مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٣

جواد الكاظمي

مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٣

المؤلف:

جواد الكاظمي


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٠

الأمر بالاستشهاد ، والقبول من الحاكم باب آخر.

(أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) علة لاعتبار العدد ، أي التعدد [في النساء وقيام امرأتين مقام رجل واحد] لأجل أن إحداهما ان ضلت الشهادة ونسيتها (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى). والعلة في الحقيقة التذكير ، ولكن لما كان الضلال سببا له ، نزل منزلته كقولك «أعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه». والتقدير إرادة ان تذكر إحداهما الأخرى ان ضلت.

وفيه اشعار بنقصان عقلهن وقلة ضبطهن وقصورهن عن مراتب الرجال [لكثرة الرطوبة والبرودة في أمزجتهن فيغلب عليه النسيان] وقرأ حمزة «إن تضل» بكسر الهمزة على الشرطية «فتذكر» بالرفع ، وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب «فتذكر» من الأذكار.

بقي شيء وهو أن ظاهر الآية يقتضي حصر الشاهد في الرجلين أو الرجل والمرأتين فلا يجوز الاكتفاء بغيرهما. والذي عليه أصحابنا (١) قبول الشاهد الواحد مع اليمين [وهو قول الشافعي ، وأنكره أبو حنيفة محتجا بظاهر الآية] ويمكن أن يقال ذلك ثبت بدليل خارج عن الآية كالإجماع والاخبار [الدالة عليه ، وقد روى العامة (٢) عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قضى بالشاهد واليمين] فلا اشكال.

__________________

(١) بل ليس قبول الشاهد الواحد مع اليمين مخالفا لظاهر الآية أيضا فإن الله تعالى انما أمر في هذه الآية أصحاب الحقوق ان يحفظوا حقوقهم بشاهدين أو شاهد وامرئتين ولم يأمر الحكام أن يحكموا به فضلا عن ان يكون قد أمرهم ان لا يقضوا الا بذلك وطريق الحكم شيء وطريق حفظ الحقوق شيء آخر ولا تلازم بينهما فالآية انما وردت في التحمل ولهذا قال عزوجل (أَنْ تَضِلَّ).

وقبول الشاهد الواحد مع اليمين في مقام الأداء مع انه لو فرض كون الآية مسوقة لحكم الأداء أيضا لم تكن دالة على الحصر الا بمفهوم العدد ولا يقول به احد وأبو حنيفة لا يقول بالمفهوم أصلا وانظر تعاليقنا على كنز العرفان ج ٢ من ص ٥٠ ـ ٥٤.

(٢) انظر سنن البيهقي ج ١٠ من ص ١٦٨ ـ ١٧٦ وسنن ابى داود ط ١٣٦٩ بتذييل محمد محيي الدين عبد الحميد ج ٣ من ص ٤١٩ ـ ٤٢١ وسنن ابن ماجه ط دار الكتب ـ

٦١

(وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) إلى أدائها. وبه استدل الفقهاء على تحريم الامتناع من أداء الشهادة بعد التحمل [عند احتياج صاحب الحق إليها] كما يقتضيه قوله (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) أو الى تحملها إذا نودي إليها ، لما في الإباء عن التحمل من ضياع الحق ، وهذا ألصق بالآية. وسموا شهداء تنزيلا لما يشارف منزلة الواقع. ويرجح أيضا بأنه إذا حرم الامتناع عن تحملها حذرا من ضياع الحق فلأن يحرم الامتناع من أدائها أولى. وربما حمل التحريم على ما هو أعم من الأداء والتحمل. قال في المجمع وهو أولى ، لأنه أعم فائدة.

وقد يستدل بها على عدم جواز شهادة العبد في شيء كما ذهب اليه بعض أصحابنا ، وهو قول الشافعية والحنفية ، لأنه تعالى حرم الإباء على الشاهد والإجماع منعقد على ان العبد لا يجب عليه الذهاب ، بل يحرم عليه ذلك إذا لم يأذن سيده.

(وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ) أي لا تملوا من كثرة مدايناتكم أو غيرها من الأسباب أن تكتبوا الدين أو الحق أو الكتاب [فتتركوا الكتابة ثم تندموا على الترك] وقيل كنى بالسأم عن الكسل لأنه صفة المنافق ومن ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله «لا يقول المؤمن كسلت».

(صَغِيراً) كان الدين (أَوْ كَبِيراً) لكنه مقيد بما جرت العادة بكتبه لا كالحبة والقيراط ، أو محتقرا كان ذلك الكتاب ، أو مشبعا مختصرا أو مطولا.

(إِلى أَجَلِهِ) أي وقت حلوله الذي أقرّ به المديون ، والنهي لصاحب الدين عن ترك الكتابة والوثيقة ، وقيل نهي للشاهد ، والمراد لا تملوا من كتابة الشهادة على الحق إلى أجله.

(ذلِكُمْ) إشارة الى أن تكتبوه ، [ويحتمل أن تكون إشارة إلى الذي أمرتكم

__________________

 ـ العربية ص ٧٩٣ وسنن الترمذي ط دهلي ١٦٠ والام للشافعي ط ١٣٨١ ج ٦ من ص ٢٥٤ ـ ٢٥٦ ومختصر المزني المطبوع بعد ج ٨ من الام من ص ٣٠٥ ـ ٣٠٧ وشرح النووي على صحيح مسلم ج ١٢ ص ٤ وشرح الزرقانى على الموطإ ج ٣ ص ٣٨٩ ـ ٣٩٥ والمنتقى للباجى المالكي شرح الموطإ ج ٥ ص ٢٠٨ ونيل الأوطار ج ٨ ص ٢٩٢ ـ ٢٩٧.

٦٢

به من الكتب والاشهاد ممّن ترضون] (أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) أكثر عدلا [لأنه إذا كان مكتوبا كان الى اليقين والصدق أقرب وعن الجهل والكذب أبعد ، فكان أعدل عند الله].

(وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) وأثبت لها وأعون على إقامتها [لأنها سبب الحفظ والذكر فكانت أمرّ أي الاستقامة ، وقدم الأولى لأنها لتحصيل مرضاة الله بخلاف الثانية فإنها للدنيا].

واختلف في بنائهما ، فقال القاضي : أنهما مبنيان من «أقسط» و«أقام» على غير قياس ، أو من «قاسط» بمعنى ذي قسط وقويم ، وانما صحت الواو في أقوم كما صحت في التعجب لجموده.

قلت : لعل الوجه في تفسير قاسط بذي قسط حذرا من ان قاسطا قد يكون بمعنى جائر كقوله تعالى (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) ولهذا جعله أولا من أقسط أي اعدل وأقوم من اقام لا من قام على غير القياس.

ويحتمل أن يكون اقام من قويم بمعنى ثابت أي أثبت ، ووجه كونه على غير قياس ما اشتهر بينهم أن أفعل التفضيل لا يبنى من المزيد فيه بل يقال أشد اقساطا واقامة. ولكن هذا غير متفق عليه ، فان سيبويه يذهب الى جوازه من أفعل المزيد خاصة ، فيجوّزه من باب الافعال نحو أعطاهم وأولاهم. قال الرضي : وعند سيبويه هو قياس عن أفعل مع كونه ذا زيادة ، ويؤيده وقوع ذلك كثيرا نحو أعطاهم للدنانير وأولاهم بالمعروف وأنت أكرم لي من فلان ، وانما جوزه لقلة التغيير فيه ، لأنك تحذف الهمزة منه فقط وترده إلى الثلاثي ثم تبنى منه افعل.

وفي الكشاف فان قلت : مم بني فعلا التفضيل أعني أقسط وأقوم؟ قلت : يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيين من أقسط وأقام ، وان يكون أقسط من قاسط على طريقة النسب بمعنى ذي قسط ، وأقوم من قويم ، والحق أن قول سيبويه هنا غير بعيد لوروده في كلام العرب كثيرا على وجه لا يصح التكلف في تصحيحه ، فينبغي القول به.

(وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) وأقرب في أن لا تشكوا في جنس الدين وقدره وأجله

٦٣

أنتم والشهود [لأن المكتوب أبعد زوالا من الحفظ ، فيكون أقرب الى زوال الارتياب عن المتداينين].

(إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً) استثناء من الأمر بالكتابة ، والتجارة الحاضرة تعمّ المبايعة بدين غير مؤجل أو عين (تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) تتعاطونها يدا بيد من غير نسيئة (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) حرج وضيق (أَلَّا تَكْتُبُوها) لأن الكتابة للوثيقة وانما يحتاج إلى الوثيقة احتياجا تاما في النسيئة دون النقد. والمعنى الا أن تبايعوا بيعا ناجزا يدا بيد ، فلا بأس أن لا تكتبوها لبعدها عن التنازع والنسيان [لكثرة ما يقع التبايع به بين الناس ، فربما كان التكليف بالكتابة والاشهاد شاقا عليهم].

وقرأ عاصم بنصب «تجارة» على أنها خبر كان والاسم مضمر يفسره الخبر ، والباقون برفعها على أنها فاعل كان التامة ويحتمل الناقصة والخبر (تُدِيرُونَها).

(وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) لعل المراد بالمبايعة فيها التجارة الحاضرة المذكورة سابقا ، ويكون المراد أن الإشهاد كاف في التجارة الحاضرة دون الكتابة ويحتمل أن يكون المراد مطلق التبايع ، فان الاشهاد فيه أحفظ ، وأضبط ، والأمر للاستحباب أو للإرشاد إلى المصلحة لما في ذلك من تضبيط الأمر.

قال القاضي : والأوامر التي في هذه الآية للاستحباب عند أكثر الأئمة ، وقيل انها للوجوب ، ثم اختلف في أحكامها ونسخها ـ انتهى.

وفيه نظر ، إذ الظاهر أن بعض أحكام الآية مما لم يقل أحد بنسخة ، كوجوب أداء الشهادة بل تحملها أيضا كفاية. نعم اختلفوا في وجوب الكتابة على الكاتب فقيل به ونسخ بقوله (وَلا يُضَارَّ) إلخ ، وهو قول جماعة لا يعبأ بهم [وقد تقدم ان قوله (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ناسخ لوجوب الكتابة ، وهو ضعيف] وغيرها من الأحكام لم يقل أحد بنسخها ـ فتأمل.

(وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) ان كان مبنيا للفاعل كان المراد نهيهما عن إضرار المتداينين بترك الإجابة والتحريف والتغيير في الكتابة أو الشهادة ، وان كان مبنيا للمفعول فالمراد النهي عن الضرر بهما مثل استعجالهما عن مهمهما الضروري اللازم

٦٤

لهما من جهة تحصيل المعاش وتكليف السفر إلى بلد القاضي أو المدّعى عليه وتكليف الكاتب قلما أو مدادا أو قرطاسا ونحو ذلك.

واعتبر العامة من الضرار عدم إعطاء الكاتب جعله أي أجرته وهو عندنا [إذا لم يعط من بيت المال رزقه لأنه من المصالح العامة ، فإنه حينئذ يعطيه الآمر بالكتابة ، لأصالة عدم وجوب بذل المنفعة مجانا].

(وَإِنْ تَفْعَلُوا) الضرار أو ما نهيتم عنه مطلقا (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) وخروج عن طاعة الله لا حق بكم ضرره (وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة ما أمركم به ونهاكم عنه (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) الاحكام التي تحتاجون إليها من أمور دينكم وما يصلحكم في دنياكم (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تكرير لفظ «الله» في الجمل الثلاث لاستقلالها وعدم توقف إحداها على الأخرى ، فإن الأولى حث على التقوى والثانية وعد بانعامه ، والثالثة لتعظيم شأنه ولأنه أدخل في التعظيم من الضمير.

(تنبيه)

قد يظهر من هذه التأكيدات في أمر الكتابة أنها معتبرة وحجة شرعية يصح التمسك بها. والمشهور بينهم خلاف ذلك ، فلا يصح الركون إليها ، بل اللازم الوقوف مع ظاهرها كما ذهب اليه البعض. ولقد بالغ المانعون في ردها حتى قالوا انه لو علم أنه خطه لم يجز له الشهادة به الا أن يعلم الواقعة فيشهد لكونه عالما لا لكونه خطه بيده. ويمكن توجيه المشهور بأن الشهادة يعتبر فيها كونها عن علم كما ثبت بالأدلة ، وظاهر ان الكتابة لا توجبه ولو أوجبته وجب العمل بها لمكان العلم ، وحينئذ فيمكن أن تكون الفائدة فيها كونها موجبة لتذكير الشاهد أو صاحب الحق ، وكفى بهذا فائدة.

ذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره ان في البقرة خمسمائة حكم وفي هذه الآية خاصة خمسة عشر حكما. وقد تلوناها عليك في تضاعيف الكلام.

الثانية : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ

٦٥

 إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ). (البقرة : ٢٨٠)

(وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) وان وقع غريم ذو عسرة ، على انّ كان تامة ، وقرئ «ذا عسرة» على أنها ناقصة ، واسمها ضمير يرجع الى الغريم. [والعسرة اسم من الاعتسار ، وهو تعذر ما يجب عليه من المال ، يقال أعسر الرجل إذا صار الى حالة العسرة ، وهي الحالة التي يتعسر فيها وجود المال].

(فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) فالحكم أو فعليكم أو فليكن نظرة الى يسار ، [والنظرة اسم من الانظار وهو الإمهال. والميسرة مفعلة من اليسار الذي هو ضد الإعسار].

ومقتضى الآية وجوب انظار المعسر الى وقت يساره ، ويستفاد منها تحريم حبسه ومطالبته وملازمته ووجوب إنظاره إلى وقت اليسار. هذا إذا علم إعساره ، ولو كان له ريبة في إعساره جاز أن يحبسه الى ظهور الإعسار ويخلى عنه.

والى ذلك ذهب علماؤنا أجمع ، ووافقنا عليه الشافعي ، وفي الاخبار (١) دلالة عليه ، وروي عن الباقر عليه‌السلام أن عليا عليه‌السلام كان يحبس في الدين ، فإذا تبين له إفلاس وحاجة خلى سبيله حتى يستفيد مالا (٢).

وقال أبو حنيفة إذا ثبت إعساره وخلاه الحاكم كان للغرماء ملازمته الا انهم لا يمنعونه من الاكتساب. وظاهر الآية حجة عليه.

ثم ان ظاهر الآية قد يعطي أن المعسر لو كان له حرفة لم يجب عليه التكسب لوفاء الدين ، لان مقتضى انظار المعسر الى اليسار ذلك. وبها استدل الشيخ في الخلاف على ذلك ، وقطع به ابن إدريس ، وأوجب ابن حمزة عليه التكسب ، وهو خيرة العلامة في المختلف نظرا الى ان القادر على التكسب ليس بمعسر حتى يجب إنظاره ،

__________________

(١) انظر الباب ٧ من أبواب كتاب الحجر ج ٢ ص ٣٦٠ ط الأميري ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ٤٩٦ و ٤٩٧.

(٢) التهذيب ج ٦ ص ٢٩٩ الرقم ٨٣٤ والاستبصار ج ٣ ص ٤٧ الرقم ١٥٦.

٦٦

واستحسنه الشهيد في الدروس. وهو غير بعيد ، لأن قضاء الدين على القادر مع المطالبة والمتكسّب قادر ولهذا يحرم عليه الزكاة.

ويؤيده (١) ما رواه السكوني عن الصادق عليه‌السلام عن عليّ عليه‌السلام انه كان يحبس في الدين ثم ينظر ، فان كان له مال أعطى الغرماء وإن لم يكن له مال دفعه الى الغرماء فيقول اصنعوا به ما شئتم إن شئتم آجروه وان شئتم استعملوه. وعلى هذا فلا يكون مثله داخلا في الآية بل خارجا لكونه قادرا.

وحد الإعسار عندنا أن لا يكون عنده فاضل عن قوت يوم وليلة له ولعياله الواجبي النفقة على الاقتصاد وما لا بد لهم من كسوة لصلاتهم ودفع الحر والبرد عنهم ومن دار وخادم يليق بحالهم ، فلو فضل عنده من ذلك وجب دفعه الى الديان. وفي أخبارنا دلالة على ذلك ، روى الحلبي في الحسن (٢) عن الصادق عليه‌السلام قال : لاتباع الدار ولا الجارية في الدين ، وذلك لأنه لا بد للرجل من ظل يسكنه ومن خادم يخدمه. وبالجملة ما فضل عن جميع ذلك يجب دفعه ، فلا يكون به معسرا ومالا فلا.

وظاهر الآية عموم الانظار للمعسر في كل دين كان ، وقال ابنا بابويه ان كان قد أنفق بالمعروف وجب إنظاره للآية وان كان قد أنفقه في المعاصي فطالبه وجب عليه الأداء وليس هو من أهل هذه الآية. وظاهر العموم حجة عليهما ، وأصالة عدم التخصيص الا بدليل قد ينفيه.

وقيل ان الانظار واجب في دين الربا فقط (٣) [يحكى عن شريح أنه أمر بحبس احد الخصمين ، فقيل له انه معسر ، فقال شريح انما ذلك في الربا]. وقيل ان الانظار

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ٣٠٠ الرقم ٨٣٨ والاستبصار ج ٣ ص ٤٧ الرقم ١٥٥.

(٢) التهذيب ج ٦ ص ١٨٦ الرقم ٣٨٧ والاستبصار ج ٣ ص ٦ الرقم ١٢ والكافي ج ١ ص ٣٥٤ باب قضاء الدين الحديث ٣ وهو في المرات ج ٣ ص ٣٨٨.

(٣) حكاه في الدر المنثور ج ١ ص ٣٦٨ عن عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والنحاس في ناسخه وابن جرير عن ابن سيرين قلت وتراه في الناسخ والمنسوخ ص ٨٣ وفي تفسير الطبري ج ٣ ص ١١٠.

٦٧

واجب في دين الربا بظاهر الآية وفي كل دين بالقياس عليه. ولعل نظر هذين القولين الى أن الآية السابقة في بيان حكم الربا ، فيكون هذه فيه أيضا وفيه نظر ، فان آيات القرآن لا تعلق لبعضها ببعض ، وانما المناط فيها دلالة اللفظ فحيث ثبت ثبت الحكم.

(وَأَنْ تَصَدَّقُوا) على الغريم بإبراء ما في ذمته (خَيْرٌ لَكُمْ) من الأنظار أو مما تأخذونه لكثرة ثوابه وتضاعفه ودوامه (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) حقيقة التصدق وما فيه من الثواب الجزيل والأجر الجميل والانظار وما فيه أيضا فإنكم ترجحون التصدق عليه. ويحتمل أن يكون المراد ان كنتم من أهل العلم والتمييز.

وفي الآية دلالة على صحة الإبراء بلفظ التصدق ، الا انه خلاف المشهور فيما بينهم.

وفيها أيضا دلالة على أنه خير من الانظار. ولا يرد أن الانظار واجب والإبراء مستحب والمستحب لا يكون أفضل من الواجب ، لأن الإبراء جامع للنظرة والصدقة ، وظاهر أن الجمع بين الواجب والمندوب خير من الواجب وحده. واعترض بأنه مع الإبراء لا انظار ، إذ هو انما يكون مع بقاء الحق لا مع زواله ، فلا وجه للجمع بينهما.

وأجيب بأنه لما كان الغرض من وجوب الانظار ترك المطالبة والتضييق على الغريم وهو متحقق مع الإبراء فكأنه جمع بينهما وكان الثواب المترتب عليه أكثر من ثواب الانظار وحده ، وهو كما ترى. والحق أن أفضلية المندوب على الواجب غير مستبعدة بل واقعة في أكثر الموارد فلا مانع من أن يكون هذا منها.

وقيل أراد بالتصدق هنا الانظار ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) «لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره الا كان له بكل يوم صدقة». وهذا القول مرغوب عنه ، فإن الانظار قد علم ما تقدم ، فلا بد من حمل هذا على فائدة جديدة ، ولأنه لا استبعاد في كون الإبراء

__________________

(١) أخرجه في الدر المنثور ج ١ ص ٣٦٩ عن احمد عن عمران بن حصين عن النبي (ص) وأخرجه في الكشاف ج ١ ص ٢٢٣ وفي الشاف الكاف المطبوع ذيله ذكر مصادره.

٦٨

خيرا من الانظار وبقاء المال في الذمة ، وان حصل في كل يوم بل كل ساعة صدقة إذ يجوز خيرية هذه الصدقة بالنسبة الى ما عداها ، للآية وللاخبار.

ومقتضى إطلاق كون التصدق والإبراء خيرا من الانظار أنه كذلك بالنسبة الى كل احد وان كان فاسقا أو غنيا ، فهو بمثابة قولك الإحسان حسن وان لم يكن المحسن اليه من أهله ، كما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) «واصنع المعروف الى كل أحد فان لم يكن أهلا فأنت أهل لذلك».

ثم انه تعالى أكد الترغيب في الطاعات والترهيب عن المعاصي بقوله (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) أي تصيرون اليه ، وهو يوم القيامة [أو يوم الموت ، ومعنى الرجوع عودهم إلى الحالة التي كانوا عليها قبل الدخول في الدنيا ، أو المراد الرجوع الى ما أعد الله من الثواب والعقاب].

(ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أى تستوفى فيه أجر ما كسبته من الاعمال خيرا أو شرا ، أو ما كسبته من الثواب والعقاب [فان المكلف عند رجوعه الى الله لا بد وان يصل اليه جزاء عمله تماما ، كما قال (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)].

__________________

(١) انظر الوسائل الباب ٣ من أبواب المعروف ص ٥١٤ ج ٢ ط الأميري ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ٣٩٥ وأخرجه من أهل السنة في الجامع الصغير بالرقم ١٠٩٠ ج ١ ص ٥٣٣ فيض القدير عن الخطيب وفي الاحياء ج ٢ ص ١٧٢ ط عثمان خليفة عند سرد حقوق المسلم وفي ألفاظ الحديث في المصادر يسير تفاوت وفي بعضها اصطنع مكان اصنع.

قال في اللسان (ص ن ع) الاصطناع افتعال من الصنيعة وهي العطية والكرامة والإحسان وقال في فيض القدير نقلا عن الراغب : الفرق بين الصنع والفعل والعمل ان الصنع انما يكون من الإنسان دون الحيوان ولا يقال الا لما كان باجادة والصنع قد يكون بلا فكر لشرف فاعله والفعل قد يكون بلا فكر لنقص فاعله والعمل لا يكون الا بفكر لتوسط فاعله والصنع أخص الثلاثة والعمل أوسطها والفعل أعمها وكل صنع عمل ولا عكس وكل عمل فعل ولا عكس انتهى.

٦٩

(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي لا ينقصون ما يستحقونه من الثواب ولا يزاد عليهم فيما يستحقونه من العقاب.

[فان قيل أليس قوله (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) دالا على ذلك ، فكان تكرارا. قلنا قوله (تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) دال على إيصال العذاب الى الفساق والكفار ، فربما توهم متوهم أنه كيف يليق بكرم أكرم الأكرمين أن يعذب عبيده ، فدفع هذا الوهم بقوله (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ). والمعنى أن العبد هو الذي ظلم نفسه لانه مع ذلك مكنه وأزاح عذره وسهل عليه الطريق وأمهله فإذا قصر كان هو الذي أساء إلى نفسه فلا ظلم عليه] فليكن العاقل على حذر من ذلك اليوم وعما قليل تصل اليه.

قال في الكشاف وعن (١) ابن عباس أنها آخر آية نزل بها جبرئيل وقال ضعها في رأس الثمانين والمائتين من البقرة ، وعاش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدها أحدا وعشرين يوما ، وقيل سبعة أيام ، وقيل ثلاث ساعات. ومثله (٢) قال «القاضي» ، ومرادهما آية (وَاتَّقُوا يَوْماً) إلخ.

وقال في المجمع وهذه السورة آخر سورة كاملة نزلت من القرآن (٣) ، فعاش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدها ستة أشهر ، ثم لما خرج رسول الله الى حجة الوداع نزلت عليه في الطريق (يَسْتَفْتُونَكَ). (فِي الْكَلالَةِ) إلى آخرها ، فسميت آية الصيف ، ثم نزل عليه وهو واقف بعرفة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فعاش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدها واحدا وثمانين يوما ، ثم نزلت عليه آيات الربا ، ثم نزلت بعدها (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ) الآية ، وهي آخر آية نزلت من السماء ، فعاش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدها أحدا وعشرين

__________________

(١) الكشاف ج ١ ص ٣٢٣ وانظر أيضا الدر المنثور ج ١ ص ٣٧٠ والطبري ج ٣ ص ١١٥ وفتح القدير ج ١ ص ٢٦٩ وابن كثير ج ١ ص ٣٣٣ والخازن ج ١ ص ٢٠١ والبرهان للزركشى ج ١ من ص ٢٠٦ ـ ٢١١ والإتقان للسيوطي النوع الثامن ص ٢٦ ـ ٢٨.

(٢) البيضاوي ج ١ ص ٢٦٩ ط المصطفوى.

(٣) المجمع ج ١ ص ٣٩٤.

٧٠

يوما ، وقال ابن جريج : تسع ليال ، وقال سعيد بن جبير ومقاتل سبع ليال ، ثم مات يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول حتى زاغت الشمس. وروى أصحابنا لليلتين بقيتا من صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة ـ انتهى كلامه.

وعلى هذا فما قاله قبل هذه الآية ورواه عن ابن عباس وابن عمر أن آخر ما نزل من القرآن آي الربا ، كالمجمل تفصيله ما ذكره هنا فلا تنافي بين كلاميه.

الثالثة : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). (البقرة : ٢٤٥)

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) من للاستفهام ، ومحلها الرفع بالابتداء وذا خبره والذي صفته أو بدل منه [قيل المراد منه القرض بالجهاد خاصة لتعلقه به ، ندب تعالى العاجز عن الجهاد أن ينفق على الفقير القادر عليه ، وأمر القادر عليه أن ينفق على نفسه في طريق الجهاد. وقيل انه لا تعلق له بما قبله ، والمراد الإنفاق في سبيل الله. وقيل ان المراد كلا الأمرين]. وإقراض الله مثل لتقديم العمل الذي يطلب ثوابه.

(قَرْضاً حَسَناً) إقراضا حسنا مقرونا بالإخلاص وطيب النفس ، ويندرج في ذلك جميع الطاعات الواقعة لوجهه ، سواء كانت بذل النفس كما في الجهاد أو السعي في تحصيل العلوم أو الواجبات ، أو السعي في قضاء الحاجات وسائر مرضاة الله. ويدخل فيه مثل إقراض المؤمنين المحتاجين وغيره. وخصه بعضهم بالمجاهدة أو الإنفاق في سبيل الله والعموم أولى.

وعن ابن عباس القرض الحسن أن يستره ويصغره ويعجله. ولعل الوجه في التعبير عن أمثال ذلك بالقرض الذي هو قطع المال ودفعه ، ليعوض به التنبيه على أن العوض على هذا العمل والجزاء عليه لازم الوصول الى صاحبه (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) فيضاعف جزاءه وثوابه وقد أخرج الكلام على صورة المغالبة للمبالغة. وقرأ عاصم بالنصب على إضمار أن لكونه جواب الاستفهام من حيث المعنى ، فان الكلام في قوة أيقرض الله أحد.

(أَضْعافاً كَثِيرَةً) أمثالا كثيرة لا يقدّرها الا الله. وقيل الواحد بسبعمائة ، وهي جمع ضعف ، ونصبه على الحال من الضمير المنصوب ، أو علي أنه مفعول ثان ،

٧١

لتضمن المضاعفة معنى التصيير ، أو على المصدر على أن الضعف اسم مصدر وجمع للتنويع وقد كثر استعمال اقامة اسم المصدر مقامه وإعطاؤه حكمه فيما بينهم والاختلاف في الاضعاف بسبب النية واستحقاق المنفق عليه وصلاحيته وعلمه وقرابته وغير ذلك من العوارض الموجبة للتضاعف.

وعن (١) الصادق عليه‌السلام قال : لما نزلت آية (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رب زدني. فأنزل الله سبحانه (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها). فقال رسول الله : رب زدني ـ فأنزل الله (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً). والكثير عند الله لا يحصى [أبهمه لأن ذكر المبهم في باب الترغيب أقوى من ذكر الحدود].

(وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) أي يقتر على قوم في الرزق وبوسع على آخرين بحسب ما تقتضيه المصلحة والحكمة ، فلا تبخلوا بما وسع الله عليكم كيلا يبدل حالكم ، أولا ينبغي لمن قتر عليه أن يخرج عن الرضا ولا لمن وسع عليه أن يتكبر.

ويحتمل أن يراد [أن الإنسان إذا علم أن القبض والبسط بيد الله انقطع نظره عن مال الدنيا وبقي اعتماده على الله ، فحينئذ يسهل عليه إنفاق المال في سبيل الله. ويحتمل ان يراد] أنه يقبض القرض ويبسط في العوض فيوسعه ، أو أنه يقبض على البعض بالموت ويبسط على الوارث.

(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم على ما قدّمتم من الأعمال الصالحة وعلى ما تركتم منها.

وقد وقع في الكتاب المجيد آيات كثيرة دالة على الحث على إقراض الله كقوله (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) وقوله (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) وقوله (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ) ونحوها ، وهي متقاربة في المراد.

وأما توابع الدين فأنواع :

__________________

(١) المجمع ج ١ ص ٣٤٩.

٧٢

النوع الأول

الرهن

وفيه آية واحدة ، وهي :

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ). (البقرة ٢٨٢)

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) اى مسافرين ، والخطاب للمتعاملين بالدين المؤجل كما يعطيه قوله (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ حذف خبره ، والتقدير فالذي يستوثق به أو فعليكم رهان.

وليس المراد باشتراط السفر في الارتهان انه لا يكون مشروعا في الحضر ، فان الرهن يجري في الحضر والسفر معا وحال الكاتب وعدمه بغير خلاف بين العلماء ، وانما الاشتراط بالسفر خرج مخرج الغالب ، فان السفر لما كان مظنة لاعواز الكتب والإشهاد أمر على سبيل الإرشاد إلى حفظ المال بذلك ، فقول مجاهد والضحاك باشتراط السفر فيه بعيد مخالف للإجماع [ومعارض باشتراطه بعدم الكاتب ، مع أنه غير شرط عند الخصم أيضا] ومردود بما اشتهر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله انه رهن درعه وهو حاضر عند يهودي على عشرين صاعا من شعير (١).

والأمر بالرهن للإرشاد كما عرفت دون الوجوب كما في الكتابة ، وقد انعقد الإجماع على عدم وجوبه.

أما اشتراط القبض فيه وعدم لزومه بالإيجاب والقبول من دونه فهو قول الأكثر

__________________

(١) انظر نيل الأوطار ج ٥ ص ٢٤٧ وفتح الباري ج ٥ ص ٣٣٩ و ٣٤٠ وج ٦ من ص ٦٥ ـ ٧٠ وسنن البيهقي ج ٦ ص ٣٦ وترى الحديث في كتب الشيعة أيضا في مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٤٩٤.

٧٣

منا ومن العامة. والمراد باللزوم أن لا يكون للراهن الرجوع عن الرهن ولا للمرتهن عن الارتهان ومقتضى هذا أنّه لو رهن بإيقاع الإيجاب والقبول ولم يقبض لم يلزم وكان للراهن الامتناع من الإقباض والتصرف فيه بالبيع ونحوه لعدم لزومه.

وذهب الشيخ في الخلاف إلى لزومه بمجرد العقد ، واختاره ابن إدريس ، وعليه مالك من العامة واحمد في إحدى الروايتين.

واحتج الأولون بظاهر قوله (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) حيث وصفها بكونها مقبوضة فاقتضى ذلك عدم تحقق الرهن بدونه. ويؤيده (١) رواية محمّد بن قيس عن الباقر عليه‌السلام قال : لا رهن الا مقبوضا.

واحتج الآخرون بعموم قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وأصالة عدم اشتراط القبض. وأجابوا عن الآية بأن الدلالة فيها من حيث وصف الرهن بالقبض ، ولا حجة فيه عند المحققين. على أنها لا تدل على الاشتراط ، فان القبض لو كان شرطا في الرهن لكان ذكر القبض تكرارا لا فائدة تحته ، فكما لا يحسن أن نقول «مقبولة» لا يحسن «مقبوضة».

ولأن الآية لبيان الإرشاد إلى حفظ المال ، وذلك انما يتم بالإقباض كما أنه لا يتم الا بالارتهان ، فالاحتياط يقتضي القبض كما يقتضي الرهن ، وكما أن الرهن ليس شرطا في الدين فكذا القبض في الرهن. والرواية (٢) ضعيفة السند فلا يصار إليها في

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٧٦ بالرقم ٧٧٩ ومثله في العياشي رواه في الوسائل الباب ٣ من كتاب الرهن ج ٢ ص ٦٢٧ ودعائم الإسلام رواه في المستدرك ج ٢ ص ٤٩٤.

(٢) فان الحديث في التهذيب عن الحسن بن محمد بن سماعه وهو واقفي وفي طريق الشيخ إليه في المشيخة والفهرست حميد بن زياد وهو أيضا واقفي والراوي عن الامام محمد بن قيس وهو مشترك ولعل الأصح عد الحديث من الموثق ، لمكان وثاقة حميد والحسن والراوي عن محمد بن قيس في الحديث عاصم بن حميد وهو من مميزات محمد بن قيس البجلي الثقة.

ولعلنا نتكلم في حقه بعد ذلك إنشاء إله تعالى.

٧٤

إثبات مثل هذا الحكم ـ كذا أجاب العلامة في المختلف (١).

قلت : الذي يظهر من الرواية أن الوصف في الآية بالقبض للبيان والكشف لا للتقييد ، فلا يتحقق الرهن بدون القبض ، كما هو مقتضى الوصف الموضح الكاشف. وضعف الرواية لا يمنع من كون المراد بالآية ذلك ، فإنها كالامارة عليه ، ولعل من يذهب إلى اشتراط القبض ينظر إلى ذلك ، فما أجاب به عنها مدفوع على أن الرواية مشهورة بين الأصحاب فنقلوها في الكتب المعتبرة وأكثرهم عامل بها ومفت باعتبار القبض ، وهو جابر لضعفها ان كان.

ثم إنا لو تنزلنا عن ذلك لأمكن أن نقول : الآية ان لم تكن ظاهرة فيما قلنا فهي محتملة له احتمالا مساويا لاحتمال غيره ، وهي دليل مشروعية الرهن في المعاملات وليس عليه دليل غيرها ، وحينئذ فنقول : كون الشيء وثيقة شرعية يترتب عليها الأحكام الخاصة بها مثل سقوط سلطنة المالك عن ملكه وكونه وثيقة الدين ونحو ذلك مما هو خلاف الأصل يتوقف على دليل شرعي مستفاد من الشرع ولا يكفي فيه الأصل والعقل.

والذي ثبت بالشرع كونه وثيقة شرعية ، بالإجماع وظاهر الآية والخبر السابق هو الرهن المقبوض ولم يثبت في غيره ، فيبقى على الأصل الذي هو العدم ، ولا يكفي فيه (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فانا لا نسلم أن الرهن بدون القبض عقد شرعي يجب الوفاء به لعدم ظهور ثبوته من الشرع كذلك.

وأيضا ان كان المراد العقود الصحيحة فلا نسلم صحة العقد الواقع بدون القبض ، وكون الأصل فيه ذلك غير ظاهر ، فإنه يعتبر فيه شروط زائدة عليه ، وليس حصولها معلوما ولا مظنونا بدون اعلام الشارع ولأن الصحة حكم شرعي يتوقف على ورود الشرع به ، ومجرد كون الشيء مما يصدق عليه أنه عقد لا يقتضي ذلك ، وان كان المراد ما هو أعم من الصحيح أو الفاسد فلا دلالة فيه على المطلوب.

وقد قيل يجوز أن يراد بها الأعم كما هو ظاهرها ، وحينئذ فيجب الإيفاء بمقتضى

__________________

(١) المختلف الجزء الثاني ص ٢٣٨.

٧٥

مطلق العقد صحيحا كان أو فاسدا ، فالصحيح بمقتضى الصحة والفاسد بمقتضى الفساد ، فان للفاسد أيضا أحكاما شرعية يترتب عليه ، فأين الدلالة على ما قالوه.

وحيث يعتبر القبض فالمراد به التخلية مطلقا ، وانما يتحقق بأن يحضر المرتهن فيقبض أو يوكل في قبضه ، فان كان الرهن خفيفا يمكن تناوله باليد فقبضه ان يتناوله هو أو وكيله وان كان ثقيلا كالعبد والدابة فقبضه نقله من مكان إلى آخر ، وان كان طعاما فقبضه أن يكتاله ، وان ارتهن صبرة جزافا فقبضها النقل من مكان إلى مكان ، وان كان مما لا ينقل ولا يحول من أرض أو دار وعليها باب مغلق فقبضها ان يخلي صاحبها بينه وبينها ويدفع بابها اليه أو يدفع اليه مفتاحها ، وان لم يكن له باب فقبضه التخلية بينه وبينها من غير حائل.

ولو كان شيء من المذكورات في يد المرتهن بالعارية السابقة كفى ذلك في القبض ، وهل يفتقر إلى مضى زمان يتحقق في يده؟ الأظهر العدم.

(فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي وثق واعتمد بعض الدائنين على بعض المديونين ، بأن لا يجحده ولا ينقصه ولا يناقصه ، واستغنى بأمانته عن الكتابة والشهادة والارتهان (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) أى دينه ، سمّاه امانة مع كونه ثابتا في ذمته ومضمونا عليه لائتمانه عليه بدون الكتابة والاشهاد والارتهان. والمراد بأدائه اليه إعطاؤه إياه وإيصاله إليه بغير جحود يحتاج إلى الإثبات عند الحاكم ولا ينقص منه شيئا ويدفعه إليه في محله من غير مطل وتسويف.

ثم بالغ في الدفع على ذلك الوجه بقوله (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) [وليتق المديون المؤتمن ربه فلا يجحد الدين ، لأن المدين لما عامله المعاملة الحسنة حيث عول على أمانته ولم يطالبه بالوثائق من الكتابة والاشهاد والرهن فينبغي لهذا المديون أن يعامله بالمعاملة الحسنة] في اجتناب الخيانة وأداء الأمانة ، فيدفعها إلى صاحبها على وجه جميل.

ويحتمل أن يكون المراد الأمر بالإيفاء مطلقا الذي هذا الموضع منها.

٧٦

ولعل الغرض من المبالغة في أداء هذا الدين بخصوصه مع أن الدين مطلقا يجب دفعه إلى صاحبه من غير مطل وتسويف عند الطلب والقدرة إجماعا ، أن هذا الدين في محل الجحود والإنكار لعدم الكتابة والوثيقة فيه ، فأراد التحذير والتخويف من عدم دفعه إلى صاحبه.

[وقيل ان هذه الآية ناسخة للآيات المتقدمة الدالة على وجوب الكتابة والاشهاد وأخذ الرهن. وفيه نظر ، فإن الأوامر السابقة محمولة على الإرشاد ورعاية جانب الاحتياط كما عرفت. وهذه الآية محمولة على الرخصة ، فلا وجه للنسخ.] وقد يستدل بظاهر الآية على وجوب أداء كل أمانة ائتمن صاحبها الغير عليها من غير خصوصية بالرهن أو بالدين ولا بالراهن ولا بالمرتهن ، فيشمل الرهن في يد المرتهن ونحوه وحيث أن الأوامر في الآية للإرشاد ورعاية وجوب الاحتياط كما عرفت لم تكن الامانة شرطا في عدم الرهن كما قد يظهر من الآية.

(وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) أيها الشهود عند إرادة إقامتها لإثبات الحق ، فان في ذلك ابطال حق المسلم ، وحرمة مال المسلم كحرمة دمه. ويمكن أن يكون الخطاب للمديونين والشهادة شهادتهم وإقرارهم على أنفسهم بالحق.

(وَمَنْ يَكْتُمْها) منكم مع علمه بالمشهود به وعدم ارتيابه فيه وتمكنه من أدائها بحيث لا يترتب على إقامتها منه ضرر (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) أي يأثم قلبه أو قلبه يأثم ، [والآثم الفاجر] وفي إضافة الإثم إلى القلب مع ان الإثم يلحق المجموع إشارة إلى ان اكتساب الإثم بكتمان الشهادة يقع بالقلب. لأن العزم على الكتمان انما يصدر منه ، واستناد الفعل إلى الجارحة التي يقع بها أبلغ ، كما تقول أبصرته بعيني وسمعته بأذني. ولأن إضافة الإثم إلى القلب أبلغ في الذم ، كما أن اضافة الايمان اليه أبلغ في المدح ، ولأن القلب هو رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وان فسدت فسد الجسد كله ، فكأنه قيل قد تمكن الإثم في أصل نفسه وملك أشرف مكان منه.

٧٧

وفي الآية دلالة على أن كتمان الشهادة من الكبائر ، وعن ابن عباس (١) أكبر الكبائر الإشراك بالله لقوله (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) وشهادة الزور وكتمان الشهادة.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) أى تسرون وتظهرون (عَلِيمٌ) فيجازى الجميع بحسب علمه ، وفيه ترغيب وترهيب.

__________________

(١) الكشاف ج ١ ص ٣٣٠ ولم يتعرض ابن حجر لتخريجه.

٧٨

النوع الثاني

الجعالة والضمان

وفيه آيتان :

الاولى : (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) (يوسف : ٧٢).

(وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) أي من الطعام على طريق الجعل له [وبها استدل أصحابنا وغيرهم على مشروعية الجعالة] (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) كفيل وضمين أودية إلى من رده.

وبها استدل أصحابنا وغيرهم على مشروعية الضمان. قال العلامة في التذكرة : والضمان ثابت بالكتاب والسنة والإجماع ، قال الله تعالى (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) وقال ابن عباس : «الزعيم : الكفيل».

لا يقال : هذه الآية لا يصح لكم الاستدلال بها ، لأن حمل البعير مجهول ولأنها جعالة ولأنه حكاية عن منادي يوسف ، ولا يلزمنا شرعه ، لأنا نقول : حمل البعير معروف عندهم ولهذا سموه وسقا وعلق عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نصاب الغلات.

وأما الجعالة فإنا لا نمنع بطلان الكفالة بها ، لأنها تؤل إلى اللزوم ، سلّمنا عدم جواز الضمان فيها ، لكن اللفظ اقتضى جواز الكفالة بها وجوازها بالجعالة ، ثم قام دليل على أنّ الجعالة لا يتكفل بها ، وهذا الدليل لا ينفى مقتضى اللفظ.

وأما شرع من قبلنا ، فقد قيل إنه يلزمنا إذا لم يدل دليل على إنكاره ، وليس هنا ما يدل على إنكار الكفالة فيكون ثابتا في حقنا. انتهى كلامه.

وهو جيّد غير أن ضمان المجهول ممّا ذهب إليه جماعة من الأصحاب واختاره

٧٩

في المختلف واستدل عليه بهذه الآية ، نظرا إلى أن الأصل عدم تعيين حمل البعير الذي وقع به الضمان ، وحينئذ فلا حاجة إلى التزام معلوميته.

[واعلم (١) أن هذه الآية الكريمة قد اشتملت على مسائل :

الأولى ـ مشروعية الجعالة.

والثانية ـ مشروعية الضمان.

والثالثة ـ ان مال الجعالة يصح ضمانه قبل الشروع في العمل وبعده قبل إكماله.

والرابعة ـ أن ضمان المجهول الذي يمكن استعلامه بعد ذلك صحيح.

ولا كلام في المسألتين الأوّلتين بين أهل العلم ، وأما الثالثة فللأصحاب فيها اختلاف : فقال بعضهم بصحة ضمان مال الجعالة نظرا إلى ظاهر الآية ، ولأنه يؤل إلى اللزوم بتمام العمل ، وقد وجد سبب اللزوم وهو العقد فكان بمثابة الثمن في مدة الخيار. ورده آخرون بمنع كون السبب هو العقد وحده بل هو جزء السبب ، ومن ثم لو ترك الباقي من العمل لم يستحق شيئا بالماضي منه ، فكان الإتيان بالباقي شرطا في استحقاق الجميع ، والفرق بينه وبين الثمن في مدة الخيار أن الثمن ثابت في ذمة المشتري مملوك للبائع ، غايته انه متزلزل ، ولو أبقي على حاله آل إلى اللزوم بخلاف مال الجعالة.

وفرق العلامة في التذكرة بين مال الجعالة قبل الشروع في العمل ، وبينه بعده فقطع بعدم جواز الضمان في الأول ، لأنه ضمان ما لم يجب ، واستقرب الجواز لو كان بعده.

والذي نقوله : ان الآية إذا كانت دالة على مشروعية الضمان كان العمل بها في جميع ما تناولته لازما.

فان قيل : هي شرع من قبلنا ، فلا يجب علينا متابعته. قلنا : قد أجاب العلامة عن ذلك ، قال في التذكرة : وأما شرع من قبلنا فقد قيل انه يلزمنا إذا لم يدل دليل

__________________

(١) ما بين العلامتين يوجد في بعض النسخ بدلا مما مر فلا تغفل (المصحح).

٨٠