مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٤

جواد الكاظمي

مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٤

المؤلف:

جواد الكاظمي


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٥٥

هو الرّدّ الى الله وإلى الرّسول لأنّهم يقومون مقام الرّسول وهم الحافظون لشريعته وخلفائه في أمّته فجروا مجراه فيه.

وينبّه على ذلك ما رواه الكليني عن بريد العجلي عن الباقر عليه‌السلام (الى ان قال) : ثمّ قال للنّاس (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) إيّانا عنى خاصّة أمر جميع المؤمنين إلى يوم القيامة بطاعتنا فان خفتم تنازعا في أمر فردّوه الى الله والى الرّسول والى ولاة الأمر منكم كذا نزلت وكيف يأمرهم الله بطاعة اولى الأمر ويرخّص في منازعتهم انّما قيل ذلك للمأمورين الّذين قيل لهم : أطيعوا الرّسول وأولى الأمر منكم. ونحوها من الاخبار.

ثمّ إنّه تعالى أكّد ذلك بقوله (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) لدلالته على أنّ عدم الرّدّ إليهم يخرج عن الايمان.

(ذلِكَ) إشارة إلى طاعة الله ورسوله واولى الأمر والرّدّ الى الله والرّسول (خَيْرٌ) لكم (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)» أي أحمد عاقبة من آل يؤول إذا رجع والمآل المرجع والعاقبة سمّى تأويلا لانّه مآل الأمر وقبل : معناه أحسن من تأويلكم أنتم من غير ردّ الى الكتاب والسّنّة لأنّ الردّ الى الله والرّسول ومن يقوم مقامهما أحسن لا محالة من تأويل بغير حجّة.

قال في مجمع البيان : واستدلّ بعضهم بقوله (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ). الآية» على أنّ إجماع الأمّة حجّة بان قالوا : انّما أوجب تعالى الردّ الى الكتاب والسنّة بشرط وجود التّنازع فدلّ على انّه إذا لم يوجد التّنازع لا يجب الرّدّ ولا يكون كذلك الّا والإجماع حجّة.

ثمّ قال : وهذا الاستدلال انّما يصحّ لو فرض انّ في الأمّة معصوما حافظا للشّرع وامّا إذا لم يفرض ذلك فلا يصحّ لانّ تعليق الحكم بشرط أو صفة لا يدلّ على أنّ ما عداه بخلافه عند أكثر العلماء فكيف اعتمدوا عليه ههنا على أنّ الأمّة لا تجتمع

٢٤١

على شيء إلّا عن كتاب أو سنّة فكيف يقال : انّها إذا اجتمعت على شيء لا يجب عليها الرّد الى الكتاب والسنّة وقد ردت إليهما.

قلت : في كلا الوجهين بعد إذ يجوز أن يكون المستدلّ بها من يقول بحجيّة مفهوم الشّرط ومن عداه يستدلّ بغيرها على حجيّة الإجماع ، وبانّ الظّاهر من الرّدّ إليهما الرّدّ الى صريحهما ومع الاتّفاق يكفي في صحّة ما أجمعوا عليه الاستنباط عنهما كما يقوله المخالف.

والحقّ أنّ هذا الشّرط لا عبرة بمفهومه فانّ الردّ الى الله والرّسول عندنا ثابت في جميع الاحكام اختلف فيها أو اتّفق خصوصا بعد ما ثبت بالأدلّة القطعيّة أنّ حجيّة الإجماع لدخول المعصوم الّذي يمتنع عليه الخطا وما بينّاه من أنّ الرّدّ الى الله والرّسول الرّدّ الى اولي الأمر فتأمّل.

والمذكور في التّفسير الكبير للرّازى : «أنّ قوله (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ) إلخ إشارة إلى الحكم بالقياس وتكون الإشارة إلى الإجماع حاصلة من قوله : واولى الأمر منكم.

قال : فحاصل الآية الخطاب لجميع المكلّفين بطاعة الله تعالى ثم لمن عدا الرّسول بطاعة الرّسول ثمّ لما سوى أهل الحلّ والعقد بطاعتهم ثم أمر أهل استنباط الأحكام من مداركها ان وقع اختلاف واشتباه بين النّاس في حكم واقعة أن يستخرجوا لها وجها من نظائرها وأشباهها» انتهى ولا يخفى بعده فانّ القياس ممّا وقع النّهى عن اتباعه في كلام الله والرّسول على ما ثبت في محلّه فكيف يكون مأمورا بالرّجوع اليه.

ثمّ أكّد ما تقدّم بقوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) من التّوراة والإنجيل (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) قيل : هو كعب بن الأشرف ، وقيل : هو كاهن من جهينة أراد المنافق أن يتحاكم إليه ، والمروي عن أئمّتنا عليهم‌السلام ان المعنىّ به كلّ من يتحاكم اليه ممّن يحكم بغير الحقّ. وأصل الطّاغوت طغيوت قدّمت الياء على العين

٢٤٢

وقلبت وهو من صيغ المبالغة في الطغيان ويطلق على الواحد والجمع كقوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ).

(وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) لقوله (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) والمراد أنّ من هذا حاله فهو يزعم الايمان وليس بمؤمن لقولهم : زعموا مطيّة الكذب.

ففيها دلالة على أنّ بين الايمان وارادة التّحاكم الى الطّاغوت كمال المنافاة والبعد يمتنع اجتماعهما في شخص واحد. وفي أخبار أئمّتنا عليهم‌السلام : انّ إرادة التّحاكم إلى حكّام الجور داخلة في الآية.

روى أبو بصير عن الصّادق عليه‌السلام قال : أيّما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حقّ فدعاه الى رجل من اخوانه ليحكم بينه وبينه فأبى الّا ان يرافعه إلى هؤلاء كان بمنزلة الّذين قال الله عزوجل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ). الآية.

وروى أبو بصير عنه عليه‌السلام في حديث قال فيه : لو كان على رجل حقّ فدعوته الى حكام أهل العدل فأبى عليك إلّا أن يرافعك إلى حكّام أهل الجور ليقضوا له لكان ممّن حاكم الى الطّاغوت وهو قول الله عزوجل (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) الآية.

وفي رواية عمر بن حنظلة قال : سألت الصّادق عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما الى السّلطان أو الى القضاة أيحلّ ذلك؟ فقال : من تحاكم الى الطّاغوت فحكم له به فإنّما يأخذ سحتا وان كان حقه ثابتا لأنّه أخذ بحكم الطّاغوت وقد أمر أن يكفر به الحديث.

ثمّ انّ الظّاهر من الآية أنّ ارادة التّحاكم الى الطّاغوت حرام بل كفر وبانضمام الرّوايات يظهر أنّ التّحاكم إلى حكام الجور كذلك وإن كان حقّا ثابتا في نفس الأمر كما يعطيه صريح الرّواية الأخيرة ويظهر من أبى الصّلاح القول بذلك فإنّه منع من التّوصل بحكم المخالف للحقّ إلى الحقّ إذا كان الغريمان

٢٤٣

من أهل الحق والأكثر من الأصحاب على الجواز.

واستدلّ لهم العلّامة في المختلف بأنّ للإنسان أن يأخذ حقّه كيف أمكن ، وبأنّه كما جاز التّرافع مع المخالف الى المخالف توصّلا الى استيفاء الحقّ فليجز مع المؤمن الظّالم لمنع الحقّ ، وفيه نظر فانّا لا نسلّم أنّ لكلّ ذي حقّ أخذ حقّه كيف أمكن والّا لانتفت فايدة التّحاكم إلى الحقّ ونصب الحاكم الّا أن يخصّ ذلك في حال عدم الحاكم بالحقّ واستلزام التّرك فوته فيجوز لمكان التّعذّر وثبوت الحقّ فيما بينه وبين الله. وبالجملة فظاهر الآية بانضمام الرّوايات يقتضي الاحتياط التّام في أخذ الحقّ.

(وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ) بما زيّن لهم من ارادة التّحاكم الى الطّاغوت (ضَلالاً بَعِيداً) وفيه إشارة الى أنّ ارادة ذلك ارادة من الشّيطان أن يضلّهم عن الحقّ والهدى.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) في القرآن من الأحكام فاعملوا بها (وَإِلَى الرَّسُولِ) لتنظروا حكمه وتتّبعونه (رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) اى يعرضون عن المصير إليك وعن العمل بالأحكام المنزلة إلى غيره ممّا هو موافق لطبعهم ورأيهم.

(فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) اى كيف يكون حالهم أو كيف يصنعون إذا نالتهم من الله نكبة وعقوبة (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي من إرادة التّحاكم الى الطّاغوت وإظهار السّخط وعدم الرّضا بحكمك بينهم بالحقّ (ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً).

اى يعتذرون إليك ويقسمون انّهم لم يريدوا بالتحاكم الى الطّاغوت الّا التّخفيف عنك ويقولون : انّا نحشمك برفع الصّوت في مجلسك والخصومة عنده والّا التّوفيق بين الخصمين بالتماس واسطة يصلح بيننا من دون الحمل على الحكم المرّ.

قيل : إنّ المعنىّ بالآية عبد الله بن أبىّ والمصيبة ما أصابها من الذلّ حال

٢٤٤

رجوعهم من غزوة بني المصطلق حتّى نزلت سورة المنافقين واضطرّ الى الخشوع والاعتذار كما يعلم من تفسير هذه الآية من مجمع البيان ، أو مصيبة الموت لما تضرّع الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإقالة والاستغفار واستوهبه ثوبه ليتّقى به النّار.

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من النّفاق والشرك (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ولا تعاتبهم على ذلك (وَعِظْهُمْ) خوّفهم من العقوبات ووعدهم؟؟؟ بالثّواب إن رجعوا وتابوا.

(وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ) يحتمل أن يتعلّق بقوله (قَوْلاً بَلِيغاً) اى قل لهم قولا بليغا في أنفسهم مؤثّرا في قلوبهم يغتمون به ويستشعرون عنه الخوف. وما يقال : إنّ معمول الصّفة لا يتقدّم على الموصوف فهو في غير الظّرف لتوسّعهم فيه.

ويحتمل أن يكون متعلّقة بلهم والمعنى قل لهم في أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطويّة على النّفاق قولا بليغا تبلغ بهم المراد بانّ الله يعلم ما في قلوبكم لا يخفى عليه فلا يفيدكم ابطانه وأصلحوا أنفسكم وطهّروا قلوبكم والّا نزل بكم النّقمة كما نزلت بالمجاهرين أو انّ المعنى قل لهم في أنفسهم خاليا بهم ليس معهم غيرهم سارّا لهم في النصيحة لأنّها في السرّ أنجع والّا مخاض أدخل.

وفيها إشعار بأنّ سبب نزول المصائب الذّنوب والحثّ على استعمال حسن الخلق بين النّاس والملايمة معهم وعدم الخشونة والغلظة في الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر ولو كان المقول له كافرا وناهيك بقوله تعالى لموسى وهارون (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً).

التاسعة ـ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) الفسوق الخروج عن الطّاعة ولعلّ المراد هنا ما يخرج به صاحبه عن العدالة فيكون المراد به الكبيرة ، والنّبإ الخبر وتنكيرهما يدلّ على ارادة العموم في كلا الموضعين والمعنى إذا جاءكم أىّ فاسق كان بأيّ خبر كان.

٢٤٥

(فَتَبَيَّنُوا) اى تعرّفوا وتفحّصوا وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحق ولا تعتمدوا قول الفاسق لانّ من لا يتحاشى جنس الفسوق لا يتحاشى الكذب الّذي هو نوع منه.

(أَنْ تُصِيبُوا) كراهة أصابتكم (قَوْماً بِجَهالَةٍ) اى جاهلين بحالهم (فَتُصْبِحُوا) فتصيروا (عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) مغتمّين غمّا لازما متمنّين انّه لم يقع.

قال البيضاوي : وتعليق الأمر بالتبيين على فسق المخبر يقتضي جواز قبول قول العدل من حيث أنّ المعلّق على شيء بكلمة ان عدم عند عدمه وانّ خبر الواحد لو وجب تبيّنه من حيث هو كذلك لما ترتّب على الفسق إذ التّرتّب يفيد العلّيّة.

ولا يذهب عليك أنّ ما ذكره يقتضي قبول خبر مجهول الحال فلا وجه لتقييد القبول بالعدل والأولى في بيانها انّ الفسق مانع القبول وعدمه شرط فيه فما لم يعلم رفع المانع وتحقّق وجود الشّرط لا يعمل فيخرج خبر المجهول.

وما يقال : انّ الأصل عدم الفسق وظاهر حال المسلم ذلك ومن ثمّ ذهب جماعة الى أنّ المسلم محمول على العدالة ما لم يظهر فسقه مدفوع بأنّه معارض بأصالة عدم فعل الطّاعات والواقع مثله كثير فلا وجه للحمل عليه ويلزم منه عدم الاعتماد فتأمّل.

وفي الآية دلالة على اعتبار العدالة في جميع ما يتعلّق بالأمور الشّرعيّة من الحكم والإفتاء والقدوة في الصّلاة ونحو ذلك ممّا فيه اعتماد على الغير باخباره ومن ثمّ اعتبر أصحابنا في الأجير للعبادة العدالة لا لانّ عبادته غير صحيحة في نفس الأمر بل لعدم قبول قوله في إيقاعها كما يعلم من محلّها.

العاشرة ـ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) اى دائمين على القيام بالعدل والمراد : لتكن عادتكم القيام بالعدل في القول والفعل.

٢٤٦

(شُهَداءَ لِلَّهِ) تقيمون شهاداتكم لوجه الله وطلبا لمرضاته غير ناظرين في ذلك أحدا سواه وهو خبر ثان أو حال عن اسم كان (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) بأن تقرّوا عليها وذلك لانّ الشّهادة بيان الحقّ سواء كان على الشّاهد أو على غيره.

(أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) اى ولو كانت عليهم (إِنْ يَكُنْ) المشهود عليه (غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) اى لا تمتنعوا عن الشّهادة لكون المشهود عليه غنيّا طلبا لرضاه أو فقيرا للترحّم عليه فانّ الله أولى بالغنىّ والفقير وبالنّظر في أمورهما ومعاشهما فلو لم تكن الشّهادة صلاحا لهما لما شرعها لانّه أنظر لعباده من كلّ ناظر وأشفق عليهم من كلّ مشفق.

فهو علّة الجواب أقيمت مقامه وضمير المثنّى راجع الى ما دلّ عليه المذكور وهو جنسا الغنى والفقير لا إلى أحدهما ولا لواحد ، امّا جعل ضمير يكن راجعا الى كلّ واحد من المشهود عليه والمشهود له كما صرّح به البيضاوي فغير واضح الوجه إذ لم يتقدّم ذكر المشهود له ودلالة السّوق على خلافه فتأمّل.

وفي الآية دلالة على جواز شهادة الولد على والده كما ذهب اليه بعض أصحابنا وهو صريح بعض أخبارنا ولكنّ الأكثر على العدم حتّى ادّعى الشّيخ في الخلاف عليه إجماع الطّائفة واحتجّ لهم العلّامة بأنّ الشّهادة عليه نوع عقوق وهو حرام بقوله تعالى (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) وليس من المعروف الشّهادة عليه والردّ لقوله وإظهار تكذيبه.

وفيه نظر امّا الإجماع فلا نعرفه الّا من دعوى الشّيخ وهو حجّة على من عرفه كما قاله في الدّروس ، وكون ذلك عقوقا ممنوع ، ولا نسلّم أنّ الشهادة عليه تنافي المصاحبة بالمعروف بل تؤكّدها إذ خلافها ليس معروفا كما هو الظّاهر ممّا نحن فيه.

وفيها أيضا دلالة على قبول شهادة العبد على سيّده كما هو الظّاهر من بعض الأصحاب والأكثر على المنع من ذلك وان جازت على غيره نظرا الى ظاهر

٢٤٧

بعض الأخبار مع انّه معارض بمثله وهو يوجب سلامة ظاهر الآية فيعمل بعمومها.

فلا يقال : يجوز أن تجب الإقامة وان لم يجب على الحاكم قبولها ان عرض عارض يمنع من قبولها كما يجب ردّ شهادة كثير من النّاس وان لم يسقط عنهم إقامتها لأنّا نقول : الردّ انّما يكون لمعارض خارج بخلاف ما نحن فيه. ثمّ أكّد وجوب الإقامة بقوله :

(فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى) يعنى هوى أنفسكم في إقامة الشّهادة فتشهدوا على الغنىّ دون الفقير ملاحظة مصالحكم (أَنْ تَعْدِلُوا) يحتمل كلا من العدل والعدول فكأنّه قيل : لا تتّبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين النّاس أو إرادة أن تعدلوا عن الحقّ.

(وَإِنْ تَلْوُوا) ألسنتكم عن شهادة الحقّ وتبدّلوها (أَوْ تُعْرِضُوا) عن أدائها وتكتموها وهو المرويّ عن أبى جعفر عليه‌السلام وقيل : انّه للحكام اى وإن تلووا في الحكم لأحد الخصمين على الآخر أو تعرضوا عن أحدهما إلى الآخر (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فيجازيكم على ما يصدر منكم من الأفعال الّتي نهاكم عنها كالتّحريف والاعراض.

وفيها دلالة على تحريم كتمان الشّهادة وتغييرها عمّا هي عليه. وقد روى ابن عبّاس في معنى قوله (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) أنّهما الرّجلان يجلسان بين يدي القاضي فيكون ليّ القاضي وإعراضه لأحدهما ، كذا في مجمع البيان وهو قريب من القول الثّاني.

الحادية عشر :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) اى كتم شهادة الله الّتي عنده انّه شهد بها وهي شهادته لإبراهيم عليه‌السلام بالحنيفيّة والإسلام وأنه ما كان على اليهوديّة والنصرانيّة حيث ادّعوا انّه كان على أحدهما ، والمعنى لا أحد أظلم من هذا حيث انّه كتم شهادة يعلم بها ، ويحتمل أن يتعلّق من الله بكتم اى كتمها من الله

٢٤٨

فلا تبذلها عند الطّلب كأنّه يريد إخفاءها منه تعالى فكأنّه لا يعلم انّ الله يعلمها والّا لم يكن للكتمان وجه.

أو المراد كتمها من عباد الله على حذف المضاف ويحتمل أن يكون صفة أخرى لشهادة والسّبب وان كان خاصّا على ما عرفت الّا أنّ العبرة بعموم اللّفظ فيمكن الاستدلال بها على تحريم كتمان الشّهادة مطلقا كما يمكن الاستدلال بها على تحريم كتمان الحكم والإفتاء ممّن له أهليّة ذلك ولا مانع له بقوله.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) نزلت في أحبار اليهود والنّصارى الّذين كتموا أمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ونبوّته وهم يجدونه مكتوبا في التّوراة والإنجيل مبيّنا فيهما فقيل ، هم المراد وقيل : انّه متناول لكلّ من كتم ما انزل الله وهو الأقوى لأنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب.

(مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ) اى الكتب المنزلة من عند الله اىّ كتاب كان وقيل هو التّوراة وقيل هو القرآن.

(أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ) يبعّدهم من رحمته بإيجاب العقوبة عليهم (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) اى من يأتي منه اللّعن والمراد انّه يدعوا عليهم بالبعد عن رحمة الله واللّاعنون هم المسلمون أنسا وجنّا أو الكفّار أيضا باعتبار لعنهم ذلك الشّخص في الآخرة كما ورد ذلك أو البهائم أيضا بأن يلهمهم الله الدّعاء عليهم باللّعنة بل كلّ مخلوق على ما قيل.

قال في مجمع البيان : وفي هذه الآية دلالة على أن كتمان الحقّ مع الحاجة الى إظهاره من الكبائر ويدخل في ذلك تحريم كتمان شيء من علوم الدّين أيضا وأنّه بمثابتهم في عظم الجرم ويلزمه كما لزمهم من الوعيد.

وقد روى عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله انّه قال : من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار. ثمّ قال أيضا : وفيها دلالة على وجوب الدّعاء الى التّوحيد والعدل لأنّ في كتاب الله ما يدلّ عليهما تأكيدا لما في العقول من الأدلّة.

٢٤٩

قلت : على هذا يمكن الاستدلال بها على تحريم كتمان الشّهادة بل على تحريم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الشّرائط لأنّ في كتاب الله ما يدلّ على ذلك. ولا يبعد الاستدلال بها على جواز لعن من يصدق عليه أحد الأمور المذكورة الموجبة بكتمان الحقّ لأنّ الله تعالى قد لعنه وأخبر باستحقاقه اللّعن من النّاس وغيرهم.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوه بالكتمان أو أخلصوا واستمرّوا على التّوبة ، أو ضموا العمل الصّالح إليها على ما تقدّم (وَبَيَّنُوا) أظهروا التّوبة ليعلم أنّهم تائبون ويعلم النّاس انّ ما فعلوه كان قبيحا ومن ثمّ قيل : من ارتكب المعصية سرّا كفاه التّوبة سرّا ومن أظهر المعصية يجب عليه أن يظهر التّوبة ، أو المراد بيّنوا التّوبة بإخلاص العمل.

ولا يبعد أن يكون أصلحوا وبيّنوا وأمثال ذلك ممّا وقع في القرآن بعد التّوبة إشارة إلى كمال التّوبة بالنّدم الى جميع المعاصي والعزم على تركها فيتخلّص من حقوق الله بالتّوبة ومن حقوق النّاس بإبراء الذّمّة من كلّ حقّ يحتاج إلى الإبراء.

(فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أقبل توبتهم والأصل في أتوب أفعل التّوبة فإذا وصل بعلى دلّ على انّ معناه قبولها.

(وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) صيغة المبالغة إمّا لكثرة ما يقبل التّوبة وامّا لانّه لا يردّ تائبا منيبا أصلا ، وفي وصفه بالرّحيم بعد وصفه بالتوّاب دلالة على انّه تعالى يسقط العقاب عند التّوبة تفضّلا منه ورحمة من جانبه كما ذهب إليه أصحابنا الإماميّة لا انّه واجب عليه عقلا كما ذهب إليه المعتزلة وقد وقع الإجماع منّا ومنهم على قبول التّوبة منه تعالى وإسقاط العقاب عندها وهو الظّاهر من الآيات وان اختلف في كون الاسقاط بالوجوب أو التّفضّل.

قال في مجمع البيان عند قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ).

٢٥٠

الآية» : «اعلم أنّ من شرط التّوبة النّدم على ما مضى من القبيح والعزم على ان لا يعود الى مثله في القبح فانّ هذه التّوبة أجمع المسلمون على سقوطه عندها. ثمّ قال : وقبول التّوبة وإسقاط العقاب عندها تفضّل من الله غير واجب عليه عندنا وعند جميع المعتزلة واجب وقد وعد الله بذلك وان كان تفضّلا وعلمنا انّه لا يخلف الميعاد».

ولا يذهب عليك أنّ آخر كلامه يدلّ على أنّ سقوط العقاب عندها واجب سمعا وهو كذلك لأنّه تعالى وعده فيجب الوفاء به وهذا لا ينافي قول المحقّق الطّوسي في التّجريد بعدم وجوب سقوط الذّنب عند التّوبة لأنّ مراده بعدم الوجوب عدم الوجوب عقلا فلا ينافيه الوجوب السّمعيّ.

لا يقال : قوله تعالى في سورة براءة (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ) الآية» صريح في عدم وجوب القبول سمعا فكيف دعوى الإجماع عليه.

لأنّا نقول : ليس في الآية تصريح بانّ ذلك مع التّوبة بل الظّاهر منها انّه تعالى يعفو الذّنب ممّن يشاء إذا لم تصدر منه التّوبة كقوله تعالى (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) فلا ينافي وجوب السّقوط عندها من جهة النّقل. امّا التّوبة عن قبيح مع الإقامة على قبيح آخر يعلم أو يعتقد قبحه فقد نسب في مجمع البيان صحّتها الى أكثر المتكلّمين وعدم الصحّة الى أبي هاشم وأصحابه.

ويدلّ على الأوّل : أنّ التّوبة إذا كانت عبارة عن النّدم على القبيح والعزم على عدم العود اليه فيجوز أن يقع ذلك في الكلّ والبعض ودليل القبول كما يجري في الكل يجري في البعض أيضا.

وما يقال : إنّ شرط التّوبة النّدم على القبيح والعزم على عدم العود اليه لكونه قبيحا وذلك انّما يتأتّى مع ترك الجميع ولا يتحقّق عن البعض دون البعض فمدفوع بأنّه على تقدير تسليم الشّرطيّة لا منافاة بين كون القبيح سببا للتّرك والنّدامة عن البعض دون البعض ألا ترى انّ الواجبات مشتركة في الحسن ولا يقال لمن فعل

٢٥١

بعضها دون بعض انّه لم يصحّ منه فعله.

والمحقّق الطّوسي وان حكم بعدم التّبعيض الّا انّه في آخر كلامه رجع عنه حيث قال : والتّحقيق أنّ ترجيح الدّاعي إلى النّدم عن البعض يبعث عليه وان اشترك الدّواعي في النّدم على القبيح لقبحه وهذا كما في الدّواعي إلى الفعل هذا.

واعتبار كون النّدم في التّوبة عن القبيح لكونه قبيحا حتّى لو كانت التّوبة لخوف العقاب وطمع الثّواب لم يكن صحيحة بعيد فإنّها واجبة وهما يصلحان وجها للوجوب ومن ثمّ لو نوى في الفعل الواجب القربة بهذا المعنى صحّت على المشهور وان خالف فيه جماعة ، نعم الإخلاص في النيّة بحيث لا يكون ملحوظا فيها شيء سوى وجهه تعالى أتمّ وأحسن الّا أنّ مثله انّما يتأتّى من أصحاب النّفوس القدسيّة وقد أشرنا إلى طرف من ذلك.

اللهمّ قرّبنا من رحمتك وباعد بيننا وبين معصيتك وعاملنا في أفعالنا بالحسنى وضاعف ثوابنا في الآخرة بما هو أجلّ وأسنى واجعل ما أثبتنا في هذه الأوراق حجّة لنا يوم نلقاك وذريعة في الوصول الى تحصيل رضاك [انك ذو الفضل القديم والمن العظم] آمين.

تم الكتاب والحمد لله

٢٥٢

فهرس

الجزء الرابع من مسالك الافهام

روافع النكاح

الأول الطلاق.................................................................... ٢

بحث في الطلاق في الحيض (في التعليقة)...................................... ٢٨ ـ ١٠

في العدة وأحكامها.............................................................. ٤٣

في الطلاق الثالث والمحلل........................................................ ٧٥

الثاني الخلع.................................................................... ٨٦

الثالث الظهار.................................................................. ٩٣

الرابع الايلاء................................................................. ١٠٧

الخامس اللعان................................................................ ١١٢

السادس الارتداد.............................................................. ١٢٥

٢٥٣

كتاب المطاعم والمشارب

في أصل الإباحة.............................................................. ١٢٦

ما فيه دلاله على تحريم بعض الأشياء............................................ ١٣٨

في أشياء من المباحات......................................................... ١٤٦

كتاب المواريث

ميراث الموالي.................................................................. ١٦٢

التعصيب.................................................................... ١٦٤

الحجب...................................................................... ١٧٠

تقدم الوصية على الدين....................................................... ١٧٣

بطلان العول والتعصيب....................................................... ١٨٣

كتاب الحدود

حدّ الزنا والمساحقة............................................................ ١٨٩

حدّ القذف.................................................................. ١٩٧

حدّ السرقه................................................................... ٢٠٣

حدّ المحارب.................................................................. ٢٠٩

كتاب الجنايات

القصاص في القتلى والعفو...................................................... ٢١٤

كفارة القتل.................................................................. ٢٢٧

الانتصاف عند القصاص...................................................... ٢٣٣

٢٥٤

كتاب القضاء والشهادات

الحكم بين أهل الكتاب........................................................ ٢٣٤

اطاعة الحكام ونفوذ قضائهم.................................................... ٢٣٩

التحاكم إلى الجبت والطاغوت.................................................. ٢٤٣

رد شهادة الفاسق............................................................. ٢٤٥

اداء الشهادات بالعدل والقسط................................................. ٢٤٧

حرمة كتمان الشهادة.......................................................... ٢٤٩

كلام في قبول التوبة........................................................... ٢٥٠

٢٥٥