القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ١

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ١

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٢
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٣٣٥

تَضْلِيلٍ* وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ* تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ* فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)

وهي تحكي عن قصة شاهدتها قريش في عصرها ومصرها وان شئت فخذ مثلا ما حكى الله من قصص الانبياء السابقين مع أممهم الغابرة وقارن بين ما قصه البشر من القصص المتوسطة وبين ما حكى الله عن نوح وقومه حيث قال في سورة نوح :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ* قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ* أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ* يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً* فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً* وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً* ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً* فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً* ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً* وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً* أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً* وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً* وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً* ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً* وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً* لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً* قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً* وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً* وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً* وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً* مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً* وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً

١٠١

كَفَّاراً* رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) (الآيات / ١ ـ ٢٨)

وخذ للمقارنة قصص بلغاء البشر الكبيرة من قصص القرآن ، وخذ إن شئت في سورة يوسف أحسن القصص أو قصص زكريا ومريم وعيسى ـ عليهم‌السلام ـ في سورة مريم أو قصص هارون وموسى مع فرعون وبني اسرائيل في سائر السور.

وهكذا لا يجارى القرآن ولا يبارى في أي فن من فنون البلاغة في التعبير ، وكذلك لا شبيه له ولا نظير في ما يحوي من فنون العلم بالمبدإ والمعاد وأخبار عوالم الملائكة والجنّ والانس والحيوان والنبات والجماد والسموات والكواكب وأنظمة لحياة الإنسان وسائر فنون المعرفة الصحيحة ، وكان لبلاغة القرآن والجانب الأدبي فيه الأثر البليغ في نفوس قريش كما يدلّ عليه أمثال الخبر الآتي :

تأثير القرآن المكي في قريش واستماعهم اليه سرّا :

روى ابن هشام وغيره واللفظ لابن هشام ، قال :

إن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي ، حليف بني زهرة ، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله (ص) وهو يصلي من الليل في بيته ، فأخذ كلّ رجل منهم مجلسا يستمع فيه ، وكلّ لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا. فجمعهم الطريق ، فتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ، ثمّ انصرفوا. حتّى إذا كانت الليلة الثانية عاد كلّ رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتّى إذا طلع الفجر تفرّقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرّة ثمّ انصرفوا. حتّى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كلّ رجل منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتّى إذا

١٠٢

طلع الفجر تفرّقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتّى نتعاهد ألا نعود : فتعاهدوا على ذلك ، ثمّ تفرّقوا.

فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمّد؟

فقال : يا أبا ثعلبة ، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ، ولا ما يراد بها.

قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به كذلك.

قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل وكان أول من دخل عليه بيته فقال : يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمّد؟

فقال : ما ذا سمعت! تنازعنا نحن ـ أي قبيلة بني مخزوم ـ وبنو عبد مناف الشرف ، أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى تحاذينا على الرّكب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منّا نبيّ يأتيه الوحي من السماء ؛ فمتى ندرك مثل هذه! والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه.

قال : فقام عنه الاخنس وتركه (١).

هكذا كان للجانب الأدبي من القرآن الكريم الأثر البليغ في نفوس من يستمع إليه ولذلك بذلت قريش جهدها لتمنع الحجيج من الاستماع إلى قراءة الرسول للقرآن الكريم كما سيأتي خبره في بحث الخصائص الفكرية في القرآن المكي الآتي.

ب الخصائص الفكرية في القرآن المكي :

يعرض القرآن المكي في سور صغيرة عقيدة التوحيد في الالوهية والربوبية ورسالة خاتم الأنبياء وعوالم المعاد بعد حياة الدنيا ، وانّ القرآن كلام

__________________

(١) سيرة ابن هشام ط. القاهرة ١ / ٣٣٧ ـ ٣٣٨.

١٠٣

الله نزل لهداية البشر ، ويدحض أعراف مشركي قريش الوثنية والجاهلية وحججهم على الرسول والقرآن الكريم ، ويدعوهم الى العمل الصالح في الحياة الدنيا ومن أمثلة ذلكم :

أ ـ في التوحيد :

قال ـ سبحانه وتعالى ـ في سورة التوحيد :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) ب ـ في خبر المعاد :

قال سبحانه وتعالى في سورة يس :

(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (الآيات / ٧٨ ـ ٧٩)

وقال تعالى في سورة الزلزلة :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها* وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها* وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها* يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها* بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها* يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ* فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)

ج ـ دعوته للعمل الصالح :

قال ـ سبحانه وتعالى ـ في سورة العصر :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ)

كانت تلكم أمثلة من الآيات التي يتجلى فيها الامتياز البلاغي للقرآن

١٠٤

الكريم ثم أمثلة من الآيات التي تتجلى فيها الخصائص الفكرية للقرآن المكي.

ولم نقصد من ايراد آيات لتعريف الميزات الأدبية في القرآن الكريم ثم آيات اخر لتعريف الخصائص الفكرية فيه ، تصنيف آيات القرآن الى صنفين متقابلين : آيات تمتاز ببلاغتها في الكلام واخرى بما تحوي من فكر وعلم ، كلّا! فإنّ الله سبحانه كما جعل ما يحتاجه جسد الانسان من (فيتامينات) مقومة لحياته في ثمار لذيذة الطعم كالتمر والتفاح والعنب والليمون والمشمش كذلك جعل ما تحتاجه نفسه من افكار مقومة لحياته النفسية والجسدية في فنون من الكلام في القرآن الكريم تهش الى سماعها نفسه.

وكما ان الانسان قد يصاب في جسده بغدد سرطانية يجب البدء باستئصالها من جذورها ثم القيام بتقوية جسده وتقويمه بما يحتاجه الجسد من مقومات الحياة في طعامه وشرابه ، كذلك الانسان المتلوث فكره بالوثنيات والاعراف الجاهلية يجب البدء باستئصال افكاره المريضة الراسخة في اعماق نفسه وقطعها من جذورها ولذلك بدء خليل الله إبراهيم دعوته الناس إلى عبادة الله بزعزعة عقيدة عبدة الكواكب وكسر أوثان عبدة الأصنام وبدأ خاتم الرسل بدعوة المشركين إلى أن يقولوا : لا اله الا الله ، أي أن ينبذوا جميع أصنامهم التي يعبدونها اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى وسائر آلهتهم.

وكما ان الانسان المدمن للخمور واستعمال المخدرات يصرف كل طاقاته الفكرية والجسدية في سبيل ادامة تعاطي الخمور والمخدرات ويقاوم بكل ما أوتي من حول وقوة من يريد أن يحول بينه وبينها!

كذلك الانسان المتلوث فكره بالوثنيات والاعراف الجاهلية يصرف جميع طاقاته في سبيل المحافظة على ما تلوث به فكره واعتاده من أعراف جاهلية وعبادات وثنية ويحارب من يريد أن يحول بينه وبين أعرافه وعباداته. ومن هنا يلقى إبراهيم في النار لتحرقه ويقابل خاتم الانبياء بصنوف من الاذى والطغيان ولمن آمن بقرآنه بانواع من العسف والظلم والعدوان.

١٠٥

لو اقتصر القرآن في مكة على عرض الجوانب الفنية والادبية في الكلام ولم يتعرض لأعراف قريش الجاهلية ، ولم يسفه احلامهم ، ويسب آلهتهم ، لرفعت قريش الرسول فوق اكتافها ، وشمخت بآنافها ، وفاخرت به قبائل العرب وكاثرت به ، ونافرت ، لكن القرآن خاصمهم في كل جانب من جوانب اعرافهم الجاهلية فوقع بينهم وبين القرآن ومبلّغه الرسول ما سنذكره بحوله تعالى بعد ايراد مثالين من أثر القرآن الفكري في الانسان العربي في ما يأتي :

أ ـ قيام قريش لمقابلة الاثر الفكري للقرآن الكريم :

بذلت قريش جهودا ضخمة لصد الأثر الفكري للقرآن المكي عن الناس نذكر منها على سبيل المثال الموارد الآتية :

ذكر ابن عساكر وغيره في ترجمة عتبة ما موجزه قال : ان قريش اجتمعت برسول الله (ص) ورسول الله (ص) في المسجد ، فقال لهم عتبة بن ربيعة دعوني حتى أقوم الى محمّد ، فاكلمه ، فاني عسى أن أكون أرفق به منكم.

فقام عتبة ، حتى جلس اليه ، فقال يا ابن أخي : إنك أوسطنا بيتا وأفضلنا مكانا وقد أدخلت على قومك ما لم يدخل رجل على قومه قبلك ، فان كنت تطلب بهذا الحديث مالا ، فذلك لك على قومك ان تجمع لك حتى تكون أكثرنا مالا ، وان كنت تريد شرفا فنحن مشرفوك ، حتى لا يكون أحد من قومك فوقك ، ولا نقطع الامور دونك.

وان كان هذا عن لمم يصيبك لا تقدر عن النزوع عنه ، بذلنا لك خزائننا في طلب الطب لذلك منه.

وان كنت تريد ملكا ملكناك.

قال رسول الله (ص) : أفرغت يا أبا الوليد؟

قال نعم.

فقرأ (ص) حم السجدة حتى مر بالسجدة فسجد وعتبة ملق يده خلف

١٠٦

ظهره حتى فرغ من قراءتها.

وقام عتبة لا يدري ما يراجعه به حتى أتى ، نادى قومه فلما رأوه مقبلا قالوا لقد رجع اليكم بوجه ما قام به من عندكم.

فجلس اليهم فقال يا معشر قريش قد كلمته بالذي أمرتموني به حتى اذا فرغت كلمني بكلام لا والله ما سمعت أذناي بمثله قط فما دريت ما أقول له يا معشر قريش أطيعوني اليوم واعصوني فيما بعده اتركوا الرجل واعتزلوه فو الله ما هو بتارك ما هو عليه وخلوا بينه وبين سائر العرب فان يكن يظهر عليهم يكن شرفه شرفكم وعزه عزكم وملكه ملككم وان يظهروا عليه تكونوا قد كفيتموه بغيركم.

قالوا : أصبأت اليه يا أبا الوليد (١).

***

تأثر جمع من أفراد قبائل قريش بالقرآن ، وآمنوا به ، وسنشير الى خبرهم في آخر هذا البحث ـ ان شاء الله تعالى ـ ، ولم ينحصر تأثير القرآن في قريش وحدها بل كان تأثيره في العرب ، من غير أفراد قريش أكثر من تأثيره في قريش كما نرى مثله في خبر قيام قريش لمقابلة الأثر الفكري الآتي.

ب ـ الأثر الفكري والأدبي للقرآن المكي في الانسان العربي من غير قريش :

قصة اسلام الطفيل بن عمرو الدوسي :

روى ابن هشام (٢) وغيره واللفظ لابن هشام ، قال :

(كان رسول الله (ص) ، على ما يرى من قومه ، يبذل لهم النصيحة

__________________

(١) السيوطي ٥ / ٣٥٩ ؛ وفي ترجمة عتبة من مخطوطة ابن عساكر (١١ / ١ / ٢٠ أ) ؛ والقرطبي ١٥ / ٣٣٨ ؛ وسيرة ابن هشام ط. القاهرة سنة ١٣٥٦ ه‍ ١ / ٣١٣ ـ ٣١٤.

(٢) سيرة ابن هشام ١ / ٤٠٧ ـ ٤١١.

١٠٧

ويدعوهم الى النجاة مما هم فيه ، وجعلت قريش حين منعه الله منهم ، يحذرونه الناس ومن قدم عليهم من العرب.

وكان الطفيل بن عمرو الدوسي يحدث : أنه قدم مكة ورسول الله (ص) بها ، فمشى إليه رجال من قريش ، وكان الطفيل رجلا شريفا شاعرا لبيبا ، فقالوا له : يا طفيل ، إنك قدمت بلادنا ، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا ، وقد فرق جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وبين أبيه ، وبين الرجل وبين أخيه ، وبين الرجل وبين زوجته ، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا ، فلا تكلمنه ولا تسمعن منه شيئا.

قال : فو الله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه ، حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا فرقا من أن يبلغني شيء من قوله ، وأنا لا أريد أن أسمعه.

قال : فغدوت إلى المسجد ، فإذا رسول الله (ص) قائم يصلي عند الكعبة.

قال : فقمت منه قريبا فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله.

قال : فسمعت كلاما حسنا.

قال : فقلت في نفسي واثكل أمي ، والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليّ الحسن من القبيح ، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول! فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته ، وإن كان قبيحا تركته.

قال : فمكثت حتى انصرف رسول الله (ص) إلى بيته فاتبعته ، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه ، فقلت : يا محمد ، إنّ قومك قد قالوا لي كذا وكذا ، للذي قالوا ، فو الله ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف ، لئلا أسمع قولك ، ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك ، فسمعته قولا حسنا ، فاعرض عليّ أمرك.

قال : فعرض عليّ رسول الله (ص) الإسلام ، وتلا عليّ القرآن ، فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه ، ولا أمرا أعدل منه. قال : فأسلمت وشهدت :

١٠٨

شهادة الحق ، وقلت : يا نبي الله ، إني امرؤ مطاع في قومي ، وأنا راجع إليهم ، وداعيهم إلى الاسلام).

ثم روى ابن هشام بعد ذلك كيف دعا عمرو بن الطفيل عشيرته دوس الى الاسلام عند ما رجع اليهم وكيف انتشر فيهم الاسلام وكيف وفدوا الى رسول الله (ص) بعد غزوة خيبر.

***

إنّ أمثال هذا النوع من الأثر دعت قريشا أن يجتمعوا ويتشاوروا كيف يصدون الحجيج عن الاستماع الى قراءة الرسول (ص) للقرآن كما سنذكره بعد ايراد خبر بدء الدعوة في ما يأتي باذنه تعالى.

١٠٩

ثالثا بدء الدعوة :

١ ـ دعوة أقارب الرسول (ص):

وبدأ التبليغ علنا بدعوة بني عبد المطلب ثم عم تبليغه للناس أجمعين وبين الله شعار الرسول في التبليغ في هذه المرحلة وقال في سورة الأنعام / ١٩ :

(... وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ...)

فبدأ بدعوة بني عبد المطلب كما روى ذلك جمع من أهل الحديث والسير مثل : الطبري ، وابن عساكر ؛ وابن الاثير وابن كثير ، والمتقي ، وغيرهم ـ واللفظ للأول ـ قال عن علي بن أبي طالب (ع) قال :

لمّا نزلت هذه الآية على رسول الله (ص) (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) دعاني رسول الله (ص) فقال لي : يا عليّ انّ الله امرني ان انذر عشيرتي الاقربين فضقت بذلك ذرعا ، وعرفت انّي متى أباديهم بهذا الامر ارى منهم ما اكره فصمتّ عليه حتّى جاءني جبريل ، فقال : يا محمّد انّك إلّا تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربّك فاصنع لنا صاعا من طعام ، واجعل عليه رجل شاة ، واملأ لنا عسا من لبن ثمّ اجمع لي بني عبد المطلب ، حتّى أكلّمهم ، وأبلغهم ما أمرت به.

ففعلت ما أمرني به ثمّ دعوتهم له وهم يومئذ اربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه فيهم اعمامه أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبو لهب ، فلمّا اجتمعوا اليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم ، فجئت به فلمّا وضعته ، تناول رسول الله (ص) حذية من اللحم ، فشقّها بأسنانه ، ثمّ القاها في نواحي الصّحفة ثمّ قال : خذوا

١١٠

بسم الله فأكل القوم حتّى ما لهم بشيء حاجة ، وما أرى الّا موضع ايديهم وأيم الله الذي نفس عليّ بيده وان كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدّمت لجميعهم ، ثمّ قال اسق القوم ، فجئتهم بذلك العسّ ، فشربوا منه ، حتّى رووا منه جميعا وأيم الله ان كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله.

فلمّا أراد رسول الله (ص) ان يكلّمهم بدره أبو لهب الى الكلام ، فقال لهدّما سحركم صاحبكم ، فتفرّق القوم ، ولم يكلّمهم رسول الله (ص) فقال الغد يا عليّ انّ هذا الرجل سبقني الى ما قد سمعت من القول ، فتفرّق القوم قبل ان أكلمهم ، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثمّ اجمعهم اليّ.

قال : ففعلت ، ثمّ جمعتهم ثمّ دعاني بالطعام فقرّبته لهم ففعل كما فعل بالأمس ، فأكلوا حتى ما لهم بشيء به حاجة. ثم قال : اسقهم فجئتهم بذلك العسّ فشربوا حتّى رووا منه جميعا ثمّ تكلّم رسول الله (ص) فقال يا بني عبد المطلّب انّي والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بافضل مما قد جئتكم ، به انّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله ـ تعالى ـ أن ادعوكم اليه فأيّكم يوازرني على هذا الامر على ان يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟

قال فاحجم القوم عنها جميعا وقلت وانّي لاحدثهم سنّا وارمصهم عينا واعظمهم بطنا واحمشهم ساقا انا يا نبيّ الله اكون وزيرك عليه.

فاخذ برقبتي ثمّ قال : انّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له واطيعوا قال فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك ان تسمع لابنك وتطيع (١).

__________________

(١) تاريخ الطبري ط. أوربا ١ / ١١٧١ ـ ١١٧٢. وابن عساكر تحقيق المحمودي ١ / ٨٨ من ترجمة الامام. وتاريخ ابن الاثير ٢ / ٢٢٢. وشرح ابن ابي الحديد ٣ / ٢٦٣. وفي تاريخ ابن كثير ٣ / ٣٩ ، وقد حذف الألفاظ وقال : كذا وكذا. وكنز العمال للمتقي ١٥ / ١٠٠ و ١١٥ و ١١٦ منه ، وفي ـ

١١١

٢ ـ دعوته عامة قبائل العرب :

في سيرة ابن هشام ما موجزه :

أ ـ قال الراوي : كان رسول الله (ص) يقف على منازل القبائل من العرب فيقول : «يا بني فلان ، إني رسول الله إليكم ، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد ، وأن تؤمنوا بي وتصدّقوا بي ، وتمنعوني حتى أبيّن عن الله ما بعثني به» قال : وخلفه رجل أحول وضىء له غديرتان (١) عليه حلة عدنية ، فاذا فرغ رسول الله (ص) من قوله وما دعا إليه قال ذلك الرجل : يا بني فلان ، إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللّات والعزّى من أعناقكم وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة ، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه ، قال : فقلت لأبي : يا أبت ، من هذا الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول؟ قال : هذا عمه عبد العزّى بن عبد المطلب أبو لهب.

ب ـ وفي رواية أخرى : أنه أتى كندة في منازلهم وفيهم سيد لهم يقال له : مليح ، فدعاهم إلى الله ـ عزوجل ـ ، وعرض عليهم نفسه ، فأبوا عليه.

ج ـ وفي رواية : أنه أتى كلبا في منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم : بنو عبد الله ، فدعاهم إلى الله ، وعرض عليهم نفسه ، حتى إنه ليقول لهم «يا بني عبد الله ، إنّ الله ـ عزوجل ـ قد أحسن اسم أبيكم».

فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.

د ـ وفي رواية : أن رسول الله (ص) أتى بني حنيفة في منازلهم ، فدعاهم

__________________

ـ ص ١٣٠ : يكون أخي وصاحبي ووليّكم بعدي. والسيرة الحلبية نشر المكتبة الاسلامية ببيروت ١ / ٢٨٥. ولهدما : كلمة تعجب. وفي الأصل : (لقدما) تحريف.

(١) غديرتان : تثنية غديرة ، وهي ذؤابة من الشعر.

١١٢

إلى الله ، وعرض عليهم نفسه ، فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه ردا منهم.

ه ـ وفي رواية : أنه أتى بني عامر بن صعصعة ، فدعاهم إلى الله ـ عزوجل ـ وعرض عليهم نفسه ، فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب.

ثم قال له : أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ، ثم أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال : «الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء».

قال : فقال له : أفنهدف نحورنا (١) للعرب دونك ، فاذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟!! لا حاجة لنا بأمرك ، فأبوا عليه ، فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم قد كانت أدركته السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم ، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم ، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم ، فقالوا : جاءنا فتى من قريش ، ثم أحد بني عبد المطلب ، يزعم أنه نبيّ يدعونا إلى أن نمنعه ، ونقوم معه ، ونخرج به إلى بلادنا ، قال : فوضع الشيخ يديه على رأسه ، ثم قال : يا بني عامر ، هل لها من تلاف؟ هل لذناباها من مطلب؟ والذي نفس فلان بيده ما تقوّلها إسماعيليّ قطّ ، وإنها لحق ، فأين رأيكم كان عنكم؟

قال ابن إسحاق : فكان رسول الله (ص) على ذلك من أمره ، كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الاسلام ، ويعرض عليهم نفسه ، وما جاء به من الله من الهدى والرحمة ، وهو لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف إلا تصدّى له ، فدعاه إلى الله ، وعرض عليه ما عنده.

***

هكذا كان ديدن النبي (ص) مع قبائل العرب في موسم الحجّ ، حتى لقي رهطا من الخزرج ، فدعاهم الى الاسلام ، وتلا عليهم القرآن ، وكانوا قد سمعوا

__________________

(١) «أفنهدف نحورنا» معناه نصيرها هدفا ، والهدف : الغرض الذي يرمى بالسهام إليه.

١١٣

من اليهود في المدينة خبر بعثة نبي آن اوانه ، فكانوا اذا كان بينهم شيء قال اليهود لهم ان نبيا مبعوث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وارم فلمّا كلّمهم رسول الله ودعاهم الى الله قال بعضهم لبعض : يا قوم والله انه للنبي الذي توعدكم به يهود ، فلا تسبقنكم اليه ، فاجابوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الاسلام فلمّا قدموا المدينة الى قومهم ذكروا لهم امر رسول الله (ص) ودعوهم الى الاسلام حتى فشا فيهم ، فلم تبق دار من دور الانصار الّا وفيها ذكر رسول الله (ص) ، حتى اذا كان العام المقبل وافى الموسم منهم اثنا عشر رجلا ، فلقوه في العقبة ، فبايعوه على بيعة النساء على السمع والطاعة ، وذلك قبل ان يفترض الحرب وبعث معهم النبي مصعب بن عمير يقرئهم القرآن ، ويعلمهم الاسلام ويفقههم في الدين ، حتى اذا كان العام المقبل خرج الى الحج من المدينة المشركون منهم والمسلمون ، فاجتمع المسلمون منهم بالنبي وواعدهم العقبة فتسلّل منهم ثلاثة وسبعون رجلا ومعهم امرأتان فبايعه الرجال بيعة الحرب وهي بيعة العقبة الثانية ، واتخذ منهم اثنا عشر نقيبا ، فلما قدموا المدينة انتشر فيها الاسلام فاذن الله ـ تبارك وتعالى ـ لرسوله (ص) في الهجرة الى المدينة (١).

__________________

(١) سيرة ابن هشام ط. الحجازي بالقاهرة ٢ / ٣١ ـ ٧٦.

١١٤

رابعا ـ مقابلة قريش للقرآن الكريم :

أخبر الله سبحانه عن استهزاء قريش برسول الله (ص) وقال في سورة الأنبياء :

(وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) (الآية / ٣٦)

وأخبر عن قريش انهم كانوا يصفون الرسول (ص) بانه شاعر ومجنون وقال : في سورة الصافات :

(إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ* وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) (الآيات / ٣٥ ـ ٣٦)

وانهم كانوا يقولون ان القرآن قول شيطان رجيم كما أخبر عن ذلك في سورة التكوير قوله تعالى :

(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ* وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ* وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ* وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ* فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ* إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (الآيات / ٢٢ ـ ٢٧)

وأخبر عنهم أنهم كانوا يصفون الرسول بانه رجل مسحور وقال تعالى في سورة الاسراء :

١١٥

(وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً* نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) (الآيات / ٤٦ ـ ٤٧)

***

كان هذا النوع من المقابلة للقرآن الكريم من باب (... وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا ...) (النمل / ١٤) مع شعورهم بعجزهم عن مقابلة القرآن الكريم كما ندرس ذلك في ما يأتي :

أ ـ قريش تتشاور كيف تمنع تأثير القرآن في النفوس :

ذكر ابن هشام (١) وغيره واللفظ لابن هشام في خبر تحير الوليد بن المغيرة فيما يصف به القرآن وقال : اجتمع اليه نفر من قريش ، وكان ذا سن فيهم ، وقد حضر الموسم ، فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فاجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ، ويرد قولكم بعضه بعضا.

قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس ، فقل وأقم لنا رايا نقل به ؛ قال بل أنتم فقولوا أسمع ؛ قالوا : نقول كاهن ؛ قال لا والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة (٢) الكاهن ولا سجعه ؛ قالوا : فنقول : مجنون ؛ قال : ما هو بمجنون. لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته ؛ قالوا : فنقول : شاعر ؛ قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر ؛ قالوا : فنقول : ساحر ؛ قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٢٨٣ ـ ٢٨٤ ، وابن اسحاق ص ١٣١ ـ ١٣٢.

(٢) الزمزمة : الكلام الخفي الذي لا يسمع.

١١٦

السحار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم (١).

قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس؟

قال : والله إنّ لقوله لحلاوة ، وان أصله لعذق (٢) ـ وإن فرعه لجناة ـ قال ابن هشام : ويقال لغدق (٣) وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر ، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم ، لا يمرّ بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا لهم أمره فأنزل الله ـ تعالى ـ في الوليد بن المغيرة وفي ذلك من قوله :

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً* وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً* وَبَنِينَ شُهُوداً* وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً* ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ* كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً* سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً* إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ* فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ* ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ* ثُمَّ نَظَرَ* ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ* ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ* فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ* إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ* سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) (الآيات / ١١ ٢٦)

قريش تقترح حلا وسطا بينهم وبين الرسول (ص)

ومرة أخرى اقترحت حلا وسطا بينهم وبين الرسول في عبادة الآلهة كما رواه المفسرون وفي تفسير (سورة الكافرون) وابن هشام في السيرة واللفظ لابن هشام.

__________________

(١) إشارة إلى ما كان يفعل الساحر بأن يعقد خيطا ثم ينفث فيه. ومنه قوله تعالى (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) ، يعني الساحرات.

(٢) العذق (بالفتح) : النخلة يشبهه بالنخلة التي ثبت أصلها وقوي وطاب فرعها إذا جنى.

(٣) الغدق : الماء الكثير ، ومنه يقال : غيدق الرجل : إذا كثر بصاقه. وكان أحد أجداد النبي (ص) يسمى الغيدق ، لكثرة عطائه.

١١٧

قال : الاسود بن المطلّب والوليد بن المغيرة واميّة بن خلف والعاص بن وائل السهمي اعترضوا رسول الله (ص) وهو يطوف بالكعبة وكانوا ذوي اسنان في قومهم ، فقالوا : يا محمد هلم ، فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد ، فنشترك نحن وأنت في الأمر فان كان الذي تعبد خيرا مما نعبد ، كنا قد أخذنا بحظنا منه ، وان كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه فأنزل الله في ردّ اقتراحهم الجاهلي (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ* لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ* وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ* وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ* وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ* لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)

***

ب ـ تعنت قريش برسول الله (ص)

مرّة اخرى اجتمعت سادة قريش برسول الله (ص) في البيت وحاولت أن تقنعه بترك الدعوة وحاوروه بعنف وغلظة وسوء أدب كما نذكره في الخبر الآتي :

روى الطبري وابن كثير والسيوطي في تفسير قوله تعالى (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ...) من سورة الاسراء الآيات / ٩٠ ـ ٩٣ واللفظ للأول :

ان عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ورجلا من بني عبد الدار وأبا البختري أخا بني أسد والاسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيها ومنبها ابني الحجاج السهميين اجتمعوا أو من اجتمع منهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، فقال بعضهم لبعض : ابعثوا الى محمد فكلموه

__________________

(١) تفسير السورة في التفاسير واللفظ لابن هشام في السيرة ١ / ٣٨٦.

١١٨

وخاصموه حتى تعذروا فيه ، فبعثوا اليه ان اشراف قومك قد اجتمعوا اليك ليكلموك فجاءهم رسول الله (ص) سريعا وهو يظن أنه بدا لهم فى أمره بداء وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ، ويعز عليه عنتهم ، حتى جلس اليهم.

فقالوا : يا محمد انا قد بعثنا اليك لنعذر فيك ، وانا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الآباء ، وعبت الدين وسفهت الاحلام ، وشتمت الآلهة ، وفرقت الجماعة ، فما بقي أمر قبيح الا وقد جئته فما بيننا وبينك.

فان كنت انما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا.

وان كنت انما تطلب الشرف فينا سودناك علينا.

وان كنت تريد به ملكا ملكناك علينا.

وان كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك به رئيا تراه قد غلب عليك وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي فربما كان ذلك ، بذلنا أموالنا في طلب الطب لك. حتى نبرئك منه أو نعذر فيك.

فقال رسول الله (ص) : ما بي ما تقولون ، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني اليكم رسولا ، وأنزل عليّ كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالة ربي ، ونصحت لكم فان تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وان تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم.

فقالوا : يا محمد فان كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا ولا أقل مالا ولا أشد عيشا منا فسل ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا ويبسط لنا بلادنا وليفجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا ، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب ، فانه كان شيخا صدوقا ، فنسألهم

١١٩

عما تقول حق هو أم باطل فان صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله وأنه بعثك بالحق رسولا كما تقول.

فقال لهم رسول الله (ص) : ما بهذا بعثت ، انما جئتكم من الله بما بعثني به فقد بلغتكم ما أرسلت به اليكم ، فان تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وان تردوه عليّ أصبر لامر الله ، حتى يحكم الله بيني وبينكم.

قالوا : فان لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك ، فسل ربك أن يبعث ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وتسأله فيجعل لك جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة ويغنيك بها عما نراك تبتغي فانك تقوم بالاسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضل منزلتك من ربك ان كنت رسولا كما تزعم.

فقال لهم رسول الله (ص) : ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت اليكم بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا فان تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وان تردوه عليّ اصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم.

قالوا فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك ان شاء فعل فانا لا نؤمن لك إلّا أن تفعل.

فقال رسول الله (ص) : ذلك الى الله ان شاء فعل بكم ذلك.

فقالوا يا محمد فاعلم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب فيتقدم اليك ويعلمك ما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع في ذلك أيضا اذا لم تقبل منا ما جئنا به فقد بلغنا أنه انما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن وانا والله ما نؤمن بالرحمن أبدا أعذرنا اليك يا محمد أما والله لا نتركك وما بلغت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا.

قال قائلهم نحن نعبد الملائكة وهن بنات الله وقال قائلهم لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا فلما قالوا ذلك قام رسول الله (ص) عنهم وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم وهو ابن

١٢٠