مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٤

جواد الكاظمي

مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٤

المؤلف:

جواد الكاظمي


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٥٥

__________________

ـ ٥ وهو في طبعه الأميري ج ١ ، ص ٢٥٦ وفي طبعه الإسلامية ج ٣ ، ص ٢٢٨ المسلسل ٥٢٣٧ وهو في التهذيب طبعة النجف ج ٢ ، ص ٤٥ الرقم ١٤٤ و ١٤٥ وفي الاستبصار ج ١ ، ص ٢٩٥ الرقم ١٥٠٨ و ١٠٥٩ والحديث في الوافي الجزء الخامس ص ٨٥ عن التهذيب والاستبصار وفيه بعد نقل الحديث بيان لطيف من شاء فليراجع فإنه بيان دقيق حقيق بالمراجعة ويطول بنا الكلام لو شئنا نقله.

وقد عمل الأصحاب بهذه الرواية في قبلة المتحير انظر الذكرى للشهيد الأول ـ قدس‌سره ـ وليس للذكرى أرقام الصفحات حتى نشير اليه فلا وجه لحكم المصنف بضعف حديث خراش عن زرارة في بحثنا هذا ، مع ان المصنف لم يتعرض لحديث ابن محبوب عن نعيم بن إبراهيم المروي في الفقيه ج ٤ بالرقم ١١٧ طبعة النجف والرقم ٥٠٧٨ طبعة مكتبة الصدوق والتهذيب ج ١٠ ، بالرقم ٣٠٦ وكل الرجال في هذا الحديث ممن يصح الوثوق بهم.

وعندئذ فالأولى الحكم بتساقط الأحاديث من هذه الجهة وقد قوينا في الاخبار المتعارضة الحكم بالتساقط فالمرجع التوجه الى كلام الله المجيد والمفاد منه وما يقتضيه عمومه أو إطلاقه.

ولقد أحسن في الخلاف ج ٣ ، ص ٤٦ ، المسألة ٤٩ من كتاب اللعان حيث استدل على قبول الشهادة إذا كان أحدهم الزوج بقوله (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ). الآية ١٥ من سورة النساء : وقوله (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) ، وقوله : لو لا جاءوا عليه بأربعة شهداء ولم يفرق بين كون الزوج واحدا منهم أو لم يكن (ما نقلناه مفاد كلام الشيخ لا عين لفظه فلا تغفل) والله أعلم بحقائق الأمور.

وبعد ما تحق لك اختلاف نقل الوسائل مع المصادر بمواضعه المختلفة وان لم يكن الاشتباه عن العلامة المتبحر صاحب الوسائل قدس الله روحه بل لعله كان من الناسخين فانى لاوصى الفقهاء العظام والعلماء الكرام ان لا يكتفوا عند الحكم في المسألة بمجرد مراجعة الوسائل قبل التنقيب في المواضع المتعددة من المصادر التي نقل عنها الوسائل والتحقيق العميق في لفظ الراوي ولفظ الحديث وهذا الإيصاء منى وان كان أشبه شيء بالمثل المعروف في ـ

١٢١

(لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ). وإليه يذهب الشّافعيّة ، والأوّل غير بعيد ، ويمكن الجمع بين الأخبار بحمل ما دلّ على حدّ الثّلاثة غير الزّوج على ما إذا اختلّت شروط الشّهادة كسبق الزّوج بالقذف أو غيره وحينئذ فيحصل الجمع بين الأدلّة.

(فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ) ان قرئ بنصب أربع كان شهادة أحدهم إمّا مبتدا حذف خبره ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره فعليهم أو الواجب أن يشهد أحدهم أربع شهادات ، ونصب الأربع على المصدريّة ، وان قرئ بالرّفع كان خبر الشّهادة.

وقوله (بِاللهِ) متعلّق بها لتقدّمها وقيل بشهادات لقربه (إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) اى فيما رماها به من الزّنا أو نفى الولد متلفّظا بذلك لكونه المشهود به أن يقول أربع مرّات : أشهد بالله انّى لمن الصّادقين فيما رميتها به من الزّنا.

(وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ) جاعلا للمجرور بعلى ياء المتكلّم (إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) فيما رماها به من الزّنا أو نفي الولد ، متلفّظا بذلك على ما عرفت.

وهذه الشّهادات الأربع تقوم مقام الشّهود الأربعة ، في إسقاط حدّ القذف عنه وهو حكم خصّ به الأزواج في قذف نسائهم في دفع الحدّ عنهم ، ومن ثمّ لو لم يفعلها حدّ للقذف كما اقتضاه عموم (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ). الآية لشمولها الزّوجة وغيرها ، وبعد الشّهادات الأربع يثبت الحدّ على المرأة ولها أن تدفعه باللّعان لقوله (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) اى يسقط عنها الحدّ (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) فيما رماها به متلفّظة بذلك (وَالْخامِسَةَ) بالنّصب على قراءة حفص لعطفها على أربع وبالرّفع مبتدا خبره (أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ

__________________

ـ الفارسية (زيره بكرمان بردن وقطرة بعمان روان كردن است) ولكني خفت أن أكون مسئولا عند الله العزيز القهار ان كففت نفسي عن هذا التذكار ، وليس لي في هذا التذكار تعريض ولا اشكال على أحد والله العالم بالاسرار على ما أقول شهيد. وان تلقى أحد هذا الحد من الكلام منى إساءة أدب فانى اليه معتذر والمأمول منه قبول عذري والعذر عند كرام الناس مقبول.

١٢٢

الصَّادِقِينَ) فيه.

وخصّت الملاعنة بان تخمس بغضب الله للتّغليظ عليها لأنّها هي أصل الفجور ومنبعه ولذلك كانت مقدّمة في آية الجلد ، ويؤيّد ذلك قوله عليه‌السلام لمّا أرادت الملاعنة : إن كنت ألممت بذنب فاعترفي فالرّجم أهون عليك من غضب الله انّ غضب الله هو النّار.

ومقتضى الآية تقدّم الرّجل في اللّعان على المرأة ولا خلاف فيه ويؤيّده المنقول من فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولانّ لعان المرأة انّما هو لإسقاط الحدّ الّذي وجب عليها بلعان الزوج ، وهو انّما يكون مع تقدّمه ، ومن ثمّ لو نكلت عن اللّعان وجب عليها الحدّ عند أكثر العلماء خلافا لأبي حنيفة ، حيث أوجب حبسها حتّى تلاعن ، وكذا الرّجل إذا نكل فإنّه يجب عليه الحدّ.

وأبو حنيفة يوجب عليه الحبس حتّى يلاعن مستدلّا عليه بان النّكول ليس بصريح في الإقرار فلا يجوز إثبات الحد به كاللّفظ المحتمل للزنا وغيره ، ويرده انّا لا نثبت الحد على النّاكل بمجرد النّكول ، بل نقول المخلّص من الحد اللّعان وحيث لم يأت به وجب الرجوع إلى مقتضى آية القذف وهو الحد ، ويؤيّده قوله : ويدرأ عنها العذاب» الآية فإنّ المراد بالعذاب هو الحدّ ، وهي صريحة في أنّ علّة سقوطه اللّعان فإذا لم تأت به لم يسقط عنها وبالجملة قول أبي حنيفة مخالف للكتاب والسّنّة.

أمّا وجوب قيام الرّجل حال اللّعان أو قيامهما معا ونحو ذلك من الأمور فمعلوم من خارج الآية.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ سبب اللّعان قذف الزّوجة أو نفى الولد ، ودلالة الآية على ثبوته بقذف الزّوجة ممّا لا يرتاب فيه ، وأنكر ابن بابويه (١) في المقنع ثبوت

__________________

(١) انظر المقنع ص ١٢٠ طبعة الإسلامية بل هو صريح بيانه في الفقيه عند الجمع بين روايات جلد الشهود إذا كان أحدهم الزوج وثبوت اللعان وقد نقلنا كلامه بعين عبارته بعد نقل الحديث بالرقم ١١٨ طبعة النجف و ٥٠٧٩ طبعة مكتبة الصدوق ج ٤ فدقق النظر فيما نقلناه هناك.

١٢٣

اللّعان بذلك وقال : لا يكون اللّعان إلّا بنفي الولد ، نظرا إلى ظاهر رواية أبي بصير المتقدّمة وهي ضعيفة السّند لا تقاوم ظاهر الآية.

وحكم اللّعان عندنا زوال الفراش بينهما والتّحريم المؤبّد ، بحيث لا يجوز لهما الاجتماع بعد ذلك بوجه ، وعليه دلّت الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : المتلاعنان لا يجتمعان أبدا (١) ، وفي كلام بعض العامّة ما يشعر بأنّه لا يحصل به الفرقة أصلا ، لأنّ أكثر ما فيه أن يكون الزّوج صادقا في قذفه وهو لا يوجب تحريما كما لو قامت البيّنة عليها ، وهذا القول ممّا انعقد الإجماع على خلافه سابقا ولا حقا.

ولا يتوقّف الافتراق عندنا على حكم الحاكم ، واليه ذهب المالكيّة والشافعية وجماعة من العامّة ، وقالت الحنفيّة : لا يقع الفرقة إلّا بتفريق الحاكم لا بدونه وهو ضعيف.

وهذه الأحكام تتعلّق بلعان الزّوجين معا عندنا فما لم يتمّ اللّعان منهما لم يثبت شيء من تلك الأحكام ، وقالت الشّافعيّة : تتعلّق الأحكام المذكورة بلعان الزوج

__________________

(١) حرمة المتلاعنة لزوجها ابدا مصرح بها في اخبار كيفية اللعان فانظر الوسائل الباب ١ من أبواب اللعان وهو في طبعه الأميري ج ٣ ، ص ١٩٦ ، وفي طبعه الإسلامية ج ١٥ من ص ٥٨٦ ـ ٥٩٠ ، ومستدرك الوسائل ج ٣ ، ص ٣٥ و ٣٦ ومن كتب أهل السنة سنن البيهقي ج ٧ ، ص ٤١٠ ، والدر المنثور ج ٥ ، ص ٢٤.

واما لفظ المتلاعنان فتراه في الخلاف ج ٣ ، ص ٣٨ المسألة ٢٦ من كتاب اللعان وكذا ص ٣٩ المسألة ٣١ ، ورواه في كنز العرفان ج ٢ ، ص ٢٨٥ ومن كتب أهل السنة تراه في المنتقى بشرح نيل الأوطار ج ٨ ، ص ٢٨٧ أربعة أحاديث بهذا اللفظ عن الدار قطني والمرفوع من حديث الدار قطني ج ٣ ، ص ٢٧٦ : المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا.

ونقله في مرقاة المصابيح ج ٣ ، ص ٤٩٤ «عن ابن الهمام عن الدار قطني عن النبي بلفظ : المتلاعنان إذا افترقا لا يجتمعان أبدا ، قال : وقد طعن أبو بكر الرازي في ثبوته عن رسول الله (ص) لكن قال صاحب التنقيح : إسناده جيد» انتهى ما أردنا نقله عن المرقاة.

١٢٤

وحده ، فإذا وجد منه اللعان بكماله فقد ثبت الأحكام المذكورة ، امّا لعان المرأة فإنّه لا يتعلّق به أكثر من سقوط حدّ الزّنا عن نفسها.

وهو بعيد ، فإنّه خلاف ظاهر الآية ، وذلك لانّه لو وقعت الفرقة بلعان الزوج لا عنت المرأة وهي أجنبيّة ، فكان ينبغي أن لا يجوز لانّه تعالى أوجب اللّعان بين الزّوجين.

وعلى المرأة العدّة بعد تمام اللّعان عدّة طلاق ان كانت من أهلها وقالت الشّافعيّة : انّها عدّة فسخ لإطلاق وعند الحنفيّة انّ الفرقة لا يقع إلّا بتفريق الحاكم بينهما لا بدونه ، ولا يتأبد التحريم عندهم بل يكون المراد في حكم التطليقة الثانية وهو ضعيف.

ولو كان اللعان لنفي الولد انتفى عنه ولا توارث بينهما ولا نسب بالكلية ، فلا يرث أقرباء الميت ولا يرثونه ، وفي قول بعيد لأصحابنا يثبت التوارث بينهم مع تصديقهم على نسبه ، لانّ الإقرار لا يتعدى المقرّ ، ويثبت التوارث بين الولد وبين امه ، ويلحق بها وبمن يتقرّب إليها ، وتمام ما يتعلق بذلك من الاحكام يعلم من الفروع.

السادس

من روافع النكاح

الارتداد وهو قطع الإسلام بقول أو فعل كإنكار ما علم من الدّين ضرورة والسجود للصنم وإلقاء المصحف في القاذورات ونحوها مما علم وجوب تعظيمه.

ويستدلّ على قطع النكاح بالآيات الدّالّة على تحريم المشركين والمشركات وبقوله (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) وقد تقدّم جملة من ذلك وتمامه يعلم من محله.

١٢٥

كتاب

المطاعم والمشارب

والايات المتعلقة بذلك على أقسام اما تدلّ على أصالة الإباحة في كلّ ما ينتفع به خاليا عن مفسدة وهو آيات.

الاولى : [البقرة : ٢٩] (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ذكر تعالى ذلك في معرض الامتنان على عباده ، بعد ان امتن عليهم بخلقهم أحياء قادرين مرة بعد اخرى ، على ما دلّت عليه الآية السابقة عليها.

والمعنى أن الأرض وجميع ما خلق فيها نعم من الله تعالى ، خلقها لكم ، اي لأجلكم وانتفاعكم إما في دنياكم باستنفاعكم بها في مصالح أبدانكم بواسطة أو بغير واسطة ، وإما في دينكم فبالاستدلال على الصانع القادر الحكيم ، والتعرف لما يلائمها من لذات الآخرة ، والتذكّر بثوابها وعقابها لاشتمالها على أسباب الأمن واللذة من فنون المطاعم والمشارب والمناكح والمراكب والمناظر الحسنة ، وعلى أسباب الوحشة من أنواع المكاره كالنيران والصواعق ونحوها.

والمراد أن الغرض من خلقها ذلك وهو يقتضي إباحة الأشياء النافعة وانها في الأكل مباح على الإطلاق لكل أحد أن يتناولها والامتنان بذلك إنما هو على ذلك التّقدير ولا يمتنع اختصاص بعضها لبعض الأسباب العارضة فإنّها تدلّ على أنّ الكلّ للكلّ لا أنّ كلّ واحد لكلّ.

ويحتمل الاستدلال بها على إباحة الأرض نفسها بان يراد بالأرض في الآية الجهات السفليّة دون الغبراء كما تذكر السّماء ويراد بها الجهات العلويّة فيدخل الأفلاك أيضا والمعنى انّه خلق لكم ما في الجهات السفليّة جميعا فيدخل الأرض وما فيها لكونها داخلة تحت ما العامّة على هذا التّقدير.

١٢٦

الثانية [البقرة : ١٦٨].

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) مثل السّابقة في جعل العموم وقد مرّ تفسيرها في كتاب المكاسب ولكن نذكر الآية الّتي بعدها وهي :

(إِنَّما يَأْمُرُكُمْ) الشّيطان (بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ) بيان لعداوته ووجوب الانتهاء عن اتّباعه لأنّه لا يدعو إلى خير قطّ ، وانّما يدعو إلى المعاصي وما يسوء الإنسان أي يضرّه في الدّين والدّنيا ، وأستعير الأمر لتزيينه وبعثه لهم على ذلك تسفيها لرأيهم وتحقيرا لشأنهم حيث انّهم فيه بمثابة المأمور المطيع للآمر وإذا كان الآمر المطاع مرجوما مذموما فكيف حال المأمور المطيع وفي هذا معتبر البصر أو مزدجر العقلاء.

قال القاضي : والسّوء والفحشاء ما أنكره العقل واستقبحه الشّرع والعطف لاختلاف الوصفين فإنّه سوء لاغتمام العاقل به وفحشاء لاستقباحه إيّاه وقيل : السوء يعمّ القبائح والفحشاء ما يتجاوز الحدّ في القبح من الكبائر ، وقيل : الأوّل ما لا حدّ فيه والثّاني ما شرع فيه الحدّ.

ولا يذهب عليك انّ كلامه هذا صريح في القبح العقلي الّذي نفاه الأصوليون (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) كاتّخاذ الأنداد وقولهم : هذا حلال وهذا حرام بغير علم بل مقتضى العموم دخول كل ما يقال على الله من غير علم سواء كان إطلاق اسم عليه أو وصفه بصفة أو استناد حكم اليه من الوجوب أو النّدب أو الكراهة أو الإباحة أو التحريم.

قال القاضي : وفيه دليل على المنع من اتّباع الظنّ رأسا وامّا اتّباع المجتهد لما ادّى اليه ظنّ مستند الى مدرك شرعيّ فوجوبه قطعيّ والظنّ في طريقه كما بينّاه في الكتب الأصوليّة ، انتهى.

ولا يذهب عليك انّ مراده بدلالتها على المنع من اتّباع الظنّ فيما ينسب اليه تعالى مطلقا سواء كان من الاعتقاديّات كأصول الدّين أو المتعلّقة بالعمل

١٢٧

كالفروع. ثمّ اخرج من ذلك اتّباع الظنّ الحاصل للمجتهد من مدرك شرعيّ فإنّه ممّا يجب اتّباعه وان كان الظنّ في طريقه نظرا الى ما دل عليه من الدّليل.

وذلك لانّ هنا مقدّمتين وهي قول المجتهد : هذا مظنوني مجتهدا وكلّ ما هو كذلك فهو ممّا يجب عليّ العمل به والأولى وجدانيّة والثّانية إجماعيّة قطعيّة فيكون الحاصل منهما اعني وجوب العمل معلوما على القطع له ، فمراده إخراج ذلك ممّا منع من اتّباع الظنّ فيه لا انّ العلم قد تعلّق بالحكم نفسه ، فانّ كون الحاصل من الدّليل الظنّي أعني أحد الأحكام الخمسة نفسها معلوما للمجتهد غير ظاهر ، إذ ما يلزم من الدّليل الظنّي ظنّي قطعا ، إلّا أن نقول بالتّصويب وهو قول مرغوب عنه لقيام الدّليل على التخطئة.

ويمكن ان يراد من العلم ما يشمل الظنّ أيضا فإنّ إطلاق العلم عليه في القرآن غير عزيز وحينئذ فيصحّ القول بذلك الحكم الظنّي واستناده الى الله تعالى وكان عليه أن يذكر المقلّد فإنّه يجب عليه اتّباع ما ادّى اليه ظنّ مجتهده ويعلم ذلك أيضا بدليل مثل قوله : هذا ظنّ مجتهدي ، وما هو كذلك يجب عليّ العمل به والأولى فرضيّة والثّانية إجماعيّة ، فلا يحرم عليه اسناد الاحكام المظنونة له اليه تعالى ، بأن يقول : هذا حرام وهذا واجب ونحو ذلك.

ومن ثمّ قيل : انّ تقليد المجتهد ليس بتقليد على الحقيقة بل على المجاز فإنّه قبول قول الغير بغير دليل وهذا له دليل فيكون الإخلال به مع ذكر المجتهد بعيدا من الصّواب إلّا أن يقال : هو داخل في اتّباع ظنّ المجتهد لكونه مقلّده أو يقال : خرج ذلك بالإجماع ولولاه لمنعنا العمل به فانّ اتّباع الظنّ مذموم الّا فيما دلّ الدّليل عليه.

ثمّ انّ القاضي عند قوله تعالى (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) قال : هو دليل على المنع من التّقليد لمن قدر على النظر والاجتهاد وامّا اتباع الغير في الدّين إذا علم بدليل ما انّه محقّ كالأنبياء والمجتهدين في الأحكام فهو في الحقيقة ليس بتقليد بل اتّباع لما انزل الله وهذا يوجب إدراج المقلّد مع

١٢٨

المجتهد فيما تقدّم.

لكن في كلامه هذا نظر من وجوه :

الأوّل ـ انّا لا نسلّم دلالة الآية على ذلك إذ ليس فيها إلّا تحريم ترك ما انزل الله واتّباع الإباء لا تحريم التّقليد مطلقا لمن قدر على الاجتهاد إلّا أن يقال : الذّمّ انّما توجّه إليهم بسبب التّقليد إذ لو كان لهم حجّة يستمسكون بها لم يتعلّق بهم الذّمّ فتوجّه الذّمّ إليهم لذلك يعطى التّحريم مطلقا ويلزم المطلوب.

وقد يستدلّ على بطلان التّقليد بأن يقال للمقلّد : أعرفت انّ المقلّد محقّ أم لا فان لم تعرف فكيف قلّدته مع احتمال كونه مبطلا وان عرفت فامّا بتقليد آخر ويلزم التّسلسل وامّا بالعقل وذلك كاف في معرفة الحقّ والتّقليد ضائع.

الثّاني ـ حكمه بجواز اتّباع الغير في الدّين إذا علم إلخ لا يخفى ما فيه فإنّه لا يكفي في الاتّباع مجرّد كون المنع محقا ، بل لا بدّ له من دليل على الاتّباع حتّى يخرج من التّقليد المذموم ويدخل في اتّباع الدّليل فانّ التّقليد إذا عرى من الدّليل كان مذموما كما أشرنا اليه.

وأيضا لا يجوز للمجتهد تقليد مجتهد غيره كما بيّن في الأصول ، مع انّ ذلك الغير محقّ ومتّبع لما انزل الله إلّا أن يريد غير المجتهد كما يعطيه سياق كلامه الدّالّ على المنع من التّقليد لمن قدر على النظر والاجتهاد ، وان كان قوله أخيرا انّ اتّباع المجتهد ليس بتقليد قد يأباه فتأمّل فيه.

وبالجملة عدم جواز تقليد المجتهد مجتهدا آخر معلوم قطعا إذ الظنّ الحاصل باجتهاده أقوى ممّا يحصل له بالتّقليد ومع وجود الأقوى لا يتبع الأضعف.

وأيضا المنع من اتّباع الظنّ في القرآن كثير إلّا ما خرج بالدّليل ووجوده هنا غير ظاهر لعدم الإجماع وهو العمدة في جواز التّقليد وانتفاء الحرج والضّيق المتعيّن عقلا بدونه.

ومن ثمّ اختلف الأصوليون في أصل جواز التقليد حتى ذهب جماعة إلى إيجاب

١٢٩

الاجتهاد على كلّ أحد وحرم التقليد ، نظرا الى انّ الحاصل منه ظنّ مذموم واعتبر آخرون في جوازه عدم كونه ممن يعرف صحة الدّليل وفساده فلا يجوز التقليد بالنسبة إلى العارف وهذا غير بعيد كما يظهر بملاحظة أدلّة جواز التقليد وعدمه ولو لا الضرورة والحرج لكان القول بعدم جوازه مطلقا أوجه.

لكنّ الظاهر أنّ فيه ضررا عظيما وحرجا وضيقا وهو منفي بالعقل والنقل بل متعذّر من أكثر الناس وقد بسطنا الكلام هنا في الأصول.

والواو في قوله (أَوَلَوْ كانَ) للعطف لا للحال على ما وقع في الكشاف وفعل الاستفهام محذوف وكذا جواب الشرط والمعنى أيتبعونهم ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من الدّين ولا يهتدون من الصواب لا تبعوهم أيضا.

الثالثة : [البقرة ١٧٧].

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي مما تستلذّونه وتستطيبونه من الرّزق الحلال لا الحرام ، فإنه لا يرزق إلّا الحلال كما ثبت في محلّه ، ولا ما كان خبيثا ينفر عنه الطبع ويجزم العقل بقبح أكله كالدّم والبول والمني والحشرات وغيرها ، ويبقى بيان ما لا يدرك العقل كونه طيبا موكولا الى الدّليل الخارجي.

وقد يستفاد منه اعتبار كونه طاهرا إذ النجس خبيث مضرّ ومن ثمّ فسر بعضهم الطيب بالطاهر ، فهي بمثابة السابقة في الدّلالة على إباحة أكل جميع ما يعدّه العقل طيبا ولا يجد فيه ضررا ولا نجاسة وخبثا مما يسمى رزقا لبني آدم وينتفع به في الأكل والأمر فيها للإباحة ، فإنّ تناول المستلذّات لا يدخل في التعبد.

وما يقال انه للوجوب نظرا الى وجوب أكل المباح وقت الحاجة دفعا للضرر عن النفس ، فلا يخفى ما فيه فانّ مرجع الأوّل الإباحة وتحريم ما عداه والثاني لا يعرض في بعض الأوقات والآية غير مقصورة عليه.

(وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) على ما رزقكم (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) ان صحّ أنكم تخصونه

١٣٠

بالعبادة وتقرّون انه مولى النعم فاشكروا له ، فإنّ العبادة لا تتمّ إلا بالشكر ، إذ هي ضرب منه فإذا كانت هي الغاية فيه وليس وراءها شكر.

قال في مجمع البيان : وتلخيص الكلام ان كانت العبادة واجبة عليكم لأنه إلهكم فالشكر له أيضا واجب عليكم لانه منعم محسن إليكم ، وحاصله انّ العبادة من الشكر فمتى كانت واجبة كان الشكر أيضا واجبا وهو ظاهر في أنّ وجوب الشكر كوجوب العبادة. وقال في مجمع البيان أيضا : الشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من تعظيم المنعم فهو على وجهين :

أحدهما الاعتراف بالنعمة متى ذكر المنعم بالاعتقاد.

والثاني الطاعة بحسب جلالة النعمة فالأوّل لازم على كلّ حال والثاني انما يلزم في الحال الّتي يحتاج فيها الى القيام بالحقّ واما العبادة فهي ضرب من الشكر إلّا انها غاية فيه وليس وراءها شكر ويقترن به ضرب من الخشوع ولا يستحقّ العبادة إلّا الله سبحانه لانه المنعم بأصول النعم مثل الحياة والقدرة والشهوة وأنواع المنافع ولا يوازيها نعمة.

الرابعة :

(كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً)» اى كلوا ما أحلّ الله لكم ورزقكم فانّ جميع ما رزقكم الله حلال وطيّب فلا تحرّموه على أنفسكم وتجتنبون عنه ، «فحلالا» حال كاشفة لا مقيّدة لرزقه بالحلال إذ ما يرزقه الله لا يكون حراما ، امّا «طيّبا» فيحتمل أن يكون كذلك ويحتمل التّقييد كما وقع في الآية السّابقة عليه أعني قوله (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) فانّ ظاهرها النّهي عن تحريم ما طاب ولذّ من الحلال.

وفيه نظر ، بل الظّاهر أنّ قيد طيّبات ما أحلّ الله لبيان الواقع فإنّه محلّ التّحريم الصادر عنهم على ما قيل : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصف القيامة لأصحابه يوما وبالغ في إنذارهم ، فرقّوا ، فاجتمعت جماعة من الصّحابة في بيت عثمان بن مظعون واتّفقوا على أن لا يزالوا صائمين قائمين ولا يأكلوا اللّحم ولا يناموا على فراش

١٣١

ولا يقربوا النّساء والطّيب ويرفضوا لذّات الدّنيا ، ويلبسوا المسوح اى الصّوف ، ويسيحوا في الأرض.

فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك فقال لهم : انّي لم اومر بذلك ، انّ لأنفسكم عليكم حقّا فصوموا وأفطروا وناموا وقوموا فانّى أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللّحم والدّسم وآتى النّساء فمن رغب عن سنّتي فليس منّى فنزلت الآية.

ويحتمل ان يكون الإضافة بيانيّة أي لا تحرّموا ما أحلّ الله. وبعد ما أسلفنا اندفع قول القاضي : انّه لو لم يقع الرّزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة زائدة فانّا أوّلا نمنع كون كلّ ما يذكر له فائدة زائدة ولم لا يكفى بمجرّد الفائدة سلّمنا لكنّها هنا موجودة وهي الإشارة الى انّ ذلك حلال قد رزقكم الله فلا معني لتحريمه والاجتناب عنه كما بيّنا من كون القيد للكشف والبيان ويجوز أيضا أن يكون المراد بيان عدم معقوليّة الاجتناب وانّ ذلك الوصف هو الباعث لمذمّة التّارك المجتنب.

(وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) اى لا تتجاوزوا حدود الله بجعل الحلال حراما والحرام حلالا فانّ ذلك تجاوز عن حدوده واعتقاد مخالف للشريعة فيكون النهي عنه بتجاوز الحدود في اجتناب الحلال على طريق اعتقاد التّحريم أو المرجوحيّة ، وحينئذ فلا تنافي كون تركه للزّهد أو لوجه آخر راجح على العقل كعدم الكسل في العبادة وعدم قساوة القلب ، وإصلاح النّفس وتذليلها ، فإنّه ممّا لا قصور فيه بل هو مندوب اليه ومن ثمّ نقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه ما أكل من الحنطة وما شبع من الشّعير ، وزهد أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب عليه‌السلام قد بلغ الغاية.

وممّا يدلّ على أصالة إباحة ما ينتفع به قوله تعالى (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) اى كالمهد تمتهدونها فهي محلّ لراحتكم كالمهد للصّبيّ وهو مصدر سمّى به وقرئ مهادا اسم لما يمهد به كالفراش أو جمع مهد.

(وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) وجعل لكم فيها طرقا بين الجبال والأودية والبراري

١٣٢

تسلكونها من أرض إلى أرض لتبلغوا منافعها وما لكم فيها من الحوائج (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) مطرا (فَأَخْرَجْنا بِهِ) عدل من لفظ الغيبة إلى صيغة التّكلّم تنبيها على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة وإيذانا بأنّه مطلع فتنقاد الأشياء المختلفة لمشيّته.

ونحوه قوله (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) ومثله في القرآن كثير.

(أَزْواجاً) أصنافا سمّيت بذلك لازدواجها واقتران بعضها ببعض (مِنْ نَباتٍ) بيان أزواج وكذلك قوله (شَتَّى) ويحتمل أن يكون صفة للنّبات ، إذ النّبات مصدر في الأصل يستوي فيه الواحد والجمع وهو جمع شتيت كمريض ومرضى ، بمعنى أنّها متفرّقات في الصور والاعراض من الطّعم واللّون والرّائحة والشّكل وفي المنافع بعضها يصلح للنّاس وبعضها للبهائم.

(كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) حال من ضمير «أخرجنا» على ارادة القول أي أخرجنا أصناف النّبات قائلين كلوا وارعوا انعامكم والمعنى معدّ بها لانتفاعكم بالأكل والعلف ، وحملها على الاستئناف أو انّها مفعول له لا يخلو من عدم استقامة.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) اى فيما خلقنا وأخرجنا دلائل واضحة لذوي العقول الناهية عن اتّباع الباطل وارتكاب القبائح جمع نهية بالضّمّ وهو العقل لأنّه ينهى عن القبيح.

وجوّز أبو علىّ أن يكون مصدرا كالهدي ، وخصّهم بالذّكر ، لأنّهم أهل الفكر والاعتبار فيستدلّون بها على وجود الصّانع وصفاته من العلم والقدرة والإرادة والحكمة ويتأمّلون في حصول هذه النّباتات من الأرض الغبراء بسقي الماء ووجود حكم فيها وانّ بعضها سمّ قاتل وبعضها نافع شاف وبعضها طعام وبعضها فاكهة وبعضها للدواب.

وفيها دلالة على إباحة الأرض بما فيها من النّبات والمأكل لكل انسان بالتّصرف فيها لنفسه ولأنعامه لانّه تعالى إذا أباح الأكل أباح سائر وجوه الانتفاع ومن نعم

١٣٣

الله تعالى أنّ أرزاق العباد انّما تحصل بعمل الانعام وقد جعل الله علفها ممّا يفضل من حاجتهم ولا يقدرون على أكله.

(مِنْها خَلَقْناكُمْ) أراد بخلقهم من الأرض خلق أصلهم وهو آدم عليه‌السلام أو لأنّ بنى آدم خلقوا من النّطفة ودم الطّمث المتولدين من الأغذية المنتهية إلى العناصر الغالبة عليها الأرضيّة أو لما ورد في الخبر : انّ الملك يأخذ من تربة المكان الّذي يدفن فيه الآدمي فيبذرها علي النّطفة.

(وَفِيها نُعِيدُكُمْ) بالموت وتفكّك الاجزاء فتعود أرضا لانّ الجسد يصير ترابا فيختلط بالأرض إلّا من رفعه الله الى السّماء وهو أيضا يحتمل أن يعاد إليها.

(وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) فيؤلّف بين اجزائهم المتفرّقة المختلطة بالتّراب ويردّهم كما كانوا أحياء أوّل مرّة ويخرجهم الى المحشر يوم يخرجون من الأجداث سراعا فيكون الإعادة الجسمانيّة بعد الموت معلومة من الآية كما هي من غيرها.

وقريب من ذلك في الدّلالة قوله تعالى (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أنشاهما مقدّرين على سبيل الاختراع المشتمل على الايات العظيمة امّا السماوات فقد زعم أهل الهيئة لما شاهدوا لكلّ واحد من السّيارات السبع حركات مختلفة كالبطؤ والسرعة بعد التّوسط في الحركة والوقوف والرّجوع بعد الاستقامة إلى الحركة على توالى البروج بعد ما حكموا انّ السّماوات لا يتطرّق إليها الاختلاف الوضعيّ ، وانّ حركة الكواكب في الفلك ليست كحركة السّمك في الماء ، وإنّما تدور بإدارة الفلك إيّاه.

انّ كلّ واحد من الأفلاك السيّارة تنقسم إلى أفلاك أخر يتضمّنها فلكه الكلّي الّذي مركزه مركز العالم ، ومراكزها تخالف مركزه في الأغلب ثمّ ان كان مع المخالفة محيطا بالأرض سمّى الخارج المركز وان لم يكن محيطا بها سمّى بالتّدوير وكان الكوكب فيه مركوزا كالفصّ في الخاتم ، ويلزم من مجموع الحركات المركّبة من تلك الأفلاك حركة مختلفة في النظر ، وان كان كلّ منها متشابها في نفس الأمر ونعني بالتشابه هنا أن يقطع المتحرّك من المحيط في أزمنة متساوية قيسا متساوية

١٣٤

أو يحدث عند المركز زوايا متساوية وبالاختلاف نقيض ذلك.

وأثبتوا لكلّ واحد من السيّارات السّبع أفلاكا تتمّ بها حركاتها الخاصّة بها على وجه تتحيّر فيه العقول ولا شكّ انّ اختصاص مقادير كلّ واحد من الأفلاك بمقدار معيّن مع اشتراكها في الطّبيعة الفلكيّة ، يدلّ على مخصّص مدبّر مختار خبير يديرها وكذا تخصيص كلّ منهما بحيّز معيّن ، وكذا تعيّن نقطته من سطح الفلك لقطبه مع تساوى جميع نقطة المفروضة عليه في صلوح ذلك ونحوها من الأمور المختصّ كل واحد منها لكلّ واحد من تلك الأفلاك وكذا اختلاف تأثيراتها في هذا العالم باذن خالقها.

وبالجملة فإنّ هذا التّرتيب العجيب والنّسق الغريب في تركيب الأفلاك وايتلاف حركتها وارتباط أجرامها واختلاف أوضاعها المستتبعة لاتّصالاتها وانصرافاتها أترى أنّها منبئة عن حكمة حكيم وقدرة خبير أم هي واقعة عبثا وجزافا؟ ـ هيهات.

فانّ من جوّز في بناء رفيع وقصر مشيد ، انّ التّراب والماء انضمّ أحدهما إلى الآخر ثمّ تولّد فيهما النّبات وتولّد من تركّبهما القصر ، ثمّ تزيّن بنفسه بالنّقوش الغريبة والرّسوم اللّطيفة ، قضى العقل عليه بالجنون وسخافة الرّأي بل عدّه من زمرة الأنعام لا من جملة الأنام.

وامّا الأرض فمن تأمّل في شكلها من الاستدارة وكونها واقعة في مركز العالم حتّى انبعث منها بوقوع الشّمس عليها مخروط ظلّيّ في مقابلة الشمس حتّى وقع منها الخسف ، ومن انكشاف بعضها عن كرة الماء لمكان الاستقرار عليها وفي اختلاف أوضاع بقاعها بالنسبة إلى السّماء حتى اختلف مرور الشّمس وسائر الكواكب ، سمت رؤس أقطار البلدان وتباينت الفصول والأمزجة والأخلاق الى غير ذلك ، علم افتقارها الى مدبّر قدير وصانع خبير واحد في ملكه يفعل ما يشاء كما يشاء من غير منازع ومعاند.

وفي جمع السّماوات دون الأرض إشارة إلى أنّها طبقات متفاضلة بالذّات مختلفة بالحقيقة بخلاف الأرض (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) النهار عبارة عن مدّة كون الشمس

١٣٥

فوق الأفق ، وفي عرف الشّرع بزيادة ما بين طلوع الفجر الصّادق وبين طلوع جرم الشّمس وامّا اللّيل فعبارة عن مدّة خفاء الشّمس تحت الأفق أو بنقصان الزيادة المذكورة فإنّ الشّمس إذا غابت يقع رأس مخروط ظلّ الأرض إلى فوق فتقع الأبصار داخلة إلى أن يظهر الضلع المستنير منه من جانب الأفق الشّرقيّ فيكون أوّل الفجر الكاذب إن كان الضّوء مرتفعا عن الأفق بعد وأوّل الفجر الصّادق إذا قرب من الأفق جدّا ، وانبسط النّور حتى إذا غاب رأس المخروط تحت الأرض طلع مركز جرم الشّمس في مقابله.

فالمراد باختلافهما تعاقبهما إذا ذهب أحدهما جاء الآخر على وجه المعاقبة من قوله (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) ويحتمل أن يريد اختلافهما في الجنس واللّون بالنّسبة إلى البقاع فانّ نهار كلّ بقعة ليل بقعة تقابلها ضرورة كرويّة الأرض أو يريد الاختلاف في الطّول والقصر فإنّ زيادة أحدهما تستلزم نقصان الأخر ضرورة كون مجموعهما أربعة وعشرين ساعة وفي ذلك من الايات مالا يخفى.

(وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) اى ينفعهم أو بالذي ينفعهم من الرّكوب والحمل عليها في التجارات والمكاسب ونحو ذلك ، والقصد به الى الاستدلال بالبحر وأحواله وتخصيص الفلك بالذّكر لأنّها سبب الخوض فيه والاطّلاع على عجائبه ، ومن ثمّ قدّم البحر على ذكر المطر والسّحاب ، لانّ منشأهما البحر في غالب الأمر وتأنيث الفلك لانّه بمعنى السفينة ويحتمل أن يراد بما ينفع النّاس ما ينفعهم من الطّيور والسّموك ونحوهما من الأشياء الحاصلة فيه فيكون فيها دلالة على انّها مباحة في الشرع كما هو عند العقل.

(وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) من الأولى ابتدائية والثّانية بيانيّة والسّماء إمّا أن يراد به نفس الفلك أو السّحاب أو جهة العلوّ.

(فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) فعمّرها بعد خرابها لأنّ الأرض إذا وقع عليها المطر أنبتت وإذا لم يصبها المطر لم تنبت فهي كالميّت وعلى هذا فموت الأرض من ترشيح الاستعارة فإنّه لما عبّر عن بهجتها ونضرتها بالحياة عبر عن جمودها

١٣٦

وكمودها وبقائها على الهيئة الأصليّة بالموت كأنّها جسد لا روح فيه وقيل : أراد به احياء أهل الأرض بإخراج الأقوات وغيرها ممّا تحيي بها نفوسهم.

(وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) أي فرّق فيها من كلّ حيوان يدبّ وأراد بذلك خلقها في مواضع مترقّبة فهو عطف على أحيا لأنّ الدّواب ينمين بالخصب ويعشن بالماء ويحتمل عطفه على أنزل.

(وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) في مهابّها وأحوالها اى تقلبها في جهات العالم على حسب المصالح شمالا وجنوبا وشرقا وغربا أى صباء ودبورا وعلى كيفيّات مختلفة حارّة وباردة وعاصفة ورخاء ، وقرأ حمزة والكسائي على الافراد.

(وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فلا ينزل ولا يتقشّع مع انّ الطّبع يقتضي أحدهما حتّى يأتي أمر الله وقيل : تسخير الرّياح تقليبه في الجوّ بمشيّته (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يتفكّرون فيها وينظرون إليها بعيون عقولهم وفيها دلالة على جواز الرّكوب في البحر والانتفاع بسمكه وطيره إلّا ما أخرجه الدّليل.

وفيها أيضا دلالة ظاهرة على وجود الإله ووحدته وحكمته وقدرته من وجوه شتّى يطول شرحها والحاصل انّ المذكور أمور ممكنة وجد كلّ منها على وجه مخصوص من بين وجوه مختلفة فلا بدّ لها من موجد قادر حكيم يوجدها على ما تستدعيه حكمته وتقتضيه مشيّته متعاليا عن معارضة غيره وإلّا لم يتمّ الصّنع على الوجه البديع والنّظام العجيب.

وإنّما خصّ الايات الثمانية بالذّكر مع أنّ سائر الأجسام والأعراض مستوية في الاستدلال بها على وجود الصّانع بل كلّ ذرّة من الذّرات لأنّها جامعة بين كونها دلائل وبين كونها نعما على المكلّفين ، ومتى كانت الدلائل كذلك ، كانت أنجع في القلوب وأشدّ تأثيرا في الخواطر وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : ويل لمن قرء هذه الآية فمجّ بها اى لم يتفكّر فيها ولم يعتبر بها وفيها تنبيه على شرف علم الكلام والحثّ على البحث والنّظر فيه.

١٣٧

الثاني

ما فيه دلالة على تحريم بعض الأشياء

وفيه آيات.

الاولى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) قد تقدّم تفسير الآية الى قوله (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ) وهنا نذكر تتمتها اعنى (وَالْمُنْخَنِقَةُ) وهي الّتي ماتت بالخنق وهي داخلة في الميتة ، وكذا ما بعدها لكن ذكرها منفردة عنها للتنصيص على تحريمها وعدم حلها بوجه ردّا على الجاهليّة حيث كانوا يأكلونها.

(وَالْمَوْقُوذَةُ) وهي الّتي اثخنوها ضربا بخشب أو حجر أو نحوه من الثقل حتّى تموت ، من وقذته إذا ضربته ضربا شديدا والوقذة شدّة الضرب.

(وَالْمُتَرَدِّيَةُ) الّتي تردت من علوّ أو في بئر فماتت.

(وَالنَّطِيحَةُ) الّتي نطحتها اخرى فماتت بالنّطح فعيل بمعنى مفعول وهو يقتضي عدم التّاء لاستواء المذكّر والمؤنّث فيه لكنّها هنا للنّقل من الوصفيّة إلى الاسميّة.

(وَما أَكَلَ السَّبُعُ) ما أكل منه وبقي بعضه فمات بذلك لأنّ ما أكل السبع فقد ذهب ولا حكم له وإنّما الحكم للباقي قال القاضي : وهو يدلّ على أنّ جوارح الصّيد إذا أكلت ما اصطادته لم يحلّ. قلت : في الدّلالة بحث وسيجيء تمام الكلام.

(إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) إلّا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء وفيه حياة مستقرّة وسيجيء بيانها ، وقيل : انّ الاستثناء متعلّق بما أكل السّبع وقيل : انّه استثناء منقطع من المحرمات كأنّه قيل لكن ما ذكّيتم من غير هذا فهو حلال.

والذكاة هي قطع العروق الأربعة بمحدّد مع الشرائط المعتبرة.

١٣٨

(وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) هو واحد الأنصاب وهي أحجار كانت منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويشرحون اللّحم عليها يعظّمونها بذلك ويتقرّبون بها إليها وهي ثلاث مائة وستّون حجرا وقيل : هي الأصنام وعلى بمعنى اللّام كما ورد العكس في : سلام لك من أصحاب اليمين ، بمعنى سلام عليك أو على أصلها بتقدير وما ذبح يسمّى عليها.

(وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) اى حرم عليكم الاستقسام بالاقداح اى السّهام وذلك انّهم إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاث أقداح مكتوب على أحدها : أمرني ربّي ، وعلى الأخرى ، نهاني ربّي ، والثالث غفل لا كتابة عليه فان خرج الآمر مضوا على ذلك أو النّاهي تجنّبوا عنه وان خرج الغفل أجالوها ثانيا فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم من الخير والشرّ ، دون ما لا يقسم لهم بالأزلام.

وقيل : المراد به الميسر وقسمتهم الجزور على الأنصباء المعلومة واحدها زلم كجمل وزلم كصرد وروى على بن إبراهيم (١) في تفسيره عن الصادقين عليهم‌السلام : انّ الأزلام عشرة سبعة لها أنصباء وعددها الى ان قال : وكانوا يعمدون الى الجزور فيجزؤنه أجزاء ثمّ يجتمعون عليه فيخرجون السّهام ويدفعونها الى رجل وثمن الجزور على من يخرج له السّهام الّتي لا أنصباء لها وهي القمار فحرمه الله تعالى وقيل : هي كعاب فارس والرّوم الّتي كانوا يتقامرون بها وهي الشطرنج.

(ذلِكُمْ فِسْقٌ) تأكيد لما تقدّمه فيحتمل اختصاصه بالاستقسام ويحتمل رجوعه الى الجميع اى هو ذنب عظيم وخروج عن طاعة الله الى معصيته فاللازم التّباعد عنه.

(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) اعتراض توسّط بين المحرّمات السّابقة وبين قوله : ـ (فَمَنِ اضْطُرَّ) لانّه متّصل بالمحرّمات السابقة

__________________

(١) انظر تفسير القمي ص ٨٢. ورواه عنه في البرهان ج ١ ، ص ٤٢٣.

١٣٩

ولعلّ فايدة الاعتراض بمثله الإشعار بأنّ تناولها فسوق وحرمتها من جملة الدّين الكامل والنّعمة والإسلام المرضيّ.

والمعنى فمن اضطرّ الى تناول شيء من هذه المحرّمات (فِي مَخْمَصَةٍ) في مجاعة بحيث لا يمكنه الامتناع من الأكل ، وأصل الخمص ضمور البطن.

(غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) غير مائل أو منحرف اليه والتجانف الميل والانحراف من جنف القوم إذا مالوا وانتصاب غير على الحالية من ضمير اضطرّ اى من اضطرّ إلى أكل الميتة وما عدّده من المحرّمات عند المجاعة الشّديدة غير مائل إلى الإثم بأن يأكل زيادة على قدر الحاجة أو يقصد التّلذّذ.

(فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لذنوبه (رَحِيمٌ) به فلا يؤاخذه بأكله ولم يرد انّه يغفر له عقاب ذلك لانّه أباحه له ولا عقاب على المباح ويحتمل أن يكون المراد أنّه غفور لذنوب عباده رحيم بهم حيث أباح لهم حال الخوف على النّفس ما كان محرّما عليهم ولم يحكم باستمرار التّحريم وعدم الأكل حتّى يموتوا فإنّ الرّحمة تنافي ذلك.

الثانية :

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ) اى في القرآن أو فيما اوحى الىّ مطلقا سواء كان قرآنا أو لا وفيه تنبيه على أنّ التحريم انّما يعلم بوحي الله اليه وكذا غيره من الأحكام انّما يعلمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالوحي لا بغيره فإنّه قول عن الهوى وما ينطق عن الهوى ان هو إلّا وحي يوحي.

(مُحَرَّماً) طعاما محرّما (عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) الوصف للتّأكيد كما في (طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ).

(إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) وهي ما فارقته الرّوح بغير ذبح شرعيّ سواء كان ذكرا أو أنثى وقرئ الفعل على الغيبة وميتة بالرّفع على انّ كان تامّة.

(أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) مصبوبا كالدم في العروق لا كالطّحال وان كان حراما لدليل من خارج وخصّ المصبوب بالذكر لانّ ما يختلط باللّحم منه ممّا لا يمكن تخليصه منه

١٤٠