مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٣

جواد الكاظمي

مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٣

المؤلف:

جواد الكاظمي


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٠

فهذه الشهادة الأولى التي جعلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) أي أنهما حلفا على كذب (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) يعني من أولياء المدعي (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) يحلفان بالله أنهما أحق بهذه الدعوى منهما وانهما قد كذبا فيما حلفا بالله (لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ).

فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أولياء تميم الداري أن يحلفوا بالله على ما أمرهم به ، فحلفوا فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله القلادة والآنية من ابن بندي وابن أبي مارية وردهما على أولياء الداري ـ الحديث.

(تنبيهات)

وفي الآية المذكورة تنبيهات يحتاج الى بيانها :

(الأول) مقتضي الآية جواز إشهاد أهل الذمة في الوصية عند الضرورة وفقد عدول المسلمين ، لظهور أن الخطاب في (مِنْكُمْ) عائد إلى المؤمنين ، فيلزم ان يكون غيرهم كافرين ، وعلى هذا أصحابنا اجمع ، وقد تظافرت أخبارهم بذلك :

روى الكليني (١) عن هشام بن الحكم في الصحيح عن ابى عبد الله عليه‌السلام في قول الله تبارك وتعالى (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ). قال : إذا كان الرجل في أرض غربة لا يوجد فيها مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصية.

وعن يحيى بن محمّد (٢) قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل(يا

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٣٥٤ باب شهادة أهل الملل الحديث ٦ وهو في المرآة ج ٤ ص ٢٣٠ ومثله في التهذيب ج ٦ ص ٢٥٢ الرقم ٦٥٣ واللفظ كما في المتن وروى مثله أيضا في الكافي باب الاشهاد على الوصية والتهذيب ج ٩ ص ١٨٠ الرقم ٧٢٥ بلفظ في بلد ليس فيها مسلم مكان في أرض غربة لا يوجد فيها مسلم.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٢٣٥ باب الاشهاد على الوصية الحديث ٦ وهو في المرآة ج ٤ ص ١٢٤ ورواه في التهذيب ج ٩ ص ١٧٨ الرقم ٧١٥ والفقيه ج ٤ ص ١٤٢ بالرقم ٤٨٧ وللحديث تتمه.

١٢١

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ). قال : اللذان منكم مسلمان واللّذان من غيركم من أهل الكتاب ، فان لم تجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سن في المجوس سنّة أهل الكتاب في الجزية.

وذلك إذا مات الرجل في أرض غربة فلم يجد مسلمين أشهد رجلين من أهل الكتاب يحبسان بعد العصر فيقسمان بالله عزوجل (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) الحديث. ونحوهما من الاخبار.

ولأن الميت قد يكون عليه حق واجب ، أوله شيء عند الغير ، وظاهر أن ترك الوصية والاشهاد عليها على تقدير عدم المسلمين يستلزم ضياعها وتلفها وهو غير جائز. وبأن هذين الشاهدين لو كانا مسلمين لم يكن الاستشهاد بها مشروطا بالسفر لجواز ذلك في الحضر أيضا اتفاقا. وبأنه تعالى أوجب الحلف عليهما والشاهد المسلم لا يجب تحليفه البتة. وبأن الشاهدين في سبب النزول كانا نصرانيين.

وخالف العامة في ذلك (١) فلم يجيزوا شهادة الذمي في وجه من الوجوه. واختلفوا في حمل الآية ، فقيل المراد بها ذلك ولكن كان في أول الإسلام ثم نسخ. قال «القاضي» ومن فسر الغير بأهل الذمة جعله منسوخا ، فإن شهادة الذمي على المسلم لا تسمع إجماعا ويرد ما قاله أصالة عدم النسخ وعدم صلاحية ما يدعى كونه ناسخا له ، [إذ الآية خاصة بالوصية حال الضرورة ، فتكون الأدلة الدالة على اشتراط الايمان والعدالة في الشاهد مخصوصة بما عدا الوصية على الوجه المخصوص].

ويؤيده ما قاله أبو عبيدة ان جل العلماء يتأولونها في أهل الذمة ويرونها محكمة قال ويقوى هذا القول تتابع الآثار في سورة المائدة بقلة المنسوخ فيها وأنها من محكم القرآن وآخر ما نزل قلت : ويرد ما ادّعاه من الإجماع تظافر الاخبار بما ادعيناه عن الأئمة الأطهار (٢) الذين هم معدن الوحي واسرار التنزيل وهم أعرف بمحكم القرآن

__________________

(١) وانظر أيضا البيان لاية الله الخويي مد ظله من ص ٢٣٩ ـ ٢٤٢.

(٢) بل الاخبار بذلك متظافرة ان لم تكن متواترة من طرق الفريقين انظر في ذلك تعاليقنا على المجلد الأول من هذا الكتاب ص ٣٧ ـ ٣٨ وانظر أيضا كتاب مشكل الآثار للطحاوى ج ٣ من ص ١٩٥ ـ ١٩٧.

١٢٢

ومنسوخه ممن عداهم.

وقيل ان المراد بقوله (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) من اقاربكم (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أي من الأجانب وان كان الجميع مسلمين. وهذا هو الراجح عند صاحب الكشاف (١) وغيره من العامة حذرا من النسخ. وفيه أنه خلاف الظاهر ، مع أن سبب النزول على ما قالوه يأباه (٢).

(الثاني) قد يظهر من الآية اشتراط السفر في شهادة الذميين ، وهو اختيار ابن ـ الجنيد حيث قال : لا يجوز شهادة أهل الملل على أحد من المسلمين إلا في الوصية وفي السفر وعند عدم المسلمين. وتابعه أبو الصلاح الحلبي في ذلك وجماعة من الأصحاب ، لظهور الضرب في الأرض في السفر ولما تقدم.

ولرواية حمزة بن حمران (٣) عن الصادق عليه‌السلام قال سألته عن قول الله عزوجل (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ). فقال : اللذان منكم مسلمان واللذان من غيركم من أهل الكتاب. قال وانما ذلك إذا مات الرجل المسلم في أرض غربة وطلب رجلين مسلمين ليشهدهما على وصيته فلم يجد مسلمين فليشهد على وصيته رجلين ذميين من أهل الكتاب مرضيين عند أصحابهما.

والأكثر من الأصحاب على عدم اعتبار السفر ، قالوا : والتقييد في الآية والاخبار من حيث انه خرج مخرج الأغلب لا من حيث أنه شرط. ويؤيده ما رواه ضريس الكناسي (٤) [في الحسن أو الصحيح] عن الباقر قال : سألته عن شهادة أهل الذمة هل

__________________

(١) انظر الكشاف ج ١ ص ٦٨٧.

(٢) وسبب النزول نقله صاحب الكشاف نفسه.

(٣) الكافي ج ٢ ص ٣٥٤ باب شهادة أهل الملل الحديث ٨ وهو في المرآة ج ٤ ص ٢٣٠ ورواه في التهذيب ج ٦ ص ٢٥٣ بالرقم ٦٥٥ ومثله في ج ٩ ص ١٧٩ بالرقم ٧١٨.

(٤) الكافي ج ٢ ص ٣٥٤ باب شهادة أهل الملل الحديث ٧ وهو في المرآة ج ٤ ص ٢٣٠ ورواه في التهذيب ج ٦ ص ٢٥٣ الرقم ص ٦٥٦.

١٢٣

يجوز على رجل من غير أهل ملتهم. قال : لا الا أن لا يوجد في تلك الحال غيرهم ، فان لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم في الوصية ، لأنه لا يصلح ذهاب حق امرئ مسلم ولا تبطل وصيته. ولأن الأرض لا تأثير لها في ذلك ، بل الظاهر أن مناط الحكم عدم إمكان حضور المسلمين ، فيثبت الجواز حيث ما ثبتت الضرورة.

[وفيه نظر ، أما الرواية فمع (١) قطع النظر عن سندها عامة ، والعموم يمكن تخصيصه بالدليل. وهو ظاهر الآية والأخبار المتقدمة تحصيلا للجمع بين الأدلة ، وأما كون التقييد في ذلك بخروجه مخرج الأغلب فغير واضح ، إذ الفرض أن الحكم المذكور انما استفيد من الآية المذكورة ، وهي دلت على جواز شهادة أهل الذمة على الوجه المخصوص ، وجواز غيره لم يثبت من محل آخر ، فيجب الاقتصار على ما دلت عليه].

(الثالث) [الحكم المذكور في الآية مختص بوصية المال ، فلا تثبت الوصية بالولاية

__________________

(١) قد جعل الحديث في المرآة من الصحيح وجعله المصنف عند نقله من الصحيح أو الحسن ثم تنظر فيه هنا والسر في ذلك انه لم يتبين ان ضريس بن عبد الملك بن أعين الشيباني الذي وثقه الكشي ص ٢٥٦ ط النجف بالرقم ١٤٣ هل هو متحد مع ضريس الكناسي الوارد في اخبار كثيرة بهذا العنوان أو متعدد والثاني هو ضريس بن عبد الواحد بن المختار الكوفي الذي تعرض له الشيخ في رجاله عند سرد أصحاب الصادق عليه‌السلام ص ٢٢١ ولم يذكر له مدحا ولا تعرض له غيره الا عنه.

فعلى الأول الحديث صحيح لمكان التوثيق المذكور وعلى الثاني يلحق بالحسن لمكان الاشتباه والنتيجة تابعة لاخس المتقدمين.

قلت وحيث ان الرواة عن ضريس بعنوان الكناسي من أعاظم أصحابنا كما يظهر لك ذلك من مراجعة جامع الرواة ج ١ ص ٤١٨ و ٤١٩ ومراجعة مصادر الأحاديث المشار إليها في تينك الصحيفتين فإلحاق الحديث بالصحيح كما صنعه المجلسي قدس‌سره عندي أوجه إذ مع فرض التعدد أيضا فالكناسى مع رواية هؤلاء الأعاظم عنه يعد موثقا عندهم والله تعالى اعلم.

ثم ضريس على زنة زبير والكناسي بضم الكاف نسبة الى الكناسة محلة بالكوفة مشهورة.

١٢٤

المعبر عنها بالوصاية. وربما ادعى بعضهم الإجماع على ذلك وقوفا فيما خالف الأصل على مورد النصّ.

(الرابع)] قد ظهر مما أسلفناه أن الاثنين من أهل الذمة كانا شاهدين وقد استحلفا ، وان تحليفهما مع التهمة سائغ لمكان هذا النص ، فقول القاضي ان كان الاثنان شاهدين فالحكم منسوخ ، فإنه لا يحلف الشاهد ولا يعارض يمينه بيمين الوارث.

وذكره صاحب الكشاف قولا مدفوعا ، بأن النسخ خلاف الأصل ويجوز تحليف الشاهد مع التهمة لدليل اقتضاه ، فإن الأحكام الشرعية انما تثبت بالأدلة ، وهذه الآية ظاهرة في ذلك. وروى في الكشاف (١) عن على عليه‌السلام انه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما.

على أنه يمكن أن يقال : لا نسلم أن تحليفهما لمكان شهادتهما حتى يلزم تحليف الشاهدين الذي هو خلاف الإجماع باعتقاده ، وانما حلفا لادعاء الورثة خيانتهما ولم يكن لهما بينة يصدق قولهما فتوجه اليمين عليهما.

وليس يمين الشاهد هنا معارضا بيمين الورثة إذ مع حلف الشهود لا حلف على الورثة ، والحلف الواقع على الورثة ثانيا ليس معارضا بيمينهما بل بعد استيناف دعوى أخرى عليهما ، أو لأنه مع ظهور خيانتهما لم يبق ليمينهما اعتبار بل يرجع اليمين إلى الورثة في إثبات الحق ، كما قاله أصحابنا في الأمانات إذا ظهرت الخيانة فيها.

[بقي شيء ، وهو أن الآية دلت على جواز الدعوى بعد الحلف ، والظاهر انه بعد الحلف يسقط الدعوى كما هو الفتوى. ويجاب بأن الذميين انما حلفا على عدم كون الإناء مع الميت في السفر ، ثم لما ظهرت عندهما ادعيا شراءها وأنكر الورثة ، وظاهر أنه في هذه الصورة كان الذميان مدعيين للشراء والورثة منكرة لذلك ، فكان على الورثة الحلف على عدم العلم ، فلا منافاة.

__________________

(١) الكشاف ج ١ ص ٦٨٨ قال ابن حجر في الشاف الكاف : فاما تحليف الشاهد فلم أره واما تحليف الراوي فرواه أصحاب السنن الثاني ثم أخذ في شرح من رواه فراجع.

١٢٥

هذا] وقد اختلف أصحابنا في وجوب إحلافهما بعد العصر ، فقال به العلامة في بعض كتبه ، نظرا إلى ظاهر الآية الدال عليه ، والأشهر العدم حملا للآية على الإرشاد.

(ذلِكَ) أى الحكم الذي تقدم أو إحلاف الشاهدين قاله القاضي (أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) أقرب أن يأتوا بها على الوجه الذي حملوها من غير تحريف وخيانة فيها (أَوْ يَخافُوا) عطف على يأتوا ، أي أو أن يخافوا (أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ) إلى أولياء الميت فيحلفوا ويفتضحوا بظهور خيانتهم ويغرموا ، فربما لا يحلفون إذا كانوا كاذبين ، ويتحفظون في الشهادة مخافة رد اليمين إلى المستحق عليهم. قال القاضي (١) : وانما جميع الضمير لأنه حكم يعم الشهود كلهم ، وهذا تصريح منه بأن المراد الشهود لا الأوصياء.

(وَاتَّقُوا اللهَ) أن تحلفوا أيمانا كاذبة أو تخونوا (وَاسْمَعُوا) ما توصون به بسمع اجابة (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) إلى طريق ثوابه وجنته ، بمعنى أنه يتركهم وأنفسهم حتى لا يختاروا تلك الهداية فيصير مآلهم النار.

***

ولنتبع هذا البحث بالنظر في حال الأولاد وحفظ أموالهم وهو البحث عن اليتامى وفيه آيات :

الاولى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً). (النساء ـ ٢)

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) أمر تعالى المكلفين الذين بأيديهم أموال اليتامى أن يدفعوا إليهم أموالهم أول بلوغهم لكن بعد إيناس الرشد منهم ، وإطلاق اليتامى عليهم لقرب عهدهم بالصغر وفيه إشارة إلى أنه ينبغي الدفع إليهم أول البلوغ من غير تأخير قبل زوال هذا الاسم في الظاهر عنهم ، ويجوز أن يراد بهم الصغار كما هو الظاهر من

__________________

(١) البيضاوي ج ٢ ص ١٧٤ ط مصطفى محمد.

١٢٦

إطلاق اليتيم ، وحينئذ فيكون الحكم مقيدا ، كأنه قال : وآتوهم إذا بلغوا ورشدوا.

واليتامى جمع يتيم ، وهو الذي مات أبوه ، أخذا من اليتم وهو الانفراد ، ومنه الدرة اليتيمة ، اما على أنه لما جرى مجرى الأسماء كفارس وصاحب جمع على يتايم ثم قلب فقيل يتامى ، أو على انه جمع على يتمى كأسرى لانه من باب الآفات ثم جمع يتمى على يتامى كأسرى وأسارى. والاشتقاق يقتضي وقوعه على الصغير والكبير لكن العرف خصصه بالصغير غير البالغ ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا يتم بعد الحلم» (١). والمراد أنه إذا احتلم لا يجري عليه أحكام الصغار ، لأنه في تحصيل مصالحه يستغنى عن كافل يكفله.

(وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) ولا تستبدلوا الحرام ن أموالهم بالحلال من أموالكم ، فان الحرام خبيث ، أي رديء في الآخرة وان كان في الصورة جيدا. أو المراد لا تتصرفوا في أموالهم بدل تصرفكم في أموالهم ، فهو نهى عن التصرف في أموالكم واشارة الى انّ ذلك خبيث منهي عنه.

أو المراد لا تستبدلوا الخبيث وهو اختزال أموالهم بالأمر الطيب الذي هو حفظها. وقيل كانوا يأخذون الطيب مثل السمين من أموال الأيتام ويضعون بدله الخبيث المهزول من أموالهم ، فنهوا عن ذلك.

ثم أكد التحريم بقوله (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) ولا تأكلوها مضمومة

__________________

(١) هذه الجملة مروية في كتب الفريقين في مواضع متعددة في خلال جمل متعددة مع تفاوت في الجمل التي قبلها وبعدها مع اختلاف في أصل لفظ الجملة ففي بعضها بعد حلم وفي بعضها بعد الحلم وفي بعضها بعد احتلام وفي بعضها بعد الاحتلام وفي بعضها بعد تحلم واخرج الحديث بلفظ المصنف في الكشاف ج ١ ص ٤٦٤ وفي الشاف الكاف المطبوع ذيله شرح مصادره والنفي وان جرى على اللفظ لكن المنفي محذوف اى لا استحقاق يتم.

والحلم بالضم ما يراه النائم مطلقا لكن غلب استعماله فيما يرى من امارة البلوغ وفي فقه اللسان ج ٢ ص ٥٨ ان حلم مصدر فرعى مأخوذ من حمل بالقلب لان الحليم يحتمل من الساب ويحمل غضبه وفيه أيضا ان حلم يحلم إذا راى في المنام هذا فرع علم لاعتقادهم ان الله يخبر عباده في النوم أبدلت العين الحاء وفيه أيضا الحلم والاحتلام الجماع ونحوه في النوم.

١٢٧

إلى أموالكم ، أي لا تنفقوهما معا أو لا تساووا بينهما وهذا حلال وذاك حرام. والفائدة في زيادة قوله (إِلى أَمْوالِكُمْ) مع أن أكل أموال اليتامى محرم على الإطلاق زيادة التقبيح والتوبيخ ، لأنهم كانوا مستغنين عنها بمالهم الحلال ومع ذلك طمعوا في مال اليتيم فكانوا بالذم أحرى.

ولأنهم كانوا يفعلون كذلك فنعى عليهم فعلهم وسمع بهم ليكون أزجر لهم. وإطلاق الأكل مع ان المراد النهي عن جميع التصرفات والانتفاعات نظرا إلى انه أعظم وجوه الانتفاع ولإطلاقه على التصرف مطلقا كثيرا.

(إِنَّهُ) أى الأكل (كانَ حُوباً كَبِيراً) ذنبا عظيما. والآية وان كانت عامة في تحريم الأكل من أموالهم الا أنها مخصصة بأكل مقدار أجرة المثل أو ما يحتاجه الوصي ، كما اقتضاه قوله (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ). وكذا أكل مالهم بالانضمام إذا لم يكن في ذلك ظلم ولا جور ، بأن يعلم أنه لا يأكل ما يزيد على مال نفسه ، لعموم قوله تعالى (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ). وقد روى سماعة قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ). قال : يعني اليتامى ، إذا كان الرجل يلي الأيتام في حجره فليخرج من ماله على قدر ما يخرج لكل انسان منهم فيخالطهم فيأكلون جميعا ولا يرزأنّ من أموالهم شيئا انما هي النار (١).

الثانية : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) (النساء : ٥)

(وَابْتَلُوا الْيَتامى) واختبروهم بتتبع أحوالهم في التهدي الى ضبط المال والسلامة من تضييعه وصرفه في غير وجهه ، بأن يكل اليه ما يتصرف فيه مما يناسب حاله.

فان كان من أولاد الدهاقين والوزراء والأكابر الذين يصانون عن الأسواق. فاختباره أن يسلم إليه نفقة مدة قريبة كالشهر مثلا ، لينفقها في مصالحه ، فإن

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٢٩.

١٢٨

كان فيما بين ذلك يصرفها في مواضعها ويستوفى الحساب على وكيله ويستقصى عليه فهو رشيد ، وان كان من أولاد التجار فوض اليه البيع والشراء ، فإذا تكرر ذلك منه وسلم من الغبن والتضييع وإتلاف شيء من رأس ماله فهو رشيد ، ونحو ذلك مما يناسب حاله. ولا يكفي المرة الواحدة ، بل لا بد من التكرار مرارا بحيث يحصل معها العلم أو غلبة الظن برشده واعتبر الشيخ في الرشد زيادة على ذلك العدالة وسيجيء.

(حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) حتى إذا وصلوا حد البلوغ ، وبلوغ النكاح كناية عنه ، لأنه يصلح للنكاح عنده وله أسباب منها ما هو مشترك بين الذكر والأنثى كالإنبات للشعر الخشن والاحتلام ، ولا خلاف في ذلك بين علمائنا وان خالف فيه العامة (١). ومنها ما هو مختلف فيه كالسن ، فان البلوغ في الذكر بمضي خمسة عشر سنة كاملة وفي الأنثى بمضي تسع سنين كاملة أيضا ، والى هذا يذهب علماؤنا.

وسوّى الشافعي بينهما في السن ، ونحوه احمد بن حنبل وأبو يوسف ومحمّد من أصحاب أبي حنيفة ، فحكموا بأن البلوغ في الذكر والأنثى بلوغ خمسة عشر سنة كاملة ، وقال أبو حنيفة حد بلوغ المرأة سبع عشر سنة بكل حال ، وله في الذكر روايتان إحداهما سبع عشرة أيضا والأخرى ثماني عشرة سنة ، ونحوه قال مالك.

وهي أقوال ضعيفة ، فان الغالب ان المرأة قد تحيض ببلوغ تسع سنين ، وإنكار البلوغ مع الحيض لا وجه له ، وقد اشتهر (٢) عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال لأسماء بنت ابى بكر «ان المرأة إذا بلغت المحيض لا يصلح أن يرى منها الا هذا» وأشار إلى الوجه والكفين ، علق وجوب الستر بالحيض وهو نوع تكليف.

__________________

(١) فللشافعي قول بأن إنبات الشعر علامة للمشركين خاصة وقال أبو حنيفة لا اعتبار به وقد ثبت من طرق الفريقين انه لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة بان تقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم أمر النبي (ص) ان يكشف عن مؤتزرهم فمن أنبت فهو من المقاتلة ومن لم ينبت ألحقوه بالذراري. ثم ما كان بلوغا في المشركين كان بلوغا في المسلمين.

(٢) وأيضا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار انظر سنن البيهقي ج ٦ ص ٥٧.

١٢٩

وقد تظافرت أخبارنا فيما قلناه ، وهل يكفي بلوغ أربع عشرة سنة؟ قيل نعم وهو اختيار بعض أصحابنا محتجا برواية (١) أبي حمزة عن الباقر عليه‌السلام قلت له : جعلت فداك في كم تجري الاحكام على الصبيان؟ قال : في ثلاث عشرة وأربع عشرة سنة. قلت : وان لم يحتلم؟ قال : وان لم يحتلم فإن الأحكام تجري عليه. وفي طريق الرواية عبد الله بن جبلة (٢) وحاله غير خفية.

على أن جريان الاحكام عليه بمعنى التحفظ على سبيل الاحتياط للتمرين عليها والاعتقاد لها ، فلا يقع منه عند البلوغ الإخلال بشيء منها. وبالجملة الأصل عدم لحوق الاحكام والتكاليف لهذا الصبي إلا بدليل شرعي محقق يقطع العذر ، وهو غير معلوم على ذلك التقدير ، والرواية لا يقطع العذر ، ويمكن حملها على ما قلناه.

ويمكن الاستدلال عليه أيضا ، بأن ظاهر القرآن اقتضى البلوغ ببلوغ حد النكاح ، وفي موضع آخر بلوغ الحلم ، فيثبت البلوغ معهما ولا يعلمان الا ببلوغ خمسة عشر سنة في الذكر والتسع في الأنثى ، فيبقى الباقي تحت العدم.

وفي الآية دلالة على ان الابتلاء قبل البلوغ ، لأنه تعالى سماهم يتامى وانما يصدق عليهم هذا الاسم قبل البلوغ لا بعده على ما عرفت ، ولانه تعالى مد اختبارهم الى البلوغ بلفظ حتى ، فدل على ان الاختبار قبله. ولأن تأخير الاختبار الى ما بعد

__________________

(١) انظر جامع احاديث الشيعة أبواب المقدمات باب اشتراط التكليف بالبلوغ الحديث ١٢ ص ٩٧ الرقم ٦٨٥ رواه عن التهذيب ج ٢ ص ٩٤ وهو في ط النجف ج ٦ ص ٣١٠ بالرقم ٨٥٦.

(٢) حيث كان واقفيا ولكن وثقه النجاشي انظر ص ١٦٠ ط المصطفوى ومع ذلك فليس الحديث منحصرا بذلك بل الأحاديث بذلك كثيرة جدا انظر جامع احاديث الشيعة أبواب المقدمات الباب ١١ من ص ٩٦ ـ ٩٨ والوسائل الباب ٤ من أبواب مقدمة العبادات ص ٧ ـ و ٨ ط الأميري ومستدرك الوسائل ج ١ ص ٧ و ٨.

وفي الاخبار ما هو صحيح وما هو موثق وما هو حسن الا انها مخالفة لفتوى المشهور ولا يمكنني الاعراض عن مفاد هذه الاخبار الكثيرة ومع ذلك لا اجترئ على مخالفة المشهور فمراعات الاحتياط في المسائل المرتبطة بالبحث عندي أولى وأحرى والله تعالى اعلم.

١٣٠

البلوغ يؤدي الى الإضرار بسبب الحجر على البالغ الرشيد ، لأن الحجر يمتد الى ان يختبر ويعلم رشده ، كما دل عليه قوله (فَإِنْ آنَسْتُمْ) فان أبصرتم (مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) من غير تأخير [والاختبار قد يطول شأنه بسبب العلم بالرشد].

والظاهر أن هذا مما لا خلاف فيه بين أصحابنا ، وهو قول الحنفية ، وقال بعض أصحابنا ، وتبعهم الشافعية : لا دلالة لها عليه ، فان الأمر بالابتلاء لا يدل على الصحة بوجه بل غاية استبعاده بما به الابتلاء ما كونه صحيحا أمر فهو حال عن مقتضاه] وذهب بعضهم إلى أن الاختبار بعد البلوغ نظرا إلى أنه تعالى أوجب دفع أموالهم إليهم بعد إيناس الرشد فلو كان الابتلاء قبله لما جاز ذلك ، فكيف الوجوب؟ وفيه نظر لأن دفع المال إليهم بعد إيناس الرشد لا يقتضي كون الابتلاء بعد البلوغ لجواز أن يكون قبله إلى أن يعلم الرشد ويتحقق البلوغ فيدفع إليه وهو الظاهر من الآية كما قلناه وقد يستدل بالاية على أن تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة لأن الابتلاء المأمور به قبل البلوغ وهو انما يحصل إذا اذن له الولي في البيع والشراء ونحوهما ، ليحصل الغرض المقصود من الاختبار والى هذا يذهب الحنفية.

وقالت الشافعية لا دلالة لها عليه فان الاذن في التصرف لو توقف الابتلاء عليه لجاز دفع المال إليه حينئذ وهو لا يصح إلا بالشرطين وعلى هذا ، المراد الابتلاء حسب حاله من البيع والشراء ونحوهما بحضوره ، ثم باستكشاف ذلك البيع والشراء منه وما فيهما من المصالح والمفاسد ليعرف بذلك مقدار فهمه وعقله ، ثم الولي بعد ذلك يتمم العقد وفيه نظر [وللبحث من الطرفين مجال].

والمراد بايناس الرشد ما عرفته سابقا من حصول ملكة تقتضي إصلاح الحال وعدم التضييع في المال [واحترزنا بالملكة عن مطلق الكيفية ، فإنها ليست كافية بل لا بد من أن يصير ملكة] ولا يعتبر فيه زيادة على ذلك عند أكثر أصحابنا.

واعتبر الشيخ فيه العدالة ، وهو قول الشافعي وجماعة من العامة نظرا الى

١٣١

قوله (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) والفاسق موصوف بالغي لا بالرشد ، قال تعالى (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) مع أنه كان يراعي مصالح الدنيا على الوجه المعتبر. وبأن الفاسق سفيه ، لما روي (١) عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله «ان شارب الخمر سفيه» ، ولا قائل بالفرق وقد قال تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) الآية.

وفيه نظر ، فإنه موصوف بالغيّ في دينه وبالرشد في ماله ، ومناط دفع المال اليه الرشد فيه لا في دينه [إذ هو المفهوم عرفا من الرشد ، وهو المعتبر عند انتفاء الحقيقة الشرعية] ويؤيده ان العدالة لا تعتبر في الرشد دواما ، فإنه لو فسق لم يحجر عليه في ماله إجماعا فلا يعتبر في الابتداء ، ولأن الحجر عليه انما كان بحفظ ماله وحراسته من التلف بالتبذير ، فإذا كان هذا الحفظ والحراسة للمال حاصلا فيه لم يكن للحجر عليه في المال وجه.

[ولأن الرشد نكرة في سياق الإثبات ، فلا يفيد العموم في كل ما يصلح له بل يصدق في صورة ، ولا ريب في ثبوته لمن أصلح ماله وان فسق في دينه] والسفه الذي في الحديث غير السفه الذي في الآية (٢).

واعلم ان الشيخ وان اعتبر العدالة في الابتداء ، لكنه صرّح في الخلاف و«المبسوط» بأنه إذا صار فاسقا لكنه غير مبذر فان الأحوط أن يحجر عليه ، فجعله أحوط وان لم يوجبه. ويتوجه عليه ان العدالة ان كانت شرطا في الابتداء كانت شرطا في الاستدامة أيضا ، لوجود المقتضي ـ فتأمل.

__________________

(١) ظاهر تعبير المصنف ان الحديث نبوي مع ان مضمون هذا الحديث مروي عن الأئمة في اخبار كثيرة انظر نور الثقلين ج ١ من ص ٣٦٦ ـ ٣٦٨ والبرهان ج ١ من ص ٣٤١ ـ ٣٤٣ وفي أكثر أخبار الباب الاستشهاد بآية ولا تؤتوا السفهاء أموالكم والتعبير بأن أي سفيه أسفه من شارب الخمر وفي المجمع ج ٢ ص ٨ عن ابى عبد الله قال ان السفيه شارب الخمر وانظر أيضا العياشي تفسير آية المداينة ٢٨٢ من سورة البقرة.

(٢) وقد عرفت ان احاديث الباب انما ورد في تفسير الآية وان الامام (ع) استشهد بالآية للحكم بسفه شارب الخمر.

١٣٢

وكيف كان ففي الآية دلالة على وجوب دفع المال إليهم بعد الاختبار والبلوغ من غير توقف على حكم الحاكم ، بل ولا على الطلب كسائر الحقوق ، لأنه عنده بمنزلة الأمانة الشرعية الا ان يرضى بالبقاء عنده ، بل لا يبعد الفورية في الدفع اليه مطلقا ، لتعقيب إيجاب الدفع بالفاء بعد البلوغ وإيناس الرشد. نعم ينبغي الإشهاد عند الدفع كما يقتضيه آخر الآية وسيجيء.

ومقتضى مفهوم الشرط في الآية عدم الدفع إليهم مع عدم الرشد ، وهو صريح قوله (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) ، وحينئذ فيحرم دفع ماله اليه ما لم يحصل رشده وان طعن في السن ، لأن الحكم المعلق على صفة ينتفي بدونها ، وهو قول أكثر علماء الأمصار.

وقال أبو حنيفة لا يدفع اليه ماله إذا كان بلغ سفيها وان تصرف نفذ تصرفه ، فإذا بلغ خمسا وعشرين فك عنه الحجر ، ودفع اليه ماله وان كان سفيها. فعنده ان البالغ لا يحجر عليه وانما يمنع من تسليم المال للآية ، وانما حده بذلك لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسن ثماني عشرة سنة كما عرفت ، فإذا زاد عليها سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغيير أحوال الإنسان ، ومن ثم أمر الصبي بعدها بالصلاة تمرينا لقوله (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله «مروهم بالصلاة لسبع» دفع اليه ماله بسبب حدوث ما يوجب تغيير الحال ، فلعله حدث فيه قليل من الرشد.

وهو من الضعف بمكان ، فان كون حد البلوغ ما ذكره ضعيف لما سلف ، ولو سلم فحصول التغيير في تلك الأحوال تلك المدة ممنوع أيضا والحديث لا يدل عليه ولا معلوم العلة ، فاللازم الوقوف مع ظاهر الآية وعدم التعدي عنه بوجه ، الا أن يقوم دليل يقطع العذر فيه ، وهو غير ثابت.

(وَلا تَأْكُلُوها) نهي عن أكل أموال اليتامى ، وقد وقع ذلك مكررا في مواضع (إِسْرافاً وَبِداراً) مصدران في موضع الحال عن الفاعل ، أي لا تأكلوها حال كونكم

__________________

(١) الكشاف ج ١ ص ٤٧٣ وفي الشاف الكاف المطبوع ذيله شرح مصادر الحديث وترى مضمونه في أحاديث الشيعة أيضا انظر جامع احاديث الشيعة ج ٢ ص ١٦ و ١٧.

١٣٣

مسرفين ومبادرين (أَنْ يَكْبَرُوا) أي خوفا من ان يكبروا فيأخذوا أموالهم منكم. ويحتمل أن يكون مفعولا لهما ، والتقدير لا تأكلوها لاسرافكم ومبادرتكم كبرهم. تفرطون في إنفاقها وتقولون ننفق كما نشتهي قبل ان يكبر اليتامى فينزعوها من أيدينا.

ولعل تقييد الأكل بما ذكره لزيادة قبحه ، ولاحتمال كونه في خاطر الاكلين. وإلّا فتحريم الأكل مطلقا قد بينه في مواضع من الكتاب العزيز ، بل تحريم الإسراف في نفسه ، إذ لا خصوصية له بمال اليتيم. ويحتمل أن يريد بالإسراف هنا زيادة على المعروف الذي يجوز اكله بالاية.

(وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) من أكل مال اليتيم ولا يطمع فيه وليقنع بما رزقه الله من الغنى إشفاقا على اليتيم وإبقاء على ماله [وفي «الكشاف» استعفف أبلغ من عف كأنه طالب زيادة العفة].

واختلف أصحابنا في كون الأمر للوجوب فلا يجوز له أكل ماله بوجه أو الاستحباب فذهب جماعة منهم إلى الأول نظرا الى ظاهر الأمر وكونه حقيقة فيه ، والى ذلك يذهب الشافعي ، وذهب آخرون الى الثاني نظرا إلى إشعار الاستعفاف باستحباب الترك وأولويته لا وجوبه. ولا ريب ان الاحتياط في الأول ، وعلى اعتباره فإنما هو فيمن يكون المال بيده أو صار وصيا باختياره ، أما غيره كمنصوب الحاكم فالظاهر أنه يجوز له أخذ أجرة المثل وان كان غنيا ويجوز للحاكم أن يجعل له جعلا إذا لم يوجد الباذل بغير عوض. وعلى هذا فإطلاق الآية مقيد بالوصي المتبرع دون من استأجره الحاكم.

وهل المراد الغنى في العرف أو في الشرع ، وهو من كان عنده قوت السنة له ولعياله؟ كل محتمل ، ولا يبعد الثاني للاحتياط ، ومقابلة الفقير وهو في الشرع من لا يكون عنده قوت السنة كذلك.

(وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) قدر كفايته وما لا بد منه من غير زيادة أو على قدر عمله الذي هو حفظ الأموال والأولاد وان كان زائدا عما يحتاج اليه من قدر الكفاية وسد الخلة ، أو أقل الأمرين من اجرة المثل وقدر الكفاية. ولا ريب في بعد

١٣٤

الأول ، إذ [قد يكون أجرة عمله لا تفي بقدر كفايته وما لا بد منه ، فيكون المأخوذ لا في مقابل عمل و] يبعد أخذ شيء من مال اليتيم لا في مقابل عمل وكونه زائدا على أجرة مثله.

ويؤيده (١) ما في رواية هشام بن الحكم عن الصادق عليه‌السلام قال : سألته عمن تولى مال اليتيم إله ان يأكل منه؟ قال : ينظر الى ما كان غيره يقوم به من الأجر فليأكل بقدر ذلك. ونحوه وارد على الأخير في بعض الصور.

والأولى أخذ أقل الأمرين فيما لو كان عمله مما له اجرة ، لأنه عمل يستحق عليه الأجرة ، فكان لعامله المطالبة بها كغيرها من الاعمال دون ما لا أجرة له ، ويؤيده عموم (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، ولا ريب أن هذا أحسن.

هذا إذا لم يوجد متبرع بحفظ المال والأولاد فلو وجد المتبرع لم يسلم إليه الأجرة ويسلم المال والأولاد إلى المتبرع نعم لو جعله الميت وصيا احتمل ذلك ، وفيه نظر.

والمأمور بالأكل هو الوصي عن الميت أو من جعله الحاكم وصيا وقيما على الأولاد ، فلو كان المال بيده بعد موت صاحبه من غير وصاية شرعية فالظاهر عدم جريان الحكم فيه. ويحتمل جريانه مع عدم الوصي وتعذر الحاكم ، وظاهر الآية لا ينافيه.

ومقتضى الأمر بالأكل بالمعروف عدم رده الى اليتيم وان صار غنيا بعد ذلك ، لانه تعالى أمر به من غير ذكر عوض فأشبه سائر ما أمر بأكله. ولأنه عوض عن عمل فلم يلزمه بدله كالأجير ، وهو المشهور بين العلماء. وقيل يلزمه عوضه لأنه استباحة للحاجة ، فكان قرضا في ذمته إن أيسر قضاه وان مات ولم يقدر على القضاء فلا شيء في ذمته كالمضطر الى طعام غيره ، وبه رواية عندنا (٢) عن احمد بن محمّد بن ابى نصر عن ابى الحسن عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يكون في يده مال الأيتام فيحتاج اليه فيمد يده فيأخذ وينوي أن يرده. قال : لا ينبغي له أن يأكل إلا القصد ولا يسرف ، فان كان

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ٣٤٣ الرقم ٩٦٠.

(٢) الكافي ج ١ ص ٣٦٤ باب أكل مال اليتيم الحديث ٣ وهو في المرآة ج ٣ ص ٣٩٤ ورواه في التهذيب ج ٦ ص ٣٣٩ بالرقم ٩٤٦.

١٣٥

من نيته أن لا يرده فهو بالمنزل الذي قال الله عزوجل (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً).

وفيه نظر ، فإنه لو وجب رده مع اليسار لكان واجبا في ذمته قبله ، إذ اليسار ليس سببا للوجوب فإذا لم يجب بسبب الأكل لم يجب بعده. والفرق بينه وبين المضطر واضح ، فإنه لم يأكله عوضا عن شيء بخلاف ما هنا. والرواية غير واضحة الصحة (١) ، مع أنه يمكن حملها على ضرب من التأويل جمعا بين الأدلة.

وذهب بعض العامة الى عدم جواز أخذ شيء منه لا على سبيل القرض ولا على سبيل الابتداء ، لعموم قوله (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ). وفيه نظر ، فإنها عامة وما نحن فيه خاص ، وهو مقدم.

(فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) بأنهم قبضوها ، فان ذلك أبعد عن التهمة بأكل مال اليتيم وأنفى للخصومة. ومقتضى الأمر الوجوب ، وربما حمله بعضهم على الاستحباب. وقيل انه للإرشاد إلى ما هو المصلحة إذ معه لا يترتب الضمان على الوليّ لو أنكر اليتيم التسليم ولا يرد أنّه لو علم ان بترك الاشهاد يترتب الضمان وجب حذرا من تضييع المال ، لان ذلك انما علم من دليل خارج.

واستدل الشافعية بهذه الآية على ان القيم لا يصدق في دعواه انه قد دفع المال الى اليتيم إلا بالبينة. وعليه أصحابنا ، فإنهم قالوا دعوى القيم ان كانت تسليم المال الى اليتيم فلا يقبل إلا بالبينة ، وظاهر الآية صريح فيه وان كان غيره كادعاء التلف أو الإنفاق على قدر الكفاية ، فإن القول في ذلك قول القيم مع يمينه ولا يكلف البينة في هذه المواضع لتعذر إقامتها ، فإن اطلاع الشاهدين على الإنفاق في كل يوم متعسر ، ولأنه يوجب تنفر الناس عن قبول الوصاية.

وقالت الحنفية : إذا ادعى الوصي بعد بلوغ اليتيم انه قد دفع اليه المال كان مصدقا بيمينه كسائر الامناء. وفيه نظر ، فإنه أمين من جهة اليتيم ، وليس له نيابة عامة كحاكم الشرع ولإكمال الشفقة كالأب ، فلا وجه لتصديقه. وتمام ما يتعلق بذلك

__________________

(١) ففي سندها سهل بن زياد وقد عرفت غير مرة صحة السند من اجله.

١٣٦

يعلم من الفروع.

(وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) محاسبا فلا تخالفوا ما أمرتم به ولا تجاوزوا ما حدّ لكم وكفى به محاسبا وشاهدا على دفع المال الى اليتيم. ففيه دلالة ما على عدم وجوب الاشهاد حال الدفع كما اختاره بعضهم. قيل ويدل على جواز الامتناع من الإعطاء مرة أخرى بالانهزام عن الحكام وباليمين وغيرهما على تقدير عدم الاشهاد حال الدفع وإنكار اليتيم ، وهو كما ترى.

الثالثة : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً. إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً). (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). (النساء : ٩)

(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ) ما بعد الموصول من مجموع الشرط والجزاء صلته على معنى وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافا وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم باعتقادهم ، فالمعنيّ به من قرب اجله ويكون المقصود نهيه عن تكثير الوصية لئلا يبقى ذريته بلا مؤنة بعد موته.

ويحتمل أن يكون المعني بذلك الأوصياء ، أمرهم الله بأن يخشوه ويتقوه في أمر اليتامى فيفعلوا بهم ما يحبون أن يفعل بذراريهم الضعاف بعد وفاتهم ويقدروا ذلك في أنفسهم ويصوروه حتى لا يجسروا على خلاف الشفقة والرحمة ، أو الحاضرين عند المريض حال الإيصاء أمروا بأن يخشوا ربهم أو يخشوا على أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم فلا يتركوه ان يوصى بما يضر بحالهم. ومن ثم كانت الوصية بالخمس أفضل من الربع وهو من الثلث.

وظاهر الآية الثاني ، والاخبار قد تدل عليه ، روى الكليني (١) عن سماعة قال :

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٣٦٤ باب أكل مال اليتيم الحديث ١ وهو في المرآة ج ٣ ص ٣٩٤.

١٣٧

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أوعد الله تبارك وتعالى في مال اليتيم بعقوبتين إحداهما عقوبة الآخرة النار واما عقوبة الدنيا. فقوله عزوجل (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ) الآية ، يعنى : ليخش أن يضيع خلفه في ذرّيته كما صنع بهؤلاء اليتامى.

وروى الحلبي (١) عن الصادق عليه‌السلام قال : ان في كتاب علي بن ابى طالب عليه‌السلام ان آكل مال اليتيم ظلما سيدركه وبال ذلك في عقبه من بعده : يلحقه وبال ذلك ، أما في الدنيا فان الله يقول (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ) الآية ، وأما في الآخرة فإن الله يقول (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) الآية.

وقيل فيها وجوه أخر أظهرها ما قلناه.

(فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) أمرهم بالتقوى الذي هو غاية الخشية بعد الأمر بها رعاية للمبدء والمنتهى ، إذ لا ينفع الأول دون الثاني ، بل الأصل العاقبة. ثم أمرهم بأن يقولوا لليتامى مثل ما يقولون لأولادهم بالرحمة والشفقة. وفي ترتيب الأمر بالاتقاء والقول السديد على سابقه إشارة إلى المقصود منه والعلة فيه والبعث على الترحم ، وان يحب لأولاد غيره ما يحب لأولاد نفسه ، وتهديد للمخالف بحال الأولاد ، فقد يستنبط منها الترفق بحال الأيتام ، وان يجعلهم بمثابة أولاده في الشفقة والرحمة وتدبير أحوالهم ، وان يخاف عليهم من أن يلحقهم الأذى والضياع كما يخاف على أولاده.

ويحتمل أن يكون المراد من القول السديد منع الموصى من الزيادة على الثلث في الوصية ، بل يأمرونه بما قلّ عنه كما (٢) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لسعد «انك ان تترك ولدك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس». على أن الأمر للحاضرين عنده حال الإيصاء.

__________________

(١) المجمع ج ٢ ص ١٣.

(٢) مر الحديث في ص ١٠٤ من هذا المجلد.

١٣٨

ويحتمل أن يكون المراد ما يعم ذلك وزيادة أمره بماله وما عليه وتذكيره التوبة وكلمة الشهادة ونحوها.

ثم انه تعالى ذكر الوعيد على أكل مال اليتيم بقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى) أطلق الأكل وأراد التصرف مطلقا كما مر غير مرة (ظُلْماً) حال من الفاعل أي ظالمين ، أو تمييز للأكل أي على وجه الظلم ، فإن أكل مال اليتيم قد يكون بالحق لقوله (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) أجرة أو عوضا على ما سلف أو على وجه القرض ، كما إذا كان في ذلك مصلحة لليتيم ، فقد روى الكليني في الصحيح (١) عن منصور بن حازم عن الصادق عليه‌السلام في رجل ولي مال يتيم فاستقرض منه شيئا. فقال : ان علي بن الحسين عليه‌السلام كان يستقرض من مال أيتام كانوا في حجره فلا بأس بذلك.

وكذا لو خلط مالهم بماله وأكل معهم ، لقوله تعالى (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) وقد سأل عثمان بن عيسى (٢) الصادق عليه‌السلام عن قول الله عزوجل (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ). قال : يعنى اليتامى. قال : إذا كان الرجل ولي على أيتام في حجره فليخرج من ماله قدر ما يخرج لكل انسان منهم فيخالطوهم ويأكلون جميعا ولا يرزأنّ من أموالهم شيئا انما هي النار.

(إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) اي ملء بطونهم ، يقال أكل فلان في بطنه وبعض بطنه ، قال كلوا في بعض بطونكم تعفوا. والمراد يأكلون ما يجر الى النار ويؤدي إليها ، أو ان ذلك كناية عن دخول النار فإنه إذا دخل النار بالكلية كان في بطنه نارا وان بطونهم تمتلئ نارا كأنهم أكلوها.

ويؤيده (٣) ما روي عن الباقر عليه‌السلام انه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يبعث

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٣٦٥ باب التجارة في مال اليتيم الحديث ٥ وهو في المرات ج ٣ ص ٣٩٥.

(٢) الكافي ج ١ ص ٣٦٤ باب ما يحل لقيم مال اليتيم منه الحديث ٢ وهو في المرات ج ٣ ص ٣٩٥.

(٣) المجمع ج ٢ ص ١٣.

١٣٩

ناس من قبورهم يوم القيامة تؤجج أفواههم نارا. فقيل : يا رسول الله من هؤلاء فقرأ هذه الآية. ولعل ذكر البطن لتأكيد الأكل كما في طائر يطير بجناحيه.

(وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) أي يلزمون النار ويقاسون حرها ، يقال صلي بالأمر قاسى حره. والسعير بمعنى المفعول ، من أسعرت النار إذا ألهبتها. وفي الآية وعيد عظيم على أكل مال اليتيم بالظلم ، ومن ثم كان من الكبائر المعدودة بينهم.

وها هنا نكتة ، وهي انه تعالى أوعد مانع الزكاة بالكيّ وآكل مال اليتيم بامتلاء البطن من النار ، ولا شك ان هذا الوعيد أشد ، والسبب فيه ان الفقير غير مالك لجزء من النصاب حتى يملّكه المالك ، واليتيم مالك لماله ، فكان منع اليتيم أشنع. ولأن الفقير قادر على التكسب من وجه آخر ولا كذلك اليتيم فإنه عاجز ، فكان ضعفه أظهر وهذا من كمال عنايته تعالى بالضعفاء.

وقال تعالى في موضع آخر (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) لا تدنوا اليه فضلا عن ان تتصرفوا فيه ، وفي ذلك دلالة على كمال المبالغة بالاجتناب عنه (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) إلا بالطريقة التي هي أحسن ما يفعل بماله على حسب ما تقتضيه المصلحة كالحفظ والتعمير والتنمية الى غير ذلك مما فيه صلاحهم ويحكم العقل أنه أولى من تركه.

وقد روى الكليني في الحسن عن الكاهلي (١) قال : قيل لأبي عبد الله عليه‌السلام : انا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام ومعهم خادم لهم ، فنقعد على بساطهم ونشرب من مائهم ويخدمنا خادمهم وربما طعمنا فيه من عند صاحبنا وفيه من طعامهم ، فما ترى في ذلك؟ فقال : ان كان في دخولكم عليهم منفعة لهم فلا بأس وان كان فيه ضرر فلا. وقال : بل الإنسان على نفسه بصيرة فأنتم لا يخفى عليكم ، وقد قال الله تعالى (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ). ونحوها من الاخبار (٢) الدالة على اعتبار المصلحة ، وقد ذكر ذلك في

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٣٦٤ باب أكل مال اليتيم الحديث ٤ وهو في المرات ج ٤ ص ٣٩٥ ورواه في التهذيب ج ٦ ص ٣٣٩ بالرقم ٩٤٧.

(٢) انظر الوسائل الباب ١٠٠ الى ١٠٥ من أبواب ما يكتسب به ص ٥٥٨ ـ ٥٥٩ ج ٢ ط الأميري ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ٤٥٤.

١٤٠