مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٤

جواد الكاظمي

مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٤

المؤلف:

جواد الكاظمي


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٥٥

وعلى هذا فالجملة لازمة للجملة الأولى المنفيّة ومقرّرة لحكمها ويحتمل أن يكون واقعة موقع الجواب فيحصل منها معنى غير الأوّل كأنّه قيل ليس الّذين فضّلوا برادّي رزقهم على ما ملكت ايمانهم فيستووا في الرّزق فهو ردّ عليهم بما يصنعون من التّفاوت اى كان ينبغي أن يردّوا ممّا رزقوا على مماليكهم حتّى يتساووا معهم في المطعم والملبس.

وفيه تعجّب من فعل المشركين وإنكار عليهم من حيث انّهم يرون اشتراكهم مع العبيد في ذلك نقصا ولا يرضونه لأنفسهم وهم يشركون عباد الله معه في العبادة ويوجّهونها إليهم كما يوجهونها اليه قيل : نزلت في نصارى نجران (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) حيث يتّخذون له شركاء فإنّه يقتضي أن يضاف إليهم بعض ما أنعم الله عليهم ويجحدوا أنّه من عند الله ويحتمل كون جحودهم بسبب إنكارهم أمثال هذه الحجج بعد ما أنعم الله عليهم بايضاحها ويحتمل كونه لعدم التّسوية بينهم وبين المماليك جعله الله من جحود النّعمة للمبالغة ويلزم من ذلك أرجحية التّسوية بين نفسه ومماليكه.

ويؤيّده ما يحكى عن أبى ذرّ انّه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : انّما هم إخوانكم فاكسوهم ممّا تلبسون وأطعموهم ممّا تطعمون فما رئي عبده بعد سماع ذلك الّا رداه رداه وإزاره إزاره من غير تفاوت وما روى عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه كان يشترى ثوبين فيعطى أفضلهما قنبر ويأخذ الأردى لنفسه» صلوات الله عليه.

١٦١

كتاب المواريث

وفيه آيات الاولى :

(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ) اى ولكلّ تركة جعلنا موالي اى ورّاثا يرثونها ويحوزونها فيكون قوله (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) بيانا لكلّ مع الفصل بينهما بالعامل ، أو ولكلّ قوم جعلناهم موالي وورّاثا نصيب ممّا ترك الوالدان والأقربون على أنّ جعلنا موالي صفة لكلّ والضّمير الرّاجع اليه محذوف والكلام مبتدأ وخبر ، أو ولكلّ ميّت جعلنا ورّاثا ممّا ترك على أنّ من صلة موالي لأنّهم في معنى الوارث.

وفي ترك ضمير كلّ والوالدان والأقربون تفسير كأنّه قيل : الموالي من هم؟ فقيل : الوالدان والأقربون وفيه خروج الأولاد فإنّ الأقربون لا يتناولهم كما لا يتناولهم الوالدان.

(وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) مبتدأ تضمّن معنى الشّرط خبره (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) ويجوز نصبه على شريطة التفسير والخطاب للموالي وقد اختلف في المراد به فقيل : انّ الرّجل كان في الجاهليّة يعاقد الرّجل فيقول : دمي دمك وهدمي هدمك وثاري ثارك وحربي حربك وسلمى سلمك ترثني وأرثك وتعقل عنّى وأعقل عنك ، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف وقد عاقد بعض الصّحابة بعضا فورثه وهو المراد بايتائهم نصيبهم اى أعطوهم حظّهم من الميراث ثمّ نسخ بآية (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ).

ويحتمل أن يكون المراد فأعطوهم نصيبهم من النّصر والعقل والرفد لا من الميراث فعلى هذا تكون الآية غير منسوخة ، وقيل : انّ المراد بهم قوم آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بينهم من المهاجرين والأنصار حين قدموا المدينة وكانوا يتوارثون بتلك

١٦٢

المؤاخاة ثمّ نسخت بالمواريث.

وقيل : انّهم الّذين يتبنّون أبناء غيرهم في الجاهليّة وهم الأدعياء ومنهم زيد مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمروا في الإسلام أن يوصوا لهم عند الموت بوصيّة فذلك قوله : فآتوهم نصيبهم.

وكيف كان فلا دلالة فيه على نفى ضمان الجريرة على الوجه الّذي يقوله أصحابنا وهو إرثه مع عدم المناسب والمسايب ، فانّ الوجه الأوّل اقتضى إعطاء الوارث له السّدس وهو غير ما نقوله ولا على إثباته بل هو معلوم من خارج كالاخبار.

وفي الآية دلالة على توريث الوارث ممّا ترك الميّت على الاجمال وتفصيل ذلك يعلم من غيرها.

الثانية :

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ) ذو والقرابات (بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) في التّوارث وهو نسخ لما كان في صدر الإسلام من التّوارث بالهجرة والموالاة في الدين لا بالقرابة تألّفا لقلوبهم كما كانت تتألّف قلوب قوم بإسهامهم من الصّدقات.

روى أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله آخى بين المهاجرين والأنصار لمّا قدم المدينة وكان يرث المهاجريّ من الأنصاريّ والأنصاريّ من المهاجريّ ولا يرثه وارثه الّذي بمكّة وان كان مسلما وذلك لقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ). الآية ثمّ نسخت هذه الآية وارتفع حكمها بالاية المذكورة وصار التّوارث بالقرابات.

(فِي كِتابِ اللهِ) في اللّوح المحفوظ أو فيما انزل وهو هذه الآية أو آية المواريث أو فيما فرض الله (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) صلة أفعل التّفضيل والمعنى أنّ ذوي القرابات بعضهم اولى بميراث بعض من المؤمنين أي من الأنصار لحقّ الولاية في الدين والمهاجرين اى الّذين هاجروا من مكّة إلى المدينة لحقّ المهاجرة أي ليس

١٦٣

التّوارث لحقّ الايمان والهجرة بل لحقّ القرابة فيكون ناسخة لها على ما عرفت.

ويحتمل أن يكون من بيانا لأولي الأرحام اى الأقرباء من المؤمنين والمهاجرين أولى بأن يرث بعضهم بعضا من الأجانب ، بل من بعض الأقارب أيضا كما يعلم من خارج.

ومقتضى الآية انّ سبب استحقاق الميراث القربى وتداني الأرحام ومن ثمّ كان الاستواء في الدّرجة مراعى مع القرابة ولزم أن لا يرث ولد الولد مع ولد الصّلب ونحوه وان كان داخلا في الأولاد.

ويلزم ممّا ذكرنا بطلان القول بالتّعصيب كما يثبته المخالفون وعلى ظاهر الآية لا يرث مع البنت أحد ممّن كان أبعد منها عن الميّت كالاخوة والأخوات والأعمام والعمّات بل يكون لها جميع المال نصفه بالتّسمية كما سيجيء والباقي بالرّد.

ومخالفونا يذهبون إلى انّه لو كان مع البنت عمّ أو ابن عمّ لكان له النّصف بالتّعصيب وكذالك لو كان معها أخت ويجعلون الأخوات عصبة مع البنات ويسقطون من هو في درجة العمّ من النّساء كالعمّات وبنات العمّ إذا اجتمعوا ويخصّون الميراث بالرّجال دونهنّ لأجل التّعصيب.

وكلّ هذا خلاف الظّاهر من القرآن لقوله تعالى (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ). الآية حيث دلّت على أنّ للرّجال نصيبا وللنّساء نصيبا ولم يخصّ موضعا دون موضع وسيجيء أنّ الأخت لا ترث مع الولد وان كان بنتا ويلزم منه بطلان قولهم.

وما استدلّوا به من رواية ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : يقسم المال على أهل

__________________

(١) انظر نيل الأوطار : ج ٦ ، ص ٥٩. وفيه : «عن ابن عباس. الحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لاولى رجل ذكر». متفق عليه ووقع عند صاحب النهاية والغزالي وغيرهما من أهل الفقه : فلأولى عصبة ذكر.

وفي كنز العمال : ج ١١ ، ص ٤ الرقم ٢٣ : «الحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لاولى رجل ذكر. ط حم ص خ م ت عن ابن عباس وص ٢٤ : الحقوا المال بالفرائض فما ـ

١٦٤

الفرائض على كتاب الله فما أبقت فلأولى ذكر قرب ، وبطريق آخر : ما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر خبر ضعيف إذ لم يروه أحد من أصحاب الحديث سوى ابن طاوس عن ابن عباس.

ومع هذا فهو مختلف اللّفظ فقد روى على الوجهين السّابقين ورى أيضا : فلأولى ذكر رجل عصبة واختلاف لفظه مع اتّحاد طريقه دليل على ضعفه على أنّ مذهب ابن عباس في نفي التّوارث بالعصبة مشهور وراوي الحديث إذا خالفه كان قدحا فيه وبالجملة فمثله لا يخصّ ظاهر القرآن لقصوره من وجوه.

(إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) استثناء من أعمّ ما يقدر الأولويّة فيه من النفع والإحسان كما يقول : القريب أولى من الأجنبيّ إلّا في الوصيّة يريد أنّه أحقّ منه في كلّ نفع من ميراث وهبة وهديّة وصدقة ونحو ذلك إلّا في الوصيّة فانّ الموصى له أولى بها والمراد بالأولياء المؤمنون والمهاجرون للولاية في الدين. كذا في الكشاف ومقتضاه عدم جواز الوصيّة للكافر ولا إشكال في ذلك مع كونه حربيا أمّا الذمّي ففي العلماء من جوّز الوصية له وهو المشهور بين أصحابنا ولا ينافيه الاستثناء فإنه لا يوجب قصر الحكم على مدخولة بحيث لا يجوز في غيره فيصح إثبات الغير بدليل من خارج.

وفيها دلالة على كون الوصية مقدّمة على الإرث امّا كونها لا تصحّ للوارث كما ذكره في الكشاف فليس فيها دلالة عليه ويحتمل أن يكون قوله : إلّا تفعلوا يشتمل المنجّزات أيضا فيدلّ على كونها من الثلث ودلالة الأخبار عليه ، فتبقى المنجّزات وفيه ما فيه.

__________________

ـ أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر حب عن ابن عباس.

ومرقاة المفاتيح ج ٣ ، ص ٣٨٧ : «وعن ابن عباس قال : قال رسول الله (ص) : الحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لاولى رجل ذكر» وفيه شرح مفصل في وصف رجل بذكر.

وفي فيض القدير ج ٢ ، ص ١٥٩ الرقم ١٥٧٤ : «الحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر».

١٦٥

الثالثة :

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) يعنى أنّ لكلّ من الرّجال والنّساء حصّة من الميراث والمراد أنّ ذلك ثابت مع الاستواء في القرابة والدّرجة (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) بدل من قوله ممّا ترك بإعادة العامل.

(نَصِيباً مَفْرُوضاً) منصوب على أنّه مصدر مؤكّد لمضمون ما تقدّم كقوله : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أو حال على معنى ثبت لهم مفروضا نصيب ، أو على الاختصاص بتقدير أعنى نصيبا مقطوعا واجبا لهم والمعنى أنّ الإرث بالنّسب ثابت من الله فرضا مقطوعا من غير اختيار احد من الوراث سواء كان ذكرا أو أنثى والآية نزلت لنفي ما كانت الجاهلية عليه من عدم توريث النّساء والأطفال.

وفيها دلالة على أنّ ذلك النّصيب فرض من الله يدخل في ملك الوارث بغير اختياره ولو أعرض عنه لم يسقط حقّه منه لانّه ملكه غير مختار فيه فلا يخرج عن ملكه الّا بناقل شرعيّ يقتضي إخراجه.

وفي الآية دلالة على بطلان ما ذهب اليه المخالفون من القول بالتّعصيب فإنّه تعالى صرّح بأنّ للرّجال نصيبا ولم يخصّ موضعا دون موضع وقد عرفت أنّ ذلك مع الاستواء في القرابة والدّرجة ومن ثم لم يرث ولد الولد مع ولد الصّلب لعدم التّساوي.

ومقتضى ما ذكر انّه ترث العمات مع العمومة وبنات العمّ مع بنى العمّ لانّ درجة هؤلاء واحدة وقرابتهم متساوية والمخالف هنا يورث الرّجال منهم دون النّساء والقرآن حجّة عليه ، ولانّ توريث الرّجال دون النّساء مع المساواة في القرابة والدّرجة من أحكام الجاهليّة وقد نسخ الله ذلك بشريعة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الرابعة :

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) اى يأمركم ويعهد إليكم في شأن ميراثهم والمراد

١٦٦

أنّ هذا فرض عليكم لأنّ الوصيّة منه سبحانه أمر وفرض كما قال (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) والخطاب للأحياء بأنّه إذا مات منهم أحد يجب أن يعلم الباقون أنّ لولده وغيره الإرث على الوجه الذي فصّله قوله :

(لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) اى يعدّ كلّ ذكر باثنتين حيث اجتمع الذّكور والإناث من الأولاد فيضعف نصيبه ، وتخصيص الذّكر بالتّنصيص على حظّه لانّ القصد الى بيان فضله والتّنبيه على أنّ التضعيف للتّفضيل ، وفي أخبارنا عن الرّضا انّه عليه‌السلام قال : إنّما تعطى النّساء نصف ما يعطى الرّجال من الميراث لأنّ المرأة إذا تزوّجت أخذت والرّجل يعطى فلذلك وفّر على الرّجال ، ولأنّ الأنثى في عيال الذّكر ان احتاجت وعليه أن يعولها وليس على المرأة أن تعول الرّجل ولا تؤخذ بنفقة إن احتاج فوفّر الرّجل لذلك وذلك قوله تعالى (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) الحديث.

وفي أخبارنا أيضا أنّ أبا هاشم (١) الجعفري ذكر أنّ الفهفكىّ سأل أبا محمّد العسكري عليه‌السلام فقال : ما بال المرأة المسكينة الضّعيفة تأخذ سهما واحدا ويأخذ الرّجل القوىّ سهمين؟ فقال أبو محمّد عليه‌السلام : لأنّ المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا معقلة انّما ذلك على الرّجال.

فقلت في نفسي : قد كان قيل انّ ابن أبى العوجاء سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن هذه المسألة فأجابه بمثل هذا الجواب ، فاقبل عليه‌السلام علىّ فقال : نعم هذه مسألة ابن أبي العوجاء والجواب منّا واحد إذا كان معنى المسألة واحدا ، ونحوها من الاخبار والكلام في تقدير «للذّكر منهم» فحذف للعلم به.

واعلم انّ عموم قوله (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) مخصوص بأمور. الأوّل العبد

__________________

(١) ترى الحديثين وغيرهما في الوسائل ج ٣ من طبعة الأميري ص ٣٤٣ الباب ٢ من أبواب ميراث الأبوين والأولاد.

١٦٧

والحرّ لا يتوارثان الثّاني القاتل لا يرث ، الثّالث لا يتوارث أهل ملّتين فالكافر لا يرث المسلم ولكنّ المسلم يرث الكافر وزاد العامّة : أنّ الأنبياء عليهم‌السلام لا يورّثون لحديث رواه أبو بكر خالف فيه كتاب الله والسنّة مقطوع بعدم صحّته.

(فَإِنْ كُنَّ) اى الأولاد (نِساءً) خلّصا ليس معهنّ ذكر وتأنيث الضّمير باعتبار الخبر أو على تأويل المولودات (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) خبر بعد خبر أو صفة نساء اى نساء زايدات على اثنتين.

(فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) الميّت من التّركة هذا بالفرض المعلوم في كتاب الله ويبقى الحكم في الباقي معلوما من خارج.

(وَإِنْ كانَتْ) أي المولودة بنتا (واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) اى من التركة بالفرض على قياس ما سبق وقرء نافع بالرّفع على أنّ كان تامّة ، وبقي حكم البنتين لم تدلّ عليه الآية صريحا ومن ثمّ اختلف فيه والأكثر على انّ حكمهما حكم ما فوقهما في وجوب الثلثين.

وقال ابن عبّاس : يجب لهما النّصف كالواحدة وهو بعيد ، إذ لا خلاف في أنّ للأختين الثلثين كما دلّ عليه القرآن العزيز صريحا وهو يوجب الّا يكون حصّة البنتين أقلّ من حصّتهما كيف وهما أمسّ رحما وألصق قرابة وعدم خلوّها عن الإرث من الميّت في شيء من الأحوال بخلاف الأخت وحينئذ فلا يكون لهما النّصف فيتعيّن الثّلثين إذ لا قائل بغيرهما.

ولأنّ للبنت مع أخيها الّذي نصيبه ضعف نصيبها الثلث فلا بدّ أن تكون مع أختها الّتي نصيبها أقلّ من تلك الحصّة كذلك فلا يكون لهما النّصف بل الثّلثان.

ولأنّه تعالى لما بيّن أنّ حظّ الأنثيين على حكم البنتين لانّه قد علم أنّ للذّكر مع الواحدة ثلثين الّذين هما للبنتين فعلم أنّ لهما ثلثين أيضا وبقي ما فوقهما فكأنّه قيل : فما لما فوقهما؟ قيل كذا.

قلت : وهذا الوجه ذكره الكليني في وجه كون حصّة البنتين الثلثين عند بيان

١٦٨

الفرائض في الكتاب قال بعد كلام طويل : «وقد تكلّم النّاس في أمر البنتين من اين جعل لهما الثّلثان والله عزوجل انّما جعل الثّلثين لما فوق اثنتين فقال قوم : إجماع ، وقال قوم : قياسا كما كانت للواحدة النّصف كان ذلك دليلا على أنّ لما فوق الواحدة الثلثين وقال قوم : بالتّقليد والرّواية ولم يصب واحد منهم الوجه في ذلك.

فقلنا : انّ الله عزوجل جعل حظّ الأنثيين الثّلثين بقوله (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وذكر أنّه إذا ترك بنتا وابنا فللذّكر مثل حظّ الأنثيين وهو الثّلثان فحظّ الأنثيين الثّلثان واكتفى بهذا البيان أن يكون ذكر الأنثيين بالثّلثين وهذا بيان قد جهله كلّهم والحمد لله كثيرا» انتهى.

والظّاهر أنّ ذلك أخذه عن الامام عليه‌السلام وان لم يذكره مستندا اليه وبالجملة فقول ابن عبّاس في كون البنتين لهما النّصف بعيد جدّا وقد نقل في التّبيان الإجماع على أنّ لهما الثّلثين فإنّه قال : ظاهر الكلام يقتضي أنّ البنتين لا يستحقّان الثلثين لكن الأمّة أجمعت على أنّ حكم البنتين حكم من زاد عليهما من البنات.

وقال أيضا : يدلّ عليه الإجماع إلّا ما روى عن ابن عبّاس أنّ لهما النّصف فكأنّه أراد الإجماع بعده أو لم يعتبر خلافه أو أراد التّأييد بالشّهرة والكثرة فتأمل.

(وَلِأَبَوَيْهِ) ولأبوي الميّت (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا) بدل منه بتكرير العامل وفايدته التّنصيص على استحقاق كلّ منهما السّدس ودفع توهّم اجتماعهما فيه والتّفصيل بعد الاجمال تأكيدا.

(السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ) اى الميّت (لَهُ وَلَدٌ) ذكرا كان أو أنثى واحدا أو أكثر غير أنّ الولد ان كان ذكرا كان الباقي له وكذا لو كانوا ذكورا أو كانوا إناثا فإنّ الباقي لهم بالتّسوية ولو كانوا ذكورا وإناثا فللذّكر مثل حظ الأنثيين وان كانت بنتا واحدة فلها النّصف بالتّسمية والباقي يردّ عليها وعلى الأبوين على نسبة سهامهم أي أخماسا كما اقتضته آية أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله وقد ثبت أنّ قرابة الوالدين وقرابة الولد متساوية بالنّسبة إلى الميّت لانّ الولد يتقرّب اليه بنفسه كما في الوالدين وقد انعقد إجماعنا ودلّت أخبارنا على ذلك.

١٦٩

وقالت العامّة : إذا كان مع الأبوين بنت واحدة فلها النّصف وللامّ السدس وللأب السّدس بحكم الآية ، والباقي للأب بحكم التّعصيب وسيجيء بطلان التعصيب ولو كان مع البنت أحد الأبوين كان ردّ الباقي عليها وعليه فقط عندنا وخالف العامّة هنا أيضا فأوجبوا للأب مع البنت السّدس ولها النّصف والباقي له بالعصوبة.

ولو كان مع أحد الأبوين البنات فانّ الردّ على نسبة سهامهم كما عرفت وبين العامّة اختلاف في ذلك.

(فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ) اى للميّت (وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) اى ممّا ترك حذف بقرينة ما تقدّم وترك ذكر حصّة الأب لأنّه ليس بصاحب فرض في هذه الصورة فيكون الباقي له بعد ثلث الامّ وهو إجماع.

ولو اجتمع مع الأبوين أحد الزّوجين فكيف يكون فرض الامّ؟ فقالت العامة : انّ الزّوج أو الزّوجة يكون لهما نصيبهما ثم يدفع ثلث ما بقي للأمّ والباقي للأب ليكون للذّكر مثل حظّ الأنثيين كما هو قاعدة الميراث عند اجتماع الذّكر والأنثى فيكون الأبوان كشريكين بينهما مال فإذا صار شيء منه مستحقّا بقي الباقي بينهما على قدر الاستحقاق.

وفيه نظر فان مقتضى الآية أنّ للامّ الثلث من أصل المال في جميع الأحوال إذا لم يكن لها حاجب وان كان هناك زوج لا أنّ لها ثلث ما بقي بعد حصّة الزّوج كما هو رأى الجمهور وصرّح به القاضي وصاحب الكشّاف (١) ونسبا ما ذكرنا الى ابن عبّاس ولا خلاف في ذلك بين أصحابنا وقال في مجمع البيان : وهو مذهب ابن عبّاس وأئمّتنا عليهم‌السلام وهو الظّاهر من الآية حيث جعل الثّلث لها مع عدم الولد وظاهر أنّ ذلك قد يكون مع الزّوج وقد يكون بدونه وتقييدهما للاية بقوله : (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) فحسب تقييد غير واضح الوجه مع انّه حينئذ لا يحتاج الى قوله : (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ) ، وما احتجّ به القاضي والكشاف بأنّ «الأب أقوى في الإرث من

__________________

(١) انظر الكشاف : ج ١ ، ص ٢٨٣. والبيضاوي : ج ١ ، ص.

١٧٠

الامّ بدليل أنّه يضعف عليها إذا خلصا ويكون صاحب فرض وعصبة وجامعا بين الأمرين فلو ضرب لها بالثلث كملا لأدى إلى حط نصيبه عن نصيبها» مدفوع بأنّه اجتهاد في مقابلة النّص وحمل للاية على وجه لم يدلّ عليه نصّ واضح فيكون مردودا.

(فَإِنْ كانَ لَهُ) اى للميّت (إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) لا غير فهم يردّونها من الثّلث الى السّدس وان كانوا لا يرثون شيئا ، والمشهور أنّ ردّهم إيّاها إلى السّدس انّما هو مع وجود الأب ويدلّ عليه ظاهر قوله (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) إذ التّقديران لم يكن له ولد وورثه الأب والام فللأم الثلث ان لم يكن له اخوة فان كان له اخوة فلأمّه السّدس ونقل في مجمع البيان عن بعض أصحابنا انّ للامّ السّدس مع وجود الاخوة وان لم يكن هناك أب قال : وبه قال جميع الفقهاء وما ذكره خلاف المشهور فيما بين أصحابنا ، نعم قد يظهر من عبارة الصّدوق كما نقله الشهيد في الدّروس.

والجمهور على أنّ المراد بالاخوة عده ممن له اخوة من غير اعتبار كونها ثلاثة وحينئذ فيثبت الحجب بالأخوين كما هو قول أصحابنا وعليه الجمهور وأخذ ابن عبّاس بظاهر الجمع فاعتبر ثلاثة فصاعدا ولم يحجب بالاثنين والإجماع على خلافه وعلى ما قلناه يتحقّق الحجب بالأخوين وما قام مقامهما كأربعة أخوات أو أخ وأختين وعلى ذلك انعقد إجماعنا وفي أخبارنا دلالة عليه أيضا ولو نوقش في دلالة الآية على ذلك لأمكن إثباته بالإجماع والأخبار.

وظاهر الآية أعمّ من كونها إخوة لأب أو اخوة لامّ إلّا أنّ أصحابنا خصّوه بما عدا إخوة الأمّ فقط ولعلّ دليلهم الإجماع والأخبار ولا يبعد فهم الانفصال بالولادة منها فلا يحجب الحمل وإن كان متمّما للعدد المعتبر فيه لعدم إطلاق اسم الاخوة عليه.

امّا اعتبار كونهم وارثين في الجملة فلو كانوا قاتلين أو أرقّاء أو كفّارا لم يحجبوا فالدّلالة عليه من خارج الآية كصحيحة محمّد بن مسلم عن الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن المملوك والمشرك يحجبان إذا لم يرثا؟ قال : لا.

١٧١

هذا والأصحاب متّفقون على عدم الحجب في صورة كون الأخ كافرا أو مملوكا وانّما الخلاف بينهم في القاتل والمشهور انّه يحجب أيضا كما قاله العلّامة في المختلف وقال الصدوق : القاتل يحجب وان لم يرث وكذا قال ابن أبى عقيل وهذا القول غير بعيد لعموم الآية في حجب الاخوة خرج عنه الكفار والمماليك للرواية الصحيحة السالفة فيبقى الباقي مندرجا تحت العموم ولا يصار الى التخصيص من غير دليل.

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) متعلّق بما تقدّم من قسمة المواريث كلّها اى ثبوت الأنصباء على الوجه المذكور للورثة من بعد إخراج ما أوصى به الميّت وبعد الدّين.

وقوله (يُوصِي بِها) بعد (وَصِيَّةٍ) للتأكيد وإنّما قال بأو التي للتخيير دون الواو للدلالة على انّهما متساويان في الوجوب مقدمتان على القسمة مجموعين أو منفردين وقدّم الوصيّة على الدّين مع أنّها متأخّرة عنه في حكم الشريعة للاهتمام بشأنها واحتياجها إلى التأكيد والمبالغة لأنّها في محلّ ان لا يسمعها الوارث ولأنّها مشابهة للإرث من حيث توقّف ثبوتها على الموت وكونها مأخوذة من غير عوض فذكرت بعده.

وكيفيّة الترتيب أن يخرج أوّلا مؤنة تجهيزه الواجب ثمّ الدين ثمّ الوصيّة ثمّ يقسم الباقي على الورثة على حكم الله وهذا مفهوم من الإجماع والسنّة لا الكتاب.

وروى العامّة عن عليّ عليه‌السلام : إنّكم لتؤدّون الوصيّة قبل الدّين وإنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضى الدين قبل الوصيّة ، والمراد انّه لا عبرة في التقدّم بالذكر لانّ كلمة أو لا تفيد الترتيب البتّة وإنّما استفيد الترتيب السابق من السنّة والإجماع عكس الترتيب في اللفظ.

وقد يستدلّ بظاهر الآية على عدم تملّك الوارث قبل إخراج الدّين حيث جعل الأنصباء المذكورة بعده وبعد الوصيّة وحينئذ فالمال امّا باق على حكم مال الميّت أو ينتقل الى الديّان بقدره ويكون ذلك متعلّقا بالتركة فلا يجوز التصرّف فيها إلّا بعد إخراجه سواء كان مستغرقا أم لا.

١٧٢

ويحتمل اختصاص عدم التصرّف بما إذا لم يكن التركة فاضلة عنه فلو فضلت جاز للوارث التصرّف فيما يفضل عنه قبل إخراجه ويجب عليه إخراجه أو عزله أو إيصاله إلى صاحبه وكذا الكلام في الوصيّ ان كان ويجب على الوارث التمكين.

ويحتمل القول بجواز التصرّف للوارث في التركة مطلقا بعد أن يضمّن الوصيّة أو الدين ويثبتان في ذمّته حتّى انّه لو لم يصل الدين إلى أهله يكون له الرجوع على الورثة الذين تصرّفوا في المال أو تبطل تصرفاتهم.

فالاحتمالات ثلاثة الأوّل جواز التصرّف في التركة بعد وصول الدين إلى أهله وعدم جوازه قبله بوجه وكذا الوصيّة.

الثاني الجواز بعد العزل والتعيين وعدم الجواز قبله.

الثالث الجواز مع سعة المال ووجود الدين فيه فيجوز التصرّف في الفاضل أو في الكلّ ، ويكون ضامنا له وكذا الوصيّة ومن هنا نشأ الاختلاف في تصرّف الوارث قبل دفع العين إلى صاحبه.

وقد يدلّ على الأوّل رواية عبّاد بن صهيب (١) في الكافي في باب قضاء الزكاة عن الميّت عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل فرّط في إخراج زكوته في حياته فلمّا حضرته الوفاة حسب جميع ما كان فرّط فيه ممّا يلزمه من الزكاة ثمّ أوصى به أن يخرج ذلك فيدفع إلى من يجب له قال : جائز يخرج ذلك من جميع المال انّما هو بمنزلة دين لو كان عليه ، ليس للورثة شيء حتّى يؤدّوا ما أوصى به من الزكاة.

وهي ظاهرة في الدين والوصيّة بالزكاة والظاهر أنّه لا قائل بالفرق فيثبت الحكم في الدين على الإطلاق ولا شيء في سند الرواية ممّن يتوقّف فيه سوى عبّاد بن صهيب وقد وثقه النجاشي وان قيل فيه شيء آخر إذ نهاية ذلك أنّه موثّق ومن يعمل بالموثّق يلزمه العمل به على انّا نقول هو كالقرينة على تنزيل الآية على أحد محتملاتها ولا بأس بالمصير إليه وإن كان ضعيفا كالامارة.

واعلم أنّ الأصحاب انّما ذكروا الوجوه الثلاثة في الدين فقط ولم يذكروها

__________________

(١) الكافي ج ١ ، ص ١٥٤ باب قضاء الزكاة عن الميت ج ١.

١٧٣

في الوصيّة والحكم واحد ومقتضى الآية تقدّم الوصيّة وإن كانت زائدة على الثلث إلّا أنّ الإجماع والأخبار أوجبا تقييدها بكونها من الثلث.

(آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) أي لا تعلمون من أنفع لكم من مورّثكم من اصولكم وفروعكم الّذين يموتون ، من أوصى منهم فعرضكم للثواب بإمضاء الوصيّة أم من لم يوص فيوفّر عليكم المال.

والمراد أنّ الله تعالى أعلم بما هو صلاحكم وأنّ من أوصى فعرضكم للثواب أقرب لكم نفعا وأحضر جدوى ممّن ترك الوصيّة فوفّر عليكم فانّ عرض الدّنيا وان كان عاجلا قريبا في الصورة إلّا انّه فان فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى وثواب الآخرة وان كان آجلا الّا انّه باق فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى.

ويحتمل أن يكون المعنى لا تعلمون من أنفع لكم ممّن ترثون من الأصول والفروع في العاجل والأجل فتحروا فيهم ما وصّاكم الله به ولا تعمدوا الى تفضيل بعض وحرمان بعض فقد روى أن أحد المتوالدين إذا كان أرفع درجة من الأخر في الجنّة سأل الله أن يرفع اليه فيرفع بشفاعته واقتصر في الكشاف (١) على الأوّل ونقل أقاويل أخرى ثمّ قال : وليس شيء من هذه الأقاويل بملائم للمعنى ولا مجاوب له لأنّ هذه الجملة اعتراضيّة ومن حقّ الاعتراض أن يؤكّد ما اعترض بينه ويناسبه والقول ما تقدّم.

ولا يذهب عليك انّ ما ذكرناه ثانيا مؤكد لأمر القسمة كما أنّ الأوّل لتنفيذ الوصيّة فكلا الوجهين حسن مناسب.

(فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) منصوب على أنّه مصدر مؤكد لمضمون الجملة الأولى أي فرض الله ذلك فرضا ويحتمل أن يكون منصوبة بيوصيكم لانّه بمعنى يفرض الله عليكم فريضة فهو مصدر من غير لفظه.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بمصالح خلقه (حَكِيماً) في كلّ ما فرض وقسّم من المواريث وغيرها.

__________________

(١) الكشاف ج ١ ص ٤٨٤.

١٧٤

الخامسة :

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) جمع زوج بمعنى زوجة ، فإنّه يقع على كل من الزوجين وبظاهر الآية استدل الشافعي على أنّه يجوز للزّوج غسل زوجته لأنّها بعد الموت زوجته بظاهر الآية ومنع الحنفيّة منه نظرا إلى أنّها ليست بزوجة والّا حلّ وطؤها لقوله (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) وردّ بأنّه يلزم التّجوز في هذه الآية أو التّخصيص في الأخرى ومع التّعارض فالتّخصيص أولى.

ويؤيّده انّه قد علم في صور كثيرة حصول الزوجيّة مع حرمة الوطي كزمان الحيض وشبهه وهذا أقوى ، والحكم بوجوب النّصف للزّوج (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ) اى ولد وارث من بطنها أو من صلبه بنيها وبنى بنيها وان سفل ذكرا كان أو أنثى منكم أو من غيركم.

(فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ) ومقتضى العموم هنا أنّ للزّوج النّصف أو الرّبع من جميع ما تركت الزّوجة مالا وعقارا أو غيرهما ولا خلاف في ذلك.

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) متعلّق بما قبله على ما سلف بيانه.

(وَلَهُنَّ) اى للزّوجات (الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ) وارث من صلبكم بواسطة أو بلا واسطة على ما تقدّم (فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) ومقتضى العموم أنّ لها الرّبع أو الثّمن من جميع ما ترك الزّوج كما في النّصف أو الرّبع الثّابت له من جميع ما تركت واليه ذهب المخالفون بأجمعهم من غير فرق عندهم بين كون الزّوجة ذات ولد منه أم لا وهو ظاهر ابن الجنيد من أصحابنا امّا باقيهم ، فقد اختلف أقوالهم في ذلك ومنشأها اختلاف الأخبار الواردة عن أئمّتهم عليهم‌السلام.

والمشهور بينهم ، وخصوصا المتأخّرين الفرق بين ذات الولد وغيرها حيث عمّموا الإرث في الأولى وخصّصوه في الثّانية بالأرض عينا [وقيمة] وبالطوب والخشب

١٧٥

والآلات من الدور والمنازل عينا لا قيمة.

وهذا الفرق وان كانت الأخبار الصّحيحة لا تساعد عليه بل تدلّ على خلافه فانّ مقتضاها عدم الفرق بينهما في عدم الإرث وثبوته ومن ثمّ أطلق الشيخ المفيد والسيّد المرتضى وأبو الصّلاح وجماعة الحكم بعدم إرثها من نفس الرّباع والمنازل من غير تقييد الزّوجة بعدم الولد.

وقوّاه ابن إدريس وقال : «لأنّ التّخصيص يحتاج إلى أدلّة قويّة وأحكام شرعيّة والإجماع على أنّها لا ترث من نفس الرّباع والمنازل سواء كان لها من الزّوج ولد أو لم يكن ، وهو ظاهر قول شيخنا المفيد في مقنعته والسيّد المرتضى في انتصاره» انتهى كلامه.

وفي دعواه الإجماع بعد ما عرفت من ذهاب جماعة إلى الفرق وهو قول الصّدوق في الفقيه واختاره الشّيخ أبو جعفر في مواضع من كتبه وهو أقرب ويدلّ عليه رواية ابن أذينة (١) المنقولة في الفقيه الدّالّة على أنّ النّساء إذا كان لهنّ ولد أعطين من الرّباع.

لا يقال : هي رواية مقطوعة والأخبار الصّحيحة دلّت على العدم مطلقا كصحيحة زرارة (٢) عن الباقر عليه‌السلام : المرأة لا ترث ممّا ترك زوجها من القرى والدّور والسّلاح

__________________

(١) انظر الفقيه : ج ٤ ، ص ٢٥٢ الرقم ٨١٣. ورواه في التهذيب ج ٩ ، ص ٣٠١ بالرقم ١٠٧٦. والاستبصار : ج ٤ ، ص ١٥٥ بالرقم ٥٨٢. وهو في الوسائل ج ٣ من طبعة الأميري الباب ٧ من أبواب ميراث الأزواج الحديث ٢ ، ورواه في الوافي الجزء ١٣ ، ص ١٢٤.

(٢) انظر التهذيب : ج ٩ ، ص ٢٩٨ الرقم ١٠٦٥. والاستبصار : ج ٤ ، ص ١٥١ الرقم ٥٧١. والكافي : ج ٢ : ص ٢٧٢ باب ان النساء لا يرثن من العقار شيئا ، الحديث ٢. وهو في المرآة ج ٤ ، ص ١٥٣. وفيه : «صحيح». وهو في الوسائل : ج ٣ من طبعة الأميري ص ٣٥٥ الباب ٦ من أبواب ميراث الأزواج ، الحديث ١. والوافي الجزء ١٣ ، ص ١٢٣.

١٧٦

والدّوابّ شيئا وترث من المال والفرش والثّياب ومتاع البيت ممّا ترك ويقوّم النقض والأبواب والجذوع والقصب فتعطى حقّها منه.

وكصحيحة محمّد بن مسلم (١) عن الباقر عليه‌السلام قال : النّساء لا يرثن من الأرض ولا من العقار شيعا ونحوهما من الأخبار.

لأنّا نقول : الرّواية المذكورة وان كانت مقطوعة الّا أن القطع في أمثالها غير مضرّ على ما ثبت في محلّه والصدوق أوردها في كتابه مع ضمانه ما ينقله فيه ومع هذا فإنّما عملنا بها لأنّها توجب تقليل التّخصيص في القرآن فإنّ الآية المذكورة اقتضت التّوريث على العموم والتّخصيص مخالف لظاهرها فكلّما كان أقلّ كان أولى فلعلّ ذلك هو الموجب لتخصيص الأخبار الصّحيحة بغير ذات الولد مضافا الى ما ذكر.

وما ذهب اليه ابن الجنيد من الإرث مطلقا كما هو ظاهر الآية بعيد لما فيه من طرح الأخبار الصّحيحة الكثيرة الواردة بخلافه صريحا.

وما دلّ عليه من صحيحة الفضل بن عبد الملك (٢) وابن أبى يعفور عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرّجل هل يرث من دار امرأته أو أرضها من التّربة شيئا أو يكون ذلك بمنزلة المرأة فلا يرث من ذلك شيئا؟ فقال : يرثها وترثه من كلّ شيء تركت وترك.

فلا ينافيها بل الظّاهر منها التّقيّة وحملها ابن بابويه على ذات الولد فإنّها ترث من كلّ شيء أمّا حمل الشيخ على أنّ لها من كلّ شيء ما عدا تربة الأرض من

__________________

(١) انظر التهذيب : ج ٩ ، ص ٢٩٨ الرقم ١٠٦٦. والاستبصار : ج ٤ ، ص ١٥٢ الرقم ٥٧٢. والكافي ج ٣ ، ص ٢٧٢ باب ان النساء لا يرثن من العقار شيئا ، الحديث ١. والمرآة ج ٤ ، ص ١٥٢. وفيه : «مجهول» لكن المصنف عبر عنه في الكتاب بالصحيح.

(٢) انظر التهذيب : ج ٩ ، ص ٣٠٠ الرقم ١٠٧٥. والاستبصار : ج ٤ ، ص ١٥٤ الرقم ٥٨١. والفقيه : ج ٤ ، ص ٢٥٢ الرقم ٨١٢. والراوي في التهذيب فضل بن عبد الملك مكبرا. ورواه في الوسائل ج ٣ من طبعة الأميري ص ٣٥٦ الباب ٧ من أبواب ميراث الأزواج الحديث ١. وفي الوافي الجزء ١٣ ، ص ١٢٤ مع بيان للحديث. ويعلم منه ان الفضل هو البقباق.

١٧٧

القرايا والأرضين والرّباع والمنازل فيخصّ بالأخبار الدّالّة على عدم الإرث منها فبعيد عن الظّاهر.

وبالجملة العمل بعموم الآية لازم لو لا الأخبار الصّحيحة المتظافرة في التّخصيص وحينئذ فما قلّ من التّخصيص اولى ممّا كثر على ما عرفت.

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) كرّر ذلك للاهتمام بشأنهما وحثّ الورثة على عدم مخالفتهما.

(وَإِنْ كانَ رَجُلٌ) اى الميّت (يُورَثُ) صفة رجل والعائد محذوف اى يورث منه (كَلالَةً) خبر كان أو يورث خبر والعائد ما عرفته والكلالة حال من ضميره أو مفعولا له والمراد بالكلالة من ليس بوالد ولا ولد من سائر القرابات كما دلّت عليه صحيحة عبد الرحمن (١) بن الحجّاج عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : الكلالة من لم يكن له ولد ولا والد ونحوها من الأخبار ، وهي في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوّة من الإعياء استعيرت للقرابة من غير جهة الوالد والولد ، لأنّها بالإضافة إلى قرابتهما كالة ضعيفة.

وإذا جعلت صفة للمورّث أو الوارث فبمعنى ذي كلالة تقول : فلان من قرابتي تريد من ذي قرابتي ، واحتمل في الكشاف أن يكون صفة كالهجاجة والفقاقة للأحمق.

(أَوِ امْرَأَةٌ) عطف على رجل (وَلَهُ) اى للرّجل واكتفى بحكمه عن حكم المرأة لاقتضاء العطف اشتراكهما فيه ويحتمل إرجاعه الى أحد المذكورين أو الى الكلالة لكونها عبارة عن الميّت أو الموروث.

(أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) إطلاقهما وان كان شاملا لما هما من الأب أو الأمّ الّا انّه مقيّد بما كانا من الأمّ لأنّه حكم بتساويهما في الميراث كما دلّ عليه قوله :

(فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) اى سدس ما ترك من غير مفاضلة الذّكر على الأنثى (فَإِنْ كانُوا) اى من يرث بالأخوة (أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) فاقتضى ذلك

__________________

(١) انظر التهذيب : ج ٩ ، ص ٣١٩ الرقم ١١٤٧. والكافي ج ٢ ، ص ٢٦٣ باب الكلالة الحديث ٣. وهو في المرآة ج ٤ ، ص ١٤٦. وفيه : «حسن كالصحيح».

١٧٨

أنّ الأخ من الامّ ان كان واحدا فله السّدس وان كانوا أكثر من واحد فلهم الثلث من التّركة يتساوون فيه من غير فرق بين الذّكر والأنثى.

وذكر تعالى في آخر السورة إنّ للأختين الثّلثين وأنه مع اجتماع الاخوة والأخوات فللذّكر مثل حظّ الأنثيين وهذا يقتضي أن يكون المحكوم عليه بالتّساوي في الإرث هنا غير المحكوم عليه ثمّة لمكان الاختلاف.

وينبّه على (١) ما قلناه ما رواه الكليني عن بكير بن أعين قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : امرأة تركت زوجها وإخوتها لامّها وإخوتها لأبيها فقال عليه‌السلام : للزّوج النّصف ثلثة أسهم وللاخوة من الامّ الثلث الذّكر والأنثى فيه سواء وبقي سهم فهو للاخوة والأخوات من الأب للذّكر مثل حظّ الأنثيين لأنّ السّهام لا تعول ولا ينقص الزّوج من النّصف ولا الأخوة من الامّ ثلثهم لانّ الله عزوجل يقول : (فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) وان كانت واحدة فلها السّدس.

والّذي عنى الله في قوله (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) انّما عنى بذلك الاخوة والأخوات من الأمّ خاصّة ، وقال في آخر سورة النّساء (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ) يعني أختا لأب وأمّ أو أختا لأب (فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) وان كانوا اخوة رجالا ونساء فللذّكر مثل حظّ الأنثيين» فهم الّذين يزدادون وينقصون (الحديث).

ونحوها صحيحة محمّد بن مسلم عن ابى جعفر عليه‌السلام وقد نقل في مجمع البيان إجماع الأمّة على أنّ الاخوة والأخوات من قبل الامّ يتساوون في الميراث ومفهوم الآية

__________________

(١) انظر التهذيب ج ٩ ، ص ٢٩٢ الرقم ١٠٤٧ رواه عن محمد بن مسلم عن أبى ـ جعفر (ع). وهو في الوسائل ج ٣ من طبعة الأميري ص ٣٥٠ الباب ٣ من أبواب ميراث الاخوة الحديث وفي الوافي الجزء ١٣ ، ص ١٢٥. ورواه في الكافي ج ٢ ، ص ٢٦٤ باب ميراث الاخوة مع الولد الحديث ٤ عن بكير بن أعين عن أبى عبد الله (ع). وفي المرآة ج ٤ ، ص ١٤٧. وفيه «حسن كالصحيح». وروى حديث بكير في التهذيب بالرقم ١٠٤٥.

١٧٩

أنّ الاخوة والأخوات لا يرثون مع وجود الأولاد ولا الإباء بل ولا مع الامّ وهو كذلك عندنا وان خالف فيه العامّة.

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) حال من فاعل يوصى أو من الوصيّة والتذكير لانّه مصدر بمعنى الإيصاء ، ويحتمل أن يكون حالا عن الوصيّة والدّين معا والمراد أنّ الوصيّة والدّين اللّذين يقدّمان على الإرث هما اللّذان لا يكون فيهما إضرار الورثة كأن يقصد بالوصيّة مجرّد حرمانهم وعدم وصول شيء إليهم أو بالدّين ذلك أو يستدين دينا غير محتاج اليه فيضيّعه أو يقرّ بدين مع عدمه قاصدا للإضرار بهم فان ذلك لا يقدّم إذا علم أنّ قصده ذلك فلا يسمع بل يكون وجوده كعدمه على ما يعلم تفصيله من الفروع.

(وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) مصدر مؤكّد كفريضة ويحتمل انتصابه بغير مضارّ على انّه مفعول به ويؤيّده قراءة غير مضارّ وصيّة بالإضافة أي لا يضارّ وصيّة من الله بالأولاد بالإسراف في الوصيّة أو الإقرار الكاذب بالدّين.

(وَاللهُ عَلِيمٌ) بمصالح عباده لا يفعل لهم الّا ما هو خير لهم (حَلِيمٌ) لا يعاجل العصاة بالعقوبة بل يمنّ عليهم بالانظار والإمهال فربّما رجعوا عمّا هم عليه بالتّوبة.

السادسة :

(يَسْتَفْتُونَكَ) أي في الكلالة حذف لدلالة الجواب عليه روى أنّ جابر بن (١) عبد الله كان مريضا فعاده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : إنّي كلالة فكيف أصنع؟ ـ فنزلت وفي الكشاف روى أنّه آخر ما نزل من الاحكام.

قيل : انّه تعالى أنزل للكلالة آيتين أحدهما في الشّتاء وهي الّتي في أوّل سورة النّساء والأخرى في الصّيف وهي هذه فلذا سمّى آية الصّيف.

(قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) فبيّن لكم حكم ميراثها وقد عرفت معناها (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) ارتفاعه بفعل مضمر يفسّره الظّاهر بقرينة الشّرط المختصّ بالفعل اى ان

__________________

(١) انظر الكشاف : ج ١ ، ص ٥٩٨. وقال ابن حجر في الشاف الكاف : «متفق عليه من رواية ابن المنذر عنه». وأخرجه أصحاب السنن.

١٨٠