه ببعض السور وفي ما يأتي نبين بعض أخبار من قرأ القرآن على النبي (ص) وجمعه وكتبه على عهده.

من قرأ القرآن على النبي ومن جمعه على عهده ومن كتبه من الصحابة :

أقرأ الرسول جميع الصحابة ما تيسر له من القرآن أداء لواجبه التبليغي وقرأ عليه جميع الصحابة ما تيسر لهم من القرآن أداء لواجبهم الإسلامي أمّا من جمع منهم القرآن على عهده (ص) وكتب فلا يمكن إحصاؤهم وما جاء في بعض الروايات من جمع القرآن على عهد الرسول (ص) أو كتب ليس من باب

__________________

(١) مسند أحمد ٤ / ١٠٧ وكنز العمال ١ / ٥٧٣.

(٢) سنن الدارمي ٢ / ٤٥٣.

(٣) الاتقان للسيوطي ١ / ٦٥.

١٧٧

الحصر والاحصاء وإنّما ذكرت أسماؤهم لمناسبة في المقام وما جاء عن الصحابي أنس بن مالك في حصر من جمع القرآن على عهد الرسول (ص) ببعض الأنصار مردود كما نبينه في ما يأتي باذنه تعالى :

قول الصحابي أنس في من جمع القرآن على عهد النبي (ص)

في صحيح البخاري عن أنس أنّه قال :

مات النبي (ص) ولم يجمع القرآن غير أربعة أبو الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد قال ونحن ورثناه (١).

وفي رواية أخرى :

عن قتادة قال : سألت أنس بن مالك : من جمع القرآن على عهد النبي (ص) قال أربعة كلهم من الأنصار : أبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد ابن ثابت وأبو زيد (٢).

وفي رواية :

قال قتادة : قلت : من أبو زيد قال : أحد عمومتي (٣).

__________________

(١) صحيح البخاري ٣ / ١٥٢ ؛ والبرهان للزركشي ١ / ٢٤١ ؛ والاتقان ١ / ٧٢ ؛ وتذكرة الحفاظ ١ / ٢٥. وقوله : ونحن ورثناه : أي أبا زيد.

(٢) صحيح البخاري ٣ / ١٥٢ كتاب فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي (ص) وفيه رواية أخرى عن ثمامة عن أنس. طبقات ابن سعد ٢ / ق ٢ / ١١٣ ؛ وتفسير القرطبي ١ / ٥٦ ـ ٥٧ ؛ والبرهان للزركشي ١ / ٢٤١ ؛ والاتقان ١ / ٧٢ ؛ وعمدة القاري ٢٠ / ٢٦ ؛ وتذكرة الحفاظ ١ / ٣١ ؛ وسير أعلام النبلاء ٢ / ٤٣١.

(٣) كنز العمال ٢ / ٣٩٠.

١٧٨

دراسة الحديث :

نرى انه اعتمد أحاديث الصحابي أنس من قال : بحصر جمع القرآن على الأنصار مثل الشعبي (١) ومحمد بن كعب القرظي (٢) وابن كثير (٣) وغيرهم (٤).

وقد أنكر العلماء على أنس هذا القول وحاول بعضهم توجيهه مثل : السندي في حاشيته على الرواية الأولى في صحيح البخاري حيث قال :

«أي لم يجمعه غيرهم في علمي ، أو من الأوس ، وإلّا فقد كان ممن يجمعه إذ ذاك كثير من الصحابة ، كما هو معلوم» (٥).

وقال القرطبي في تفسيره :

قال ابن الطّيب (رض) : لا تدل هذه الآثار على أن القرآن لم يحفظه في حياة النبي (ص) ولم يجمعه غير أربعة من الأنصار كما قال أنس بن مالك ، فقد ثبت بالطرق المتواترة أنه جمع القرآن عثمان وعليّ وتميم الداريّ وعبادة بن الصامت وعبد الله بن عمرو بن العاص. فقول أنس : لم يجمع القرآن غير أربعة ، يحتمل أنه لم يجمع القرآن وأخذه تلقينا من في رسول الله (ص) غير تلك الجماعة ؛ فإن أكثرهم أخذ بعضه عنه وبعضه عن غيره ، وقد تظاهرت الروايات بأن الأئمة الأربعة جمعوا القرآن على عهد النبي (ص) لأجل سبقهم إلى الإسلام ، وإعظام الرسول (ص) لهم (٦).

وفي البرهان للزركشي :

__________________

(١) كنز العمال ٢ / ٣٧٤ ، الحديث ١٩١٥ و ١٩١٦.

(٢) كنز العمال ٢ / ٣٧٤ ، الحديث ١٩١٥ و ١٩١٦.

(٣) راجع ترجمة أبي بن كعب ومعاذ بن جبل في تاريخ ابن كثير ٧ / ٩٧ و ٩٥.

(٤) راجع ترجمة قيس بن السكن في الاصابة.

(٥) حاشية السندي على صحيح البخاري ط. دار الكتب المصرية سنة ١٣٢٧ ه‍ ٣ / ١٥٢ ، وطبعة الأفست لبنان ، دار المعرفة ، سنة ١٣٩٨ ه‍ ، ٣ / ٢٢٨.

(٦) تفسير القرطبي ١ / ٥٧.

١٧٩

وقال الماوردي : وكيف يمكن الإحاطة بأنه لم يكمله سوى أربعة ، والصحابة متفرقون في البلاد! وإن لم يكمله سوى أربعة فقد حفظ جميع أجزائه مئون لا يحصون.

قال الشيخ : وقد سمى الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام القرّاء من الصحابة في أول كتاب القراءات له ، فسمى عددا كثيرا (١).

وفي عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري :

إنّ قصارى الأمر أن أنسا قال جمع القرآن على عهده (ص) أربعة قد يكون المراد إني لا أعلم سوى هؤلاء ولا يلزمه أن يعلم كل الحافظين لكتاب الله تعالى (٢).

وروى في الاتقان عن البخاري :

وفيه ـ في الحديث الأول ـ المخالفة لحديث قتادة من وجهين أحدهما التصريح بصيغة الحصر في الأربعة والآخر ذكر أبي الدرداء بدل أبي بن كعب وقد استنكر جماعة من الأئمة الحصر في الأربعة وقال المازري لا يلزم من قول أنس لم يجمعه غيرهم أن يكون الواقع في نفس الأمر كذلك لأن التقدير أنه لا يعلم أن سواهم جمعه وإلّا فكيف الاحاطة بذلك مع كثرة الصحابة وتفرقهم في البلاد وهذا لا يتم إلّا إن كان لقى كل واحد منهم على انفراده وأخبره عن نفسه أنه لم يكمل له جمع في عهد النبي (ص) وهذا في غاية البعد في العادة وإذا كان المرجع إلى ما في علمه لم يلزم أن يكون الواقع كذلك قال وقد تمسك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة ولا متمسك لهم فيه.

وقال القرطبي قد قتل يوم اليمامة سبعون من القراء وقتل في عهد النبي (ص) ببئر معونة مثل هذا العدد وإنما خص أنس الأربعة بالذكر لشدة

__________________

(١) البرهان للزركشي ١ / ٢٤٢.

(٢) عمدة القاري ٢٠ / ٢٧ ـ ٢٨.

١٨٠