القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ١

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ١

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٢
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٣٣٥

عمته ابن عاتكة ابنة عبد المطلب فقال له : يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا منزلتك من الله فلم تفعل ذلك ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب فو الله لا أومن لك أبدا حتى تتخذ الى السماء سلما ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بنسخة منشورة معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت أن لا أصدقك ثم انصرف عن رسول الله (ص) وانصرف رسول الله (ص) الى أهله حزينا أسيفا لما فاته مما كان يطمع فيه من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعدتهم اياه.

فلما قام عنهم رسول الله (ص) قال أبو جهل : يا معشر قريش ان محمدا قد أبي إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وسب آلهتنا وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر قدر ما أطيق حمله فاذا سجد في صلاته فضخت رأسه به (١).

فانزل الله عليه في ذلك : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ... بَشَراً رَسُولاً) وأنزل عليه في قولهم (لن نؤمن بالرحمن) (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ) وأنزل عليه فيما سأله قومه لانفسهم من تسيير الجبال وتقطيع الجبال وبعث من مضى من آبائهم من الموتى (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ ...).

وأخبر الله عن تعنتهم برسول الله (ص) في سورة الاسراء وقال سبحانه وتعالى :

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً* وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً* وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ

__________________

(١) تفسير الآية بتفسير الطبري ١٥ / ١١٠ ـ ١١١ ، وتفصيله في سيرة ابن اسحاق ص ١٧٨ ـ ١٨١ ، وتفسير ابن كثير ٣ / ٦٢.

١٢١

يَنْبُوعاً* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ* تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً* أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً* وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ* الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً* قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً* قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ* إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (الآيات / ٨٨ ـ ٩٦) (١).

واستمرت قريش في تعنتها برسول الله كما أخبر الله عن موقفهم في آيات كثيرة منها قوله تعالى في سورة الفرقان :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً* الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً* وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً* ... وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً* أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً* ... وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً* ... وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (الآيات / ١ ـ ٣ و ٧ ـ ٨ و ٢٠ و ٣٢)

وقوله تعالى في سورة الانعام :

__________________

(١) انظر تفسير الآية من التفاسير وسيرة ابن هشام ١ / ٣٣١ ـ ٣٣٢.

١٢٢

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ* وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ* وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ* وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ* قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (الآيات / ٧ ـ ١١)

***

لم تنجح جميع محاولات قريش في اسكات الرسول عن الدعوة إلى القرآن بما فيه من عيب لآلهتهم وتسفيه لأحلامهم فاشتدت خصومتهم للرسول وقرآنه كما نذكر امثلة منها في ما يأتي بحوله تعالى.

اشتداد الخصومة الفكرية بين قريش والرسول (ص):.

قص الله أخبار خصومة قريش مع القرآن ومبلغه واحتجاجهم الواهي وكيف أجاب عنها في الآيات الآتية :

أ ـ أخبر عن تعنتهم في سورة ص وقال :

(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ* أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ* وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ* ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ* أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) (الآيات / ٤ ـ ٨).

وروى الطبري وغيره في شأن نزول الآيات واللفظ للطبري قال :

إن ناسا من قريش اجتمعوا ، فيهم أبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث في نفر من مشيخة قريش فقال بعضهم لبعض ، انطلقوا بنا إلى أبي طالب ، فنكلمه فيه ، فلينصفنا منه ، فليكف

١٢٣

عن شتم آلهتنا وندعه والهه الّذي يعبد ، فإنّنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا شيء فتعيرنا العرب يقولون تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه فبعثوا رجلا منهم يسمّى المطلب فاستأذن لهم على أبي طالب فقال هؤلاء مشيخة قومك وسرواتهم يستأذنون عليك قال أدخلهم فلما دخلوا عليه قالوا يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا فانصفنا من ابن أخيك فمره فليكف عن شتم آلهتنا وندعه والهه فبعث اليه أبو طالب فلما دخل عليه رسول الله (ص) قال يا ابن أخي هؤلاء مشيخة قومك وسرواتهم قد سألوك النصف أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك فقال أي عم أولا أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها قال وإلام تدعوهم قال أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة يدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم فقال أبو جهل من بين القوم ما هي وأبيك فنعطينكها وعشر أمثالها قال تقول «لا اله إلا الله» فنفروا وقالوا سلنا غير هذه قال لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها فغضبوا وقاموا من عنده غضابا وقالوا والله لنشتمنك وإلهك الّذي يأمرك بهذا :

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ* ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) (الآيات / ٦ ـ ٧) (١).

وأيضا أخبر الله تعالى عن تعنتهم في الآيات / ٤٣ ـ ٤٥ من سورة سبأ وقال :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ* وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ

__________________

(١) تاريخ الطبري ط. دار المعارف بمصر ٢ / ٣٢٣ ـ ٣٢٤ ، وط. اوربا ١ / ١١٧٦ ـ ١١٧٧ ، والسيوطي ٥ / ٢٩٥ ـ ٢٩٦ ، وصحيح الترمذي كتاب التفسير ١٢ / ١٠٩ ـ ١١٠.

١٢٤

نَذِيرٍ* وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)

وأجاب الله عن مثل هذا النوع من التحجج وأقام البراهين على عجز آلهتهم وصحة رسالة خاتم الأنبياء في آيات كثيرة نورد بعضها في ما يأتي بحوله تعالى :

ب ـ قال سبحانه في اثبات التوحيد ونفي الآلهة التي يعبدونها في الآية ١٠ و ١١ من سورة لقمان :

(خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ* هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)

وقال في الآية ٤ و ٥ من سورة الأحقاف :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ)

وقوله تعالى في الآية ٣ من سورة الفرقان :

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) (الآية / ٣)

ووصفهم في الآية ٢١ من سورة النحل وقال :

(أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)

وأخبر أنهم ومن معهم لن يستطيعوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن وقال سبحانه في سورة البقرة :

١٢٥

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (الآيات / ٢٣ ـ ٢٤)

ولم يستطع مشركو قريش ولا الدهريون ولا الزنادقة والملحدون ولا اليهود ولا النصارى ولا أي خصم آخر أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولن يفعلوا أبد الدهر ولن يأتوا بمثل هذا القرآن ولو كان الخصوم بعضهم لبعض ظهيرا.

وتحداهم سبحانه في قولهم إنّ القرآن مفترى أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات إن كانوا صادقين وقال سبحانه في سورة هود :

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ* أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (الآيات / ١٢ ـ ١٤)

وفي آية اخرى تحداهم بأن يأتوا بسورة مثله وقال في سورة يونس :

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ* أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ* وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) (الآيات / ٣٧ ـ ٤٠)

ج ـ وأجاب عن تشكيكهم في المعاد في الآيات ٧٨ ـ ٨٣ من آخر سورة ياسين وقال سبحانه وتعالى :

١٢٦

(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ* أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ* إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)

روى المفسرون وقالوا : أنزل الله تعالى هذه الآيات الكريمة بعد أن قدم العاص بن وائل وأبو جهل وغيرهما من عتاة قريش بعظم حائل أمام الرسول (ص) فذراه في الريح وقال من يحيي العظام وهي رميم؟

وفي رواية أتى أبي بن خلف إلى النبي (ص) ومعه عظم قد وتر فجعل يفته بين أصابعه ويقول : يا محمد! أنت الذي تحدث إن هذا سيحيا بعد ما قد بلي فقال رسول الله (ص) نعم ليميتن الآخر ـ أي يميتن أبيّا ـ ثم ليحيينه ثم ليدخلنه النار (١).

***

واندحرت قريش في مقابل الأدلة التي أقامها القرآن لهم فتحججوا واقترحوا اقتراحات غير معقولة كالآتي خبره :

مقابلات أخرى من قريش واستهزاء بالرسول (ص) ودعوته

وكان خمسة من عتاة قريش دائبين على الاستهزاء برسول الله (ص) منهم العاص بن وائل السهمي وكان إذا ذكر رسول الله (ص) يقول : دعوه فإنّما هو رجل أبتر لا عقب له لو مات لا نقطع ذكره واسترحتم منه وأنزل الله في حقّه سورة الكوثر وقال سبحانه :

__________________

(١) تفسير السورة في الطبري ٢٣ / ٢١ ، والدر المنثور ٥ / ٢٦٩ ـ ٢٧٠.

١٢٧

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ* إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)(١).

وقالوا له الأبتر بعد موت ابنه القاسم بمكّة. والكوثر : العدد الكثير (٢).

وقد صدق الله وعده لرسوله فإنه لا يعرف اليوم نسل للعاص بن وائل وأكثر الله نسل رسوله (ص) من ابنته فاطمة (ع) على وجه الأرض.

نهاية أمر المستهزئين :

قال ابن إسحاق ما موجزه :

فأقام رسول الله (ص) على أمر الله صابرا محتسبا مؤدّيا إلى قومه النصيحة على ما يلقى منهم من التكذيب ... فلما تمادوا في الشر وأكثروا الاستهزاء برسول الله (ص) أنزل الله ـ تعالى ـ عليه :

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ* الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ...) (الحجر / ٩٤ ـ ٩٦).

ثم روى ابن اسحاق كيف أهلك جبرائيل كل واحد من المستهزئين (٣) ، وقال :

أن جبرئيل أتى رسول الله (ص) وهم يطوفون بالبيت ، فقام وقام رسول الله (ص) إلى جنبه ، فمرّ به الأسود بن المطلب ، فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمي ، ومرّ به الأسود بن عبد يغوث ، فأشار الى بطنه فاستسقى [بطنه] فمات

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٤٢١ ط. القاهرة. وتفسير سورة الكوثر بتفسير الطبري ٣٠ / ٢١٢ واللفظ للاول ، وسيرة ابن اسحاق ص ٢٥٢ ـ ٢٥٣.

(٢) تفسير الابتر والكوثر من المعجم الوسيط في اللغة.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ / ١٥ ـ ١٨ ط. القاهرة وتفسير السور في كتب تفسير القرآن بالحديث ، وسيرة ابن اسحاق ص ٢٥٤.

١٢٨

منه حبنا (١) ؛ ومر به الوليد بن المغيرة فأشار الى أثر جرح بأسفل كعب رجله كان اصابه قبل ذلك بسنين وهو يجر سبله (٢) وذلك أنه مرّ برجل من خزاعة وهو يريش نبلا له فتعلق سهم من نبله بازاره فخدش في رجله ذلك الخدش ، وليس بشيء ، فانتقض (٣) به فقتله ؛ ومرّ به العاص بن وائل فأشار الى أخمص رجله ، فخرج على حمار له يريد الطائف فربض به على شبرقة (٤) فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته ، ومرّ به الحرث ابن الطلاطلة فأشار الى رأسه فامتخض قيحا فقتله.

__________________

(١) الحبن : بحاء مهملة وبفتحتين ، داء في البطن ينتفخ منه ويعظم فيرم.

(٢) سبله : بفتح السين والباء الموحدة ، فضول ثيابه. و (بسنين) في سيرة ابن اسحاق كذا : بيسير.

(٣) انتقض الجرح : تجدد بعد ما دمل وبرأ.

(٤) شبرقة : بكسرتين بينهما باء ساكنة ، هو نبات ذو شوك يقال له الضريع ، وفي المواهب «فدخلت فيه شوكة من رطب الضريع».

١٢٩

خامسا ـ سياسة النبي في أمر القراءة والاقراء :

وفي مقابل كل ذلك الاستهزاء كان رسول الله (ص) والمسلمون الاوائل لا يألون جهدا في اسماع القرآن لكل من أمكنهم اسماعه وفي ما يأتي امثلة من أنواع الجهد الذي بذلوه في هذا السبيل :

إن الرسول بدأ اسماع الناس للقرآن وتبليغهم وانذارهم بالقرآن واقتدى به المسلمون الأوائل في ذلك اما الرسول فقد كان يسمع القرآن لكل سامع يمر عليه عند ما كان يتلو القرآن في صلاته في المسجد الحرام بمنظر ومسمع من قريش في أنديتهم حول الكعبة ومنظر ومسمع من شتى قبائل العرب التي تفد الى مكة للحج وتطوف حول البيت وعند ما تنزل الآيات في ردّ احتجاج المشركين على رسول الله واختلف معاصر ورسول الله في مقابلتهم لقراءة الرسول فمنهم المشركون الذين أخبر الله عن قولهم وقال سبحانه :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (فصلت / ٢٦).

ومنهم من أخبر الله عنهم وقال سبحانه :

(وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (المائدة / ٨٣).

مثل عداس النصراني في الطائف (١).

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ / ٣٠ ـ ٣١ ، وترجمته في أسد الغابة ط. القاهرة سنة ١٣٩٠ ه‍ ٤ / ٤ ـ

١٣٠

ومن الجن ـ ايضا ـ كما أخبر الله عنهم وقال :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً* ... وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ) (الجن / ١ ـ ٢ و ١٣).

***

كذلكم اختلف الذين سمعوا القرآن من النبي (ص) أما أمر كيفية إقراء القرآن ، فكالآتي خبره :

كيفية الإقراء :

أ ـ اقراء الله جل اسمه لرسوله (ص):

قد بين الله كيفية إقرائه لرسوله والنظام الذي يتبعه الرسول في تلقي القرآن في قوله تعالى :

(إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (القيامة / ١٧ ـ ١٩).

أي : إنّ النصّ القرآني مع بيان معناه بوحي غير قرآني ينزل من الله على رسوله (ص) فاذا تم نزوله على النبي (ص) أن يتابع قراءته.

وان على الله جمع القرآن بكلّ ما لجمع القرآن من معنى ووعد الرسول بأنّه سوف لا ينسى القرآن الذي يقرئه الله وقال : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) والإقراء تعليم اللفظ والمعنى معا. وتضمينا لحفظ القرآن أبد الدهر من النسيان فرض الله على الجميع قراءة القرآن في كلّ ركعة من صلوات الفريضة والنافلة وقال :

__________________

ـ الترجمة ٣٥٩٧ ، والاصابة ٢ / ٤٥٩ الترجمة ٤٥٧٠.

١٣١

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) (الاسراء / ٧٨).

وفرض على رسوله (ص) خاصّة قيام الليل وشرّفه بالخطاب وقال له : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً* نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً)

هكذا فرض الله على نبيه إحياء ثلث من كل ليلة عمره في ترتيل القرآن في نافلة الليل وندب المسلمين إلى ذلك (١).

وفي شهر رمضان من كل عام كان جبريل يعارض الرسول القرآن مرّة أي ان جبريل كان يقرأ ما نزل من القرآن الى ذلك التاريخ على رسول الله (ص) مرة ورسول الله ـ أيضا ـ كان يقرأه عليه ، وفي عام وفاته عارضه القرآن مرتين (٢).

ب ـ إقراء الرسول (ص) للناس :

وحقق ذلك أولا في اقرائه من آمن به في مرحلة الدعوة الخاصة حيث آمن به خديجة وعلي فاقرأهما القرآن وصليا معه وبعد ما يقارب ثلاث سنوات انتهت الدعوة الخاصّة عند ما نزلت على رسول الله (ص) (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فدعا عامة اقربائه ثم تلا ذلك نزول قوله تعالى عليه : (... وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ...) (الانعام / ١٩).

وقد تولى نزول القرآن بعد ذلك على رسول الله (ص) في مكة والمدينة ،

__________________

(١) راجع استحباب صلوات النوافل وخاصة نافلة الليل في كتب الحديث.

(٢) مسند احمد ٦ / ٢٨٢ ، وسنن ابن ماجة ص ٥١٨ الحديث ١٦٢١ كتاب الجنائز باب ما جاء في ذكر مرض رسول الله (ص) ، وجاء بعض الحديث في صحيح مسلم فضائل الصحابة ٤ / ١٩٠٥ الحديث ٩٨ و ٩٩.

١٣٢

وكان لا بد في الدعوة ؛ من اقراء المؤمنين سرّا ومن أجل ذلك نظم الرسول (ص) خلايا سرية لاقراء المستضعفين القرآن كالآتي بيانه.

اتخذ الرسول (ص) من دار الارقم بن أبي الارقم مركزا سريا للاقراء والارقم هو أبو عبد الله بن عبد مناف المخزومي. أسلم قديما وكان السابع أو الثاني عشر ممن أسلم وشهد مع رسول الله بدرا وما بعدها وتوفي بالمدينة سنة خمسة وخمسين من الهجرة وكانت داره في أصل الصفا بمكة وكان المسلمون الاوائل يجتمعون فيها برسول الله (ص) يقرئهم القرآن.

قال ابن سعد وغيره بترجمة عمر بن الخطاب وخبر اسلامه ، وأسلم فيها (دار الارقم) قوم كثير ودعيت دار الاسلام.

قال المؤلف :

وتفرعت من هذه الخلية خلايا أخرى صغيرة بمكّة كان منها : دار سعيد ابن زيد بن نفيل العدوي كما تحدث عنها الصحابي الخليفة عمر بن الخطاب وقال في حديثه عن خبر إسلامه إنّه سمع بإسلام أخته فاطمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد ، فذهب إلى دارهما ، قال :

وقد كان رسول الله (ص) يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما عند رجل به قوة فيكونان معه ويصيبان من طعامه وقد كان ضمّ إلى زوج أختي رجلين ، قال : فجئت حتى قرعت الباب فقيل : من هذا؟ قلت : ابن الخطاب ، قال : وكان القوم جلوسا يقرءون القرآن في صحيفة معهم فلما سمعوا صوتي تبادروا واختفوا وتركوا أو نسوا الصحيفة من أيديهم ، قال : فقامت المرأة ففتحت لي فقلت يا عدوة نفسها قد بلغني أنّك صبوت قال فأرفع شيئا في يدي فأضربها به قال فسال الدم ، قال : فلما رأت المرأة الدم بكت ، ثم قالت : يا ابن الخطاب ما كنت فاعلا فافعل فقد أسلمت! قال : فدخلت مغضبا فجلست على السرير ، فنظرت ، فإذا بكتاب في ناحية البيت ، فقلت : ما هذا الكتاب اعطينيه ، فقالت : لا أعطيك لست من أهله ، أنت لا تغتسل من الجنابة ، ولا تطهر ، وهذا (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)

١٣٣

قال فلم أزل بها حتى أعطتنيه فإذا فيه (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فلما مررت ب (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ذعرت ورميت بالصحيفة من يدي قال : ثم رجعت اليّ نفسي فإذا فيها (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، قال : فكلما مررت باسم من أسماء الله عزوجل ذعرت ثم ترجع إليّ نفسي حتى بلغت : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) حتى بلغت إلى قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قال : قلت أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمدا رسول الله (ص) (١).

وفي رواية ابن سعد وابن هشام واللفظ للأخير قال : كان خبّاب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن ـ إلى قوله : فرجع عمر إلى أخته وختنه وعندهما خبّاب بن الأرت معه صحيفة فيها طه يقرئهما إيّاهما فلمّا سمعوا حسّ عمر تغيّب خبّاب في بعض البيت وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها ـ إلى قوله ـ فأعطته الصحيفة وفيها (طه) ـ الحديث (٢).

***

قال الصحابي عمر ، كان رسول الله (ص) «يجمع الرجل أو الرجلين إذا أسلما عند الرجل به قوّة» وهذا ما سميناه بتشكيل الخلايا السريّة لإقراء القرآن كما وجدنا خباب بن الارت يقرئ فاطمة وزوجها القرآن عند ما اقتحم الدار عليهم عمر بن الخطاب ، وكان شغل المسلمين الشاغل يومذاك حفظ القرآن عن

__________________

(١) أسد الغابة بترجمة عمر بن الخطاب ، ٤ / ١٤٧ ـ ١٤٨ ، رقم الترجمة ٣٨٢٣.

(٢) طبقات ابن سعد بترجمة عمر ، وسيرة ابن هشام (اسلام عمر) ط. مصر سنة ١٣٥٦ ، ١ / ٣٦٦ ـ ٣٦٧ ؛ وسيرة ابن اسحاق ، اسلام عمر بن الخطاب ، ص ١٦٠. وخباب بن الارث التميمي نسبا ومن حلفاء بني زهرة من قريش كان قينا يعمل السيوف في الجاهلية وكان من السباقين إلى الاسلام وممن عذبته قريش على اسلامه شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله (ص) وكان مع علي في خلافته (ت : ٣٧ ه‍) بعد مرض طويل راجع ترجمته في أسد الغابة وغيره.

١٣٤

ظهر قلب واليكم خبرين يدلان على حفظهم القرآن عن ظهر قلب.

خبر اجهار ابن مسعود بقراءة القرآن :

ومن الذين استمعوا إلى القرآن ، وآمنوا به في المرحلتين الأخيرتين من اقتدى بالرسول في إسماع القرآن للناس مثل عبد الله بن مسعود.

روى ابن عبد البر وابن الاثير وابن حجر وغيرهم في ترجمة عبد الله بن مسعود من كتب تراجم الصحابة ، وكذلك روى في كتب التاريخ كلّ من الطبري وابن الأثير وابن كثير وغيره في ذكر حوادث قبل هجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة وقالوا :

كان أوّل من جهر بالقرآن بمكّة بعد رسول الله (ص) عبد الله بن مسعود وذلك لأنه اجتمع يوما أصحاب رسول الله (ص) ، فقالوا : والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط فمن رجل يسمعهم فقال عبد الله بن مسعود أنا. فقالوا : إنّا نخشاهم عليك إنما نريد رجلا له عشيرة تمنعه من القوم إن أرادوه. فقال : دعوني فإن الله سيمنعني فغدا عبد الله حتى أتى المقام في الضحى وقريش في أنديتها ، حتّى قام عند المقام ، فقال رافعا صوته : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ)

فاستقبلها فقرأ بها فتأملوا فجعلوا يقولون ما يقول ابن ام عبد ثم قالوا : انه ليتلو بعض ما جاء به محمد فقاموا فجعلوا يضربون في وجهه وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله ان يبلغ ثم انصرف إلى أصحابه ، وقد أثروا بوجهه فقالوا : هذا الذي خشينا عليك.

فقال ما كان أعداء الله قط أهون عليّ منهم الآن ولئن شئتم غاديتهم بمثلها غدا. قالوا : حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون (١).

__________________

(١) أسد الغابة ٣ / ٢٥٦ ٢٥٧ ، والاصابة ٢ / ٣٦١ ، وطبقات ابن سعد ٣ / ١١٧ ، والطبري ـ

١٣٥

والخبر الثاني يأتي ذكره في الفصل الآتي.

هكذا قرأ ابن مسعود عن ظهر قلب سورة الرحمن وكان ذلك قبل هجرتهم الى الحبشة في السنة الخامسة من البعثة.

وكان رسول الله إذا قرأ القرآن في صلاته في البيت ربما جهر بالقرآن سبّ المشركون القرآن ومن أنزله ومن جاء به وكان الرجل إذا أراد أن يسمع رسول الله (ص) بعض ما يتلو استرق السمع فرقا منهم ، فاذا رأى أنّهم عرفوا انه يستمع ذهب خشية أذاهم ، فلم يستمع ، فكان المشركون يطردون الناس عنه ، ويقولون : لا تسمعوا لهذا القرآن ، والغوا فيه لعلكم تغلبون ، فوصف الله ذلك في سورة فصلت / ٢٦ وقال :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ)

وكان رسول الله (ص) اذا أخفى قراءته لم يسمع من يحب أن يسمع القرآن فأنزل الله تعالى في سورة الاسراء / ١١٠ :

(وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً)

***

كانت تلكم أمثلة ممّا حوى القرآن المكي من أخبار المعارك الفكرية بين كفار قريش والقرآن وحملته ، وأمثلة مما جاء فيه سائر فنون المعرفة في القرآن المكي ، نكتفي بما أوردنا من كل ذلك لندرس في ما يأتي كيفية تبليغ الرسول (ص) بمكة باذنه تعالى.

__________________

ـ ١ / ١١٨٨ ، وسيرة ابن هشام ١ / ٣٣٦ ، والكامل لابن الاثير ٢ / ٣١.

١٣٦

تبليغ الرسول القرآن بمكّة والنظام الّذي سنّه لإقرائه

لمعرفة ذلك ينبغي الحديث عن أمرين :

أ ـ شأن القرآن الذين نزل بمكّة.

ب ـ كيفية تبليغ الرسول (ص) القرآن والنظام الّذي سنّه لإقرائه.

أوّلا ـ شأن القرآن الّذي نزل بمكّة :

نزل القرآن على رسول الله (ص) ثلاث عشرة سنة بمكّة ، قصيرة آياته ، صغيرة جلّ سوره ، ممّا يحفظه العربي المتولّع بحفظ القصائد والأمثال السارية عادة لسماعه مرّة واحدة ، مثل قوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ). كانت تنزل في حادثة ما ، أو جواب سؤال ، أو ردّ تعنّت. فكان من الطبيعي أن يحفظه عن ظهر قلب من كان قريبا منه ، مثل خديجة وعليّ وجعفر وزيد ، وكذلك المسلمون الأوائل ، مثل : مصعب بن عمير وابن مسعود وابن ام مكتوم وخباب بن الأرت والأرقم بن أبي الأرقم ونظرائهم.

إذا فقد كان من الطبيعي ـ أيضا ـ أن يجمع ما نزل من القرآن متدرّجا ، بمكّة جلّ المسلمين الأوائل : أي : يحفظونه عن ظهر قلب. ولنا على ذلك أدلّة من التاريخ ، سنذكرها بعيد هذا إن شاء الله تعالى.

ثانيا ـ تبليغ الرسول والنظام الّذي سنّه :

كان رسول الله (ص) تنفيذا لأمر الله وأداء لرسالته يتلو القرآن :

على الملأ من قريش وحجيج بيت الله الحرام بمكّة ، يسمعهم آيات الله جهرا يتمّ عليهم الحجّة بذلك.

ويقرئ من شاء أن يهتدي. يعلمهم القرآن مع تفسيره سرّا.

أمّا عمله مع الصنف الأوّل فسوف نشرحه في الخاتمة إن شاء الله تعالى.

وأمّا عمله مع الصنف الثاني ، فكان لا يتم جهرا مع مظاهرة كفار قريش

١٣٧

عليهم وتعذيبهم المسلمين.

فكان لا بد له من القيام بأداء هذا الواجب سرّا ومن أجل ذلك نظّم خلايا سرّية لإقراء المستضعفين ، القرآن كما مر بنا خبره. وفيما يأتي ندرس بإذنه ـ تعالى ـ خبر تدوين القرآن بمكّة.

١٣٨

سادسا ـ تدوين القرآن

أ ـ من كان يقرأ ويكتب في مكّة :

ونبدأ فيه بذكر أمر الكتابة في مكة قبل نزول القرآن ثمّ نذكر باذنه تعالى شأن تدوين القرآن بمكّة.

أمر الكتابة في مكة قبل نزول القرآن.

قال البلاذري في فتوح البلدان :

دخل الاسلام وفي قريش سبعة عشر رجلا كلّهم يكتب وهم : عمر بن الخطاب ، وعليّ بن ابي طالب ، وعثمان بن عفان وأبو عبيدة بن الجرّاح وطلحة ويزيد بن أبي سفيان ، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وحاطب بن عمرو أخو سهيل بن عمرو العامري من قريش ، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، وأبان بن سعيد بن العاصي بن أميّة ، وخالد بن سعيد أخوه ، وعبد الله بن سعد بن ابي سرح العامري ، وحويطب بن عبد العزّى العامري ، وأبو سفيان ، وجهيم بن الصّلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف ، ومن حلفاء قريش العلاء بن الحضرمي (١).

أمّا أمر تدوين القرآن ، فان النظام الذي كان قد سنّه الرسول (ص)

__________________

(١) فتوح البلدان للبلاذري ط. بيروت دار النشر للجامعيين سنة ١٣٧٧ ه‍ ، ص ٦٦٠ ـ ٦٦١.

١٣٩

لتدوين القرآن في مكة والمدينة كان امرا واحدا وسوف ندرس نظام تدوين القرآن في أخبار القرآن في المدينة ان شاء الله تعالى.

ب ـ كيفية الإقراء :

ينقسم قراءة القرآن وتدوينه في العصر المكّي إلى ما يخصّ الرسول (ص) وما يعمّ المسلمين كالآتي بيانه :

١ ـ ما يخصّ الرسول (ص):

إن أول ما أقرأ الله ـ جلّ جلاله ـ رسوله (ص) من القرآن الكريم الآيات الخمس الأولى من سورة اقرأ حيث قال سبحانه :

أ ـ فى سورة العلق :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ)

ب ـ في سورة الأعلى :

(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى)

ح ـ في سورة القيامة :

(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ)

وفي صحيحي مسلم والبخاري واللفظ للأول (١) : بسندهما عن فاطمة إن رسول الله (ص) قال لها ـ في مرض وفاته ـ : إن جبريل كان يعارضه بالقرآن

__________________

(١) صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضائل فاطمة (ع) الحديث رقم ٩٨ و ٩٩ ٤ / ١٩٠٥ ، وصحيح البخاري ٣ / ١٥١ ، كتاب فضائل القرآن باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي (ص) ، ومسند احمد ٦ / ٢٨٢ ، وسنن ابن ماجة كتاب الجنائز باب ما جاء في ذكر مرض رسول الله (ص) ص ٥١٨ الحديث ١٦٢١.

١٤٠