مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٢

جواد الكاظمي

مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٢

المؤلف:

جواد الكاظمي


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٣

لأطماعهم ، ودفعا لما زعموا أنّ المعطين مختارون في الإعطاء والمنع ، فكأنّه تعالى قال : الصدقات لهؤلاء المذكورين لا لغيرهم كما تقول الخلافة لقريش ، وعلى هذا فلا يجب بسطها على الأصناف ، بل يجوز تخصيص الصنف الواحد بها وعلى هذا علماؤنا أجمع ، وهو قول أكثر العامّة.

وذهب الشافعيّ وأتباعه إلى وجوب البسط على الأصناف السبعة ، نظرا إلى ظاهر اللّام الدالّة على الملك ، بمعنى أنّها ملك لهؤلاء المذكورين. ومقتضى ذلك اشتراكها بينهم ، وعدم جواز صرفها في صنف واحد منهم ، ووجوب بسطها على جميعهم بل وجوب التسوية بينهم ، وعدم إعطاء بعضهم بغير إذن الباقين ، وعدم جواز إعطاء العوض بل العين ، ونحو ذلك من لوازم الملكيّة ، قضيّة للاشتراك.

وفيه نظر ، فانّ الظاهر من الكلام الاختصاص في الجملة أي الربط والتعلّق الّذي هو أعمّ من الملكيّة فلا يدلّ على الملكيّة بوجه مع أنّ الأصل عدمها ، فلا يصار إليها وقد دلّ على ما ذهبنا إليه الأخبار.

روى عبد الكريم بن عتبة (١) الهاشميّ في الحسن عن الصادق عليه‌السلام قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقسم صدقة أهل البوادي في أهل البوادي ، وأهل الحضر في أهل الحضر ولا يقسمها بينهم بالسويّة ، وإنّما يقسمها بينهم على قدر ما يحضره منهم وما يرى وليس في ذلك شيء موقّت. ونحوها من الأخبار.

وروى الجمهور عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لمعاذ (٢) أعلمهم أنّ عليهم صدقة تؤخذ

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ١٥٧ باب الزكاة تبعث من بلد الى بلد ، الحديث ٨ وهو في المرآة ج ٣ ص ١٩٧ ورواه في التهذيب ج ٤ ص ١٠٣ بالرقم ٢٩٢ وأرسله في الفقيه ج ٢ ص ١٦ بالرقم ٤٨ ويؤيد الحكم أيضا حديث عمرو بن أبى نصر المار قبيل ذلك وغيره من الاخبار الكثيرة.

(٢) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة باب أخذ الصدقة من الأغنياء ، وترد في الفقراء ، انظر فتح الباري ج ٤ ص ٩٩ والحديث مبسوط أخذ المصنف موضع الحاجة ، وانظر أيضا أحكام القرآن للجصاص ج ٣ ص ١٦٩ و ١٧٣ والمغني لابن قدامة ج ٢ ص ٦٦٩.

٤١

من أغنيائهم فتردّ في فقرائهم ، فأخبر بردّ الزكاة بأسرها إلى صنف واحد هم الفقراء ، ولم يذكر سواهم ، وأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله لسلمة بن صخر (١) بصدقة قومه ، وجاءه مال من اليمن فجعله في صنف آخر هم المؤلّفة (٢) ونحو ذلك ممّا يدلّ على ما قلناه.

والآية وإن كانت عامّة في الأصناف المذكورة إلّا أنها مخصوصة بالإسلام فيما عدا المؤلّفة بل الايمان عند أصحابنا أجمع ، لورود الأخبار بأنّ محلّها ليس إلّا المؤمن حتّى أنّ المخالف لو دفعها إلى مثله وجب عليه إعادتها بعد الاستبصار وإن لم يجب عليه إعادة غيرها من العبادات الّتي أوقعها على وجهها بحسب معتقده.

والفرق أنّ الزكاة دين دفعها إلى غير مستحقّه ، بخلاف العبادات فإنّها حقّ الله وقد أسقطها عنه تفضّلا ورحمة كما أسقطها عن الكافر بعد الإسلام ، لكنّ الفرق بينه وبين الكافر أنّه إذا ترك العبادة أو فعلها على غير وجهها بحسب معتقده ، قضاها لأنّه أقدم على المعصية والمخالفة بذلك لله تعالى بعد التزامه لأحكام الإسلام ، ولا كذا الكافر لعدم الالتزام فلا مخالفة.

وكذلك يقيّد إطلاق الآية بالهاشميّ ، فلا يجوز إعطاؤه من الزكاة إذا كان الدافع من غيرهم بإجماع علمائنا وفي الأخبار دلالة عليه نعم لو كان الدافع هاشميّا أيضا جاز إعطاؤه له ، وإن خالفه في النسب ، أو كان المدفوع إليه مضطرّا أو تعذّر كفايته من الخمس فيجوز الدفع إليه منها على قدر الكفاية.

وكذا يخصّ العموم بواجب النفقة كالزوجة والآباء والأولاد ، فلا يجوز إعطاؤهم من سهم الفقراء والمساكين إجماعا ، ولو اتّصف بغيرهما من أوصاف الاستحقاق كالعمولة والغرامة والسبيل ونحوه جاز إعطاؤه من ذلك ، فيدفع إليه ما يوفي دينه والزائد عن نفقة الحضر ، والضابط أنّ واجب النفقة إنّما يمنع من قوت نفسه مستقرّا في وطنه أي من جهة الفقر لا غيره.

__________________

(١) انظر تفصيل القصة في أحكام القرآن للجصاص ج ٣ ص ١٧٣ والمغني لابن قدامة ج ٢ ص ٦٦٩.

(٢) انظر المغني لابن قدامة ج ٢ ص ٦٦٩.

٤٢

أما اعتبار العدالة في المستحقّ فقد ذهب إليه جماعة نظرا إلى أنّ الدفع معونة والأدلّة قائمة على المنع من معونة الفاسق ، وما رواه داود الصرميّ (١) قال : سألته عن شارب الخمر يعطى من الزكاة شيئا؟ قال : لا ، ولا قائل بالفرق ، وقد ادّعى السيّد المرتضى الإجماع على اعتبار العدالة ، وقيل إنّ المعتبر تجنّب الكبائر دون غيرها من الذنوب وإن أوجبت فسقا لأنّ النصّ ورد على منع شارب الخمر وهو من الكبائر ، ولم يدلّ على منع الفاسق مطلقا ، والحق به غيره من الكبائر للمساواة.

وهذا دليل من اعتبر في الاستحقاق مجانبة الكبائر فقط كما هو اختيار جماعة من علمائنا وفيه نظر (٢) فإنّ معونة الفاسق من حيث الفسق ممنوعة لا من حيث كونه محتاجا ولا نسلّم المنع على ذلك التقدير ، على أنّ تقليل التخصيص في الآية أولى إذ هو خلاف الأصل ، ورواية داود ضعيفة مع كونها مقطوعة.

ويقال على الدليل الثاني إنّ المساواة ممنوعة والقياس باطل والصغائر إن أصرّ عليها لحقت بالكبائر ، وإلّا لم يوجب الفسق والمروّة غير معتبرة هنا على ما صرّح به جماعة ، فلزم من اشتراط اجتناب الكبائر اشتراط العدالة ، ولا دليل على اشتراطها والإجماع الّذي ادّعاه المرتضى ممنوع ، على أنّها لو اعتبرت لزم منع الطفل لتعذّرها منه وتعذّر الشرط غير كاف في سقوطه وخروجه بالإجماع موضع تأمّل ، وكيف كان ، فلا شكّ أنّ اعتبار العدالة أولى إن أمكن تخلّصا من الخلاف ، ولأنّ العدل أشرف من الفاسق وأولى بالمعونة ، نعم الظاهر اعتبارها في العامل ليحصل الوثوق بخبره ، وقد ادّعى الشهيد على ذلك الإجماع.

السادسة : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ

__________________

(١) التهذيب ج ٤ ص ٥٢ الرقم ١٣٨ والكافي ج ١ ص ١٦٠.

(٢) في سن : وفي الدليلين بحث أما الأول فإنا لا نسلم المنع من معونة الفاسق مطلقا والأدلة إنما دلت على المنع من معونة الفاسق من حيث الفسق لا من حيث كونه محتاجا فيجوز الدفع اليه من هذه الجهة ، على أن تقليل التخصيص إلخ.

٤٣

فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١).

(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) أي تعطوها مستحقّها جهارا وإعلانا (فَنِعِمَّا هِيَ) فنعم شيئا إبداؤها ، فما نكرة موضعها النصب على التمييز للفاعل المضمر قبل الذكر ، أي نعم الشيء شيئا إبداء الصدقات ، وهو المخصوص بالمدح ، لكنّه حذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، والمراد أنّ دفع الصّدقة جهارا إلى مستحقّها فيه ثواب للدّافع لأنّ أصل التصدّق حسن ، وهذا فرد منه.

(وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ) أي تجمعوا بين الأمرين فتعطونها خفية وسرّا فيما بينكم وبين الفقير بحيث لا يطّلع على ذلك إلّا الله (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أبلغ في الثواب من الابداء. وإن كان فيه ثواب أيضا (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) بعضها ، واختلف فيه فقيل هي الذّنوب الصغائر ، والّذي يذهب إليه أصحابنا أنّ الساقط أعمّ من ذلك ، والوجه فيه أنّ إسقاط العقاب تفضّل من الله تعالى عندنا فله أن يتفضّل بإسقاط بعضه دون بعض حتّى أنّه لو لم يدخل «من» في الكلام لاقتضى الكلام وعده بسقوط جميع العقاب مع فعل الطاعة.

وبالجملة إسقاط العقاب بفعل الطاعات تفضّل منه تعالى ، والحكم منّا بوجوب ذلك عليه نظرا إلى وعده ، وحيث إنّه هنا وعد بإسقاط بعض العقاب مع الإنفاق المذكور قلنا يجب ذلك الاسقاط بمقتضى وعده.

فلا يرد أنّ الإحباط والتكفير باطلان عند أصحابنا ، فلا يوافق قولهم ظاهر الآية لأنّ الحكم بالإسقاط هنا ليس للطاعة فقط ، كما هو قول من قال بالتكفير ، بل تفضّل منه تعالى ، وعلى هذا تحمل الآيات المشتملة على الإحباط والتكفير ، وهذه جملة نافعة.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من الإنفاق سرّا أو جهرا بل مطلق العمل حسنا أو قبيحا (خَبِيرٌ) فيجازيكم عليه بقدر الاستحقاق ، ويتفضّل على قدر ما يريد.

__________________

(١) البقرة ٢٧١.

٤٤

وفي الآية دلالة على أفضليّة إخفاء الصدقة ، وقد تظافرت بذلك الأخبار ، ففي الحديث (١) عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : صدقة السرّ تطفئ غضب الربّ ، وتدفع الخطيئة كما يطفئ الماء النار وتدفع سبعين بابا من البلاء (٢) وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبعة (٣) يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه : الإمام العادل ، وشابّ نشأ في عبادة الله عزوجل ، ورجل قلبه معلّق بالمساجد ، ورجلان تحابّا في الله واجتمعا عليه وتفرّقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إنّى أخاف الله عزوجل ، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتّى لم تعلم يمينه ما ينفق شماله ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه.

وعن الصادق عليه‌السلام (٤) الصدقة والله في السرّ أفضل من الصدقة في العلانية ، و

__________________

(١) المجمع ج ١ ص ٣٨٥ وروى صدره في التهذيب ج ٤ ص ١٠٥ الرقم ٢٩٩ والفقيه ج ٢ ص ٣٨ الرقم ١٦١ والكافي ج ١ ص ١٦٣.

(٢) زاد في سن : وعنه (ص) أفضل الصدقة جهد المقل الى الفقير في السر ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : ان العبد يعمل عملا في السر فيكتبه الله له سرا فان أظهره نقل وكتب في العلانية ، فإن تحدث به نقل من العلانية والسر وكتب في الرياء.

أخرج مضمون الأول في الدر المنثور ج ١ ص ٣٥٣ عن ابن المنذر وابن أبى حاتم عن أبي أمامة وعن الطيالسي واحمد والبزار والطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب عن أبى ذر وعن أحمد والطبراني والأصبهاني في الترغيب عن أبي امامة والمصنف أخذ موضع الحاجة من الحديث. وروى مضمون الثاني في عدة الداعي انظر ص ١٠٨ من أبواب المقدمات جامع أحاديث الشيعة الرقم ٧٩٨.

(٣) المجمع ج ١ ص ٣٨٥ وعنه الوسائل الباب ١٤ من أبواب الصدقة ورواه أيضا في الخصال أبواب السبعة عن أبي هريرة وعن ابن عباس ج ٢ ص ٢ و ٣ مع تفاوت يسير في اللفظ ورواه عنه في الوسائل الباب ٣ من أبواب المساجد الحديث ٤ ج ١ ص ٣٠٣ ط الأميري وأخرجه السيوطي في الجامع الصغير ج ٤ ص ٨٨ فيض القدير الرقم ٤٦٤٥ عن احمد والبخاري ومسلم والترمذي وأخرجه في الدر المنثور ج ١ ص ٣٥٤ عن البخاري ومسلم والنسائي.

(٤) الفقيه ج ٢ ص ٣٨ الرقم ١٦٢ والكافي ج ١ ص ١٦٢.

٤٥

كذلك والله العبادة في السرّ أفضل منها في العلانية ونحو ذلك من الأخبار (١).

ومقتضى [ذلك] العموم أنّ إخفاء الصدقة واجبة أو مستحبّة أفضل من إظهارها والأكثر أنّ ذلك في صدقة التطوّع ، أمّا الواجبة فإظهارها أفضل من إخفائها.

ويؤيّده ما روي عن عليّ بن إبراهيم (٢) عن الصادق عليه‌السلام قال : الزكاة المفروضة تخرج علانية ، وتدفع علانية ، وغير الزكاة إن دفعها سرّا فهو أفضل.

وروى عن ابن عبّاس (٣) أنّ صدقة السرّ في التطوّع تفضل على علانيتها سبعين ضعفا وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرّها بخمسة وعشرين ضعفا.

وفي رواية ابن بكير عن رجل (٤) عن الباقر عليه‌السلام في قول الله عزوجل (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) قال يعني الزكاة المفروضة ، قال قلت (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ) قال يعني النافلة إنّهم كانوا يستحبّون إظهار الفرائض وكتمان النوافل ونحوها من الأخبار.

فإن ثبت صحّة ذلك وما ورد في معناه خصّصت الآية بها ، وإلّا فهي على عمومها وكيف كان فلو تعلّق بالإظهار فضيلة خاصّة به كتحريض الغير على فعل الصدقة أو اتّهم بترك الزكاة الواجبة ، فإنّ الإظهار أفضل ، ويمكن حمل إطلاق الأخبار عليه ، فيقلّ التخصيص في الآية.

__________________

(١) زاد في سن : ولأن الإخفاء أبعد من الرياء والسمعة ، ولأن في الإظهار هتك عرض الفقير ، وربما لا يرضى بذلك.

(٢) المجمع ج ١ ص ٣٨٤ وزبدة البيان ص ١٩٢ ورواه في الكافي ج ١ ص ١٤١ والتهذيب ج ٤ ص ١٠٤ بالرقم ٢٩٨ وتفاوت ألفاظ الحديث في المصادر التي سردناه يسير.

(٣) أخرجه في الدر المنثور ج ١ ص ٣٥٣ عن ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وبعده وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها.

(٤) الكافي ج ١ ص ١٧٩ باب النوادر آخر كتاب الزكاة.

٤٦

(البحث الثالث)

(في أمور تتبع الإخراج)

وفيه آيات :

الاولى (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ. لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١).

(وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) أي ما تنفقوا في وجوه البرّ من مال فلأنفسكم ثوابه لا ينتفع به غيركم فلا تمنّوا عليه ، ولا تنفقوا الخبيث ، وفيه ترغيب على الإنفاق ، فإنّه إذا علم أنّ نفعه عائد إليه ، كان أرغب فيه ممّن إذا خلّي عن هذا العلم.

(وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) حال عنهم ، كأنّه قال : وما تنفقوا من خير فلأنفسكم غير منفقين إلّا ابتغاء وجه الله وطلب ثوابه ، أو عطف على ما قبله أى وليس إنفاقكم إلّا ابتغاء وجهه ، فما لكم تمنّون بها وتنفقون الخبيث ، أي

__________________

(١) البقرة : ٢٧٢ ـ ٢٧٤.

٤٧

لا يناسب ذلك حالكم مع هذا الإخلاص ، وقيل إنّه نفى في معنى النهي أي لا تنفقوا إلّا ابتغاء رضوان الله وثوابه ، وفيه دلالة على اعتبار الإخلاص في الإنفاق وعدم قصد الرثاء فيه والسمعة.

(وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) ثوابه في الآخرة على الوجه الأتمّ الأكمل والتوفية إكمال الشيء وحسن التعدية بإلى لتضمّنها معنى التأدية ، فهو كالمؤكّد للشرطيّة السابقة ، أو المراد بالتوفية ما يخلف المنفق في الدنيا استجابة لدعائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهمّ اجعل لمنفق خلفا ، ولممسك تلفا ، ويحتمل أن يراد العموم.

(وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) بمنع ثوابكم ، ولا بنقصان جزائه كقوله تعالى (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) (١) أي لم تنقص.

(لِلْفُقَراءِ) متعلّق بمحذوف أي اعمدوا للفقراء واجعلوا صدقاتكم أو ما تنفقون للفقراء.

(الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أحصروا أنفسهم وألزموها الجهاد في سبيل الله ، فهو حاصر لهم عن الدخول في غيره (لا يَسْتَطِيعُونَ) لاشتغالهم به (ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) ذهابا فيها للكسب والخوض في المعاش (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ) بحالهم وباطن أمورهم (أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) عن السؤال والتجمّل في اللّباس ، والستر لما هم فيه من الفقر وسوء الحال ، طلبا لرضوان الله وطمعا في جزيل ثوابه.

(تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) أي تعرف حالهم بالنظر إلى وجوههم ، لما في وجوههم من الضعف ، ورثاثة الحال ، فتنتقل إلى فقرهم واحتياجهم (٢) أو لما فيها من الخشوع والخضوع الّذي هو شعار الصالحين ، فينتقل إلى صلاحهم ، والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو لكلّ أحد

__________________

(١) الكهف : ٣٢.

(٢) زاد في سن : كذا قيل : وفيه نظر لان ما ذكر علامة الفقر دالة عليه فتناقض قوله (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ) ويمكن أن يقال : ان معرفة حالهم بسيماهم لما فيها من التخشع والخضوع إلخ.

٤٨

(لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) : إلحاحا ، وهو أن يلازم المسؤول حتّى يعطيه من قولهم لحفنى من فضل لحافه أي أعطاني من فضل ما عنده ، والمراد أنّهم لا يسألون وإن سألوا عن ضرورة لم يلحّوا في سؤالهم ، ويحتمل أن يكون المراد نفي أصل السؤال ونقله في مجمع البيان عن أكثر أرباب المعاني قال : وفي الآية ما يدلّ عليه ، وهو قوله (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) في المسئلة ، ولو كانوا يسئلون لم يحسبهم الجاهل غنيّا لأنّ السؤال في الظاهر يدلّ على الفقر ، وقوله أيضا (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) ولو سألوا لعرفوا بالسؤال فهو كقولك ما رأيت مثله وأنت تريد أنّه ليس له مثل لا أنّ له مثلا ما رأيته ، وهذا هو الصحيح (١) وانتصابه على المصدر فإنّه كنوع من السؤال ، أو على الحال ، وفيها تحريض للفقراء وحثّ على أن يتّصفوا بهذه الصفات.

وفي الحديث (٢) أنّ الله يحبّ أن يرى أثر نعمته على عباده ، ويكره البؤس والبأس ويحبّ الحليم المتعفّف من عباده ، ويبغض الفاحش البذيّ السئّال الملحف. وقد تظافرت الأخبار بكراهة السؤال لغير الله روى محمّد بن مسلم (٣) عن الصادق عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام اتّبعوا قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من فتح على نفسه باب مسئلة فتح الله عليه باب فقر وروى إبراهيم بن عثمان (٤) عن الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

__________________

(١) زاد في سن : ويمكن بيانه بوجه آخر ، وهو أن كل من سأل فلا بد وأن يلح في بعض الأوقات ، لأنه بسؤاله أراق ماء وجهه وحمل الذل في إظهار السؤال فربما يقول لما تحملت هذه المشاق فلا أرجع بغير مقصودي. وهذا يحمله على الإلحاح. وإذا ثبت أن كل من سأل ، فلا بد وأن يقدم على الإلحاح في بعض الأوقات ، فإذا نفى تعالى عنهم الإلحاح مطلقا فقد نفى السؤال عنهم مطلقا.

(٢) انظر المجمع ج ١ ص ٣٨٧.

(٣) الكافي ج ١ ص ١٦٨ باب من سئل من غير حاجة الحديث ٢ والفقيه ج ٢ ص ٤٠ الرقم ١٨١.

(٤) الكافي ج ١ ص ١٦٨ باب كراهية المسئلة الحديث ٤.

٤٩

إنّ الله تبارك وتعالى أحبّ شيئا لنفسه ، وأبغضه لخلقه : أبغض لخلقه المسئلة وأحبّ لنفسه أن يسئل ، وليس شيء أحبّ إلى الله عزوجل من أن يسئل ، فلا يستحيي أحدكم أن يسأل الله من فضله ، ولو شسع نعل.

وروى الكلينيّ (١) عن الحسين بن حمّاد عمّن سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إيّاكم وسؤال الناس فإنّه ذلّ في الدنيا ، وفقر تعجّلونه ، وحساب طويل يوم القيامة وروى الكليني (٢) عن الحسين بن أبى العلاء قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : رحم الله عبدا عفّ وتعفّف وكفّ عن المسئلة ، فإنّه يتعجّل الدنيّة في دنياه ، ولا تغني عنه شيئا ، وروى أيضا عن مفضّل بن قيس (٣) لمّا دخل على الصادق عليه‌السلام وشكاله حاله من الفقر ، فدفع إليه أربعمائة دينار ، فقال لا والله جعلت فداك ما هذا دهري ، ولكن أحببت أن تدعو الله لي ، فقال عليه‌السلام سأفعل ، ولكن إيّاك أن تخبر الناس بكلّ حالك فتهون عليهم ونحوها من الأخبار.

وقيل : إنّ الفقراء في الآية هم أصحاب الصفّة (٤) وإنّها نزلت فيهم ، وكانوا عدّة أربعمائة رجل من مهاجرى قريش ، لم يكن لهم مسكن في المدينة ، ولا عشائر وكانوا في صفّة المسجد يتعلّمون القرآن بالليل ، ويلتقطون النوى بالنهار ، وكانوا يخرجون مع كلّ سريّة بعثها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحثّ الله الناس عليهم ، فكان الرجل إذا كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى.

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ١٦٧ باب كراهية المسئلة والفقيه ج ٢ ص ٤١ الرقم ١٨٢.

(٢) الكافي ج ١ ص ١٦٧ وذيل الحديث : قال ثم تمثل أبو عبد الله ببيت حاتم :

إذا ما عرفت اليأس ألفيته الغنى

إذا عرفته النفس والطمع الفقر

(٣) الكافي باب كراهية المسئلة الحديث ٦ ج ١ ص ١٦٧.

(٤) رواه في المجمع ج ١ ص ٣٨٧ عن ابى جعفر عليه‌السلام وعن الكلبي عن ابن عباس وكذلك في الدر المنثور ج ١ ص ٣٥٨ عن ابن المنذر من طريق الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس وقد سرد أبو نعيم أسماء عدة من أصحاب الصفة وما ورد فيهم في حلية الأولياء ج ١ من ص ٣٤٧ الى آخر ص ٣٩٧ وفي ج ٢ من ص ١ الى ص ٣٩.

٥٠

وعن ابن عباس (١) وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما على أصحاب الصفّة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم ، فقال أبشروا يا أصحاب الصفّة فمن بقي من أمّتي على النعت الّذي أنتم عليه راضيا بما فيه ، فإنّهم من رفقائي.

ويستفاد من هذا الحديث أنّ التشبّه بهم في تلك الصفات مندوب إليه ، وظاهر الآية دالّ عليه ، فانّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وقد يستفاد منها استحباب إعطاء أهل التعفّف والتجمّل إذا كانوا مستحقين لها ، وفي الأخبار دلالة على ذلك أيضا وأنّه لا كراهية في أخذ الزكاة وترك التكسّب مع الاشتغال بالعبادة ، وسيّما طلب العلوم الدينيّة وتشييد معالم الدين ، وخصوصا في هذا الزمان ، فإنّه من أعظم الجهاد ، وحبس النفس لأجله أعظم من حبسها هناك.

ثمّ أكّد سبحانه الحثّ على الإنفاق بقوله (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) ترغيب على الإنفاق في وجوه البرّ خصوصا على الموصوفين بالصفات المذكورة أى أنّه تعالى يجازي عليه من غير أن يضيع عليكم شيء لكونه عليما به.

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ ، بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي يعمون الأوقات والأحوال بإنفاق أموالهم ، وأكثر المفسّرين من العامّة وكلّ الخاصّة على أنّها نزلت في علىّ عليه‌السلام (٢) كانت معه أربعة دراهم ، فتصدّق بواحد نهارا وبواحد ليلا ، وبواحد

__________________

(١) رواه في كنز العرفان ج ١ ص ٢٤٣ وأخرجه في كنز العمال ج ٦ ص ٢٦١ بالرقم ١٩٩٧ عن الخطيب عن ابن عباس وقريب منه في تفسير الإمام الرازي ج ٧ ص ٨٥ الطبعة الأخيرة.

(٢) وقد روى السيد البحراني قدس‌سره في غاية المرام الباب السابع والأربعين والباب الثامن والأربعين اثنى عشر حديثا من طريق العامة وأربعة أحاديث من طريق الخاصة ص ٣٤٧ وص ٣٤٨ وانظر أيضا تفسير البرهان ج ١ ص ٢٥٧ ونور الثقلين ص ٢٤١ وسائر تفاسير الشيعة.

وانظر من كتب أهل السنة اسد الغابة ج ٤ ص ٢٥ والرياض النضرة ج ٢ ص ٢٧٣ ونور الابصار للشبلنجى ص ٧٨ وأسباب النزول للواحدي ص ٥٠ ولباب النقول ص ٤٢ والدر ـ

٥١

سرّا ، وبواحد علانية ، وهو المرويّ عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليهما‌السلام.

ولكن خصوص السبب لا يخصّص ، فيكون حكمها سائرا (١) في كلّ من فعل مثل فعله وله فضل السبق إلى ذلك (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) خبر «الّذين» وأتى بالفاعل ليدلّ على أنّ الجزاء والأجر إنّما هو من أجل الإنفاق في طاعة الله تعالى (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من أهوال يوم القيامة وأفزاعها (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) فيها ، أو لا خوف عليهم من فوت الأجر ونقصه ، ولا هم يحزنون على ذلك.

وفيها دلالة على استحباب إنفاق الأموال الّتي عند المنفق جميعا ، وسيجيء أنّ المستحبّ القصد في الإنفاق ، لا إنفاق الجميع ، فلعلّ هذا محمول على ما إذا كان المنفق له وثوق بحسن التوكّل على الله والصبر على السرّاء والضرّاء ، بحيث لا يجرّه الصدقة إلى السؤال وارتكاب المحذور ، وهو الظاهر ههنا خصوصا على ما عرفت من سبب النزول.

الثانية : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٢).

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) نزلت في عمرو بن الجموح (٣) وكان شيخا كبيرا ذا مال

__________________

ـ المنثور ج ١ ص ٣٦٣ وفيه انه أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم والطبراني وابن عساكر من طريق عبد الوهاب بن مجاهد عن ابن عباس وتفسير ابن كثير ص ٣٢٦ عن ابن ابى حاتم وابن جرير من طريق عبد الوهاب وعن ابن مردويه بوجه آخر وتفسير الخازن ج ١ ص ١٩٦ وتفسير الكشاف ج ١ ص ٣٠١ ط المكتبة الحلبي ١٣٧٦ وتفسير الرازي ج ٧ ص ٨٩ الطبعة الأخيرة.

(١) جاريا خ.

(٢) البقرة : ٢١٥.

(٣) انظر المجمع ج ١ ص ٣٠٩ وكنز العرفان ج ١ ص ٢٤٣ والدر المنثور ج ١ ص ٢٤٣.

٥٢

كثير ، فقال : يا رسول الله ماذا ننفق من أموالنا وعلى من ننفقها؟ (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) مال (فَلِلْوالِدَيْنِ) الأب والامّ والجدّ والجدّة وإن عليا ، لأنّهما يدخلان في اسم الوالدين (وَالْأَقْرَبِينَ) أقارب المعطى غير العمودين.

سئل عن المنفق فأجيب ببيان المصرف إمّا لأنّه أهمّ فإنّ اعتداد النفقة وترتّب الثواب عليها باعتباره. وإمّا لأنّه كان في سؤال عمرو ، وإن لم يكن مذكورا في الآية واقتصر في بيان المنفق على ما تضمّنه قوله (مِنْ خَيْرٍ) للتنبيه على أنّ كلّ ما هو خير فهو صالح للإنفاق.

(وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) قد مرّ بيانهم ، وقد اختلف العلماء في انتساخ حكم هذه الآية فقال السدّىّ : وردت في الزكاة ، ثمّ نسخت ببيان مصارفها الثمانية السابقة ، والأكثر على أنّها واردة في نفقة التطوّع على من لا يجوز وضع الزكاة فيه ، وفي الزكاة لمن يجوز وضعها فيه ، فهي عامّة فيهما غير منافية لغرض الزكاة ، فلا وجه للحكم بنسخها ، مع أنّ الأصل عدم النسخ.

والحاصل أنّ النسخ إنّما يكون مع المنافاة ، وإنّما يكون لو كانت محمولة على الزكاة الواجبة ، لاقتضائها حينئذ إعطاء الوالدين منها ، وهو غير جائز ، أمّا لو كانت محمولة على الإنفاق الراجح الّذي هو أعمّ من الواجب والندب ، أو على الإنفاق الواجب الّذي هو أعمّ من الزكاة والنفقة الواجبة للوالدين والأقربين ويكون البيان في ذلك معلوما من دليل خارج عن الآية ، فلا. وكذا لو حملت على الإنفاق المندوب.

(وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) من عمل صالح يقرّبكم إلى الله نفقة أو غيرها ، وهو في معنى الشرط (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) جوابه أي إن تفعلوا خيرا فإنّ الله يعلم كنهه ويوافي ثوابه من غير أن ينقص عليكم منه شيء.

الثالثة : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (١).

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) قيل إنّ السائل هو عمرو بن الجموح أيضا (٢) سأل

__________________

(١) البقرة : ٢١٩.

(٢) انظر المجمع ج ١ ص ٣١٦.

٥٣

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّلا عن المنفق والمصرف ، ثمّ سأل عن كيفيّة الإنفاق.

(قُلِ الْعَفْوَ) هو نقيض الجهد ، ومنه يقال للأرض السهلة العفو ، وهو أن ينفق ما تيسّر له بذله ، ولا يبلغ منه الجهد واستفراغ الوسع ، قال الشاعر :

خذ العفو منّى تستديمي مودّتي

وقيل الوسط من غير إسراف ولا إقتار ، وهو المرويّ عن الصادق عليه‌السلام (١) ، وقيل إنّه مأخوذ من الزيادة والفضل ، ومنه (حَتَّى عَفَوْا) (٢) أي زادوا على ما كانوا عليه من العدد ، والمراد به ما فضل عن قوت السنة ، وهو المرويّ عن الباقر (٣) عليه‌السلام أيضا.

واختلف في هذا الإنفاق فقيل إنّه تطوّع ، ولو كان مفروضا لبيّن مقداره ولم يفوّض إلى رأي المتصدّق (٤) وقيل إنّه مفروض ، وإنّه كان قبل نزول آية الصدقات ، وكانوا مأمورين بأن يأخذوا من مكاسبهم ما يكفيهم في عامهم ، وينفقون ما فضل ، ثمّ نسخت بآية الزكاة ، ونقله في مجمع البيان (٥) عن السدّي ولا شكّ في بعد النسخ ، لأنّه خلاف الأصل والمنافاة غير ظاهرة إلّا بالتأويل ، وفيها دلالة على أنّ الإنفاق لا يكون بجميع ما عنده من المال ، بحيث يبلغ به الجهد ويصير كلّا على الناس.

ويؤيّده ما روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ رجلا أتاه ببيضة (٦) من ذهب أصابها في بعض المغازي فقال خذها منّي صدقة ، فأعرض عنه فأتاه من جانب آخر فقال له مثله فأعرض عنه ثمّ أتاه من جانب آخر فأعرض عنه ثمّ قال هاتها مغضبا فأخذها وحذفه بها حذفا

__________________

(١) انظر البرهان ج ١ ص ٢١٢ والمجمع ج ١ ص ٣١٦ والكافي ج ١ ص ١٨٧ باب فضل القصد الحديث ٣.

(٢) الأعراف : ٩٥.

(٣) المجمع ج ١ ص ٣١٦ والبرهان ج ١ ص ٢١٢ ونور الثقلين ج ١ ص ١٧٥.

(٤) المتكلم خ.

(٥) المجمع ج ١ ص ٣١٦.

(٦) نسخة القاضي : بصدقة ، ببيضة خ ل.

٥٤

لو أصابته لشجّته أو عقرته ، ثمّ قال يجيء أحدكم بماله كلّه يتصدّق به ، ويجلس يتكفّف الناس ، إنّما الصدقة عن ظهر غنى (١) ومن طريق الخاصّة (٢) ما رواه الوليد بن بن صبيح قال كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فجاءه سائل فأعطاه ، ثمّ جاءه آخر فأعطاه ثمّ جاءه آخر فأعطاه ثمّ جاءه آخر فقال وسّع الله عليك ، ثمّ قال لو أنّ رجلا كان له مال يبلغ ثلاثين ألف أو أربعين ألف درهم ، ثمّ شاء أن لا يبقى منها شيئا إلّا وضعه في حقّه لفعل ، فيبقى لا مال له ، فيكون من الثلاثة الّذين يردّ دعاؤهم الحديث.

وروى حمّاد اللحّام (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال لو أنّ رجلا أنفق ما في يده

__________________

(١) كنز العرفان ج ١ ص ٢٤٥ والمستدرك ج ١ ص ٥٤٤ عن غوالي اللآلي وسنن ابى داود ج ٢ ص ١٧٧ بالرقم ١٦٧٣ ط مطبعة السعادة وسنن البيهقي ج ٥ ص ١٨١.

(٢) الكافي ج ١ ص ١٦٦ باب قدر ما يعطى السائل الحديث ١ وهو في المرآة ج ٣ ص ٢٠٣ والمنتقى ج ٢ ص ١٥٤ ورواه في الفقيه ج ٢ ص ٣٩ الرقم ١٧٣ وهو في الوافي الجزء السادس ص ٥٧ وتمام الحديث في الكافي : قلت من هم قال أحدهم رجل كان له مال فأنفقه في [غير] وجهه ثم قال يا رب ارزقني فيقال له الم اجعل لك سبيلا الى طلب الرزق.

ولا يخفى عليك عدم مطابقة الجواب مع السؤال إذ لا يناسب جواب من أنفق تمام ماله بجعل السبيل الى طلب الرزق والظاهر ان فيه سقطا وقع سهوا من قلم الناسخ وان الصواب ما رواه في الفقيه فان فيه بعد قوله يا رب ارزقني : فيقول الرب عزوجل الم أرزقك وبعده : ورجل جلس في بيته ولا يسعى في طلب الرزق ويقول يا رب ارزقني فيقول الرب الم اجعل لك سبيلا الى طلب الرزق ورجل تؤذيه امرءته فيقول يا رب خلصني منها فيقول الرب الم أجعل أمرها بيدك.

فترى ان جواب كل سؤال مناسب له والعجب انه لم يذكر في المرآة والمنتقى في ذلك شيئا نعم نقل ذلك في هامش الفروع المطبوع سنة ١٣١٢ ص ١٦٦ عن المجلسي قدس‌سره.

وقريب من الحديث ما رواه في أصول الكافي عن الوليد بن صبيح باب من لا يستجاب دعاؤه الحديث ١ و ٢ بسندين آخرين وبنحو آخر وهو في المرآة ج ٢ ص ٤٦٤ والوافي الجزء الخامس ص ٢٣٠.

(٣) الكافي ج ١ ص ١٧٧ باب فضل القصد الحديث ٧.

٥٥

في سبيل من سبل الله ، ما كان أحسن ولا وفّق له ، أليس الله يقول : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إنّ الله يحبّ المحسنين» أي المقتصدين.

وروى عبد الأعلى مولى آل سام (١) عن الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أفضل الصدقة صدقة عن ظهر غنى. وروى السكونيّ عنه (٢) عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ معروف صدقة ، وأفضل الصدقة صدقة عن ظهر غنى ، وابدء بمن تعول ، ونحوها روايته (٣) عنه عليه‌السلام أفضل الصدقة صدقة تكون عن فضل الكفّ.

لا يقال : عندنا من الأخبار والآيات ما ينافي ذلك ، قال الله تعالى (وَيُؤْثِرُونَ عَلى

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ١٧٥ باب النوادر الحديث ٢ وهو في المرآة ج ٣ ص ٢٠٨ ورواه في الوسائل في أبواب الصدقة الباب ٢٩ الحديث ٤ عن ثواب الاعمال ج ٢ ص ٥٣ ط الأميري.

(٢) لم أظفر على هذا الحديث في الجوامع الحديثية عن السكوني نعم نقله في قلائد الدرر ج ١ ص ٣٠٧ أيضا عن السكوني وانما هو في الكافي ج ١ ص ١٦٩ باب فضل المعروف الحديث ١ وهو في المرآة ج ٣ ص ٢٠٥ عن عبد الأعلى عن ابى عبد الله واللفظ فيه : قال رسول الله (ص) كل معروف صدقة وأفضل الصدقة عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى ولا يلوم الله على الكفاف. وأرسله في الفقيه عن النبي (ص) ج ٢ ص ٣٠ بالرقم ١١٥ وليس فيه كل معروف صدقة.

ثم العليا على ما نقله المناوى في ج ٢ ص ٣٧ من فيض القدير عن الزمخشري اسم لمكان مرتفع وليس بتأنيث الأعلى بدليل انقلاب الواو ياء ولو كانت صفة لقيل العلوي كالعشوى والقنوى في تأنيث أفعلها ولأنها استعملت منكرة وافعل التفضيل ومؤنثة ليسا كذلك.

قلت ومن استعمالها منكرة شعر العباس يمدح النبي (ص) :

حتى احتوى ببيتك المهيمن من

خندف علياء تحتها النطق

(٣) الكافي ج ١ ص ١٧٥ باب النوادر من المعروف الحديث ٤ رواه عن السكوني عن ابى عبد الله عن النبي (ص) وهو في المرآة ج ٣ ص ٢٠٨.

٥٦

أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) (١) وما تقدّم من قوله (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) (٢) الآية وما روى عنهم عليهم‌السلام (٣) أفضل الصدقة جهد من مقلّ إلى فقير في السرّ ، وروى سماعة عنه عليه‌السلام (٤) قال : سألته عن الرجل ليس عنده إلّا قوت يوم أيعطى من عنده قوت يومه على من ليس عنده شيء ويعطف من عنده قوت شهر على من دونه والسنة على نحو ذلك أم ذلك كلّه على الكفاف الّذي لا يلام عليه؟ فقال هو أمران أفضلكم فيه أحرسكم على الرغبة والأثرة على نفسه فإنّ الله عزوجل يقول (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) والأمر الآخر لا يلام على الكفاف ، الحديث ونحوه.

لأنا نقول : قد مرّ أنّ مثل هذه المرغّبات في إنفاق الجميع محمولة على ما إذا كان المنفق ذا وثوق بحسن التوكّل على الله ، والصبر على الضرّاء والسرّاء كالنفوس القدسيّة أو من يحذو حذوها ، فإنّها لها اعتماد على الله تعالى أزيد ممّا عندهم أضعافا بل ذاك في معرض التلف ، بخلاف وثوقهم به تعالى ، فهم المراد بتلك الآيات ونحوها وما دلّ على المنع محمول على ما إذا لم يكن له توكّل إلى هذا الحدّ فإنّه يكره له التصدّق بجميع ماله إذ يصير كلّا على الناس وهو منهيّ عنه.

ويمكن الجمع بينهما بوجه آخر وهو أن يكون الرجل وحده لا عيال له أو كان له كسب وله وثوق في كسبه بقدر كفايته ، إذ لا شكّ أنّ الصدقة والإيثار على نفسه أمر مطلوب له ، ويحمل ما دلّ على المنع على ما إذا كان ذا عيال ليس له كسب يثق به فإنّ إيثار السائل بما عنده على ذلك التقدير إيثار على عياله ، وحرمانهم ، ولا يكون

__________________

(١) الحشر : ٩.

(٢) البقرة : ٢٧١.

(٣) مر في ص ٤٥ وقريب منه ما في كنز العمال ج ٤ ص ٢١٩ الرقم ١٦٧٠ عن الطبراني في الكبير عن أبي أمامة.

(٤) الكافي ج ١ ص ١٦٦ باب الإيثار الحديث ١ وهو في المرآة ج ٣ ص ٣٠٤ وذيل الحديث «واليد العليا خير من اليد السفلى وابدء بمن تعول».

٥٧

مندوبا إليه ، بل منهيّا عنه. ويؤيّده أمره (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالبدء بمن يعول في بعض الأخبار ولأنّ ذلك يوجب التقتير في نفقة العيال ، وهو يوجب الإثم. ويزيده بيانا ما ورد من الحثّ على التوسعة في نفقة العيال فإنّه لا يتمّ مع ذلك.

الرابعة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) قيل أراد به الفرض كالزكاة ونفقة العيال الواجبي النفقة ونحوها ، لاقتران الوعيد به ، وهو لا يتوجّه إلّا على ترك الواجب ولأنّ ظاهر الأمر الإيجاب ، وقيل يدخل فيه الفرض والنفل ، لأنّه أعمّ ولأنّ الآية ليس فيها وعيد على ترك الإنفاق ، بل بيان عظم أهوال يوم القيامة وشدائدها والغرض أن يعلم أنّ منافع الآخرة لا تكسب إلّا في الدنيا ، وأنّ الإنسان يجيء وحده وما معه إلّا ما قدّم من أعماله.

وفيه نظر فإنّ الظاهر أنّ الأهوال مترتّبة على عدم الإنفاق فالأولى حملها على الوجوب ، ومقتضاها وجوب الإنفاق مطلقا إلّا ما أخرجه الدليل وخصّ بالإجماع فيندرج فيه جميع أفراد الإنفاق الواجب.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فرّطتم والخلاص من عذابه ، إذ لا بيع فيه فتحصّلون ما تنفقونه ، أو تفدون به من العذاب ، ولا خلّة حتّى يعينكم عليه أخلّاؤكم أو يسامحونكم فيه ، ولا شفاعة إلّا لمن أذن له الرحمن ورضى له قولا ، حتّى تتّكلوا على شفعاء فتشفع لكم في حطّ ما في ذممكم.

وبالجملة الأغلب أنّ جهة الخلاص من الورطة يكون بأحد هذه الأمور المذكورة

__________________

(١) كخبر عبد الأعلى وسماعة وغيرهما من الاخبار وهي في اخبار الشيعة وأهل السنة كثيرة لا طائل في سردها.

(٢) البقرة : ٢٥٤.

٥٨

وهي منتفية في ذلك اليوم.

(وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لعلّه يريد أنّ التاركين للزكاة هم الّذين ظلموا أنفسهم أو وضعوا المال في غير موضعه ، وصرفوه على غير وجهه ، كما هو عادة الظالم ، ويكون التعبير عن التاركين بالكافر للتغليظ في ذنب الترك ، كما عبّر عن تارك الحجّ بالكافر في قوله (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (١) لذلك أيضا وسيجيء ، وللإشعار بأنّ ترك الزكاة من صفات الكفّار كقوله (وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) (٢) على ما سلف بيانه.

الخامسة : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٣).

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) الجهاد أو مطلق القرب (٤) على ما مرّ (كَمَثَلِ حَبَّةٍ) أي مثل نفقتهم كمثل حبّة أو مثلهم كمثل زارع حبّة على حذف المضاف.

(أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) أسند الإنبات إلى الحبّة لكونها من الأسباب كما أسند إلى الأرض والماء وإن كان المنبت في الحقيقة هو الله والمعنى أنّه يخرج من الحبّة ساق يتشعّب منها سبع شعب لكلّ شعبة منها سنبلة فيها مائة حبّة ، وهو تمثيل لا يقتضي الوقوع على أنّه قد يتصوّر في الذرّة أو الدّخن ذلك وكذا في البرّ في الأرض المغلّة (٥).

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

(٢) فصلت : ٦.

(٣) البقرة : ٢٦١.

(٤) زاد في سن : الشامل لجميع أبواب البر.

(٥) في نسخة «الأرض النخرة».

٥٩

(وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) فيزيد على سبعمائة لمن يشاء بفضله ، ومشيّته المتعلّقة ببعض دون بعض ، فإنّه فاعل لما يريد ، أو على حسب حال المنفق من إخلاصه واحتياجه أو حال المنفق عليه من اضطراره وصلاحه وقرابته وشرافته ، أو طريق الإنفاق من كونه سرّا لا يعلم فيه أحد ونحوه ، ومن أجله تفاوت الأعمال في مقادير الثواب.

(وَاللهُ واسِعٌ) لا يضيق بما يتفضّل به من الزيادة (عَلِيمٌ) بنيّة المنفق وقدر إنفاقه وحال المنفق عليه ، فيرتّب الثواب على ما يناسب حال كلّ واحد منها.

قيل : هي خاصّة بالإنفاق في الجهاد فأمّا غيره من الطاعات فإنّما يجزى بالواحدة عشرة أمثالها كما قال تعالى (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (١) فلا تنافي بينهما ، ويمكن الجمع بوجه آخر وهو أنّ المراد بيان ثواب الإنفاق في وجوه البرّ وآية العشرة في الطاعات غيرها ، ويمكن العمل بعموم كلّ منهما من غير تخصيص والاقتصار على العشرة في الأخرى لكونه أقلّ المراتب وهو الظاهر من قوله (يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) أي يزيد في ذلك.

السادسة : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢).

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً) المنّ (٣) ذكر ما ينقص المعروف كقول القائل أحسنت إلى فلان ونعشته ، أو لم أحسن

__________________

(١) الانعام : ١٦٠.

(٢) البقرة : ٢٦٢.

(٣) في سن : المن في اللغة تارة يطلق على الانعام يقال : قد من الله على فلان ، إذا أنعم عليه ولفلان على منة : أي نعمة ، ومن ثم يوصف الله تعالى بأنه منان ، أى منعم. وتارة يطلق على النقص من الحق والحبس له ، قال تعالى (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) أى غير مقطوع ولا ممنوع ، ومنه سمى الموت منونا لانه ينقص الأعمار ويقطع الاعذار ، ومن هذا المعنى المنة المذمومة ، لأنها منقص النعمة ومكدرها ، فالمراد بالمن هو إظهار الاصطناع ـ

٦٠