مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٤

جواد الكاظمي

مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٤

المؤلف:

جواد الكاظمي


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٥٥

مات امرء (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) ذكرا أو أنثى بواسطة أو بغيرها لانّ المطلق من الولد يتناول جميع ذلك لغة وعرفا والمراد ولا والد أيضا ، ولعلّ عدم التّصريح به لانّ لفظ الكلالة يدلّ عليه لما مرّ أنّها ليس بوالد ولا ولد ، وان أبيت ذلك فقيل ، هو مقيّد بعدمه أيضا للإجماع على عدم ميراث الاخوة مع الأب والجملة امّا صفة امرء أو حال من المستكنّ في هلك.

(وَلَهُ أُخْتٌ) أي من الأبوين أو الأب وحده لانّ حكم الأخت من الامّ فقط قد مضى في الآية السّابقة على ما بيّناه والواو يحتمل الحاليّة أو العطف.

(فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) ومقتضى الآية أنّ استحقاق الأخت للنّصف مع عدم الولد وفقده وقد عرفت أنّ الولد يقال للذّكر والأنثى بواسطة أو لا فيلزم ان لا ترث مع البنت شيئا بمقتضى ظاهر القرآن والى هذا يذهب علماؤنا ، وفي الأخبار الواردة عن أئمّة الهدى عليهم‌السلام دلالة على ذلك أيضا.

واستشكل فيه العامّة لقولهم بالتّعصيب فحمل في الكشّاف الولد المنفي على الابن نظرا الى أنّ الابن يسقط الأخت ولا تسقطها البنت. وقال القاضي : «الولد على ظاهره فإنّ الأخت وان ورثت مع البنت عند عامّة العلماء غير ابن عبّاس لكنّها لا ترث النّصف أراد أنّها لا ترثه بالفريضة وانّما ترثه بالعصوبة في مادّة خاصّة ومن ثم لا ترث مع الابن أو الابن والبنت معا وترث أقلّ من النّصف مع البنتين».

والحقّ أنّ ذلك بعيد عن ظاهر القرآن لا يصار إليه من غير موجب قوىّ والتّوارث بالعصبة غير ثابت بدليل يستند إليه مع قوله تعالى (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) حيث نصّ فيها على أنّ سبب استحقاق الميراث القربى وتداني الأرحام كما أشرنا إليه سابقا.

(وَهُوَ يَرِثُها) اى المرء يرث أخته على تقدير كونها الهالكة.

(إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) ذكر أو أنثى بواسطة أو لا لصدق الولد عليه كما عرفت والمراد ولا والد أيضا لعدم إرث الأخ مع وجود الأب أو الأمّ كما سبق.

قال القاضي : «ان أريد بيرثها يرث جميع مالها فالمنفيّ الولد مطلقا ذكرا

١٨١

أو أنثى وإلّا فالمراد به الذّكر إذ البنت لا تحجب الأخ» وقريب منه ما قال في الكشّاف وهو بناء على ما أصّلوه فاسدا من توريث العصبة المعلوم بطلانه بظاهر القرآن خصوصا هنا.

فانّ ظاهر القرآن اقتضى أنّ ارث الأخ مشروط بعدم الولد والولد كما يقع على الذّكر يقع على البنت أيضا بإجماع أهل اللّغة وما استندوا في تخصيصه إلى أخبار دلّت عليه فهي معارضة بمثلها من طرقهم أيضا ومع التّعارض يتساقطان ويجب الرّجوع إلى ظاهر القرآن وقد انعقد إجماع أهل البيت عليهم‌السلام على بطلان الميراث بالتّعصيب وهو حجّة قاطعة.

(فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) الأخ أو الأخت وضمير كانتا يرجع إلى من يرث بالاخوّة وتثنيته من حيث المعنى.

(وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً) أصله وان كانوا اخوة وأخوات فالمراد بالاخوة ما يشمل الأخوات تغليبا لحكم الذّكور.

(فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ) أحكام مواريثكم (أَنْ تَضِلُّوا) أي كراهة أن تضلّوا وتخطئوا في الحكم بها ، وقيل : المعنى يبيّن لكم ضلالكم الّذي من شأنكم إذا خلّيتم وطباعكم لتحترزوا عنه وتتحرّوا خلافه ، وقيل : لئلّا تضلّوا فحذف لا وعليه الكوفيّون.

(وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فهو عالم بمصالح العباد في المحيي والممات وكذا في تقسيم المواريث فلا يفعل إلّا ما هو أصلح بحالهم دينا ودنيا.

واعلم أنّ الآية السّابقة أعني قوله (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) تضمّنت ميراث الأولاد والإباء والآية التي بعدها أعنى قوله (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) الآية ، تضمنت ميراث الأزواج والزّوجات والاخوة والأخوات من قبل الامّ ، وهذه الآية تضمّنت بيان ميراث الاخوة والأخوات من قبل الأبوين أو الأب مع عدمهم كما يعلم من الأخبار وقد سبق جانب منها.

وقد ظهر ممّا ذكرناه أنّ معظم الخلاف بيننا وبين مخالفينا في الفرائض

١٨٢

والمواريث في ثلاثة أشياء أحدها العصبة ، وقد أشرنا سابقا الى بطلان القول بها وبيّنا أنّ الميراث بالفرض لا يجتمع فيه إلّا من كانت قرباه إلى الميّت واحدة كالبنت أو البنتين مع الوالدين أو أحدهما فمتى انفرد واحد منهم أخذ المال كلّه بالفرض والباقي بالرّدّ ومع الاجتماع يأخذ كلّ واحد منهم ما سمّى له والباقي يردّ عليهم ان فضل على نسبة سهامهم وان نقص لمزاحمة الزوج أو الزّوجة بهم كان النّقص داخلا على البنت والبنات دون الأبوين أو أحدهما ودون الزّوج أو الزّوجة.

ولا يجتمع مع الأولاد ولا مع الوالدين ولا مع أحدهما من يتقرّب بهما كالكلالتين فإنّهما لا يجتمعان مع الأولاد ذكورا كانوا أو إناثا ولا مع الوالدين ولا مع أحدهما أبا كان أو أمّا لما عرفت من أنّ المعتبر في الاستحقاق القرب والتّداني إلى الميّت وغير هؤلاء ليس بمثابتهم في القرب وتداني الأرحام.

الثّاني ـ العول وهو يدخل في المواضع الّتي ينقص فيها المال عن السّهام المفروضة فيه والّذي يذهب إليه أصحابنا الإماميّة رضوان الله عليهم : أنّ المال إذا ضاق عن سهام الورثة قدّم ذو والسّهام المذكورة من الزّوجين والأبوين على البنات والأخوات من الأب والامّ أو من الأب فقط وجعل الفاضل عن سهامهم لهنّ كما أشرنا إليه فيكون النّقص داخلا على البنت والبنات في صورة اجتماع الزّوج والأبوين ، وعلى الأخوات من الأبوين أو أحدهما في صورة اجتماع الزّوج معهنّ.

وقال المخالف : إذا ضاق المال عن سهام الورثة قسّم بينهم على قدر سهامهم كما يفعل في الدّيون والوصايا إذا ضاقت التركة عنها فيوزّع بحيث يكون النّقص داخلا على الجميع وحاصله أن يلحق السّهم الزّائد على الفريضة ويقسّم على الجميع.

وتسميته عولا امّا من الميل لكون الفريضة عائلة على أهلها لميلها عليهم بالجور بسبب نقصان سهامهم ، أو من عال الرّجل إذا كثر عياله لكثرة السّهام فيها ، أو من عال إذا غلب لغلبة أهل السّهام بالنقص.

والّذي يدلّ على صحّة ما ذهبنا اليه بعد الإجماع ورود الأخبار المتظافرة عن أهل البيت عليهم‌السلام وكان ابن عبّاس يقول من شاء باهلته عند الحجر الأسود انّ الله

١٨٣

عزوجل لم يذكر في كتابه نصفين وثلثا وقال أيضا : سبحان الله العظيم أترون الّذي أحصى رمل عالج عددا جعل في مال نصفا ونصفا وثلثا وهذان النّصفان فأين موضع الثلث؟.

فقال زفر : يا ابن عباس فمن أوّل من أعال الفرائض؟ ـ فقال : عمر لمّا التقت الفرائض عنده ودفع بعضها بعضا قال : والله ما أدري أيّكم أقدّم وأيّكم أؤخّر وما أجد شيئا هو أوسع من أن أقسّم عليكم هذا المال بالحصص قال ابن عبّاس : لو قدّمتم من قدّم الله وأخّرتم من أخّر الله ما عالت الفريضة.

فقال له زفر : وأيّها قدّم وأيّها أخّر؟ ـ فقال : كلّ فريضة لم يهبطها الله الّا الى فريضة فهذا ما قدم الله وأمّا ما أخّر فكلّ فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها الّا ما يبقى فتلك الّتي أخر فأمّا الّتي قدّم فالزّوج له النّصف فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع الى الرّبع لا يزيله عنه شيء ومثله الزّوجة والامّ وامّا الّتي أخّر ففريضة البنات والأخوات لها النّصف والثّلثان فإذا أزالتهنّ الفرائض عن ذلك لم يكن لهنّ الّا ما بقي فإذا اجتمع ما قدّم الله وما أخّر الله بدأ بما قدّم الله واعطى حقّه كاملا فإن بقي شيء كان لمن أخّر (الحديث).

ويدلّ عليه أيضا انّ المال إذا ضاق عن السّهام كما لو ماتت امرأة وخلفت ابنتين وأبوين وزوجا فانّ المال يضيق عن الثّلثين والسّدسين والربع فنحن بين أمرين إمّا أن ندخل النّقص على الجميع كما يقوله المخالفون أو ندخله على البعض دون البعض ، وقد أجمعت الأمّة هنا على أنّ البنتين لا يأخذان الثلثين كملا فتكونان منقوصتين بلا خلاف ومن عداهما لم يقع إجماع على نقصه من سهامه ولا قام دليل عليه بل ظاهر الكتاب يقتضي أنّ له سهما معلوما فيجب أن نوفيه ونجعل النّقص لا حقا بمن اجمع على النّقص فيه.

الثالث ـ الرّدّ اى ردّ ما فضل عن فرض ذوي السّهام من الورثة فعندنا أنّ الفاضل يردّ على ذوي السّهام بقدر سهامهم كمن خلف بنتا وأبا فللبنت في التّسمية النّصف وللأب في التّسمية السّدس وما بقي بعد ذلك فهو يردّ عليهما بقدر حصصهما

١٨٤

فللبنت ثلثة أرباعه وللأب ربعه. وذهب المخالف الى أنّ الفاضل يردّ على عصبة الميّت فان فقد فالى بيت المال.

ويدلّ على بطلان قولهم بعد الإجماع ظاهر قوله تعالى (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) الآية حيث دلّت على أن من هو أولى بالرّحم وأقرب به أولى بالميراث وقد علمنا أنّ قرابة الميّت وذوي أرحامه أولى بميراثه من المسلمين وبيت المال ، وأصحاب السّهام غير الزّوجين أقرب الى الميّت من عصبته فوجب أن يكون فاضل السّهام إليهم مصروفا.

ولعلّ حجة المخالف ظاهر قوله تعالى (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) الآية حيث جعل للأخت النّصف إذا مات أخوها ولا ولد ولم يرد عليها فدلّ على انّها لا تستحقّ أكثر من النّصف بحال من الأحوال.

والجواب أنّ النّصف انّما وجب لها بالتّسمية لأنّها أخت والزّائد إنّما تأخذه بمعنى آخر وهو الرّدّ بالرّحم ، وليس يمتنع أن ينضاف سبب الى آخر فانّ الزّوج إذا كان ابن عمّ ولا وارث معه ، ورث النّصف بالزّوجيّة والنصف الآخر للقرابة عندنا وللعصبة عندهم وعلى هذا فذكر أحد السّببين لا ينفى السّبب الآخر. وهذه جملة نافعة هنا. وتمام الكلام يطلب من الفروع.

السابعة : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ) عصبتى وبنى عمّى سمّوا موالي لأنّهم الّذين يلونه في النسب بعد الصّلب (مِنْ وَرائِي) متعلّق بمحذوف أو بمعنى الموالي اى خفت فعلهم من ورائي أو الّذين يلون الأمر من ورائي أي بعد موتى وانّما خشي منهم لأنّهم كانوا شرار بني إسرائيل.

(وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) لا تلد وهو يطلق على كلّ من الرّجل الّذي لا يولد له والمرأة الّتي لا تلد (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) اى من عندك (وَلِيًّا) اى وارثا من صلبي وهذا هو الظّاهر وعليه أكثر المفسّرين وقيل : إنّه طلب من يقوم مقامه ولدا كان أو غيره وهو بعيد لقوله في آل عمران (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً)

١٨٥

وقوله (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً). الآية.

(يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) الآل خاصّة الرّجل الّذي يؤل أمرهم إليه.

ثمّ الفعل ان قرئ مجزوما كان جواب الدّعاء وان قرئ مرفوعا فالأكثر على انّه صفة وقال صاحب المفتاح : الأولى حمله على الاستيناف كأنّه قيل لم تطلب الولد؟ فقال مجيبا : يرثني أي لأنّه يرثني لئلّا يلزم أنّه لم يوهب من وصفه فإنّ يحيى مات قبل زكريّا.

واعترض بأنّ حمله على الاستيناف يوجب الاخبار عمّا لم يقع وكذب النّبيّ أشنع من كونه غير مستجاب الدّعوة وأجيب بأن عدم ترتّب الغرض من طلب الولد لا يوجب الكذب هذا وفي الحكم بكون موت يحيى قبل زكريّا بحث فانّ في أخبارنا المعتبرة الإسناد ما يدلّ على أنّ موت زكريّا قبل يحيى وأنّ يحيى ورث الكتاب والحكمة وهو صبيّ صغير وروى ذلك الكليني أيضا في الكافي في باب حالات الأئمّة عليهم‌السلام في السن.

(وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) واجعل ذلك الولد الذي يرثني مرضيّا عندك ممتثلا لأمرك عاملا بطاعتك مجانبا عن معصيتك. وفي الآية دلالة واضحة على أنّ الأنبياء يورّثون المال كما في غيرهم من آحاد النّاس فان زكريّا عليه‌السلام صرّح بدعائه وطلب من يرثه ويحجب بنى عمّه وعصبته من الولد.

وحقيقة الميراث انتقال ملك الموروث الى ورثته بعد موته بحكم الله لانّ ذلك هو المتبادر من الإرث ، وحمله على العلم والنّبوّة خلاف الظّاهر لا يصار اليه الّا مع الموجب القوىّ والضّرورة الدّاعية وهي هنا غير معلوم على أنّ النّبوّة والعلم لا يورثان لأنّ النّبوّة تابعة للمصلحة لا دخل للنّسب فيها والعلم موقوف على من يتعرّض له ويتعلّمه.

ولانّ زكريّا إنّما سأل وليّا من ولده يحجب مواليه من بنى عمّه وعصبته من الميراث وذلك لا يليق الّا بالمال لأنّ النّبوة والعلم لا يحجب الولد عنهما غيره بحال ، ولأن طلبه أن يجعله رضيّا لا يليق بطلب النّبوّة لأنّ النّبيّ لا يكون الّا

١٨٦

رضيّا معصوما فلا معنى لمسألته وليس كذلك المال لانّه يرثه الرّضىّ وغيره.

ويؤيّد ذلك عموم آيات الإرث ، ومن هنا يبطل ما يذهب اليه المخالفون من انّ المراد وراثة الشّرع والعلم وانّ الأنبياء عليهم‌السلام لا يورّثون المال استنادا الى خبر رووه ويزيد بطلانه أنّ ما ذكروه من الخبر لم يثبت صحّته فلا وجه للتّخصيص به.

على انّه لو سلّم صحّته ففي تخصيص الكتاب بخبر واحد مثله سيّما إذا أنكره كثير ولم يروه الّا واحد مع التّهمة في ذلك الواحد بعيد جدّا. والمجوّزون للتّخصيص انّما يجوّزونه بالخبر الصّحيح النّاصّ وهو منتف فيما ذكروه وكيف يتحقق ارث العلم والشّرع مع أنّ ظاهره الانتقال من محلّ الى آخر كما هو الظّاهر من الإرث ولا انتقال في العلم.

وبالجملة فقولهم هنا ليس الّا عنادا محضا وعدولا عن الحقّ.

واستدلّ بعض من اعترف بانّ المراد بالوراثة هنا وراثة المال بهذه الآية على أن البنت لا تحوز المال كلّه بالميراث دون بنى العمّ والعصبة لأنّ زكريّا عليه‌السلام انّما طلب وليّا يمنع مواليه وعصبته ولم يطلب ولية ، قال الشيخ في التبيان : وهذا ليس بشيء لأن زكريا عليه‌السلام انما طلب وليا لانّ من طباع البشر الرّغبة في الذّكور دون الإناث من الأولاد فلذا طلب الذّكر على انّه قيل : انّ لفظ الوليّ يطلق على الذّكر والأنثى فلا نسلّم انّه طلب الذّكر بل الّذي يقتضيه الظّاهر انّه طلب ولدا سواء كان ذكرا أو أنثى.

الثامنة :

(وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) اى قسمة التّركة (أُولُوا الْقُرْبى) أي قرابة الميّت ممّن لا يرث منه (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ) قيّدهم في مجمع البيان بالأقارب وهو خلاف الظّاهر من الكشاف. (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) اى فأعطوهم من المقسوم والظّاهر أن المخاطب بذلك الورثة البالغون أمروا بان يرزقوا المذكورين شيئا من الإرث تطييبا لقلوبهم وتصدّقا عليهم.

وقد اختلف في هذا الأمر هل هو للوجوب أو النّدب فقيل : بالأوّل ونسخ بآية المواريث والحق أنّ النّسخ بعيد لكونه خلاف الأصل وعدم المنافاة بينها و

١٨٧

بين ما ظنّ أنّه ناسخ لها وقد نقل في مجمع البيان عن أكثر المفسّرين والفقهاء انّها محكمة غير منسوخة قال : وهو المرويّ عن الباقر عليه‌السلام.

ونقل في الكشاف عن سعيد بن جبير أنّ أناسا يقولون نسخت والله ما نسخت ولكنّها ممّا تهاون به النّاس ، ويمكن حملها على النّدب فلا وجه لنسخها حينئذ ولانّ الظّاهر انّه لا قائل بالوجوب.

ويؤيّده قوله (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) إذا الظّاهر أنّ ذلك على النّدب بان يدعوا لهم بالرّزق من الله ، ويمكن حملها على استحباب الطّعمة كما يقوله أصحابنا وفيه بعد فإنّها مقيّدة بشروط لا يمكن فهمها من الآية. وقيل : انّ الإعطاء مختصّ بالورق والعين وامّا الأرضون والرقيق فلا بل يقولون قولا معروفا اى يعتذرون إليهم في ذلك فيقولون لهم : ارجعوا بورك فيكم.

وقيل : انّ المخاطب بذلك المريض إذا حضرته الوفاة والمراد الأمر بالوصيّة لمن لا يرثه بشيء من ماله ولا يخفى بعده عن حضور القسمة.

وبالجملة الإفتاء بظاهرها من وجوب الإعطاء للمذكورين مشكل لعدم ظهور القائل ، وحملها على الطّعمة بعيد ، وحمل الأمر فيها على النّدب مع عدم ظهور المعارض أشكل والاحتياط يقتضي العمل بظاهرها مهما أمكن لأنّها محكمة على ما عرفت وظهور الأمر في الوجوب والله اعلم.

١٨٨

كتاب الحدود

وهو أقسام الأول حد الزنا وفيه آيات :

الاولى :

(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) اى يفعلها يقال : أتى الفاحشة وجاءها وغشيها ورهقها إذا فعلها ، والفاحشة الزّنا لزيادة فحشها وشناعتها ونقل في مجمع البيان إجماع المفسّرين على أنّ المراد بها هنا الزّنا ومعنى من نساءكم من زوجاتكم أو من الحرائر من نساءكم المؤمنات.

(فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) اى فاطلبوا ممّن ادّعى إتيانهنّ الفاحشة أربعة من رجال المؤمنين يشهدون عليهنّ والخطاب للحكّام والأئمّة وذلك عند عدم الإقرار بالفاحشة. وفيها دلالة على أنّ عدد الشّاهد في الزّنا أربعة رجال من المسلمين فلا تسمع شهادة النّساء منفردات ولا منضمّات امّا اعتبار العدالة فيعلم من موضع آخر.

(فَإِنْ شَهِدُوا) يعني الأربعة (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) فاحبسوهن فيها واجعلوها سجنا عليهنّ (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) على تقدير مضاف اى ملك الموت كما وقع التّصريح به في قوله تعالى (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) أو المراد يستوفى أرواحهنّ بالموت ويمتن في البيوت.

والأكثر من المفسّرين على أنّ الآية منسوخة لأنّ الفرض في أوّل الإسلام قد كان إذا زنت المرأة وقامت عليها البيّنة بذلك ان تحبس في البيوت ابدا حتّى تموت ثمّ نسخ بالرّجم في المحصنين والجلد في البكرين ، ويحتمل أن يكون المراد منها التّوصية بامساكهنّ بعد أن يجلدن كيلا يجرى عليهنّ ما جرى بسبب الخروج و

١٨٩

التّعرض للرّجال ويكون عدم ذكر الحدّ استغناء عنه بقوله (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي). الآية.

وعلى هذا فلا تكون منسوخة ويؤيّده انّ النّسخ خلاف الأصل فلا يصار اليه الّا مع موجب قوىّ ، واحتمل بعضهم أن يكون المراد بالفاحشة المساحقة ويؤيّده عدم ذكر الرجال وتخصيص الحكم بالنساء ، قال الراوندي : هذا خلاف ما عليه المفسّرون لأنّهم متّفقون على أنّ الفاحشة المذكورة في الآية هي الزّنا وهو المروي عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليهما‌السلام (١).

(أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) كتعيين الحدّ المخلّص عن الحبس أو النّكاح المغني عن السّفاح ، ويؤيّد الأوّل ما رواه عبادة بن الصّامت انّه لمّا نزل قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا). الآية. قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خذوا عنّى قد جعل الله لهنّ سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عامّ والثيّب بالثيّب جلد مائة والرّجم.

ولا يذهب عليك أنّه على هذا لا يتمّ النّسخ فانّ الحبس حينئذ لم يكن مؤبّدا بل ممتدا إلى غاية وظاهر أنّ بيان الغاية لا يكون نسخا ومن شرط النسخ كون الحكم على وجه لولا الناسخ لكان مستمرّا وذلك لا يتحقّق في المغيّى بغاية وفيه أنّ الغاية إذا كانت المدّة كما في قوله : افعل هذا الى رأس الشّهر فإنّه مع انتهائه يرتفع الحكم بلا نسخ امّا لو قال : افعلوا هذا الفعل الى أن أبيّن لكم فالظّاهر أنّه بعد البيان يكون ناسخا إذ لولاه لكان مستمرّا فتأمّل.

الثانية :

(وَالَّذانِ يَأْتِيانِها) اي يفعلان الفاحشة بمعنى الزّنا (مِنْكُمْ فَآذُوهُما) بالتّوبيخ والتّقريع بأن يقولوا لهما أما استحييتما أما خفتما الله أما لكما في النّكاح مندوحة؟ وقيل بالتعزير والجلد.

__________________

(١) انظر مجمع البيان ، ج ٢ ، ص ٢١.

١٩٠

(فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) اى فاقطعوا عنهما الإيذاء وأعرضوا عنهما بالإغماض والستر.

(إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) علة الأمر بالاعراض وترك المذمّة ، وقد اختلف في المراد بهذه الآية فقيل انّها في البكرين خاصّة دون الثيبين والأولى في الثيبين دون البكرين ونسختا بآية الجلد والرّجم.

وقيل : انّهما في شيء واحد وانّ هذه كانت سابقه على الاولى نزولا وكان عقوبة الزّنا الأذى ثمّ الحبس على الوجه السّابق ثمّ الجلد اى نسخ الحكم مرّة بعد أخرى الى ان استقرّ في الجلد.

وقيل : انّ المراد بالفاحشة هنا اللّواط على أنّ المراد بقوله تعالى (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها) الرّجلان يخلوان بالفاحشة بينهما وفي الآية السّابقة المساحقة الحاصلة بين النّساء ونقله في مجمع البيان عن ابن مسلم قال : وحكم الآيتين عنده ثابت غير منسوخ والى هذا التّأويل يذهب أهل العراق فلا حدّ عندهم في اللّواط والسّحق.

ثمّ قال : وهذا بعيد لأنّ الّذي عليه جمهور المفسّرين أن الفاحشة في الآية الزّنا وانّ الحكم فيها منسوخ بالحدّ المفروض في سورة النّور ، وقد يقال : لو كان المراد بالفاحشة هنا اللّواط كما قالوه لم يلزم عدم الحدّ فيه إذ يجوز أن يكون المراد بالأذى إقامة الحدّ عليه أعنى القتل الّذي هو أعلى مراتبه كما بيّن من خارج لا التّقريع باللّسان فقط.

ولو قلنا أنّ الحكم فيها منسوخ بالحدّ فالمراد أنّ الاقتصار على الأذى والتّقريع باللّسان قد نسخ الى الحدّ اللّازم على الزّاني لا أنّ الأذى نسخ إذ هو حكم لم ينسخ فإنّ الزّاني يؤذى ويعنف من باب النهي عن المنكر ويذمّ على فعله لكنّه لم يقتصر عليه بل زيد فيه بأن أضيف الجلد أو الرّجم اليه.

وفي الآية دلالة على وجوب ترك الأذى بعد التّوبة ولعل المراد بالإصلاح الكون على التّوبة بحيث يفهم عرفا انّه صلح حاله. واقتضى مفهوم الشّرط انّهما ما لم يتوبا

١٩١

لا يسقط عنهما الأذى بالتّقريع وأن التّوبة بنفسها مسقطة للأذى من غير حاجة الى شيء آخر.

الثالثة : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) قدّم الزّانية لأنّ الزّنا في الأغلب يكون بسبب تعرّضها للرّجل وعرض نفسها عليه فهي الأصل فيه وقدّم الزّاني عليها في آية النّكاح لأنّها مسوقة لذكر النّكاح والرّجل هو الأصل فيه ، وارتفاعهما على الابتداء والخبر محذوف اى فيما يتلى عليكم حكم الزّانية والزّاني.

والخبر (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) بتقدير مقول في حقّهما والفاء لتضمّن معنى الشّرط إذ اللّام بمعنى الّذي ، وعلى قراءة النّصب فهو بفعل مضمر يفسّره ما بعده ، والمخاطب بذلك الأئمّة عليهم‌السلام بالإجماع ومن ثمّ احتجّ به بعضهم على وجوب نصب الامام نظرا الى أنّ ما لا يتمّ الواجب الّا به فهو واجب.

ومقتضى ذلك أنّ السّيّد لا يملك اقامة الحدّ على مملوكه وهو اختيار الأكثر نظرا الى أنّ الخطاب للأئمّة بالاتّفاق ولم يذكر الفرق بين الأحرار والعبيد ، وأيضا لو جاز للمولى أن يسمع شهادة الشهود على عبده بالسّرقة فيقطعه فلو رجعوا عن شهادتهم وجب ان يتمكّن من تضمين الشّهود وليس له ذلك بالاتّفاق لانّه ليس لأحد أن يحكم لنفسه.

وأجاز الشّافعيّ إقامة السّيد الحد على مملوكه محتجا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقيموا الحدود على ما ملكت ايمانكم وهو غير ظاهر في مدّعاه لجواز ارادة رفع القضيّة الى الامام ليقيم عليه الحدّ فتأمّل.

واللّفظان ظاهران في العموم إذ المراد كلّ امرأة زنت وكلّ رجل زنى ويؤيّده قوله (كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما) فإنّه يفيد العموم عرفا ، وأنكر صاحب الكشاف عموم الزّانية والزّاني وتناوله المحصن وغيره نظرا إلى انّهما يدلّان على الجنسين المتنافيين لجنسي العفيفة والعفيف دلالة مطلقة والجنسيّة قائمة في الكلّ والبعض جميعا فأيّهما قصد المتكلّم فلا عليه كما يفعل في الاسم المشترك هذا كلامه وفيه بعد

١٩٢

وقد سبق نظيره وانّ الحقّ فيه العموم.

وهذا العموم مخصوص بالإجماع والأخبار بالحرّ والحرّة غير المحصنين فلو كان عبدا أو أمة ينصّف عليهما الحدّ كما اقتضاه قوله (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ).

وقال بعض الظّاهريّة : عموم قوله الزّانية والزّاني يقتضي وجوب المائة على العبد والأمة الّا انّه ورد النّصّ بالتّنصيف في حقّ الأمة فلو قسنا العبد عليه لزمنا تخصيص عموم الكتاب بالقياس ومنهم من قال : الأمة إذا تزوّجت فعليها خمسون لقوله (فَإِذا أُحْصِنَ) اى تزوّجن (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) فإذا لم تتزوّج فعليها المائة للعموم ، واتّفاق العلماء على خلاف هذين القولين يردّهما.

ولو كانا محصنين أو أحدهما كان على المحصن الرّجم بلا خلاف بين العلماء.

وأنكر الخوارج الرّجم لانّه لا ينتصف وقد قال تعالى (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) ، ولانّه تعالى أطنب في أحكام الزّنا ما لم يطنب في غيره ولو كان الرّجم مشروعا لكان أولى بالذّكر ، ولأنّ قوله (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) يقتضي وجوب الجلد على كلّ الزّناة وإيجاب الرّجم على البعض يقتضي تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد والعلماء كافة خالفوهم في ذلك.

وأجابوا عن الأوّل بأنّ الرّجم حين انّه لم ينتصف لم يشرع في حقّ العبد فخصّص العذاب بغير الرّجم للدليل العقلي وللأخبار ، وعن الثّاني أنّ الاحكام الشرعيّة كانت تتجدد بحسب المصالح فلعل المصلحة الّتي اقتضت وجوب الرّجم حدثت بعد نزول هذه الآية ، وعن الثّالث بانّ تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد جائز وقد بيّناه في الأصول على أنّا لا نسلّم أنّها أخبار آحاد بل وجوب الرّجم ثبت بالتّواتر.

وهل يجب الجلد معه بان يجلد أوّلا مائة جلدة ثمّ يرجم قيل : نعم وهو اختيار جماعة من علمائنا كالشيخ المفيد وابن الجنيد وسلّار ، وذهب جماعة منهم الى انّ ذلك مخصوص بالشيخ والشيخة إذا زنيا وكانا محصنين ولو كانا شابّين محصنين لم

١٩٣

يكن عليهما غير الرّجم وهو خيرة الشيخ في النّهاية والأوّل غير بعيد لانّ الشّابين المحصنين داخلين في هذه الآية لكونهما زانيين واستحقاقهما الرّجم لا ينفى استحقاقهما الجلد الثّابت بها.

ويدلّ عليه أيضا صحيحة (١) محمّد بن مسلم عن الباقر عليه‌السلام : في المحصن والمحصنة جلد مائة ثمّ الرّجم ونحوها من الأخبار.

ولعلّ حجّة الشّيخ فيما ذهب اليه ما رواه عبد الله بن طلحة (٢) عن الصّادق عليه‌السلام قال : إذا زنى الشيخ والعجوز جلدا ثمّ رجما عقوبة لهما وإذا زنى المحصن من الرّجال رجم ولم يجلد إذا كان قد أحصن. وفي صلاحيتّها لتخصيص الآية نظر لضعفها مع إمكان حملها على وجه آخر.

والشّيخ في التبيان وافق الجماعة قال عند تفسير هذه الآية : يجلد الزّانية والزاني إذا لم يكونا محصنين كلّ واحد منهما مائة جلدة وإذا كانا محصنين أو أحدهما كان على المحصن الرّجم بلا خلاف وعندنا انّه يجلد أوّلا مائة مرّة ثمّ يرجم وفي أصحابنا من خصّ ذلك بالشّيخ والشّيخة إذا زنيا وكانا محصنين فامّا إذا كانا شابّين محصنين لم يكن عليهما غير الرّجم وهو قول مسروق انتهى.

وأنكر أكثر العامّة وجوب الجمع بين الرّجم والجلد بل منعوا من الجلد على من يجب عليه الرجم مستدلّين بأنّه لم يثبت عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الجمع بينهما.

فاعترض عليهم بما روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه جمع بينهما فأجابوا بانّ ذلك محمول على مثل ما روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ رجلا زنى بامرأة فأمر به النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجلد ثمّ أخبر انّه كان محصنا فأمر به فرجم قالوا : وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الثيّب بالثيّب جلد مائة ورجم بالحجارة متروك العمل ، وكلامهم هذا ضعيف وتأويلهم فاسد.

وهل يجب الجمع بين الجلد والتّغريب في حد غير المحصن أثبته أصحابنا والشّافعيّة وأنكره الحنفيّة زاعمين انّ التغريب مفوّض إلى راى الامام قالوا : وما

__________________

(١) التهذيب ج ١٠ ص ٤.

(٢) انظر التهذيب : ج ١٠ ، ص ٤ الرقم ١٠. والاستبصار : ج ٤ ، ص ٢٠٠.

١٩٤

روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عامّ وكذا ما روى عن الصّحابة انّهم جلدوا ونفوا منسوخ أو محمول على وجه التّعزير والتّأديب لا الوجوب.

واحتجّوا على ذلك بانّ إيجاب التغريب يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد وذلك لأنّ إيجاب الجلد ترتّب على الزنا بالفاء الّتي هي للجزاء ومعنى الجزاء كونه كافيا في ذلك فإيجاب شيء آخر غير الجلد يقتضي نسخ كونه كافيا ، ولانّ التغريب لو كان مشروعا لوجب على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توقيف الصّحابة عليه عند تلاوة هذه الآية ولو فعل لاشتهر مع أنّ أبا هريرة روى انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في الأمة إذا زنت فاجلدها فان زنت فاجلدها فان زنت فبعها ولم يذكر التغريب.

والجواب أنّ إيجاب الجلد في الآية لا ينافي إيجاب التغريب وعدمه بل يحصل مع كلّ منهما فلا إشعار في الآية بأحد القسمين إلّا أنّ عدم التغريب لمّا كان موافقا للبراءة الأصليّة كان إيجابه بخبر الواحد لا يزيل إلّا محض البراءة فلا يلزم نسخ القرآن به ، وقول النّحاة انّ الجزاء انّما سمّى جزاء لانّه كاف في الشّرط فلا يصلح حجّة في الأحكام ولا استبعاد في عدم اشتهار بعض الأحكام كأكثر المخصّصات ، والاخبار الواردة في نفى التغريب معارضة بأخبار أخر دلّت على ثبوته.

وبالجملة فقول الحنفيّة ضعيف والإحصان الموجب للرّجم في الرّجل على ما قاله الشّيخ في النّهاية : هو أن يكون له فرج يتمكّن من وطيه ويكون مالكا له سواء كان بالعقد أو بملك اليمين ويراعى في العقد الدّوام فإنّ المتعة لا تحصن ولا فرق بين أن يكون الدائم على حرّة أو امة أو يهوديّة أو نصرانيّة فإنّ جميع ذلك يحصن الرّجل وملك اليمين أيضا محصن.

والإحصان في المرأة مثل الإحصان في الرجل سواء وهو أن يكون لها زوج يغدو إليها ويروح يخلى بينه وبينها غير غائب عنها قد دخل بها حرّا كان أو عبدا وهذا هو المشهور بين أصحابنا وظاهر ابن الجنيد وابن أبى عقيل اعتبار إسلام الزّوجة وحريّتها في الإحصان بل يظهر من ابن الجنيد اعتبار حريّة الرّجل أيضا وهو بعيد والأظهر الأوّل.

١٩٥

(وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) اى رحمة فيمنعكم من اقامة الحدّ عليهما.

(فِي دِينِ اللهِ) في طاعته واقامة حدوده فانّ ذلك يوجب تعطيل حدود الله والتّسامح فيها ، أو المراد لا تأخذكم بهما رأفة يمنع من الجلد الشّديد بل اوجعوها ضربا ولا تخفّفوا عنهما ، وفيها دلالة على تحريم ترك الحدّ أو بعضه كما أو كيفا رحمة لهما بل تحريم مطلق الرحمة والرأفة عليهما وفي الحديث يؤتى بوال نقص من الحدّ سوطا فيقال له : لم فعلت ذلك؟ فيقول : رحمة لعبادك فيقول له : أنت ارحم منّى بهم؟ ـ فيؤمر به الى النّار.

(إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فانّ الايمان بهما يقتضي الجدّ في طاعة الله والاجتهاد في إقامة حدوده واحكامه ولا يخفى ما فيه من المبالغة بسلب الايمان عمّن أخذته الرأفة وهو من التهييج.

قال الجبائي : فيه دلالة على انّ الاشتغال بأداء الواجبات من الايمان لانّ التّقدير ان كنتم مؤمنين فلا تتركوا اقامة الحدّ. وأجيب بأنّ الرّأفة لا تحصل إلّا إذا حكم الإنسان بطبعه أنّ الأولى ترك اقامة الحدّ وحينئذ يكون منكر الدّين فلهذا يخرج من الايمان.

(وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) جماعة منهم واختلف في أقلّها فقيل : اثنان ، وقيل : ثلاثة ، وقيل : أربعة ونسبه في الكشاف الى ابن عبّاس ثمّ قال : وفضل قول ابن عبّاس لأنّ الأربعة هي الجماعة الّتي ثبتت فيها الحدود وفي التفضيل بذلك نظر ، وقيل : واحد وهو قول الفرّاء من أهل اللّغة واختاره الشّيخ في النّهاية ورواه أيضا أصحابنا عن الصّادقين عليهم‌السلام.

وذهب الشّيخ في الخلاف إلى أنّ أقل ذلك عشرة قال : وبه قال الحسن البصري وقال ابن إدريس : «الّذي أقول في الأقلّ أنّه ثلاثة نفر لأنّه من حيث العرف دون الوضع والعرف إذا طرء صار الحكم له دون الوضع الأصلي وشاهد الحال يقتضي ذلك وألفاظ الأخبار لانّ الحدّ إذا كان قد وجب بالبيّنة فالبيّنة ترجمة وتحضره وهم أكثر من ثلاثة.

١٩٦

وإن كان الحدّ باعترافه فأوّل من يرجمه الامام ثمّ النّاس مع الامام ، وإن كان المراد حضور غير الشّهود والامام فالعرف والعادة اليوم أنّ أقلّ ما يقال جئنا في طائفة من النّاس وجاءتنا طائفة من النّاس المراد الجماعة عرفا وعادة وأقلّ الجمع ثلاثة وشاهد الحال يقتضي أنّه تعالى أراد الجمع» انتهى ولا بأس به وما ورد بخلافه يمكن حمله على حال التعذّر ولأنّ المقصود أن يحصل إذاعة الحدّ ليحصل الاعتبار والانزجار وذلك بالثّلاثة أظهر ، وقول الشّيخ بالعشرة بعيد لعدم ظهور وجهه مع أنّ أقل الجمع ثلاثة.

ومقتضى الأمر وجوب إحضار الطّائفة حال اقامة الحدّ فإنّ الأمر للوجوب وإليه ذهب جماعة من الأصحاب وظاهر آخرين منهم الاستحباب وإليه ذهب أكثر العامّة وهو بعيد لعدم ما يوجب العدول عن الظاهر والغرض من الإحضار زيادة التّفضيح إذ التّنكيل به أكثر من التّعذيب.

الثاني حد القذف

وفيه آية (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) اى يقذفون العفائف من النّساء بالزّنا والفجور ، والقذف وان كان بمعنى السّبّ مطلقا إلّا أنّ المراد هنا ما ذكرناه لوصف المقذوفات بالإحصان وذكرهنّ عقيب الزّواني.

واعتبار أربعة شهداء لقوله (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) يشهدون انّهم رأوهنّ يفعلن ذلك فانّ هذا العدد من الشّهود غير معتبر في غير الزّنا إجماعا فلو قذفه بالسّرقة أو شرب الخمر أو أكل الرّبا اكتفى فيه بشاهدين ولقوله (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) وظاهر أنّ القذف بغيره مثل يا فاسق ويا شارب الخمر ويا آكل الرّبا انّما يوجب التّعزير. والذين مبتدأ خبره فاجلدوهم.

ومقتضى الآية عموم الجلد لكلّ قاذف سواء كان حرّا أو عبدا عاقلا أو مجنونا بالغا أو صبيّا مسلما أو غيره لكنّه مقيّد بالعقل والبلوغ للإجماع على عدم إلزام عادمهما بشيء لعدم التّكليف في حقّه نعم يؤدّب المجنون ويعزّر الصّبيّ بما يراه الحاكم.

١٩٧

وأكثر العامّة قيّدوه بالحرّ أيضا وحكموا بتنصيف الحدّ على المملوك القاذف وحكموا بوجوب أربعين سوطا وهو قول الشّيخ في المبسوط مستدلا عليه بأصالة البراءة من الزّائد ولقوله تعالى (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) ولرواية القاسم بن سليمان (١) عن الصّادق عليه‌السلام.

والمشهور بين أصحابنا أنّ عليه الحدّ كاملا لظاهر العموم في الآية فيجب العمل به الى أن يثبت المعارض الصّريح وهو غير معلوم ، ويؤيّده من الاخبار حسنة الحلبي (٢) عن الصّادق عليه‌السلام قال : إذا قذف العبد جلد ثمانين. وغيرها من الأخبار.

ويجاب عمّا قاله الشّيخ ، انّ الأصل يعدل عنه مع وجود الدّليل وهو ما أشرنا اليه ، والمراد بالفاحشة في الآية الزّنا كما نقله المفسّرون فلا يتعدى الحكم فيها الى غيره ، ورواية القاسم ضعيفة لا تعارض الأخبار الكثيرة بل الإجماع على ما نقله جماعة من الأصحاب وعموم الآية يقتضي دخول الكافر فلو قذف مسلما حدّ ثمانين والآية مخصوصة بالأب والجدّ إذا قذف أولاده وأحفاده فإنّه لا يجب عليه الحدّ كما لا يجب عليه القصاص لو فعل ما يوجبه.

وشرائط الإحصان الموجبة للجلد بالقذف خمسة : ان يكون المقذوف حرا بالغا عاقلا مسلما عفيفا عن الزّنا فإذا وجدت هذه الشّرائط وجب الحدّ على قاذفه ومتى اختلّت أو واحدة منها فلا حدّ على قاذفه نعم يجب التعزير وان كان القذف للمتظاهر بالزّنا على المشهور لعموم الأدلّة وقبح القذف مطلقا.

وتردّد الشّهيد في بعض تحقيقاته في التّعزير بقذف المتظاهر به ، بل قد يظهر منه الميل الى عدمه محتجّا بإباحته استنادا إلى رواية البرقي عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة ، وفي مرفوع محمّد بن بزيع :

__________________

(١) انظر التهذيب : ج ١٠ ، ص ٧٣ الرقم ٢٧٨. والاستبصار : ج ٤ ، ص ٢٢٩ الرقم ٨٦١.

(٢) التهذيب : ج ١٠ ، ص ٧٢ الرقم ٢٧٠. والاستبصار : ج ٤ ، ص ٢٢٨ الرقم ٨٥٣. والكافي : ج ٢ ، ص ٣٠٣.

١٩٨

من تمام العبادة الوقيعة في أهل الرّيب. فلو قيل به كان حسنا ومن هنا ذهب أكثر العامّة الى عدم التّعزير بقذف المتظاهر بالزّنا.

ولا فرق في ثبوت الحكم بين الذّكر والأنثى وتخصيص المحصنات بالذّكر امّا بخصوص الواقعة فإنّها نزلت في عائشة على ما نقله الشيخ في التّبيان عن سعيد بن جبير وقيل في غيرها ، وامّا لانّ قذف النّساء أغلب وأشنع.

وقد نقل الطّبرسيّ في مجمع البيان الإجماع على انّ حكم الرّجال حكمهنّ في ذلك والآية وان وقعت مطلقة في الشّهود لكنّها مقيّدة بأمور اقتضتها الأدلّة مثل كونهم مجتمعين حال التّحمل والأداء وحال الإقامة أيضا فلو تفرّقوا بطلت وأنكر الشافعية اعتبار الاجتماع بل قالوا : لا فرق بين ان يجيء الشّهود متفرّقين أو مجتمعين محتجين بأن الآتي بالشهداء متفرّقين آت بمقتضى النّصّ واجتماعهم أمر زائد لا إشعار به في الآية.

وفيه : انّ الآية مشعرة بالاجتماع فانّ الشّاهد الواحد إذا شهد وحده فقد قذفه ولم يأت بأربعة شهداء فوجب عليه الحدّ فخرج عن كونه شاهدا ولا عبرة بالتسمية إذا فقد المسمّى مع أنّ الأخبار الدالّة على الاجتماع كثيرة وقد وافقنا في اعتبار الاجتماع أبو حنيفة أمّا باعتبار كون الزّوج أحدهم أو كونهم غير الزّوج فقد تقدم الكلام في باب اللّعان.

(وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً) أيّ شهادة كانت لانّه مفتر فلا وجه لقبول شهادته (أَبَداً) أي في جميع الأحوال إلّا حال التّوبة لدليل اقتضاه ، ومن قال إنّ عدم القبول بعد استيفاء الجلد لا قبله كأبي حنيفة فقد أبعد عن ظاهر الآية فإنّ الأمر بالجلد والنّهى عن القبول سببان في وقوعهما جوابا للشّرط لا ترتيب بينهما فيترتبان عليه دفعة كيف وحاله قبل الحدّ أشدّ مما بعده لانّه بعده قد تاب وحسن حاله وتخلص من الحقوق.

(وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) المحكوم بفسقهم وهذا أيضا ممّا يبطل قول أبي حنيفة لدلالته ظاهرا على أنّ الرّمي مع عدم الاشهاد فسق حدّ أولا ، وهو حكم مستقلّ بنفسه

١٩٩

بالنّسبة إليهم لا أنّه خبر عن الّذين لتغيّر الأسلوب بل الأنسب على ذلك التّقدير أن يقول : وافسقوهم اى احكموا بفسقهم وعاملوهم معاملة الفسّاق ويمكن أن يكون خبرا أيضا وتغيّر الأسلوب لوجه آخر وعلى كلّ حال فمقتضى الآية ترتّب الأمور الثلاثة على قذف المحصنات مع عدم الاشهاد المعتبر.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) عن القذف وقد اختلف في حدّ توبة القاذف فقال الشّيخ في النّهاية : حدّها أن يكذب نفسه فيما كان قذف به وقال في المبسوط : اختلفوا في كيفية اكذابه نفسه فقال قوم : أن يقول : القذف باطل حرام ولا أعود إلى ما قلت.

وقال بعضهم : التّوبة اكذابه نفسه وحقيقة ذلك أن يقول : كذبت فيما قلت وروى ذلك في أخبارنا والأوّل أقوى لأنّه إذا قال كذبت فيما قلت فربّما كان كاذبا في هذا الجواب بأن يكون صادقا في الباطن وقد تعذّر عليه تحقيقه فإذا قال : القذف باطل حرام فقد أكذب نفسه.

وقال في الكشاف من شرط التّوبة من القذف أن يكذّب نفسه وحقيقة ذلك أن يقول كذبت فيما قلت ثمّ قوّى ما قاله المروزي لأنّه إذا أكذب نفسه ربّما كان صادقا في الأوّل فيما بينه وبين الله فيكون هذا الإكذاب كذبا وذلك قبيح.

وقال ابن إدريس : كيفية توبته من القذف أن يقول : القذف باطل حرام ولا أعود إلى ما قلت وقال بعضهم : التّوبة إكذاب نفسه وحقيقة ذلك أن يقول : كذبت فيما قلت وروى ذلك في أخبارنا.

والذي قد مناه هو الصّحيح لاحتمال أن يكون صادقا والحقّ التّفصيل في ذلك وهو ان كان كاذبا كانت توبته الصّريحة بالكذب والاعتراف به حقيقة وإن كان صادقا اعترف بتحريم ما قاله وأظهر الاستغفار منه من غير أن يصرّح بإكذاب نفسه ويمكن حمل الاخبار على هذا التفصيل ، ولم يعتبر العامّة ذلك بل اكتفوا بالتّوبة مطلقا أخذا بالظّاهر.

(وَأَصْلَحُوا) أعمالهم بالتّدارك والاستمرار على التّوبة والإصرار عليها ، واعتبر

٢٠٠