مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٣

جواد الكاظمي

مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٣

المؤلف:

جواد الكاظمي


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٠

علي إنكاره ، وليس هنا ما يدل على إنكار الكفالة ، فيكون ثابتا في حقنا ـ انتهى كلامه ، وهو جيد.

وأما الرابعة فأكثر الأصحاب على جواز ضمان المجهول الذي يمكن استعلامه بعد ذلك ، وهو المشهور فيما بينهم ، كما اقتضاه ظاهر الآية ، لإطلاق حمل البعير فيها مع اختلاف كميته. ويؤيده إطلاق قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الزعيم غارم (١).

وقيل بالمنع ، نظرا إلى أنه إثبات حق آدمي في الذمة ، فلا يصح مع الجهالة كما في البيع ، والآية حجة عليه ، ولانتقاضه بالإقرار.

وانما قيدنا بإمكان الاستعلام لأنه لو لم يمكن لم يصح الضمان قولا واحدا].

الثانية : (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) ـ القلم ـ ٤٠).

(سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) أي كفيل ، والكفيل والضمين واحد ، والمعنى سلهم يا محمّد أيهم كفيل لهم بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين. وبها استدل بعض أصحابنا على مشروعية الضمان أيضا ، وفي دلالتها على ذلك نظر ، لعدم ظهور وجه الدلالة.

__________________

(١) الحديث أرسله الفقهاء في الكتب الفقهية بعنوان النبوي ورواه مرسلا عن النبي (ص) في مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٤٩٧ عن غوالي اللائي وأخرجه في الجامع الصغير بالرقم ٥٦٥٢ ج ٤ ص ٣٦٩ فيض القدير بلفظ : العارية مؤداة والمنيحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم (حم دت هي) والضياء المقدسي عن أبي امامه ومثله في أمالي السيد المرتضى قدس‌سره ج ١ ص ١٠٩ المجلس الثامن.

٨١

الثالث الصلح

وفيه آيات :

الاولى : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) (النساء : ١١٤).

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) من متناجيهم ، فإنه يطلق عليه ، كقوله (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ) أو من تناجيهم ، وعلى هذا فقوله (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ) على حذف المضاف ، أي إلا نجوى من أمر ، ويجوز على الانقطاع ، بمعنى : ولكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير.

وانما قال (فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) مع صدق الحكم كليا ، ويؤيده (١) قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «كلام ابن آدم كله عليه لا له الا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله» ، استجلابا للقلوب ، وليكون أدخل في الاعتراف به ، وليخرج عنه الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.

والمراد بالمعروف أبواب البر لاعتراف العقول بها ولأن أهل الخير يعرفونها ، وروى ابن بابويه (٢) عن الصادق عليه‌السلام في قول الله عزوجل (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ) قال : يعني بالمعروف القرض.

(أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) أو إصلاح ذات البين. وبظاهر الآية استدل الفقهاء على مشروعية الصلح بالمعنى المتعارف ، لظهور كونه إصلاحا بسبب اشتماله على رفع التنازع بين المتخاصمين ، سواء كان على دين أو عين أو منفعة ونحوه.

__________________

(١) الكشاف ج ١ ص ٥٦٤ وفي الشاف الكاف أخرجه الترمذي وابن ماجه والحاكم وأبو يعلى والطبراني من حديث أم حبيبة وأخرجه السيوطي في الجامع الصغير بالرقم ٦٤٣٤ ج ٥ ص ٥٧ فيض القدير مع تفاوت يسير في اللفظ عن (ت ه ك هب) عن أم حبيبة.

(٢) الفقيه ج ٢ ص ٣٢ الرقم ١٢٥ ومثله في الكافي ج ١ ص ١٧١ باب القرض الحديث ٣ وهو في المرآة ج ٣ ص ٢٠٦.

٨٢

وقال على بن إبراهيم في تفسيره (١) : حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن حماد عن أبي ـ عبد الله عليه‌السلام قال : ان الله عزوجل فرض التجمل. قلت : وما التجمل جعلت فداك. قال : أن يكون وجهك أعرض من وجه أخيك فتجمل له ، وهو قوله (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) الآية.

ويمكن أن يقال : الخير اما أن يتعلق بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة ، والأول ان كان من الخيرات الجسمانية فهو الأمر بالصدقة ، وان كان من الخيرات الروحانية بتكميل القوة النظرية أو العملية فهو الأمر بالمعروف ، والثاني هو الإصلاح بين الناس ، فثبت أن الآية مشتملة على جوامع الخيرات ومكارم الأخلاق.

الثانية : (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) (الأنفال ـ ١).

(وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أى الحال التي بينكم بالمواساة ومساعدة بعضكم بعضا فيما رزقكم الله. وبها استدل أيضا علي مشروعية الصلح بالمعنى المشهور ، وفيها الكلام السابق [المذكور].

الثالثة : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) (النساء ٣٥).

(إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما) خلافا بين المرء وزوجته (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) فابعثوا أيها الحكام متى اشتبه عليكم حالهما ليتبين الأمر أو إصلاح ذات البين رجلا وسيطا يصلح للحكومة والإصلاح من أهله وآخر من أهلها ، فإن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح.

(إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) الضمير الأول للحكمين والثاني للزوجين ، أى ان قصدا الإصلاح أوقع الله بحسن سعيهما الموافقة بين الزوجين. وقيل كلاهما للحكمين أى إن قصد الإصلاح يوفّق الله بينهما ليتّفق كلمتهما ويحصل مقصودهما وقيل : للزوجين ، أى ان أرادا الإصلاح وزوال الشقاق أوقع الله بينهما الألفة والوفاق.

__________________

(١) رواه في المجمع ج ٢ ص ١٠٩

٨٣

وفيه تنبيه على أن من أصلح نيته فيما يتحراه أصلح الله مبتغاه وبها استدل على مشروعية الصلح بالمعنى المشهور ، وفيه ما مر.

الرابعة : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) (النساء ١٢٨).

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها) توقعت منه لما ظهر لها من المخايل (نُشُوزاً) تجافيا عنها وترفعا عن صحبتها كراهة لها (أَوْ إِعْراضاً) بتقليل محادثة أو مؤانسة ونحوها مما يظهر معها آثار نشوزه ، وذلك لبعض الأسباب كالطعن في السن أو طموح عين إلى أخرى (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أى لا إثم ولا حرج على كل واحد منهما (أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) أن يتصالحا ، بأن تحط له بعض المهر أو القسم الذي لها أو تهبه شيئا تستميله به ليستديم المقام في حباله أو تبقى على زوجيته.

(وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) أى الصلح بترك بعض الحقوق خير من الفرقة وسوء العشرة أو من الخصومة ولا يجوز أن يراد به التفضيل بل بيان أنه من الخيور كما أن الخصومة من الشرور ، فهو بمعنى أصل الفعل.

وفي الآية دلالة على مشروعية الصلح بالمعنى المصطلح ، ويستفاد منها أن الزوجة إذا أسقطت القسمة من حقها سقطت. وفيه دلالة على جواز سقوط الشيء قبل وجوبه ، فان حق الزوجة يتجدد يوما فيوما بالنسبة إلى حقها ، وسيجيء لهذا تتمة إنشاء الله تعالى.

الخامسة : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات ـ ١٠).

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) لاشتراكهم في الدين. وفي هذا بيان لأن الايمان قد عقد بين أهله من النسب الغريب والنسب البعيد اللاصق إلى حد إن لم يفضل الاخوة ولم يزد عليها لم ينقص عنها ولم يتقاصر عن غايتها.

(فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) لعل الفائدة في وضع الظاهر موضع المضمر الحث على ارتفاع الفتنة وإيقاع الصلح ، لما في العادة أنّه إذا نشب النزاع بين الأخوين لأب وأم لزم سائر الناس ان يتناهضوا في رفعه وإزاحته ، ويركبوا الصعب والذلول مشيا

٨٤

بالصلح ، وبثّ السفراء بينهما إلى ان يحصل الوفاق ، فالإخوة بالدين أحق بذلك. وقد يستدل بها أيضا على مشروعية الصلح بالمعنى المصطلح ، وللتأمل فيه مجال.

السادسة : (فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الحجرات ٩.

(فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا) في كل الأمور (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) يحمد فعلهم بحسن الجزاء. وفيها ترغيب في الإصلاح ، والكلام في دلالتها كما تقدم.

٨٥

الرابع الوكالة

استدل على مشروعيتها بثلاث آيات :

الأولى : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) (البقرة ٢٣٧).

(إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) استدل بها على مشروعية الوكالة بالمعنى المشهور ، نظرا إلى أن من بيده عقدة النكاح يشمل الولي والوكيل. وفيه نظر ، وسيجيء الكلام في كتاب النكاح.

الثانية : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ) (الكهف : ١٩).

(فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ) والمراد أعطوه دراهمكم وأقيموه مقام أنفسكم في الابتياع ، ولا يراد من الوكيل سوى ذلك ، وبها استدل العلامة في التذكرة.

وفيه نظر ، فإنها حكاية حال لا عن شرع ولا عن معصوم ، فالاستناد فيها إليها بعيد. الا أن يقال : ذكرت الآية في وصف حالهم وفي سياق مدحهم على الفعل الذي صدر منهم مع كونهم من الصلحاء الأبرار. وفيه ما فيه.

الثالثة : (قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا) (الكهف) ٦٢.

(قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا) الفتى يطلق على الوكيل والخادم ، وحيث ان المراد يوشع بن نون عليه‌السلام وليس هو خادما فتعين كونه وكيلا ، وفي ذلك نظر. وبالجملة دلالات الآيات على مشروعية الوكالة بعيدة وان كان الإجماع منعقدا عليها ، والاخبار دالة عليها ، فان الكلام في استفادة ذلك من الآيات.

٨٦

كتاب فيه جملة من العقود

وفيه مقدمة وأبحاث :

أما المقدمة

ففيها آية واحدة تشتمل على أحكام كلية ، وهي :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) ـ (المائدة : ١) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) الوفاء هو القيام بمقتضى العقد وكذلك الإيفاء ، والعقد العهد الموثوق به ، وأصله الجمع بين الشيئين بحيث يعسر الانفصال بينهما ، ولعل المراد بالعقود ما يعم العقود التي عقدها الله على عباده وألزمها إياهم من التكاليف والعقود التي يعقدونها فيما بينهم من عقود المعاملات والأمانات ونحوهما مما يجب الوفاء به ، ففي الآية دلالة على وجوب الوفاء بالعقود على ما هو ظاهر الأمر إلّا ما أخرجه الدليل وقام على عدم لزومه وجواز فسخه.

وعلى كل حال فالمراد بها ما ثبت مشروعيتها الا ما يخترعه المكلف من نفسه ولا ما وقع النهي عنه ، فقول أبي حنيفة ان من نذر صوم يوم العيد أو ذبح ولده وجب عليه الوفاء بها ، فيجب عليه الصوم والذبح ، غايته أنه نفى هذا النذر في خصوص كون الصوم واقعا يوم العيد وفي خصوص كون الذبح في الولد ، وحاصله وجوب صوم غير يوم العيد وذبح غير الولد. لا وجه له ، لظهور كونه معصية والوفاء به ترك امتثاله ، لما اشتهر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله «لا نذر في معصية الله». ووافقنا في ذلك الشافعية.

ثم انّ عموم الآية عندنا وعند الشافعية مخصوص بالبيع ، قبل تفرق المجلس

٨٧

لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا» (١). وأسقط أبو حنيفة هذا الخيار نظرا الى العموم ، وقد تقدم.

(أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) يحتمل أن يكون إشارة إلى تفصيل بعض العقود ، كذا في الكشاف ونحوه قال القاضي. فالمراد بوجوب إيفاء مثله اعتقاد حل اكله ووجوبه مع الحاجة. ويحتمل أن يكون المراد اباحة أكل لحمها أو مطلق الانتفاع بها.

والبهيمة كل حي لا تميز له [من قولهم استبهم الأمر على فلان إذا أشكل] وقيل كل ذات أربع في البر والبحر ، وانما سميت بها لأنها أبهمت عن أن تميز ، وإضافتها إلى الأنعام للبيان ، أي البهيمة التي من الانعام ، وهي الأزواج الثمانية [الإبل والبقر والغنم] ويلحق بها الظباء وبقر الوحش وحماره.

وقيل ان بهيمة الأنعام الظباء وبقر الوحش ونحوها ، ولعلهم أرادوا ما يماثل الانعام ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار وعدم الأنياب ، فأضيفت إلى الأنعام لملابسة الشبه ، وهو تخصيص غير واضح [وقيل ان المراد ببهيمة الانعام أجنة الانعام]

__________________

(١) مر مصادر الحديث في ص فراجع ولأهل القول الأخر أجوبة عن الأحاديث القاضية بثبوت خيار المجلس غريبة مثل ان المراد بالمتبايعين المتساومان أوان المراد بالتفرق التفرق بالأقوال والمراد خيارهما قبل حصول القبول من المشتري أو ان التفرق بالأبدان محمول على الاستحباب تحسينا للمعاملة مع المسلم أو على الاحتياط للخروج عن الخلاف ونحن نعرض عن شرحها والجواب عنها.

فراجع فتح القدير لابن الهمام الحنفي ج ٥ من ص ٧٨ ـ ٨٢ وكذا شرح العناية المطبوع بهامشه والمعتصر من المختصر للقاضي ابى المحاسن يوسف ابن موسى الحنفي ج ١ من ص ٣٥٧ ـ ٣٦١ وشرح الزرقانى المالكي على الموطإ ج ٣ من ص ٣٢٠ ـ ٣٢٣ والمنتقى للباجى المالكي شرح الموطإ ج ٥ من ص ٥٥ الى ص ٦٤.

وانظر الجواب عما تأولوا به الحديث في المحلى لابن حزم ج ٨ من ص ٤٠٥ ـ ٤٢٣ وفتح الباري ج ٥ من ص ٢٣١ ـ ٢٣٦ ونيل الأوطار ج ٥ من ص ١٩٥ ـ ٢٠٠ والمغني لابن قدامه ج ٣ من ص ٥٦٢ ـ ٥٦٩ وغيرها من مطولات كتبهم ونحن نعرض عن الشرح خوفا من الإطالة.

٨٨

ويحتمل ان يراد بها الانعام ، ويكون ذكر البهيمة للتأكيد. وفيها دلالة على إباحة بهيمة الأنعام.

(إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) الا محرم يتلى عليكم ، أو إلا الذي يتلى عليكم آية تحريمه. وقد أجمع المفسرون على أن الآية المتلوة هي قوله بعد ذلك (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) الى آخرها [فان قوله (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) يقتضي احلالها لهم على جميع الوجوه ، فبين الله تعالى أنها ان كانت ميتة أو موقوذة الى آخر ما ذكره فهي محرمة].

(غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) يحتمل أن يكون حالا من المجرور في «لكم» أي أحلت لكم هذه الأشياء لا أن تحلوا الصيد في حال الإحرام فإنه لا يحل لكم ذلك إذا كنتم محرمين ، وقيل حال من ضمير «أوفوا». وقد يتراءى منه أن الإيفاء وحل البهيمة مقيد به ولعلّه غير مراد وقيل استثناء وكأنه من بهيمة الانعام.

وفيه تكلف ، لعدم كون المحلين من جنس البهيمة [ويمكن حمله على المنقطع أي أحلت لكم بهيمة الأنعام لكن لا تحلوا الصيد في حال الإحرام ، لما ذكر تعالى أن بهيمة الأنعام حلال ، ذكر الفرق بين صيدها وغير صيدها ، فعرفنا أن ما كان منها صيدا فإنه حلال في الإحلال دون الإحرام وما لم يكن صيدا فإنه حلال في الحالين معا].

(وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) حال من ضمير (مُحِلِّي الصَّيْدِ) [والحرم من أحرم ، أي دخل في الإحرام بالحج والعمرة ، فهو محرم وحرم ، ويستوي فيه الواحد والجمع كالجنب ، يقال قوم حرم كما يقال قوم جنب وقد يقال أحرم لمن دخل الحرم ، وقوله (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) يشمل الوجهين ، فيحرم الصيد على من كان في الحرم كما يحرم على من كان محرما بحج أو عمرة].

(إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) من تحليل وتحريم وهو دليل قوي على بطلان القياس الحاصل باستنباط العلة ، فإنه تعالى قد حكم بالحكم الواحد في المتخالفات وباختلاف الحكم في المتفقات. وفيه إشارة إلى انه لا ينبغي السؤال عن اللم والعلة ، لإيجاب الوفاء واباحة ما أباح وتحريم ما حرم ، إذ لا نفع يترتب على ذلك.

٨٩

وحيث بينّا وجوب الوفاء بالعقود على الاجمال ، فلنذكر الآن بيان تفاصيلها ، وذلك أنواع :

(النوع الأول)

(الإجارة)

وفيها آيتان :

الاولى : (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) (القصص : ٢٦)

(قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) وهي دالة على مشروعية الإجارة في زمن شعيب عليه‌السلام.

الثانية : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) القصص : ٢٧ (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) هي كسابقتها في الدلالة على المشروعية الا أنها شرع من قبلنا ، وفي دلالتها على المشروعية في شرعنا تأمل ، لعدم الحجية فيه عندنا ، ولا يكفي فيها أصالة عدم النسخ وكون ذلك العقد مما يتوقف عليه نظام النوع ، ان تم فليس بدال على حجية الآية فيه ، بل هو مستقلّ في الدلالة ، والمقصود دلالة الآية عليه والا فالإجماع منعقد على مشروعيتها والاخبار متظافرة.

والأولى الاستدلال عليه بقوله (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) حيث أوجب لهن الأجر ، وهو يقتضي مشروعية الإجارة وثبوت الأجرة بها. ولا يرد (١) أن

__________________

(١) قد ثبت عندهم ان مورد الإجارة انما هو المنافع وللسيد الجليل العالم النبيل المجهول القدر السيد فتاح تغمده الله بغفرانه كتاب نفيس قيم جدا مخمول ذكره قلما يراجعه أهل العلم وانا اوصيهم بمراجعة هذا الكتاب والغوس في ابحره لكي يلتقطوا دررا ثمينة نفيسة وـ

٩٠

الإجارة تمليك منفعة واللبن عين ، فلا يصح الاستدلال بها ، لأن الإجارة على الحضانة واللبن تابع ، فصح كونها على المنفعة ـ فتأمل.

__________________

 ـ ينتفعوا بها في العويصات من المسائل.

قال قدس‌سره في قاعدة من قواعد العنوان الحادي والأربعين ما خلاصته ان مورد الإجارة انما هو المنافع فلا ينبغي للمستأجر أن يتصرف في عين المال المستأجر في شيء ولا ينبغي أن يتلف عين في الإجارة وقد وقع الإشكال في موارد.

منها الاستيجار للرضاع فإن المرأة المستأجرة للرضاع لا ريب انه يتلف بذلك اللبن منها بل هو المقصود بالإجارة وهذا مخالف لما هو وضع الإجارة من تعلق الغرض فيها بالمنافع دون الأعيان.

ومنها الاستحمام في الحمام ومنها استيجار الأرض للرعي ومنها استيجار البئر للسقي ثم ذكر قدس‌سره للتفصي عن الاشكال وجوها.

أحدها ان يكون كل ذلك معاملة مستقلة غير داخلة في عنوان الإجارة قد ثبت صحتها بالإجماع والسيرة المستمرة الكاشفة عن تقرير المعصوم.

وثانيها ان يكون من باب الإجارة لكنها خرجت عن القاعدة بالدليل وسر مشروعيتها توفر الدواعي ولزوم العسر والحرج لو لم تشرع.

وثالثها ان يقال ان المنفعة أمر لا يكال بمكيال منضبط حتى يختص بما يقابل العين بل يدور مدار العرف ومنفعة كل شيء بحسبه ولا ريب ان اللبن منفعة للمرضعة كالخدمة والحضانة والماء منفعة للبئر والحمام والعلف منفعة للأرض وكل هذه المنافع وان كانت أعيانا لو لوحظت بأنفسها لكن باعتبار نسبتها الى موضوعاتها تعد منافع في العرف.

رابعها ان يقال ان المنفعة المقصودة في هذه المقامات انما هي المنفعة المصطلحة عند الفقهاء من الخدمة في المرضعة والاستقاء في البئر ودوران الأغنام في الأرض والخروج والكون في الحمام وليس المقصود في ذلك الأعيان بل هذه الأعيان كلها توابع كماء البئر في إجارة الدار للسكنى وليست مرادة وانما يستعمل للتبعية وكذا المداد للكتابة فيجعل جميع الأعيان التالفة في هذا المقام من قبيل التوابع اللاحقة.

انتهى ما أردنا من تلخيص كلامه وأخذ بعد ذلك في البحث والتحقيق والتنقيب في الوجوه الأربعة من شاء فليراجع أصل الكتاب. ـ

٩١

(النوع الثاني)

(الشركة)

وفيه ثلاث آيات :

الاولى : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) (الأنفال ـ ٦٩)

(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) دلت على اشتراك الغانمين في الغنيمة لجمعهم في الخطاب ، ونحوها قوله تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) الآية ، حيث جعل الخمس مشتركا بين الأصناف المذكورين.

الثانية : (فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) : النساء ـ ١١

(فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) لدلالتها على الاشتراك فيه.

__________________

 ـ وهذا البحث في ص ٢٤٥ منه ط ١٢٩٧ واختار هو قدس‌سره الوجه الثاني فيما لا مجال لإنكار صحة الإجارة فيها كالظئر والحمام ومنع صحة الإجارة في باقي الأمثلة.

واختار المصنف في هذا الكتاب كما ترى الوجه الرابع وامتن الوجوه وأصحها وأقواها عندي هو الوجه الثالث وذلك لان المسوغ للإجارة انما هو حدوث المقصود بالعقد شيئا فشيئا وإمكان استيفائه مع بقاء الأصل سواء كان الحادث عينا أو غير عين وكونه جسما أو معنى قائما بالجسم لا اثر له في المنع والجواز.

نعم لا يصح اجارة ما لا يبقى أصله مع الاستيفاء كالخبز للأكل والماء للشرب والشمع للاستضاءة ولم يدل كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا عقل على ان المنفعة المستحقة بالإجارة يجب ان لا تكون عينا بل الذي دلت عليه الأدلة ان الأعيان التي تحدث شيئا فشيئا مع بقاء أصلها حكمها حكم المنافع كالثمر على الشجر واللبن في الحيوان والماء في البئر.

أنشدكم بالله هل الوقف الا تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة كما ورد به النبوي وهل يمنع احد وقف الماشية للانتفاع بلبنها والشجرة للانتفاع بثمرها وهل المنحة المسلم مشروعيتها من الفتاوى والسيرة المستمرة الا العارية والتبرع بمنفعة المال.

وليس بين الإجارة والعارية فرق الا ان استيفاء المنفعة في العارية بلا عوض وفي ـ

٩٢

الثالثة : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) (براءة ـ ٦١)

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) الآية ، دلت على الاشتراك لكن على قول من يقول بوجوب البسط على الأصناف.

وفي دلالة الآيات تأمل : أما الأولى فلجواز أن يكون المراد إباحة الأكل منها لا الشركة بالمعنى المصطلح ، الا أن يقال ذلك للاشتراك.

وأما الثانية فلدلالتها على الاشتراك في الميراث ، الا أن يقال ذلك يستلزم ثبوت مهية الشركة ، إذ لا يراد بها سوى اجتماع حقوق الملاك في الشيء الواحد على سبيل الشياع.

وأما الثالثة فلا قائل بوجوب البسط عندنا ، على ما عرفت أن اللام لبيان المصرف ، وبناء ثبوتها على معنى مخالف لإجماعنا لا وجه له. على أن لوازم الشركة منتفية هنا ، إذ للمالك الخيار في نفس المخرج وجواز إخراج الحق من غيره وكون النماء له ونحو ذلك.

والحق أن دلالة الآيتين الأولتين على الشركة بالمعنى المصطلح واضحة ، إذ لا يراد فيها سوى اجتماع حقوق الملاك في الشيء الواحد على سبيل الشياع ، أو استحقاق

__________________

 ـ الإجارة مع العوض ومورد الإجارة والعارية واحد وانما يختلفان في التبرع بهذا والمعاوضة على الأخر وكل ما جاز ان يستوفى بالعارية جاز ان يستوفى بالإجارة.

بل هل المستوفي في إجارة الأرض للزرع غير العين وهو المغل الذي يستغله المستأجر وقد نص الكتاب العزيز بجواز استيجار الظئر وسمى ما تأخذه اجرا فجعلوها خلاف القاعدة وليس في القرآن اجارة منصوص عليها في شريعتنا إلا إجارة الظئر.

أنشدكم بالله هل القاعدة إلا ما يستفاد من التنزيل! فان استفيد قاعدة من السنه فلزوم التمسك بها أيضا من جهة أمر القرآن حيث قال عز من قائل (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) فكيف يحكم بما اجازه القرآن وصرح بشرعيته انه على خلاف القاعدة.

واما ما افاده المصنف من ان الإجارة على الحضانة واللبن تابع فالله يعلم والعقلاء قاطبة ان الأمر ليس كذلك وليس المقصود في استيجار الظئر الحضانة ولا ورد عليها عقد الإجارة لا عرفا ولا حقيقة ولا شرعا فلو أرضعت الطفل وهو في حجر غيرها ولم تقصد حضانته استحقت الأجرة كما يشهد بذلك إطلاق الآية الشريفة بل قيل باستحقاقها وان لم يكن لها فعل بان انتفع بلبنها حال نومها وعلى اى فلعله لأجل ما قد مناك أمر المصنف قدس‌سره بالتأمل.

٩٣

الشخصين فصاعدا على الشياع أمرا من الأمور ، وهذا المعنى يتحقق فيها ، ويمكن تحققه في الثالثة أيضا ـ فتأمل.

(النوع الثالث)

(المضاربة)

وفيها آيات :

الاولى : (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) : الجمعة ـ ١٠

الثانية : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) : النساء ـ ١٠٠

الثالثة : (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) المزمل ـ ٢٠ والعامل يضرب في الأرض للتجارة يبتغي بذلك الربح ، ومن هنا سمي مضاربا وفي دلالة الآية على معنى المضاربة المصطلح بعد ، فإنها دفع أحد النقدين الى شخص ليعمل به ويكون له حصة من الربح ، وشيء من الآيات لا يدل على ذلك الا أن يقال انها دلت على رجحان التكسب ، وهو أعم من أن يكون بمال الإنسان نفسه أو بمال غيره ، ومع هذا ففي استفادة ذلك منها تأمل.

(النوع الرابع)

(الإبضاع)

وهو دفع مال الى أحد ليتّجر به مجانا من غير حصة في ربحه ، لكن ان تبرع به فلا أجرة له والّا فله أجرة مثله وفي مشروعيته ثلاث آيات :

الاولى : (وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) يوسف ـ ٦٢

الثانية : (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) يوسف ـ ٨٨

الثالثة : (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ) يوسف ـ ٦٥ وفي دلالتها على الإبضاع بالمعنى المتقدم نظر ، وظاهرها أن المراد بها في الآيات مال إخوة يوسف الذي اشتروا به طعاما لأنفسهم ، مع انه شرع من قبلنا ولا حجية فيه.

٩٤

(النوع الخامس)

(الإيداع)

وفيه أيضا ثلاث آيات :

الاولى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) : النساء ـ ٥٧

الثانية : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) : البقرة ـ ٢٨٣

الثالثة : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) : آل عمران ـ ٧٥ لا شك في دلالة الأولى على وجوب رد الأمانات مطلقا إلى أهلها ، وظاهرها الوديعة وأمثالها. ونقل في المجمع (١) قولا بأن المراد بها أمانات الله تعالى كأوامره ونواهيه وأمانات عباده فيما يأتمن بعضهم بعضا من المال ، ورواه عن الصادقين عليهم‌السلام.

وقد تقدم أن الآية الثانية في الدين ، وظاهرها يشمل الأمانة أيضا. ومقتضى الأمر وجوب الأداء مطلقا الا أنه مقيد بطلب المالك أو من يقوم مقامه ، فلو خلى عنه لم يجب ومع الطلب يجب على الفور بغير خلاف ، وهذا حكم مطلق الامانة والثالثة أيضا تعم أقسام الأمانات الواقعة بين العباد والممدوح منهم هم النصارى فإنهم لا يستحلون أموال من يخالفهم في الاعتقاد ، والمذموم هم اليهود فإنهم يستحلونها كما حكى تعالى عنهم (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) والأميين عندهم من ليس على دينهم ، فقال تعالى (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) تكذيبا لهم ، وبالغ في ذمهم هنا بأن قال عنهم (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) أي إلّا مدة إقامتك على رأسه مبالغا في التقاضي والمطالبة. وتمام ما يتعلق بأحكام الأمانات يعلم تفصيله من كتب الفروع.

__________________

(١) المجمع ج ٢ ص ٦٣.

٩٥

(النوع السادس)

(العارية) (١)

وهي عندهم عقد شرعي لإباحة الانتفاع بعين من أعيان المال على جهة التبرع ومحلها العين ينتفع بها مع بقائها وذكر لمشروعيتها آيتان :

الاولى (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى). (آل عمران ـ ٣).

(وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) والمراد فليعاون بعضكم بعضا على الإحسان واجتناب المعاصي وامتثال الأوامر ، وهي دالة على مشروعية العارية بالعموم ، من حيث ان الاذن بانتفاع البعض فيما يحتاج اليه من العين تبرعا من جمله البرّ.

الثانية : (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) (الماعون ـ ٧).

(الْماعُونَ) اسم جامع لمنافع البيت مما جرت العادة بعاريته ويسأله الفقير والغني في أغلب الأحوال ، ولا ينسب سائلة إلى لؤم بل ينسب مانعه الى اللؤم والبخل وذلك كالفأس والقدر والدلو والمقدحة والغربال والقدوم ، ويدخل فيه الماء والملح والنار ، لما روي (٢) «ثلاثة لا يحل بيعها الماء والنار والملح» ، ومن ذلك أن تلتمس جارك الخبز في التنور وان تضع متاعك عنده يوما أو نصف يوم.

وهو فاعول من المعن وهو الشيء القليل. وقد يسمى الزكاة ماعونا لأنه يأخذ من المال ربع العشر فهو قليل من كثير. قال بعضهم : ومن الفضائل أن يستكثر الرجل

__________________

(١) قال الشهيد قدس‌سره في الروضة : العارية بتشديد الياء ويخفف نسبته الى العار لان طلبها عار أو الى العارة مصدر ثان للإعارة كالجابة للإجابة أو من عار إذا جاء وذهب لتحولها من يد إلى أخرى أو من التعاور وهو التداول.

(٢) أخرجه النيسابوري عند تفسير الآية والامام الرازي ج ٣٢ ص ١١٥ والكشاف ج ٤ ص ٨٠٦ ولم يتعرض ابن حجر لتخريجه وانظر أيضا الوسائل الباب ٣٨ من أبواب آداب التجارة ج ٣ ص ٥٨٢ ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ٤٧٠ وفيه عن الجعفريات عن النبي ص خمس لا يحل منعهن الماء والملح والكلاء والنار والعلم.

٩٦

في منزله مما يحتاج اليه الجيران فيعيرهم ذلك ولا يقتصر على قدر الضرورة.

وربما قيل ان الماعون اسم لكل منفعة وعطية ، ويؤيد ذلك ما رواه أبو بصير (١) عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : هو القرض يقرضه والمعروف يصنعه ومتاع البيت يعيره ومنه الزكاة. قلت : إن جيراننا إذا أعرناهم متاعنا كسروه فعلينا جناح بمنعهم؟ فقال : لا ليس عليك جناح أن تمنعهم إذا كانوا كذلك.

وفي الآية مبالغة زائدة في الذم على المنع من الماعون ، حتى أنه تعالى جعله شقيق الربا المحرم وأضاف الويل اليه ، ومن ثم حمله بعضهم على الزكاة المفروضة ، لأنه تعالى ذكره عقيب الصلاة. والحق أن منع هذه الأشياء قد يكون محظورا في الشريعة إذا استعيرت عن اضطرار.

__________________

(١) المجمع ج ٥ ص ٥٤٨ والكافي ج ١ ص ١٤٠ كتاب الزكاة باب فرض الزكاة الحديث ٩ وهو في المرآة ج ٣ ص ١٨٤ ورواه في البرهان ج ٤ ص ٥١١ ونور الثقلين ج ٥ ص ٦٧٩.

٩٧

(النوع السابع)

في السبق والرماية

وفيه آيات :

الاولى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) (الأنفال ـ ٦١).

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ) وأعدوا أيها المؤمنون للكفار أو لمناقضي العهد منهم (مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) من كل ما يتقوى به في الحرب ، روى عقبة بن عامر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال «ألا ان القوة الرمي» قالها ثلاثا. (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) التي تربط في سبيل الله ، فهو فعال بمعنى مفعول ، أو مصدر سمي به ، يقال ربط ربطا ورباطا ورابط مرابطة ورباطا ، أو جمع ربيط كفصيل وفصال.

وجه الاستدلال أنه تعالى أمرنا بأعداد الرمي ورباط الخيل للحرب ولقاء العدو ، والاعداد لذلك انما يحصل بالتعلم ، والنهاية في التعلم بالمسابقة والرماية ، وبذلك يكمل كل واحد نفسه في بلوغ النهاية والحذق فيه ، فيتم الاستدلال.

الثانية : (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) (يوسف ـ ١٧)

(قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) نتسابق ، فان الافتعال والتفاعل قد يشتركان في المعنى كالانتضال والتناضل ، وهو يجوز أن يراد به التسابق في العدو ويجوز التسابق في الرمي ، وعلى هذا فلا دلالة لها على المطلوب لعدم ظهور التسابق في المعنى المصطلح منها ، وارادة التسابق بالأقدام على ما قاله بعضهم غير بعيدة منها ، وهو غير مشروع عندنا.

ولو سلم ان المراد به السبق المصطلح فلا يلزم من فعل إخوة يوسف له جوازه لو سلّمنا جوازه وأنه لو كان منكرا لما اعتذروا به عند أبيهم النبي عليه‌السلام لأنه معصوم ، لكنه شرع من

٩٨

قبلنا (١) وفي حجيته تأمل.

الثالثة : (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) (الحشر ـ ٦٠)

(فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ) : فما أجريتم على تحصيله ، من الوجيف وهو سرعة السير (مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) ما يركب من الإبل ، غلب فيه كما غلب الراكب على راكبه. ولعل وجه الدلالة فيها أنه تعالى ذكر عدم تسارعهم عليها بالخيل ولا بالإبل ، وهو يقتضي صحة التسابق عليها ، كذا قيل وفيه تأمل.

(النوع الثامن)

الشفعة

الشفعة مأخوذة من الشفع وهو الزوج ، كأن المشفوع كان فردا فصار شفعا بنصيب صاحبه ، وأصلها التقوية والإعانة ، ومنه الشفاعة. وفي الشرع عبارة عن استحقاق الشفيع انتزاع حصة شريكه المنتقلة عنه بالبيع بملك قهري ثبت للشريك القديم على الحادث.

وليس في الآيات القرآنية ما يدل عليها صريحا ، لكن لما كانت مشروعيتها لازالة الضرر الحاصل بالشركة أمكن الاستدلال عليها بما يدل على رفعه ، كقوله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج ـ ٧٨) (لَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) (البقرة ـ ٢٢٠) (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة ـ ١٨٥) ونحوها من الآيات التي في معناها وتفاصيل أحكامها يعلم من الفروع.

__________________

(١) والأقوى حجيته انظر في ذلك تعاليقنا على كنز العرفان ج ٢ ص ١٣٦ وص ١٣٧.

٩٩

(النوع التاسع)

اللقطة (١)

وهي اما إنسان أو حيوان أو مال ، ولم يرد في الكتاب ما يدل على ذلك بخصوصه ، واستدل بعضهم عليه بعموم قوله (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) (آل عمران ـ ٣) وقوله (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) (البقرة ـ ١٤٨) ونحوها من الآيات الدالة على استحباب أخذها.

ولا يخفى أن ذلك انما يتم في اللقيط ، أي الإنسان الملقوط ، فان التقاطه واجب على الكفاية لاشتماله على صيانة النفس عن الهلاك وفي تركه إتلاف النفس المحترمة ، فيكون خلاف التقوى. أما غيره من لقطة الأموال والحيوان وغير الإنسان فلا يتم الاستدلال عليه بهذه الآيات ، فإنها في مواضع جوازها مكروهة (٢).

ويؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «لا يأوي الضالة إلّا ضال» ، وروينا في الصحيح (٣) عن الحلبي عن الصادق عليه‌السلام قال : وكان علي بن الحسين عليه‌السلام يقول لأهله «لا تمسوها» وعنه (٤) صلى‌الله‌عليه‌وآله لما ذكر له اللقطة فقال «لا تقرض لها» الحديث ، ونحوها. وحينئذ فلا يكون مندوبا اليه. وتمام تفاصيل الاحكام يعلم من محله.

__________________

(١) هي بفتح القاف على اللغة المشهورة واللغة الثانية لقطه بإسكانها وجزم الخليل بأنها بالسكون قال واما بالفتح فهو اللاقط وما قاله مقتضى القياس فان وزن فعله بفتح العين بمعنى الفاعل كالهمزة وبالإسكان بمعنى المفعول كالنخبة الا ان استعمال العرب الفصحاء في تلك اللفظة بالفتح كالقصعة والنفقة واللغة الثالثة لقاطة بضم اللام والرابعة بفتح اللام والقاف اسم جنس جمعي واحده لقطة وقد نظموا الأربعة فقالوا :

لقاطة ولقطه ولقطه

ولقط ما لاقط التقطه

(٢) أخرجه في المنتقى عن احمد ومسلم وآخره ما لم يعرفها كما في نيل الأوطار ج ٥ ص ٣٥٧ ورواه في مستدرك الوسائل ج ٣ ص ١٥١ عن غوالي اللائي بلفظ لا يؤوى الضالة إلا ضال من باب الافعال ولعله أفصح فان أوى بالمد والقصر فكل منهما يلزم ويتعدى لكن القصر في اللازم والمد في المتعدي أشهر وبه جاء التنزيل (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ) (آوَيْنَاهُمَا).

(٣) انظر الوسائل كتاب اللقطة الباب ١ ج ٣ ص ٣٣٠ ومثله في مستدرك الوسائل ج ٣ ص ١٥١.

(٤) وفي منتخب كنز العمال المطبوع بهامش المسند ج ٦ ص ١٦٨ ضالة المسلم حرق النار فلا تقربنها.

١٠٠