مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٤

جواد الكاظمي

مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٤

المؤلف:

جواد الكاظمي


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٥٥

(ذلِكَ) إشارة إلى جميع ما تقدّم من الأحكام (تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) يعنى أنّ جعل القصاص في مقابلة قتل العمد والعفو عنه تخفيف من الله عليكم ورحمة لكم حيث لم يلزمكم بأحدهما فقط كما الزم اليهود القصاص فقط وأهل الإنجيل العفو فقط وظاهر انّ توسيع الأمر تخفيف.

(فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) بان قتل بعد العفو أو قبول الدّية وهو المرويّ عن الصّادقين عليهم‌السلام وقيل : بان قتل غير قاتله سواء قتله أيضا أم لا أو طلب أكثر ممّا وجب له من الدّية ، وقيل : بان تجاوز الحدّ بعد ما بيّن له كيفية القصاص ، وقال قوم : يحمل على الجميع لعموم اللفظ.

(فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة كذا في المجمع والكشاف ويحتمل كونه في الدّنيا أيضا بالقصاص والتّعزير :

الثالثة :

(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) أي في شرعه وإيجابه فإن القصاص ازالة الحياة وازالة الشيء لا يكون نفس ذلك الشيء وهو كلام في غاية الفصاحة والبلاغة لما فيه من الغرابة وذلك لانّ القصاص قتل وتفويت للحياة وقد جعل مكانا وظرفا للحياة ومن إصابة نحر البلاغة بتعريف القصاص وتنكير الحياة لأنّ المعنى ولكم في هذا الجنس من الحكم الّذي هو القصاص حياة عظيمة.

وذلك أنّهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة وكم قتل مهلهل بن ربيعة بأخيه كليب حتّى كاد يفنى بكر بن وائل وكان يقتل بالمقتول غير قاتله ، فتثور الفتنة ويقع بينهم التّشاجر فلمّا جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة وأيّ حياة أو نوع من الحياة وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل فإذا همّ بالقتل وعلم انّه يقتصّ منه ارتدع عنه وسلم صاحبه من القتل وسلم هو من القتل فكان القصاص سببا لحياة نفسين.

وهو نظير قول العرب : القتل أنفى للقتل إلّا أنّ ما هنا أكثر فائدة وأوجز عبارة وأبعد من الكلفة بتكرير الجملة وأحسن تأليفا بالحروف المتلائمة ليعلم ذلك

٢٢١

بأدنى التفات.

(يا أُولِي الْأَلْبابِ) اى العقول خصّهم بالخطاب لأنّهم الّذين يعرفون العواقب ويتصوّرون ذلك.

(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لكي تتّقوا أو على حال رجائكم وطمعكم في اتّقاء القتل خوفا أو اتّقائه تعالى واجتناب معاصيه وفي الآية دلالة ظاهرة على الفائدة في مشروعيّة القصاص وحكم القتل لذلك.

الرابعة :

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) نهى عن قتل النّفوس المحرّم قتلها من أفراد الإنسان (إِلَّا بِالْحَقِّ) استثناء ممّا تقدّم وذلك بأن يكون القتل لأحد أسبابه الموجبة له كان يرتدّ أو يقتل مؤمنا أو يزني بعد إحصان فإنّ القتل لأحد هذه الأسباب مباح بل واجب.

(وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً) قتل بغير سبب مبيح له بل ظلما وعدوانا قال الشّافعيّ التّنوين في مظلوما للتّنكير ليدلّ على أنّ المقتول ما لم يكن كاملا في وصف المظلوميّة لم يدخل في هذا الحكم ولا تحت هذا النّص فيعلم منه أنّ المسلم لا يقتل بالذّميّ لأنّ الذّميّ مشرك فانّ ذنبه غير مغفور كالمشرك فلا يكون كاملا في المظلوميّة فلا يندرج في الآية. وهو حسن.

(فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ) اى للذي يلي أمره بعد وفاته فان له المطالبة بدمه فان لم يكن له ولىّ كذلك فحاكم الشّرع وليّه.

(سُلْطاناً) اى تسلّطا بالمؤاخذة بمقتضى العقل على من عليه سواء كان القتل خطأ أو عمدا ويحتمل أن يكون المراد تسلّطا بالقصاص على القاتل لدلالة قوله مظلوما على أنّ القتل عمدا عدوان إذ الخطاء لا يسمّى ظلما فلا يكون مستفادا من الآية.

وفي الآية دلالة واضحة على أنّ استيفاء الحقّ من القصاص أو الدّية لا يتوقّف على اذن الحاكم لإطلاقها في تسلّط الولي وأصالة عدم التّوقّف على الاستيذان. وذهب

٢٢٢

جماعة على وجوب استيذانه سواء كان قصاص نفس أو طرف فيعزّر لو استقلّ به ويظهر ذلك من الطّبرسي في مجمع البيان وصرّح في الآية السّابقة بأنّ من يتولّى القصاص امام المسلمين وفيه نظر.

(فَلا يُسْرِفْ) أي الوليّ (فِي الْقَتْلِ) بأن يقتل من لا يستحقّ قتله أولا يتجاوز حدّ ما شرع له من القتل على وجه القصاص بأن لا يقتل اثنين بواحد أولا يمثل بالقاتل حال قتله.

(إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) علّة للنّهي على طريق الاستيناف والضّمير امّا للمقتول المظلوم فإنّه منصور في الدّنيا حيث أوجب القصاص بقتله وفي الآخرة بالثّواب العائد اليه ، وامّا للوليّ فإنّ الله نصره حيث أوجب القصاص له وأمر الولاة والمؤمنين بمعونته ، وامّا للّذي يقتله الوليّ إسرافا فإنّه حيث تعدّى عليه كان منصورا بشرع التفويض له حتّى لو فرض أنّ الوليّ مثل بقاتل أبيه ثمّ أراد قتله فشرع القصاص يقتضي استيفاء المثلة من الوليّ ثم القصاص وكذا لو قتل بواحد اثنين فإنّه يقتل بذلك الأخر. وبالجملة لا يتجاوز في طريق القتل ما حدّ له في الشّرع.

الخامسة :

(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) اى قاصدا قتله عالما بايمانه وحرمة قتله وعصمة دمه (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) في الآية وعيد شديد وتهديد بالغ في الغاية لمن قتل مؤمنا على العمد ومن ثمّ قال ابن عبّاس : لا تقبل توبة قاتل المؤمن عمدا والظّاهر أنّه أراد به التّشديد فإنّه قد روى عنه خلافه.

والحكم بالخلود امّا لانّه قتله لإيمانه ودينه فيكون مستحلّا له وهو يوجب ارتداده وكفره ويؤيّده ما روى الكليني عن سماعة عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن قول الله عزوجل (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) قال : من قتل مؤمنا على دينه فذلك العمد الذي قال الله عزوجل (الحديث).

٢٢٣

وما قيل انّها نزلت في مقيس بن صبابة وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النّجار ولم يظهر قاتله فأمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سلّم أن يدفعوا اليه ديته فدفعوها اليه ثمّ حمل على مسلم فقتله ورجع الى مكّة مرتدّا. وامّا لانّ الخلود في جهنّم بمعنى المكث الطّويل لا طلاقه عليه في الكلام كثيرا.

وقد تعلّق بظاهرها أهل الوعيد وحكموا بأنّ مرتكب الكبيرة مخلّد في النّار إذا لم يتب وفي الدّلالة بعد للاحتمال الأوّل فلا يكون في العصاة. سلّمنا انّهم المراد لكن يرد الاحتمال الثّاني فيسقط التّمسّك بها.

ولو قيل : انّ ما ذكر تموه خلاف الظّاهر من الخلود ونحن انّما نستدلّ بالظّاهر لأمكن أن نقول : قد وافقتمونا على أنّ الآية مخصوصة بمن لا يتوب وأنّ التّائب خارج عن عمومها.

وما روى عن ابن عبّاس من عدم قبول توبته محمول على سلوك سبيل التّغليظ والتّشديد في القتل كيف وقد روى عنه خلافه رواه الواحدي بإسناده إلى عطا ، عن ابن عبّاس أنّ رجلا سأله لقاتل المؤمن توبة؟ ـ قال : نعم فقيل له في ذلك فقال : جائني ذلك ولم يكن قتل فقلت : لا توبة لك لكي لا يقتل وجائني هذا وقد قتل فقلت : لك توبة لكي لا يلقى نفسه إلى الهلكة.

ومن قال من أصحابنا : انّ قاتل المؤمن لا يوفّق للتّوبة فلا ينافي ما قلناه لانّ هذا ان صحّ فإنّما يدلّ على انّه لا تختار له التّوبة وان كانت بحيث لو حصلت لازالت العقاب وإذا كان لا بدّ من التّخصيص في الآية بالتّوبة جاز أن يخصّ أيضا بمن تفضّل الله عليه بالعفو كما دلّ عليه قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ).

ولانّ الوعيد حقّه ولا قبح في تركه بل تركه كرما وفضلا لا تزال العرب تمدح فاعله ولا يعدّون مثله خلفا انّما الخلف أن يعد الخير ثمّ لا يفعله وقد ورد في الرواية عن الصّادقين عليهم‌السلام في ادعيتهم : «يا من إذا وعد وفى وإذا توعّد عفى».

٢٢٤

ولقد أحسن يحيى بن معاذ في هذا المعنى حيث قال : الوعد حقّ والوعيد حقّ فالوعد حقّ العباد على الله تعالى ضمن لهم إذا فعلوا كذا أن يعطيهم كذا ومن أولى بالوفاء من الله ، والوعيد حقّه على العباد قال لا تفعلوا كذا فاعذّبكم ففعلوا فان شاء عفى وان شاء أخذ لأنّه حقّه وأولاهما بربّنا العفو والكرم انّه غفور رحيم.

ولا يلزم الكذب في اخباره بالخلود على تقدير العفو لأنّها مقيّدة بمشيّة الخلود أو عدم مشيّة العفو وهو ظاهر. هذا والآية وان خلت عن ذكر القصاص في قتل المؤمن عمدا إلّا أنّه مراد قطعا كما دلّ عليه ظاهرها ولعلّ الاكتفاء لمعلوميّته.

السادسة

(وَما كانَ) وما صحّ وما جاز (لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً) بغير حقّ (إِلَّا خَطَأً) قال في الكشاف : انتصاب خطا على انّه مفعول له اى ما ينبغي له أن يقتله لعلّة من العلل إلّا للخطاء وحده ويجوز أن يكون حالا بمعنى لا تفعله في حال من الأحوال إلّا في حال الخطاء ، وأن يكون صفة للمصدر أي إلّا قتلا خطاء والمعنى أن من شأن المؤمن أن ينتفى عنه وجود قتل المؤمن ابتداء البتّة إلّا إذا وجد منه خطأ من غير قصد بأن يرمي الكافر فيصيب مسلما أو يرمي شخصا على انّه كافر فإذا هو مسلم.

وظاهر هذا الكلام أنّ الاستثناء متّصل ولا يرد عليه ما قيل : انّ اتّصال الاستثناء هنا يؤدّى الى الاذن بقتله خطاء وكيف يأذن الشّارع فيه؟ لانّ المعنى على ما ذكره في الكشاف هو : أنه لا يثبت ولا يوجد ولا يتحقّق من المؤمن قتل المؤمن إلّا في حال الخطاء من غير قصد كان يرمى كافرا إلخ فإنّه حينئذ يتحقّق منه ويوجد وهذا لا يستلزم ما ذكره.

وذهب الطّبرسيّ في مجمع البيان الى أنّ الاستثناء منقطع والكلام تمّ عند قوله : أن يقتل مؤمنا ثمّ قال : لكن ان كان القتل خطأ فحكمه كذا قال : وانّما لم يحمل قوله : الّا خطاء على حقيقة الاستثناء لانّ ذلك يؤدّى الى الأمر بقتل الخطاء أو اباحته ولا يجوز واحد منهما. وفيه نظر يعلم ممّا قلناه.

٢٢٥

ويمكن في توجيه اتّصال الاستثناء وجه آخر وهو : انّه يحرم على المؤمن قتل المؤمن في حال من الأحوال إلّا في حال الخطاء بان يظنّ عدم كونه مؤمنا بسبب اختلاطه بالكفّار فيظنّه منهم أو برؤيته من بعيد فيظنّه صيدا إذ يباح الرّمي في هاتين الصّورتين وان اتّفق القتل.

(وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) فعليه أو فالواجب تحرير رقبة (مُؤْمِنَةٍ) والتّحرير الإعتاق والمراد بالرّقبة هو الرقّ المملوك مطلقا وبالمؤمنة المسلمة اى المقرّة بالشّهادتين مطلقا ولا يشترط الايمان الخاصّ عند أكثر الأصحاب لأصالة عدم اشتراطه. والأكثر على اجزاء الطّفل المتولّد من المسلم لانّه بحكمه.

وأخذ بعضهم بظاهر الآية فاعتبر إقرارها بالايمان حقيقة واليه ذهب ابن الجنيد من أصحابنا وهو الظّاهر من حسنة معمر بن يحيى عن الصادق عليه‌السلام قال : كلّ العتق يجوز فيه المولود إلّا في كفّارة القتل فانّ الله تعالى يقول (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) يعني بذلك مقرّة قد بلغت الحنث.

ونحوها رواية الحسين بن سعيد عن رجاله عن الصّادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ العتق يحوز فيه المولود إلّا في كفّارة القتل فانّ الله تعالى يقول : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) يعني بذلك مقرّة قد بلغت الحنث.

امّا اعتبار الصّلاة والصّوم فيها كما اعتبره الطّبرسي في مجمع البيان فغير معلوم كونه قولا لأحد من أصحابنا ونسبه في الكشاف الى الحسن على أنّ ظاهر كلامه يعطى اعتبار العمل في الايمان وهو قول مرغوب عنه فيما بيننا وما اختاره الأكثر من اجزاء الصغير المتولّد من المسلم غير بعيد لانّه بحكمه في جريان أحكام الإسلام عليه من وجوب تغسيله وتكفينه لو مات وطهارته ونحو ذلك وصدق الإسلام عليه في العرف فهو مسلم شرعا وعرفا فيدخل في الآية والأصل عدم اشتراط البلوغ فتأمّل. نعم تقييد الرّقبة بالسّلامة من العمى والإقعاد ونحوهما إجماعي.

(وَدِيَةٌ) عطف على تحرير والمراد انّه يجب هنا حقّ آخر غير التّحرير وهو دية (مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) مؤدّاة إلى ورثته يقتسمونها كما يقتسمون الميراث ولا فرق

٢٢٦

بينها وبين سائر التّركة في كلّ شيء يقضى منه الدّين وينفذ الوصيّة الى غير ذلك ولا يرد أنّ عطف هذا على سابقه يقتضي كون الوجوب على القاتل كما في الكفّارة والوجوب هنا انّما هو على العاقلة لا على القاتل بخلاف الكفّارة لأنّ كونها على عاقلته بمثابة كونها عليه.

أو يقال : ظاهر الآية يقتضي كونهما معا عليه الّا أنّ النصّ والإجماع فرق بينهما وأوجبها على العاقلة فهو معلوم من خارج.

وبيان أحكام الدّية وتفصيل مقدار ما يؤدّى منها في كلّ عام ومن يؤدّيها يعلم من خارج. (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) أي الّا أن يصّدّق أهل المقتول بالدّية على من تجب عليه من العاقلة ويتركونها لهم وهو استثناء من التّسليم الواجب على كلّ حال الّذي دلّ عليه مسلّمة ، أو من عليه بمعنى عاقلته كما اقتضاه العطف فهو منصوب المحلّ على الحال.

والتّعبير عن الإبراء بالتّصدّق للحثّ عليه وللتّنبيه على فضله ونحوه قوله : وان تصدّقوا خير لكم ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ معروف صدقة. وفي ذلك دلالة واضحة على صحّة إبراء ما في الذمّة بلفظ التّصدّق وعلى أنّ التّصدق لا يختصّ العين بل يتحقّق في الدّين أيضا.

واعلم أنّ الظّاهر من قتل الخطاء انّه لا يتحقّق في شيء دون شيء بل جميع ما يتحقّق به القتل قد يقصد به القتل فيكون عمدا وقد لا يقصد فيكون خطا وعلى هذا فلو قتله بالمثقل عن قصد ثبت فيه العمديّة ولا عن قصد ثبت فيه الخطائيّة.

وقال أبو حنيفة : القتل بالمثقل ليس بعمد محض بل هو خطا أو شبه عمد فيكون داخلا تحت الآية فيجب فيه الدّية والكفّارة محتجّا عليه بقوله عليه‌السلام الا انّ قتيل السّوط والعصا فيه مائة من الإبل وهذا عامّ سواء كان السّوط أو العصا صغيرا أو كبيرا وفيه نظر فانّ الظّاهر أنّ العصا والسّوط محمولان على الخفيف لظهور أنّ من ضرب رأس انسان بقطعة جبل ثمّ قال : ما قصدت قتله ، لم يعبأ بقوله وهو ظاهر.

٢٢٧

واحتجّ أبو حنيفة أيضا بظاهر الآية على أنّ قتل العمد لا يوجب الكفّارة لأنّه شرط في الآية أن يكون القتل خطأ وعند انتفاء الشّرط لا يحصل المشروط وردّ بانّ وجوبها في العمد بطريق اولى وفي الأخبار دلالة عليه أيضا وبالجملة لا مخالف في هذا الحكم سوى أبي حنيفة فإنّه لم يوجب الكفّارة في العمد وهو ضعيف جدّا.

(فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فإن كان المقتول من جملة قوم هم عدوّ لكم اى كفّار مشركون يناصبونكم الحرب. وظاهر الشيخ أنّ من بمعنى في أي في عداد قوم قال : لانّ حروف الصّفات يقوم بعضها مقام بعض.

(فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أوجب تعالى في هذا القسم الكفّارة ولم يتعرّض للدية فلا تكون واجبة ويؤيّده أنّه سكت عن الدّية هنا مع ذكرها فيما قبلها وفيما بعدها وهو ظاهر في عدم وجوبها ونقل في مجمع البيان عدم وجوبها عن ابن عبّاس وهو المشهور بين علمائنا واحتجّ عليه الشيخ في الخلاف بأصالة براءة الذّمّة من الدّية ويؤيّده حديث حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

وقد يوجّه عدم الدّية في قتل هذا المسلم السّاكن في دار الحرب بأنّ إيجاب الدّية فيه تحوج الى أن يبحث الغازي عن كلّ شخص من اشخاص قطّان دار الحرب هل هو من المسلمين أم لا وذلك يوجب المشقّة والنّفرة عن الجهاد ، على انّه هو الّذي أهدر دم نفسه بسبب اختياره السّكنى فيهم.

ونقل الطّبرسي في مجمع البيان وجها لعدم الدّية : بأنّ القتيل إذا كان في عداد قوم أعداء وهو مؤمن بين أظهرهم ولم يهاجر فمن قتله فلا دية له وعليه الكفّارة لأنّ الدّية ميراث وأهله كفّار لا يرثونه وقريب منه ما قال صاحب الكشّاف والقاضي وظاهره أنّ علّة عدم الدّية هنا كون الورثة كفّارا محاربين ولا وراثة بين المقتول وبين أهله بسبب الكفر لكن هذا يقتضي وجوب الدّية لو كان بعض الورثة مسلمين والظّاهر من الآية خلافه كما يعطيه المقابلة.

وظاهر ابن إدريس وجوب الدّية في قتل هذا المؤمن وهو القول الآخر

٢٢٨

للشّافعيّ وقد يحتجّ له بعموم قوله تعالى (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) وعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يبطل دم امرئ مسلم وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في النّفس مائة من الإبل ، وهذه نفس.

قال ابن إدريس : «والدّية وان لم يذكر في الآية فقد علمناها بدليل آخر وهو الحديث المذكور ، والأصل الذي تمسّك به الشّيخ قد انتقلنا عنه بدليل الشّرع ثمّ قال : وأيضا فإجماع أصحابنا منعقد على ذلك لم يخالف فيه أحد منهم ولا أودعه كتابا ما خلا شيخنا أبا جعفر وإذا تعيّن المخالف في المسألة لا يعتدّ بخلافه» هذا كلامه.

وفيه نظر فإن الأدلّة المذكورة عامّة والآية الّتي تلوناها خاصّة فتكون مقدّمة عليها والإجماع غير معلوم بل دعوى الإجماع على خلافه غير بعيدة إذ لم يعهد من أصحابنا القول بوجوب الدّية من غير ابن إدريس وإذا تعيّن المخالف في المسألة لا يعتدّ بخلافه.

(وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) وان كان المقتول من جملة قوم أو في عداد قوم بان يكون «من» بمعنى «في» أي في كفره أهل ذمّة أو معاهدين ولا حرب بينكم وبينهم.

(فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) يلزم عاقلة القاتل كما سلف (وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) كفّارة عنه وظاهر الآية أنّ ضمير كان راجع الى المؤمن وحاصله أنّ المؤمن إذا كان في عداد أهل الذّمّة أو المعاهدين فقتل خطأ وجب على قاتله الدّية والكفّارة كما لو قتل في دار الإسلام وعلى هذا أصحابنا أجمع وجماعة من العامّة.

وقال أصحابنا : يعطي ديته ورثته المسلمين دون الكفّار فعندهم أنّ دفع الدية إلى أهله مقيّد بذلك كما أشعرت به رواياتهم ولو عدم أهله المسلمون فالظّاهر انّ ديته للإمام لأنّه وارث المسلم كما بيّن في محلّه.

وذهب أكثر العامّة الى أنّ ضمير كان يعود إلى الذّمّي أو المعاهد ، ولزوم الدّية علي قاتله بسبب العمد وهو بعيد عن السّياق لانّ الضّمائر في كان كلّها راجعة

٢٢٩

إلى المؤمن فلا ينبغي أن نصرفها هنا الى غيره إلّا بدليل والأصل عدمه.

تمّ انّ أبا حنيفة لمّا زعم انّ ضمير كان راجع الى الذّميّ أو المعاهد قال : انّ دية الذّميّ مثل دية المسلم لظاهر الآية وأنكره الشّافعيّ وقال : انّ دية الذّميّ ثلث دية المسلم ودية المجوسي ثلث خمسها هكذا روى من قضايا الصّحابة.

ولا يخفى عليك ضعف قول أبي حنيفة امّا على ما قلناه من رجوع ضمير كان الى المسلم فظاهر وأمّا على ما زعمه من رجوع الضّمير إلى الذمي أو المعاهد فلم لا يجوز أن يكون المراد من الدّية الثّانية مقدارا مغايرا للأوّل.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) رقبة مؤمنة يحرّرها امّا بان لا يجد الرّقبة والثّمن معا أو لم يجد أحدهما (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) الشّهر أعمّ من الهلالي أو العددي وان كان الأوّل أقرب من الثّاني تبادرا الى الفهم فلو نقصا لم يجب الإكمال على تقدير كون الابتداء من الأوّل بخلاف الثّاني لوجوب إكمال الثّلاثين فيه.

وظاهر الآية عدم الامتثال الّا بتتابع الجميع ومن ثمّ ذهب أكثر العامّة إلى انّه لو أخلّ بالتّتابع ولو يوما واحدا ولو كان بالمرض وجب عليه الاستيناف لعدم التتابع الّا أن يكون الفطر لحيض أو نفاس لكنّ أصحابنا قالوا : انّه يحصل بشهر ويوم من الثّاني للخبر وفي تجويز التّفريق من غير اثم بعد ذلك من دون عذر فيما بينهم بلا خلاف فيه مع اتّفاقهم على الاجزاء والعبد على النّصف من ذلك فيجب عليه صيام شهر متتابع ويحصل التّتابع في حقّه في خمسة عشر يوما على طريقة ما تقدّم.

(تَوْبَةً مِنَ اللهِ) نصب امّا على المصدريّة أو على انّه مفعول له اى تاب الله عليكم توبة بالكفّارة اى قبلها منكم أو شرع ذلك للتّوبة اى لقبولها من تاب إذا قبل التّوبة ومن الله صفة التّوبة واعترض بأنّه لا ذنب له في القتل خطأ فلا يحتاج إلى التّوبة ويمكن أن يقال : الكلام جار على ما ذكر في خواطرهم من أن قتل المؤمن يوجب الإثم اى ان زعمتم انّ ذلك اثم فانّ الله قد تاب عليكم.

ويحتمل أن يكون المراد بالتّوبة انّه لا يخلو من ترك احتياط ومن ندم وأسف على ما فرط منه واحتمل في مجمع البيان أن يراد بالتّوبة هنا التّخفيف من الله في

٢٣٠

النّقل من الرّقبة إلى الصّوم لانّه تعالى انّما جوّز للقاتل العدول الى الصّيام تخفيفا ويكون كقوله (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ).

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بكلّ شيء من الأشياء (حَكِيماً) فيما يأمر به وينهى عنه مطلقا وخفاء الحكمة في بعض الأوقات علينا مثل التّوبة في هذا المقام وإيجاب الكفّارة والدّية مع عدم التكليف وكذا إيجابها على العاقلة من غير مدخليتّها لا يستلزم نفى الحكمة لقصور أفهامنا عن التّفكر لها والوصول الى العلم بها.

السابعة :

(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها) اى فرضنا وأوجبنا على اليهود لتقدّم ذكرهم في التوراة (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) اى يقتل بها إذا قتلها بغير حقّ (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) أي تفقأ بها (وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ) اى يجدع به (وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ) اى يقطع بها (وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ) اى يقلع به (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) اى كلّ جرح يمكن القصاص فيه غير المذكورات كالشّفتين والذّكر والأنثيين واليدين والرّجلين ونحوها فإنّه يثبت لصاحبه القصاص فيه وكذا في الجراحات فإنّه يقتصّ بمثلها الواضحة بالواضحة والهاشمة بالهاشمة والمنقلة بالمنقلة الّا المأمومة والجائفة لعدم إمكان القصاص فيهما لبلوغ الأولى أمّ الرّأس والثّانية الجوف واستلزام القصاص فيهما التّغرير بالنّفس كما قالوه فيجب فيهما الدّية المقدّرة.

وكذا ما لا يمكن القصاص فيه من رضّ لحم أو فكّ عظم أو جراحة يخاف فيها التلف وفيها أرش مقدّرة معلومة في محالّها. وليس في الحكم إجمال بعد تفصيل بل عموم بعد خصوص ويخص من العموم بعض أفراده لأدلّة اقتضته. والقصاص مصدر يراد به المفعول اى الجروح مقاصّة بعضها ببعض.

(فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ) اى بالقصاص الّذي وجب له ، وتصدّقه به عبارة عن العفو عنه وإسقاطه من ذمّة الجاني (فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) اى للمتصدّق الّذي هو المجروح أو ولىّ الدّم يكفّر الله ذنوبه به وفيه حثّ على العفو وعن أبى بصير قال : سألت أبا عبد الله

٢٣١

عليه‌السلام عن قول الله عزوجل (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) قال : يكفّر عنه ذنوبه بقدر ما عفى من جراح وغيرها.

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) حيث ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي الموجبة للعقاب. واختلف في المراد بمن ، فقيل : هم اليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله ، وقيل : هو عامّ في كلّ أحد وهذا هو الظّاهر لعموم اللّفظ وهو يوجب أن يكون هذا الحكم ثابتا في شريعتنا وان كان مكتوبا في التوراة ولا خفاء في ذلك لتظافر الأخبار به وانعقاد إجماع الأمّة عليه.

الثامنة :

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) سمّى الفعلة الثّانية سيّئة مع انّها ليست كذلك للازدواج أو لأنّها تسوء من تنزل به والمعنى انّه يجب فيما إذا قوبلت الإساءة أن تقابل بمثلها من غير زيادة أو تجاوز عمّا فعل به ، ونحوها في الدّلالة على اعتبار المجازاة والمكافاة من غير تجاوز عن المحدود قوله تعالى (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ). الآية).

(فَمَنْ عَفا) عمّاله المؤاخذة به (وَأَصْلَحَ) بينه وبين خصمه بالتّجاوز والإغضاء ويمكن أن يراد بالإصلاح العفو الحسن الغير المشتمل على الأذى والمنّة.

(فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) عدة مبهمة تدل على عظم الموعود به (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).

قال الشّيخ في التبيان : «قيل في معناه وجهان : أحدهما انّى لم ارغّبكم في العفو عن الظّالم لأنّي أحبّه بل لأنّي أحب الإحسان والعفو. والثّاني انّى لا أحبّ الظّالم بتعدّيه ما هو له الى ما ليس له في القصاص ولا غيره.

قلت : وعلى الثّاني فيه تنبيه على انّ الانتصار لا يكاد يؤمن فيه من يتجاوز السّوء والاعتداء خصوصا في حال التهاب الحميّة فربّما كان المجازي من الظّالمين وهو لا يشعر. وفيها دلالة واضحة على حسن العفو وعدم الانتقام فإنّه موجب للأجر العظيم كما أشعر به قوله تعالى (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) فإنّ الّذي يكون على الله تعالى يكون شيء عظيم لا يقدر عليه غيره.

٢٣٢

ودلّ على ذلك غيرها من الآيات كقوله تعالى (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) وقوله (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) وقوله (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) ونحوها.

وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له على الله أجر فليقم قال : فيقوم خلق كثير فيقال لهم : ما أجركم على الله؟ ـ فيقولون : نحن الذين عفونا عمّن ظلمنا. فيقال لهم : ادخلوا الجنّة بإذن الله.

التاسعة ـ

(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) من اضافة المصدر الى المفعول وتنصر قراءة والمراد به أخذ حقّه بعد ما ظلم وتعدّى عليه.

(فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) من اثم ولا اعتراض فإنّه أخذ ما كان له وفيها دلالة على جواز القصاص في النفس والطّرف والجروح من غير توقّف على حاكم الشّرع ، وقيل : معناه أنّ له أن ينتصر على يد سلطان عادل بان يحمله اليه ويطالبه بأخذ حقّه منه لانّ السّلطان هو الذي يقيم الحدود ويأخذ للمظلوم من الظّالم.

قال الشّيخ في التّبيان : ويمكن الاستدلال بذلك على أنّ من ظلمه غيره يأخذ ما كان له إذا قدر أن يأخذ من ماله بقدره ولا اثم عليه. وظاهره أنّ الآية محمولة على العموم من الجنايات والمال ويؤيّد العموم قوله :

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) يبتدؤنهم بالظلم والإضرار ويأخذون ما ليس لهم ويعتدون عليهم تجبّرا وظلما.

(وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) على ما صدر منهم من الظّلم والبغي بغير الحقّ.

العاشرة ـ

(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) اى تمّم وكمّل ما أمر (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ان هي المخفّفة من الثّقيلة وهي مع ما بعدها في محل الجر بيان لما في صحف موسى أو في محلّ الرّفع على أنّه خبر مبتدا محذوف اى هو الا تزر

٢٣٣

وازرة الى آخره والجملة استينافيّة كأنّه قيل : ما في صحف موسى وإبراهيم؟ فأجاب به. وفيها دلالة على عدم جواز مؤاخذة غير الجاني بذنبه ولا أخذ شيء من شخص بسبب فعل شخص آخر الّا انّه مستثنى من ذلك بالنّص والإجماع أخذ الدّية من العاقلة مع كون الجاني غيرها.

ولا ينافي ظاهر الآية قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من سنّ سنّة سيّئة فعليه وزر من عمل بها الى يوم القيامة لأنّ ذلك من وزره ، ولا قوله (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) لأنّ ذلك لسنّة سنّوها.

٢٣٤

كتاب القضاء والشهادات

وفيه آيات : الاولى ـ

(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) أمر له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بان يحكم بين أحبار اليهود بما انزل الله اليه وعدم جواز متابعة أهوائهم فيجب علينا ذلك أيضا والأمر للوجوب.

الثانية :

(فَلا وَرَبِّكَ) معناه فو ربّك لنسألنّهم ولا مزيدة لتأكيد معنى القسم كما زيدت في لئلّا يعلم لتأكيد وجوب العلم (لا يُؤْمِنُونَ) جواب القسم (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) اختلف واختلط ومنه الشّجر لتداخل أغصانه والمعنى انّهم لا يزعمون أنّ الايمان يحصل لهم بمجرّد اللّسان مع المخالفة بالقلب وعدم الرّضا بالحكم إذا لم يوافق طباعهم وانّما تحصل لهم حقيقة الإيمان إذا جعلوك حاكما عليهم فيما وجد منهم من المخالفة في أمورهم.

(ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) ممّا حكمت اى لا تضيق صدورهم من حكمك ولا التشكيك فيه (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) اى ينقادوا ويذعنوا لما تأتى به من قضائك لا يعارضونه بشيء وتسليما تأكيد للفعل بمنزلة تكريره كأنّه قيل : وينقادوا لحكمك انقيادا لا شبهة فيه بظاهرهم وباطنهم فإذا حصل منهم ذلك حصل منهم الايمان.

وفي الآية دلالة تامّة على الرّضا بالحقّ وعدم التّضجّر به بل هو مناف للايمان وليس ذلك مخصوصا به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ الظّاهر أنّ ذلك لعدم متابعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحكامه وهي الّتي نزل به القرآن ووردت به السّنّة المطهّرة فحيث ما تحقّق إنكار الحقّ من عالم بها ترتّب عليه الأمر المذكور إذ هو نفس إنكار حكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢٣٥

الثالثة :

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) اى من كتم حكم الله الّذي أنزله في كتابه سواء حكم بغيره أو لم يحكم لكنّه أخفى حكم الله مستهينا به معتقدا أنّ ذلك الكتمان هو الحقّ (فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) لاستخفافهم بالشّرع وإنكارهم الضّروري من الدّين وبدون القيد هم الظّالمون لحكمهم بخلاف الحق والفاسقون لخروجهم عن الشّرع. وانّما عمّمنا الحكم لما في الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام الواردة بأنّ الحكم بغير ما انزل الله كفر.

روى أبو بصير قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : من حكم في درهمين بغير ما انزل الله عزوجل فهو كافر بالله العظيم ، وروى عبد الله بن مسكان مرفوعا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من حكم في درهمين بحكم جور ثمّ جبر عليه كان من أهل هذه الآية (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) فقلت : وكيف يجبر عليه؟ ـ فقال : يكون له سوط ويجبره فإن رضى به والّا ضربه بسوطه وحبسه.

ووجه الكفر عدم الانقياد إلى أوامر الله وعدم الاعتراف بها كما أشرنا إليه. وروى البراء بن عازب عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ الايات الثلاث في الكفّار خاصّة أورده مسلم في الصّحيح.

الرابعة ـ

(وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ) الخطاب للولاة والحكام والكلام معطوف على ما قبله أي يأمركم حال الحكم بين النّاس ان تحكموا بالعدل اى بالإنصاف والتّسوية من غير ميل الى أحد الخصمين فقد روى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال لعلىّ عليه‌السلام : سوّ بين الخصمين في لحظك ولفظك.

قال في مجمع البيان : وورد في الآثار : أنّ صبيّين ارتفعا الى الحسن بن على عليهما‌السلام في خط كتباه وحكماه في ذلك ليحكم اىّ الخطين أجود فبصر به علىّ

٢٣٦

عليه‌السلام فقال : يا بنىّ انظر كيف تحكم فانّ هذا حكم من الله يسائلك عنه يوم القيامة ولا يخفى ما فيه من المبالغة في العدل حال الحكم ، والآية ظاهرة في وجوبه فليكن الحاكم على حذر من مخالفة ذلك.

الخامسة ـ

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) اى القرآن (بِالْحَقِّ) حال منه (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) اى بما أعلمك الله من الأحكام المنزلة بالوحي فالاراءة هنا من الرؤية بمعنى العلم لا بمعنى الاعتقاد والرأي الّذي يحصل من الاجتهاد كما زعمه من جوّز الاجتهاد على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وما يقال : انّها لو كانت بمعنى العلم لاستدعت ثلاثة مفاعيل فضعيف أمّا أوّلا فلجواز كون ما مصدريّة وامّا ثانيا فلأنّ الجملة المتعلقة بها العلم تقوم مقام المفعولين ومتعلّق الاعلام هنا الأحكام المنزلة وهي بمعنى الجمل فلا اشكال.

وما ذكره القاضي من وجه النّزول افتراء على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاستلزامه انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله همّ ان يعين الخائن وهو بعيد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والّذي أورده في مجمع البيان : أنّ أبا طعمة بن أبيرق قد نقب عليه رفاعة بن زيد وأخذ له طعاما وسيفا ودرعا فشكى رفاعة الى ابن أخيه قتادة بن النّعمان وكان قتادة بدريا فتجسّسا في الدّار وسألا أهلها فقال بنو أبيرق : ما صاحبكم الّا لبيد بن سهل رجل ذو حسب ونسب فأصلت لبيد سيفه وخرج إليهم وقال : يا بنى مسروق أترموني وأنتم أولى فاندفعوا عنه.

وأتى قتادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله إنّ أهل بيت منّا أهل سوء غدوا على عمّى فخرقوا عليه من ظهرها وسر قواله طعاما وسلاحا فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنظر في شأنكم فلمّا سمع بذلك رجل من بطنهم الّذي هم منهم جمع رجالا من أهل الدّار ثم انطلق الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : انّ قتادة وعمّه عمدا الى أهل بيت منّا لهم حسب ونسب ورموهم بالقبيح.

فلمّا أتى قتادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك ليكلّمه جبهة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جبها

٢٣٧

شديدا وقال : عمدت الى أهل بيت ذو حسب ونسب تأتيهم بالقبيح؟ ـ فقام قتادة من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورجع الى عمّه فقال : ليتني متّ ولم أكن كلمت محمّدا فنزلت ، وبلغ أبا طعمة ما نزل فهرب إلى مكة وارتدّ كافرا.

وليس في ذلك شيء سوى انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصم عمّن رآه على ظاهر الايمان وكان في الباطن بخلافه (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ) اى لأجلهم والذب عنهم (خَصِيماً) للبراءة أو المراد بذلك أمّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما قاله في مجمع البيان ، أو المراد لا تبادر بالخصام والدفاع عن أحد الخصمين الّا بعد ان تبيّن وجه الحقّ فيه.

السادسة ـ

(فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) الظاهر من أكثر التّفاسير أنّ الآية نزلت في اليهود الّذين تحاكموا إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقيل : انّها في بني قريظة وبنى النّضير لمّا تحاكموا اليه ومقتضى الآية تخيير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن يقوم مقامه من الأئمة حتى العلماء إذا تحاكم إليهم أهل الكتاب بين أن يحكموا بينهم بالعدل الذي هو مقتضى شرع الإسلام وبين أن يعرضوا عنهم ويحيلوهم على شرعهم ان كان في شرعهم حكم ، وعلى هذا أصحابنا الإماميّة ووافقهم الشّافعية.

وأوجب الحنفيّة انّهم إذا احتكموا إلينا حملوا على حكم الإسلام واختاره القاضي في تفسيره قال : لأنّا التزمنا الذب عنهم ودفع الظلم منهم ثم قال : والآية ليست في أهل الذمّة ولا يخفى ما فيه من مخالفة المفسّرين في ذلك لحكمهم بأنّها في أهل الذّمّة ويؤيّده السّابق عليها واللّاحق لها فإنّها بيان لأحوالهم ودفع الظّلم عنهم لا تعين الحكم عليهم فانّ دفع الظّلم واجب سواء التزمنا الذّب أو لا عن المسلم والكافر إذ الظلم قبيح ودفعه مهما أمكن واجب.

وحيث بيّنا أنّ أصحابنا على التّخيير بين الأمرين ورواياتهم عن أئمّتهم متظافرة بذلك اندفع ما ذهب اليه بعضهم من انّها منسوخة بقوله (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) لانّ ذلك لا ينافي التخيير إذ على تقدير اختيار الحكم بينهم بمقتضى شرعنا يجب

٢٣٨

ذلك قطعا كما دلّ عليه قوله :

(وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) اى العدل الّذي أمر الله به ، على أنّا نقول : التّخيير بين الحكم والاعراض ممّا انزل الله فالحاكم بكلّ من الأمرين حاكم بما انزل الله فتأمّل.

السابعة ـ

(وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي) اى لا تستبدلوا بها (ثَمَناً قَلِيلاً) تقييده بالقلّة لا يدلّ على انّه إذا كان كثيرا يجوز شراؤه به لانّ المقصود منه أنّ اىّ شيء باعوا به آيات الله كان قليلا وانّه لا يجوز أن يساويه فانّ كلما في الدّنيا قليل بالنّسبة إلى الآخرة : قال في مجمع البيان : وفي هذه الآية دلالة على تحريم أخذ الرّشا في الدّين لانه لا يخلو امّا أن يكون أمرا يجب إظهاره أو يحرم إظهاره فالأخذ على كلا الوجهين حرام ثم قال : وهذا الخطاب متوجّه أيضا الى علماء السوء من هذه الأمة إذا اختاروا الدّنيا على الدّين فيدخل فيه الشهادات والقضايا والفتاوى وغير ذلك.

الثامنة ـ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ) اى الزموا طاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه. (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في ذلك أيضا لأنّ طاعته طاعته ومن يطع الرّسول فقد أطاع الله وأفراده بالطّاعة تفخيما لشأنه.

(وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) قيل هم العلماء المجتهدون وقيل : أمراء المسلمين الحكام عليهم وان كانوا جائرين وهذا هو المشهور بين العامّة فهم يوجبون طاعة حكام الجور وان كانوا فسّاقا وهذا القول واضح الفساد وكيف يأمر الله بطاعة ظالم ويقرنه مع نفسه ورسوله في الإطاعة مع انّه نهى على الإطلاق عن ادنى ميل اليه بقوله : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ).

قال في الكشاف : المراد بأولى الأمر منكم أمراء الحقّ لأنّ أمراء الجور الله ورسوله منهم بريئان فلا يعطفون على الله ورسوله في وجوب الطّاعة لهم وانّما يجمع

٢٣٩

بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل واختيار الحقّ والأمر بهما والنهي عن أضدادهما. وقال عند قوله تعالى (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ما يدل على منع أبي حنيفة من قبول الدّعوة من حكام الجور ولو على أمر مشروع.

وممّا ينبّه على فساد ذلك أنّ حكام الجور كثيرون فقد يختلفون فلا يعلم متابعة أيّهم تجب ، ولانّه يجب على الرّعيّة منعهم إذا ارتكبوا منكرا وتركوا معروفا من باب الحسبة فكيف تجب إطاعتهم.

ولو قيل : انّما تجب إطاعتهم لو أمروا بالعدل وكانوا على الحقّ لا مطلقا لقلنا : ظاهر انّه تعالى لا يأمر بإطاعة من يكون جائرا على غير الحقّ وان كان ما يأمر به في مادّة خاصّة موافق للحق والعدل لعدم وقع من هذا حاله في النّفوس حتّى ينقاد إلى أمره وهو ممّا ينافي الحكمة من الأمر بالاتباع ولأنّه إذا كان المأمور به حقّا فلا خصوصيّة له بهم بل هو واجب في نفسه.

والّذي رواه أصحابنا عن الباقر والصّادق عليهما‌السلام انّ المراد بأولى الأمر هنا هم الأئمّة من آل محمّد عليهم‌السلام أوجب الله طاعتهم على الإطلاق كما أوجب طاعته وطاعة رسوله وهذا هو المناسب لحكمته تعالى فإنه لا يجوز أن يوجب طاعة أحد على الإطلاق الّا من ثبت عصمته وعلم أنّ باطنه كظاهره وأمن منه الغلط والأمر بالقبيح وذلك لا يحصل في الأمراء ولا في العلماء سواهم عليهم‌السلام جلّ تعالى أن يأمر بطاعة من يعصيه.

ويدلّ على ذلك انّه تعالى لم يقرن طاعة اولى الأمر بطاعة رسوله كما قرن طاعة رسوله بطاعته الا وأولوا الأمر فوق الخلق جميعا كما أنّ الرّسول فوق اولى الأمر وفوق سائر الخلق وهذه صفة أئمّة الهدى من آل محمّد صلوات الله عليهم الّذين ثبتت إمامتهم وأمانتهم وعصمتها واتّفقت الأمّة على علوّ مرتبتهم.

(فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) فان اختلفتم في شيء من أمور دينكم (فَرُدُّوهُ) اى المتنازع فيه (إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) والمخاطب بهذا الخطاب هو المخاطب بالإطاعة أعنى الرّعيّة كما يقتضيه نظم الكلام ولعلّ عدم ذكر اولى الأمر هنا نظرا الى أنّ الرّدّ إليهم في الحقيقة

٢٤٠