مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٢

جواد الكاظمي

مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٢

المؤلف:

جواد الكاظمي


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٣

التقيّة على الأنبياء [قلت ويؤيّده أنّه لو جوّزنا عليهم التقيّة لجاز منهم ترك الواجب بسبب الخوف ، وهو يوجب سقوط الاعتماد على التكاليف الّتي بلّغها إلينا.

ثمّ قال] وأمّا السّهو والنّسيان فلم يجوّزوهما عليهم فيما يؤدّونه عن الله تعالى فأمّا ما سواه فقد جوّزوا عليهم أن ينسوه ويسهو عنه ، ما لم يؤدّ ذلك إلى إخلال بالعقل وكيف لا يكون كذلك وقد جوّزوا عليهم النوم والإغماء ، وهما من قبيل السّهو ، فهذا ظنّ منه فاسد وبعض الظنّ إثم انتهى.

والظاهر من كلامه أنّه لا خلاف في ذلك بين الإماميّة ، وفيه تأمّل.

ولمّا نزلت الآية ، ضاق أمر المسلمين معهم ، فكانوا لا يستطيعون أن يجلسوا في المسجد الحرام ولا أن يطّوّفوا به ، فنزلت الرّخصة في أن يقعدوا معهم ويذكروهم ويفهموهم بقوله (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ) أي الشرك والكبائر والفواحش (مِنْ حِسابِهِمْ) من ذنوبهم وآثامهم الّتي يحاسبون عليها (مِنْ شَيْءٍ) (وَلكِنْ ذِكْرى) أي ولكن يذكرونهم تذكيرا ، أو ولكن الّذي يأمرونهم به ذكري فهو مفعول مطلق أو خبر. ولا يجوز أن يكون عطفا على محلّ «من شيء» كقول القائل ما في الدّار من أحد ولكن زيد لأنّ قوله «من حسابهم» حال «من شيء» قدّم عليه فصار قيدا للعامل ، فان عطف ذكري على شيء عطف المفرد على المفرد كانت جهة القيد معتبرة فيه ، ويؤل المعنى إلى أنّ عليهم من حسابهم ذكري ، وظاهر أنّ ذكري ليس من حسابهم فتأمّل (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) المعاصي فلا يخوضون فيها.

[الثامنة (وَقالَ) (١) أي الشيطان (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) ادّعى الشيطان هيهنا أشياء أوّلها اتّخاذه من العباد نصيبا معيّنا وهم الّذين يتّبعون خطواته ويقبلون وسوسته ، وثانيها قوله (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) أي عن الحقّ ، وثالثها قوله (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) أي الأماني الباطلة كطول الحيوة وأنّه لا بعث ولا عقاب ، وفيه إشعار بأنّه لا حيلة له في الإضلال أقوى من إلقاء الأمانيّ في قلوب الخلق ، وظاهر أنّ طلب الأمانيّ يورث

__________________

(١) النساء : ١١٨ ، وهذا العنوان من مختصات سن تحت عنوان التاسعة.

٤٠١

الحرص والأمل ، وهما يستلزمان أكثر الأخلاق الذّميمة ، فإنّه إذا اشتدّ حرصه على الشيء فقد لا يقدر على تحصيله إلّا بمعصية الله وإيذاء الخلق ، وإذا طال أمله نسي الآخرة وصار غريقا في الدّنيا ، فلا يكاد يقدم على التوبة ، ولا يؤثر فيه الوعظ ، فيصير قلبه كالحجارة أو أشدّ قسوة.

ورابعها قوله (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) البتك القطع ، والمراد هنا قطع آذان الحيوان ، فإنّهم كانوا يشقّون اذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن ، وجاء الخامس ذكرا حرّموا على أنفسهم الانتفاع بها ، ويعبّر عنها بالبحائر والسوائب.

وخامسها قوله :

(وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) وفيه وجهان أحدهما أنّ المراد تغيير دين الله وهو قول جماعة من المفسّرين ، والمراد أنّ الله فطر الخلق على الإسلام يوم أخرجهم من ظهر آدم ، وأشهدهم على أنفسهم أنّه ربهم وآمنوا به ، فمن كفر وعبد غير الله كالشمس والقمر فقد غيّر فطرة الله الّتي فطر النّاس عليها ، والثاني أنّ المراد تغيير يتعلّق بظاهر الخلقة ومندرج فيه نحو خصاء العبيد فيكون حراما على إطلاقه ولكنّ الفقهاء رخّصوا في خصاء البهائم للحاجة ، وكذا يندرج فيه الوشر وهو تحديد طرف الأسنان وترقيقها تفعله المرأة الكبيرة تشبيها بالصّغائر ، والوشم وهو غرز ظهر الكفّ ونحوه بالإبر وإشباعه بالعظلم (١) ونحوه حتّى يخضرّ ، وقد روى (٢) عنه

__________________

(١) العظلم كزبرج عصارة شجر أو نبت يصبغ به والمثل بالرقم ٥٤٩ ج ١ ص ١٠٨ مجمع الأمثال للميداني بيضاء لا يدجى سناها العظلم ، مثل يضرب للمشهور لا يخفيه شيء وقد نظمه الشيخ إبراهيم في فرائد اللآل فقال :

يد الحميد بالندى إذ يكرم

بيضاء لا يدجى سناها العظلم

اى لا يسود بياضها العظلم وهو نبت يصبغ به ، قيل هو النيل وقيل الوسمة والعظلم الليل المظلم أيضا على التشبيه.

(٢) انظر الحديث بطرقه المختلفة وألفاظه المتفاوتة في كتب الشيعة الوسائل الباب ٤٧ من أبواب ما يكسب به ج ٢ ص ٥٤٢ والباب ١٣٦ من أبواب مقدمات النكاح ص ٣١ ج ٣ ـ

٤٠٢

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لعن الله الواشرة والمستوشرة والواشمة والمستوشمة فالواشرة من يفعل الوشر والمستوشرة الّتي يفعل بها ذلك ، وكذا الواشمة من يفعل الوشم والمستوشمة من يفعل بها ذلك ، ويندرج في ذلك فقؤ عين الحيوان على ما كان من عادة العرب أنّ الإبل إذا بلغت ألفا عوّروا عين فحلها ومندرج فيه أيضا السّحق واللّواط ، فانّ في اللّواط يكون الذّكر مشابها للأنثى وفي السّحق يكون الأنثى مشابهة للذكر وقد انعقد إجماع العلماء على تحريم هذه الافعال].

ولنختم الكتاب بآيات لها تعلّق بالمقام وهي :

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) هو لقمن بن باعورا (١) ابن أخت أيّوب عن وهب أو ابن خالته عن مقاتل ، وقيل : كان من أولاد آزر ، وعاش ألف سنة ، وأدرك داود وأخذ منه العلم ، وكان يفتي قبل مبعث داود عليه‌السلام فلمّا بعث قطع الفتوى ، فقيل له في ذلك ، فقال ألا اكتفى إذا كفيت.

__________________

ـ ط الأميري وفي كتب أهل السنة الكشاف تفسير الآية ج ١ ص ٥٦٧ ط دار الكتاب العربي وفيض القدير ج ٥ ص ٢٦٨ وص ٢٧٢ وص ٢٧٣.

قال الصدوق قدس‌سره في معاني الأخبار ص ٢٥٠ بعد نقل خبر لعن النبي (ص) النامصة والمنتمصة والواشرة والمستوشرة والواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة.

قال على بن غراب النامصة التي تنتف الشعر من الوجه والمنتمصة التي يفعل ذلك بها ، والواشرة التي تشر أسنان المرأة وتفلجها وتحددها ، والمستوشرة التي يفعل ذلك بها ، والواصلة التي تصل شعر المرأة بشعر امرءة غيرها والمستوصلة التي يفعل ذلك بها. والواشمة التي تشم وشما في يد المرأة أو في شيء من بدنها وهو أن تغرز يديها أو ظهر كفها أو شيئا من بدنها بإبرة حتى تؤثر فيه ثم تحشوه بالكحل أو بالنورة فيخضر ، والمستوشمة التي يفعل ذلك بها انتهى. ما في معاني الأخبار.

(١) انظر المجمع ج ٤ ص ٣١٥ والكشاف ج ٣ ص ٤٩٣ تفسير الآية وانظر أيضا الروض الأنف ج ١ ٢٦٦ وفتح القدير ج ٤ ص ٢٢٩ وفيه : اختلف في لفظ لقمان هل هو أعجمي أم عربي مشتق من اللقم فمن قال انه أعجمي منعه للتعريف والعجمة ومن قال انه عربي منعه للتعريف ولزيادة الألف والنون.

٤٠٣

وقد اختلفوا في كونه نبيّا أو لا ، والأكثر على أنّه كان حكيما ، ولم يكن نبيّا وقيل كان نبيّا عن عكرمة والسديّ والشعبي ، وفسّروا الحكمة هنا بالنبوّة ، وقيل إنّه كان عبدا أسود حبشيّا غليظ المشافر مشقوق الرّجلين في زمن داود عليه‌السلام ، وقال له بعض النّاس : ألست كنت ترعى معنا؟ فقال نعم ، قال فمن أين أوتيت ما لديك؟ قال قدر الله وأداء الامانة ، وصدق الحديث ، والصّمت عمّا لا يعنى.

وعن نافع عن ابن عمر (١) قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : حقّا أقول لم يكن لقمن نبيّا ولكن كان عبدا كثير التفكّر حسن اليقين ، أحبّ الله فأحبّه ، ومنّ عليه بالحكمة ، كان نائما نصف النّهار إذ جاءه نداء يا لقمن هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين النّاس بالحقّ فأجاب إن خيّرني ربّى قبلت العافية ولم أقبل البلاء ، وإن عزم عليّ فسمعا وطاعة ، فانّى أعلم أنّه إن فعل ذلك بي أعانني وعصمنى فقالت الملائكة بصوت لا يراهم : لم يا لقمن؟ قال لأنّ الحكم أشدّ المنازل وأكدّها يغشاه الظلم من كلّ مكان ، إن وفا فبالحرىّ أن ينجو ، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنّة ومن يكون في الدّنيا ذليلا وفي الآخرة شريفا خير من أن يكون في الدّنيا شريفا وفي الآخرة ذليلا ، ومن يختر الدّنيا على الآخرة تفته الدّنيا ، ولا يصيب الآخرة. فتعجّبت الملائكة من حسن منطقه ، فنام يومه فاعطى الحكمة فانتبه يتكلّم بها.

وعن ابن عبّاس : لقمن لم يكن نبيّا ولا ملكا ، ولكن كان راعيا أسود فرزقه الله العتق ، ورضي قوله ووصيّته فقصّ أمره في القرآن ليتمسّكوا بوصيّته ، فإنّها صدرت عن حكمة أعطاه الله تعالى إيّاها ، ومنحه بها. وحينئذ فيصحّ التمسّك بها في ثبوت الاحكام.

(أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) أنّ هي المفسّرة لأنّ إيتاء الحكمة في معنى القول (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لأنّ نفعه عائد إليه ، فإنّ دوام النعمة واستحقاق مزيدها اللّذين هما من آثار الشكر إنّما يعودان على الشّاكر نفسه (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ) لا يحتاج

__________________

(١) المجمع ج ٤ ص ٣١٥.

٤٠٤

إلى الشكر (حَمِيدٌ) حقيق بأن يحمد وإن لم يحمده أحد ، أو أنّه محمود نطق بحمده جميع مخلوقاته كلّ منها بلسان حاله.

(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ) قيل اسمه أنعم وقيل أشكم ، وقيل ما ثان (وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ) تصغير إشفاق لا تحقير (لا تُشْرِكْ بِاللهِ) قيل كان كافرا فلم يزل به حتّى أسلم ومن وقف على لا تشرك ، جعل «بالله» قسما (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) لأنّه تسوية بين من لا يوجد نعم إلّا منه ، وبين من لا يتصور أن يكون منه نعمة وهو ظلم ، لا يكتنه عظمه.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) أي حملته تهن وهنا على وهن ، وهو كقولك رجع عودا على بدء ، بمعنى يعود عودا على بدء ، وهو في موضع الحال ، والمعنى أنّها تضعف ضعفا فوق ضعف ، فإنّها تتزايد في الضعف وذلك لانّ الحمل كلّما ازداد عظما ازداد ثقلا وازدادت أمّه ضعفا (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) وفطامه من الرّضاع في انقضاء عامين أي بعد مضيّهما ويجوز الزّيادة شهرا واثنين عليهما عندنا على ما دلّت عليه غيرها من الأدلّة ولا يبعد حمل ذلك على الضرورة ، وأمّا النّقيصة كذلك فيجوز أيضا وقد دلّ عليه غيرها من الآيات وسيجيء بيانه إنشاء الله ، والمراد أنّها بعد ما تلده ترضعه عامين وتربّيه فيلحقها المشقّة بذلك أيضا.

(أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) تفسير «لوصيّنا» ولعلّ المراد منها وصّينا الإنسان بنا وبوالديه كما يظهر من تفسيره ، وفي الاقتصار على الوالدين مبالغة زائدة لا يمكن فوقها ، حيث جعل الوصيّة إليهما وصيّة إليه تعالى ، ويحتمل أن يكون بدلا من والديه بدل الاشتمال ، وذكر الحمل والفصال في البين اعتراض مؤكّد للتوصية في حقّ الامّ خصوصا لكثرة مشقّتها ومن ثمّ قال (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن سأله من أبرّ؟ أمك ثمّ أمك ثمّ أمك

__________________

(١) أصول الكافي باب البر بالوالدين الحديث ٩ و ١٧ وتراهما في المرآة ج ٢ ص ١٤٤ و ١٤٦ وشرح ملا صالح ج ٢ ص ٢٣ وص ٢٧ ونور الثقلين ج ٤ ص ٢٠٠ وص ٢٠١ والوافي الجزء الثالث ص ٩٢ وانظر الوسائل ج ٣ ص ١٣٥ الباب ٤٩ من أبواب ـ

٤٠٥

ثمّ قال بعد ذلك ثمّ أباك.

(إِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي مرجع المطيع والشاكر لي ولهما ، والعاصي وكافر النّعمة والعاقّ لهما إليّ فأجازي كلّا منهما بعمله وعلى ما يستحقّه ثمّ بالغ مرّة أخرى في التوصية بالإطاعة إلّا في الكفر فهو بمنزلة الاستثناء.

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، فَلا تُطِعْهُما) وإن بذلا جهدهما في أن تعبد غيري وتشركه معي في العبادة فلا تطعهما في ذلك ، فإنّه طاعة فيما ليس لك به علم ، إذ العلم بثبوت الشريك محال لامتناعه في نفسه ، فيكون المراد بنفي العلم به نفيه في نفسه ، وقد يستفاد منه وجوب متابعة العلم ، وعدم متابعة غيره حتّى لو فرض العلم بثبوت الشريك كان الواجب متابعة الوالدين فيه فكيف غيره ، ولكن ذلك محال لامتناع متعلّقه كما عرفت.

(وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) صحابا معروفا يرتضيه الشرع وإن كانا كافرين وجاهداك على الشّرك كما سلف ، والمعنى لا تترك الإحسان معهما بل استعمل معهما المعروف بخلق جميل واحتمال ما يصل إليك منهما ، وأكّد ذلك ببرّ وصلة تنعشهما به ونحوه ممّا هو مقتضى المعروف والإحسان في الدّنيا مع قطع النّظر عن آخرتهما.

(وَاتَّبِعْ) في الدّين (سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ) بالتوحيد والإخلاص في الطّاعة (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) أنت معهما (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فأجازيك على إيمانك واجازيهما على كفرهما ، وفي الكشاف فيه شيئان أحدهما أنّ الجزاء إلىّ فلا تحدّث نفسك بجفوة والديك وعقوقهما لشركهما ، ولا تحرمهما برّك ومعروفك في الدّنيا كما أنّى لا أمنعهما رزقي ، والثاني التّحذير من متابعتهما على الشرك والحثّ على الثبات والاستقامة في الدّين ، بذكر المرجع والوعيد.

__________________

ـ حقوق الأولاد ومستدرك الوسائل ج ٣ ص ٦٢٨.

وانظر أيضا من كتب أهل السنة فضل «الله الصمد» في توضيح الأدب المفرد لفضل الله الجيلاني من ص ٤٤ الى ص ٥٠ ج ١ فيه اختلاف ألفاظ الحديث وطرقه وذكر من أخرجه.

٤٠٦

والآيتان معترضتان في تضاعيف وصيّة لقمن تأكيدا لما فيها من النهي عن الشرك كأنّه قال : وقد وصّينا بمثل ما وصّى به ، وذكر الوالدين للمبالغة في ذلك ، فإنّهما مع كونهما تلو الباري في استحقاق التعظيم والطّاعة ، لا يجوز أن يطاعا في الإشراك فما ظنّك بغيرهما.

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) أي إنّ الخصلة من الإساءة أو الإحسان إن تك في الصغر والقماءة كحبّة الخردل ، وقرأ نافع برفع المثقال على أنّ الهاء ضمير القصّة وكان تامّة وتأنيثها لإضافة المثقال إلى الحبّة ، فإنّ المضاف قد يكتسب من المضاف إليه التّأنيث ، وقد ورد في الأشعار العربيّة (١) كثيرا أو أنّ التأنيث على المعنى نظرا إلى أنّ المراد به الحسنة أو السيّئة.

(فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ) عطف على سابقه ، والمراد أنّها لو كانت في الصّغر كحبّة الخردل ، وكانت في أخفى موضع وأحرزه كجوف الصّخرة العظيمة فانّ الحبّة فيها أخفى وأبعد من الاستخراج ، أو حيث كانت في العالم العلوي أو السفلىّ فلا يرد أنّ الصخرة لا بدّ أن تكون في السّموات أو في الأرض فما الفائدة في ذكرهما؟ لأنّ في الكلام إضمارا ، والمراد في صخرة أو في موضع آخر من السموات والأرض ، ويمكن توجيهه أيضا بأنّ خفاء الشيء إمّا أن يكون لغاية صغره أو لاحتجابه أو لكونه بعيدا ، أو لكونه في ظلمة ، فأشار إلى الأوّل بقوله (مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) وإلى الثاني بقوله (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) وإلى الثالث بقوله (فِي السَّماواتِ) وإلى الرابع بقوله (أَوْ فِي الْأَرْضِ).

(يَأْتِ بِهَا اللهُ) يحضرها فيحاسب بها عاملها يوم القيمة ، وفيه مبالغة ليست في

__________________

(١) قال ابن مالك في ألفيته :

وربما أكسب ثان أولا

تأنيثا ان كان لحذف موهلا

وانشدوا في ذلك :

تجنب صديقا مثل ما ، واحذر الذي

يكون كعمرو بين عرب وأعجم

فان صديق السوء يزري وشاهدي

كما شرقت صدر القناة من الدم

٤٠٧

قوله «يعلمه الله» لدلالته على أنّه تعالى مع العلم بمكانه ، قادر على الإتيان به وهو جواب الشرط (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) يصل علمه إلى كلّ خفيّ (خَبِيرٌ) عالم بكنهه وقيل المراد أنه لطيف باستخراجها خبير بمستقرّها ، وروى العياشي بإسناده عن ابن مسكان (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال اتّقوا المحقّرات من الذنوب فانّ لها ، طالبا لا يقولنّ أحدكم أذنب فأستغفر الله ، إنّ الله تعالى يقول (إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) الآية وروى (٢) أنّ ابن لقمن قال له أرأيت إلى الحبّة يكون في قعر مقرّ البحر أي في مغاصّه بعلمها الله فقال إنّ الله يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة لأنّ الحبة في الصخرة أخفى منها في الماء.

(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) أي في أوقاتها الّتي أمر الله بالإقامة فيها لما فيها من تعظيم المعبود الحقّ (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) فإنّ الشفقة على الخلق يتمّ بهما (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) يجوز أن يكون عامّا في كلّ ما يصيبه من المحن والشدائد وأن يكون خاصّا بما يصيبه فيما أمر به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أذى من يبعثهم على الخير وينكر عليهم الشرّ ، ولكنّ العلماء اشترطوا في جوازهما عدم الضرر فلعلّ المراد أنّه مع ظنّ عدم الضرر ينبغي الإقدام عليهما ، وإن حصل الأذى بعده ، أو المراد أنّ نفس الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر كلفة ينبغي الصّبر عليهما (إِنَّ ذلِكَ) أي الصّبر أو جميع ما وقع الأمر به (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي ممّا عزم الله فيه أي قطعه قطع إيجاب وإلزام ، فيكون مصدرا بمعنى المفعول ، ويجوز أن يكون بمعنى الفاعل من قولهم (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) (٣) أي جدّ.

__________________

(١) رواه عن العياشي في المجمع ج ٤ ص ٣١٦ ورواه عن المجمع في نور الثقلين ج ٤ ص ٢٠٤ بالرقم ٤٦ وروى قريبا من الحديث في أصول الكافي مع تفاوت ج ٢ باب الذنوب الحديث ١٠ وهو في المرآة ص ٢٤٤ وشرح ملا صالح المازندراني ج ٨ ص ٢٣٢ والوافي الجزء الثالث ص ١٦٨.

(٢) المجمع ج ٤ ص ٣١٦.

(٣) راجع آل عمران : ١٥٩.

٤٠٨

قال في الكشاف : وناهيك بهذه الآية موذنة بقدم هذه الطّاعات ، وأنّها كانت مأمورا بها في سائر الأمم ، وأنّ الصّلوة لم تزل عظيمة الشأن سابقه العزم على ما سواها يوصى بها في الأديان كلّها.

(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) لا تمله عنهم ، ولا تولّهم صفحة وجهك كما يفعله المتكبّرون من الصّعر وهو الصّيد داء يعتري البعير يلوى منه عنقه ، وفي الكشاف والمعنى أقبل على النّاس بوجهك تواضعا ولا تولّهم شقّ وجهك وصفحته كما يفعله المتكبّرون ، وفي مجمع البيان (١) ولا تمل وجهك عن النّاس تكبّرا أو لا تعرض عمّن يكلّمك استخفافا به ، ثمّ قال : وقيل هو أن يكون بينك وبين الإنسان شيء فإذا لقيته أعرضت عنه ، وقيل هو أن يسلّم عليك فتلوى عنقك تكبّرا ولا يبعد استفادة جميع ذلك من هذه اللّفظة.

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) بطرا أو خيلاء أي لا تمرح مرحا فانّ المشي كذلك هو المرح ، ويجوز أن يريد لا تمش لأجل المرح والأشر على أنّه مفعول له أي لا يكن غرضك في المشي البطالة والأشر كما يمشى كثير من الناس لذلك لا لكفاية مهمّ دينيّ أو دنيويّ ، ونحوه قوله تعالى (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ) (٢).

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أي متكبّر فخور على النّاس ، وهو علّة للنّهي السّابق ، والمختال الماشي مرحا لا لغرض دينيّ أو دنيويّ ، والفخور المصعّر خدّه ، بيّن هنا أنّ الله لا يحبّهما فيحبّ الاجتناب عن الاتّصاف بصفتهما ، ولعلّ تأخير الفخور مع أنّ المقابلة يستلزم تقديمه لتوافق رؤس الآي.

(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) واعدل فيه حتّى يكون مشيا بين مشيين : لا تدبّ دبيب المتماوتين الّذين لا حراك لهم ، ولا تثب وثب المسرعين في حركاتهم ، وفي الحديث عنه

__________________

(١) المجمع ج ٤ ص ٣١٦.

(٢) الأنفال : ٤٧.

٤٠٩

صلى‌الله‌عليه‌وآله : سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن (١).

(وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) وانقص منه وأقصر من قولك فلان يغضّ من فلان إذا قصر ووضع عنه (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ) أوحشها من قولك شيء نكر إذا أنكرته النفوس واستوحشت منه ونفرت عنه ، (لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) والحمار مثل في الذّم البليغ ، وكذلك نهاقه ولقد استفحشت العرب ذكره مجرّدا وكنّوا عنه رغبة عن التصريح به فقالوا الطويل الأذنين كما كنّوا عن الأشياء المستقذرة ، وتشبيه الصوت المرتفع بصوته ثمّ إخلاء الكلام عن التّشبيه وإخراجه مخرج الاستعارة بأن جعلوهم حميرا وصوتهم نهاقا مبالغة شديدة في الذّم والتّهجين وإفراط في التثبيط عن رفع الصّوت والترغيب عنه ، وتنبيه على أنّه من كراهة الله بمكان ، وتوحيد الصّوت لانّ المراد الجنس في النكير دون الآحاد ، أي أنكر أصوات أجناس الحيوان صوت هذا الجنس أو أنّه مصدر في الأصل فترك جمعه.

وفي مجمع البيان : أمر لقمان ابنه بالاقتصاد في المشي والنطق وعن زيد بن عليّ (٢) عليه‌السلام أنّه قال أراد صوت الحمير من النّاس وهم الجهّال شبّههم بالحمير كما شبّههم بالانعام في قوله (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) (٣) وعن أبى عبد الله عليه‌السلام هي العطسة المرتفعة القبيحة والرّجل يرفع صوته بالحديث رفعا قبيحا إلّا أن يكون داعيا أو يقرأ القرآن (٤).

__________________

(١) انظر الرقم ٤٦٨٩ و ٤٦٩٠ من الجامع الصغير ج ٤ ص ١٠٤ فيض القدير ولفظ الثاني بهاء الوجه مكان بهاء المؤمن وروى الحديث في الخصال عن أبى الحسن عليه‌السلام ص ٨ ورواه عن الخصال في نور الثقلين ج ٤ ص ٢٠٨ بالرقم ٧٣.

(٢) المجمع ج ٤ ص ٣٢٠.

(٣) الأعراف : ١٧٩.

(٤) المجمع ج ٤ ص ٣٢٠ وروى مثله في أصول الكافي بلفظ العطسة القبيحة وهو في باب العطاس والتسميت الحديث ١١ ، وهو في المرآة ج ٢ ص ٥٣٠ وفي نور الثقلين ج ٤ ص ٢٠٨ بالرقم ٧٥ وفي الوافي الجزء الثالث ١١٥ والوسائل الباب ٦٠ من أبواب العشرة الحديث ٣ ج ٢ ص ٢١٣ ط الأميري.

٤١٠

وهذه الأمور وإن كانت من وصايا لقمان لابنه إلّا أنّ الله تعالى أعطاه الحكمة ونقل وصيّته في كتابه ، وهو يدلّ علي الحثّ عليها فيجب العمل بها وحينئذ فكلّ ما يدلّ على التحريم فيها يعمل به فيه ، وكذا غيره من الأحكام إلّا أن يقوم الدّليل من الخارج على العدم فيعمل عليه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) (١) أي لا يسخر بعض المؤمنين من بعض ، أو لا يسخر أغنياء المؤمنين من فقرائهم والسخريّة الاستهزاء واختار الجمع لأنّ السخرية تغلب وقوعها في المجامع لا الوحدة ، ومقتضى النهي تحريم السخرية والاستهزاء وقوله (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) أي المسخور منهم قد يكونون خيرا عند الله وأجلّ منزلة وأكثر ثوابا من السّاخرين ، استيناف للعلّة الموجبة للتحريم ، ولا خبر لعسى هنا لإغناء الاسم عنه (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ) أي لا يسخر نساء من نساء لذلك ، قيل نزلت في عائشة لمّا عابت أمّ سلمة بالقصر.

(وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي ولا يعب بعضكم بعضا كقوله (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (٢) والتعبير بذلك لأنّ المؤمنين كنفس واحدة أو المراد لا تفعلوا ما تلمزون به بين النّاس بأن تجعلوا أنفسكم عرضة للمز بصدور بعض الأفعال ، فإنّ من فعل ما استحقّ به اللّمز فقد لمز نفسه ، واللّمز الطّعن باللّسان.

(وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) أي ولا يدعو بعضكم بعضا باللّقب السّوء الّذي لا يرضى به المدعوّ ، والنبز يختصّ باللّقب السّوء عرفا ، وإنّما قال (وَلا تَنابَزُوا) ولم يقل «ولا تنبزوا» على منوال ولا تلمزوا لأنّ النبز لا يعجز الإنسان عن جوابه غالبا فمن نبز غيره بالحمار كان لذلك الغير أن ينبزه بالثور مثلا ، ولا كذلك اللّمز فانّ الملموز كثيرا ما يغفل عن عيب اللامز فلا يحضره في الجواب شيء ، فيقع اللّمز من جانب واحد.

__________________

(١) الحجرات : ١١ ـ ١٢.

(٢) النساء : ٢٩.

٤١١

(بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) أي بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسق بعد دخولهم في الايمان ، واشتهارهم به ، والمراد إمّا تهجين نسبة الكفر أو الفسق إلى المؤمنين ، أو الدّلالة على أنّ التنابز فسق ، والجمع بينه وبين الايمان مستقبح ، وفيه إشعار مّا بعدم الاجتماع بينهما ، وأنّ الفاسق لا يطلق على المؤمن (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) عمّا نهى عنه ويرجع إلى طاعة الله (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) بسبب وضعهم العصيان موضع الطّاعة ، وتعريضهم أنفسهم للعذاب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ) كونوا على جانب منه ولا تقاربوه وذكر الكثير ليحتاط في كلّ ظن ويتأمّل حتّى يعلم أنّه من أيّ قبيل هو من الظنّ فانّ منه ما يجب اتّباعه كالظنّ حيث لا قاطع فيه من العمليّات ، وحسن الظنّ بالله وبالمؤمنين كما جاء في الحديث القدسي (١) «أنا عند ظنّ عبدي» وقوله «ولا يموتنّ

__________________

(١) أصول الكافي باب حسن الظن بالله الحديث ٣ رواه عن على بن موسى الرضا عليه‌السلام واللفظ أحسن الظن بالله فان الله عزوجل يقول أنا عند ظن عبدي المؤمن بي ، إن خيرا فخيرا وان شرا فشرا ، وهو في المرآة ج ٢ ص ٩٣ وفي شرح ملا صالح ج ٨ ص ٢٢٠ وفي الوافي الجزء الثالث ص ٥٩ ورواه في الوسائل الباب ١٦ من أبواب جهاد النفس ج ٢ ص ٤٥٠ ط أمير بهادر وروى مثله عن عيون أخبار الرضا أيضا وسرده في الاخبار القدسية أيضا في الجواهر السنية باب ما جاء عن الامام على بن موسى الرضا ص ٣٥٧ ط بغداد ١٣٨٤.

قال المجلسي ره في المرآة هذا الخبر مروي من طرق العامة أيضا وقال الخطابي معناه انا عند ظن عبدي في حسن عمله وسوء عمله لان من حسن عمله حسن ظنه ومن ساء عمله ساء ظنه انتهى.

قلت وهو في صحيح مسلم بشرح النووي ج ١١ ص ١٢ وأخرجه السيوطي أيضا في الجامع الصغير بالرقم ٦٠٥١ ج ٤ ص ٤٩١ فيض القدير عن أحمد عن أبي هريرة وبالرقم ٦٠٦٦ عن الحاكم عن انس. وأخرجه محمد المدني في الاتحافات السنية ص ١٠ بالرقم ٥٨ و ٥٩ و ٦٠ و ٦١ بألفاظه المختلفة عن ابن أبى الدنيا والترمذي وابن ـ

٤١٢

__________________

ـ حبان وابن عدا والطبراني في الكبير والحاكم والبيهقي والشيرازي في الألقاب وأحمد وتمام عن أنس وابى هريرة وواثلة بلفظ قال الله وأخرجه بلفظ يقول الله أيضا في ص ٢٩ بالرقم ١٩٠ عن أحمد ومسلم والترمذي عن أنس وأبى هريرة وبوجه آخر في ص ٣٣ بالرقم ٢٠٩ عن أحمد والشيخين والترمذي وابن ماجه وابن حبان عن أبي هريرة وأخرجه في مجمع الزوائد ج ٢ ص ٣١٨ عن أحمد والطبراني عن واثلة وقال رجال أحمد ثقات وعن أحمد عن انس وفي ج ١٠ ص ١٤٨ عن الطبراني عن معاوية بن حيدة.

ثم الحديث القدسي على ما في كشاف الاصطلاحات والفنون للفاروقى هو الذي يرويه النبي (ص) عن ربه ويسمى بالحديث الإلهي أيضا وقال الحلبي في حاشية التلويح في الركن الأول عند بيان معنى القرآن الأحاديث الإلهية هي التي أوحاها الله تعالى إلى النبي (ص) ليلة المعراج وتسمى بأسرار الوحي انظر ص ١٤٢ ج ١ حاشية التلويح ط اسلامبول ١٣٨٤.

وللمحقق الداماد ره ـ في الفرق بينه وبين القرآن والأحاديث النبوية في الرشحة الثامنة والثلاثين ص ٢٠٤ من كتابه الرواشح السماوية بيان يعجبنا نقله بعين عبارته قال أعلى الله مقامه الشريف :

سبيل وهط في الفرق بين الحديث القدسي وبين القرآن وبين الأحاديث النبوية.

أما القرآن فهو الكلام المنزل بألفاظه المعينة في ترتيبها المعين للإعجاز بسورة منه والحديث القدسي هو الكلام المنزل بألفاظ بعينها في ترتيبها بعينه لا لغرض الاعجاز ، والحديث النبوي هو الكلام الموحى اليه (ص) بمعناه لا بألفاظه فما آتانا عليه وآله صلوات الله وتسليماته فهو جميعا من تلقاء ايحاء الله سبحانه اليه (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) لكن الوحي على ثلاثة أنحاء.

وقال فرق : الحديث القدسي ما أخبر الله نبيه معناه بالإلهام أو بالمنام فأخبر النبي أمته بعبارة عن ذلك المعنى ، فلا يكون معجزا ولا متواترا ، كالقرآن.

قال الطيبي فضل القرآن على الحديث القدسي أنه نص الهى في الدرجة الثانية وان ـ

٤١٣

أحدكم إلّا وهو محسن الظنّ بالله» (١) ومنه ما يحرم كالظنّ في الالهيّات والنبوّات والأمانات ، وحيث يخالفه قاطع ، وظنّ السّوء بالله وبالمؤمنين. وما يباح كالظنّ في أمر المعاش.

__________________

ـ كان من غير واسطة الملك غالبا ، لان المنظور فيه المعنى دون اللفظ ، وفي التنزيل اللفظ والمعنى منظوران ، فعلم من هذا مرتبة بقية الأحاديث.

قلت ويشبه أن يكون حق التحقيق أن القرآن كلام يوحيه الله تعالى إلى النبي ص معنا ولفظا فيتلقاه النبي (ص) من روح القدس مرتبا ، ويسمعه من العالم العلوي منظما ، والحديث القدسي كلام يوحى الى النبي (ص) معناه فيجري الله على لسانه في العبارة عنه ألفاظا مخصوصة في ترتيب مخصوص ليس للنبي (ص) أن يبدلها ألفاظا غيرها أو ترتيبا غيره ، والحديث النبوي كلام معناه مما يوحى الى النبي (ص) فيعبر عنه حيث يشاء كيف يشاء انتهى ما أردنا نقله من الرواشح السماوية.

ونقل المدني في الاتحافات السنية ص ١٩٠ عن الفاروقي عن فوائد الأمير حميد الدين في الفرق بين القرآن والحديث القدسي وجوها ستة :

الوجه الأول : أن القرآن معجز ، والحديث القدسي لا يلزم أن يكون معجزا والثاني أن الصلاة لا تكون الا بالقرآن بخلاف الحديث القدسي ، والثالث أن جاحد القرآن يكفر بخلاف جاحده ، والرابع أن القرآن لا بد فيه من كون جبرئيل عليه‌السلام واسطة بين النبي (ص) وبين الله تعالى بخلاف الحديث القدسي ، والخامس أن القرآن يجب أن يكون لفظا من الله تعالى والحديث القدسي يجوز لفظا من النبي (ص) والسادس أن القرآن لا يمس إلا بالطهارة والحديث القدسي يجوز مسه انتهى.

لكنك عرفت من بيان المحقق الداماد ان الحديث القدسي أيضا من لفظ الله وانه موحى إلى النبي (ص) بألفاظه.

(١) الجامع الصغير بالرقم ٩٩٨٧ ج ٦ ص ٤٥٥ فيض القدير عن أحمد ومسلم في آخر صحيحه وأبى داود في الجنائز وابن ماجة في الزهد كلهم عن جابر قلت وهو في صحيح مسلم بشرح النووي ج ١١ ص ٢٠٩ وأبى داود ج ٣ ص ٢٥٧ الرقم ٣١٣ وابن ماجه ص ١٣٩٥ بالرقم ٤١٦٥.

٤١٤

(إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) تعليل مستأنف للأمر باجتناب كثير الظنّ [والمراد الأخذ بالأحوط فيه] والإثم الذّنب الّذي يستحقّ به العقاب.

(وَلا تَجَسَّسُوا) ولا تبحثوا عن عورات المسلمين وتطلبوها وهو تفعّل من الجسّ باعتبار ما فيه من معنى الطلب كالتلمّس ، وقرئ بالحاء من الحسّ الّذي هو أثر الجسّ وغايته ، ومن ثمّ قيل للحواس الجواسّ ، وقد ورد النهي عن تتبّع عورات المسلمين في الأخبار كثيرا فقد روينا في الحسن بل الصّحيح (١) عن محمّد بن مسلم والحلبي عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تطلبوا عثرات المؤمنين فإنّ من تتبّع عثرات أخيه تتبّع الله عثرته ومن تتبّع الله عثرته يفضحه ولو في جوف بيته [وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال إنّى لأعرف قوما يضربون في صدورهم حزنا يسمعه أهل النّار وهم الهمّازون اللمّازون الّذين يلتمسون عورات المسلمين ويهتكون ستورهم ويشيعون عليهم من الفواحش ما نسي عليهم ونحوها من الاخبار].

(وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ولا يذكر بعضكم بعضا بالسّوء كناية أو صريحا في غيبة وفي الحديث عنه (٢) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين سئل عن الغيبة : ذكرك أخاك بما يكره ، فان كان

__________________

(١) أصول الكافي باب من طلب عثرات المؤمنين الحديث ٥ وهو في المرآة ج ٢ ص ٣٤١ وشرح ملا صالح ج ١٠ ص ٣ والوافي الجزء الثالث ص ١٦٣ والوسائل الباب ١٥٠ من أبواب أحكام العشرة الحديث ٣ ج ٢ ص ٢٣٧ ط الأميري ، واللفظ في هذا الحديث عثرات المؤمنين مكان عورات ، نعم في الباب أحاديث أخر فيها التعبير بالعورات.

قال ملا صالح : العورة كل أمر قبيح يستره الإنسان أنفه أو حياء ، والمراد بتتبعها تطلبها شيئا بعد شيء في مهلة ، والفحص عن ظاهرها وباطنها بنفسه أو بغيره ، والمراد بتتبع الله تعالى عورته ارادة إظهارها ولو في جوف بيته إذ لا مانع لإرادته تعالى ولا دافع لها.

وقريب من الحديث ما رواه في الكشاف ج ٤ ص ٣٧٢ عند تفسير الآية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولابن حجر في تخريجه شرح مبسوط ، وانظر أيضا الدر المنثور ج ٦ ص ٩٢ وص ٩٣.

(٢) أخرجه في الكشاف ج ٤ ص ٣٧٣ وقال ابن حجر متفق عليه ، وبمضمونه حديث أصول الكافي باب الغيبة والبهت عن أبى الحسن الحديث ٦ وهو في المرآة ج ٢ ص ٣٤٩ وشرح ملا صالح ج ١٠ ص ٨ والوافي الجزء الثالث ص ١٦٣.

٤١٥

فيه فقد غبته ، وإن لم يكن فقد بهتّه.

وقد تظافرت الاخبار (١) في تحريم الغيبة وعن الصّادق عليه‌السلام (٢) قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الغيبة أسرع في دين الرّجل المسلم من الأكلة في جوفه ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من اغتاب امرءا مسلما بطل صومه ونقض وضوؤه وجاء يوم القيمة تفوح من فيه رائحة أنتن من الجيفة يتأذّى بها أهل الموقف ، وإن مات قبل أن يتوب مات مستحلّا لما حرّمه الله (٣) ونحوها من الاخبار.

وكما يحرم الغيبة يحرم الاستماع إليها قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : السّامع للغيبة أحد المغتابين (٤) ولعلّ في قوله (بَعْضُكُمْ) إشارة إلى جواز غيبة الكافر ، والمراد خصّوا أنفسكم أيّها المؤمنون بالانتهاء عن غيبة بعضكم ولا عليكم أن تغتابوا غيركم ممّن لا يدين بدينكم ولا يسير بسيرتكم.

وربما خصّ من عموم النهي الفاسق ، فانّ غيبته مباحة ففي الحديث (٥) اذكروا

__________________

(١) انظر الوسائل ج ٢ من ص ٢٣٧ الى ص ٢٣٩ ط الأميري ومستدرك الوسائل ج ٢ من ص ١٠٥ الى ص ١٠٧.

(٢) أصول الكافي باب الغيبة والبهت الحديث ١ وهو في المرآة ج ٢ ص ٣٤١ وشرح ملا صالح ج ١٠ ص ٥ والوافي الجزء الثالث ص ١٦٣ والوسائل الباب ١٥٢ من أبواب أحكام العشرة الحديث ٧ ج ٢ ص ٢٣٧ ط الأميري.

(٣) رواه الصدوق في الفقيه في مناهي الرسول (ص) ج ٤ ص ٨ ورواه في الوسائل الباب ١٥٢ من أبواب أحكام العشرة الحديث ١٣ ج ٢ ص ٢٣٧ ط الأميري.

(٤) رواه عن النبي في تفسير أبى الفتوح ج ١٠ ص ٢٥٨ ونقله عنه في المستدرك ج ٢ ص ١٠٨.

(٥) أخرجه في الجامع الصغير بالرقم ١٠٩ ج ١ ص ١١٥ فيض القدير واللفظ أترعون عن ذكر الفاجر متى يعرفه الناس اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس ، وأخرجه الخطيب أيضا في ج ٣ ص ١٨٨ ترجمة محمد بن القاسم المؤدب الرقم ١٢٢٩ واللفظ فيه حتى يعرفه الناس مكان يحذره الناس وأخرجه النيسابوري مرسلا بلفظ اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس.

٤١٦

الفاجر بما فيه كي يحذره النّاس ، وروي (١) أن من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له ويمكن أن يقال : إن كان القصد من الغيبة ارتداعه عن فسقه بعد وصول الخبر إليه فلا قصور ، وإن كان القصد فضيحته بذلك فالظاهر المنع ، لعموم (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) (٢) فتأمّل.

(أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) تمثيل لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه ، مع مبالغات الاستفهام المقرّر ، والإسناد إلى أحد ، فإنّه للتعميم ، وتعليق المحبّة بما هو في غاية الكراهة ، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان وجعل المأكول لحم الأخ الميّت ، وتعقيب ذلك بقوله (فَكَرِهْتُمُوهُ) تقريرا وتحقيقا لذلك.

والمعنى إن صحّ ذلك أو عرض عليكم فقد كرهتموه ، ولا يمكنكم إنكار كراهته [وفي الآية هي دلالة على أنّ الاغتياب الممنوع إنّما هو اغتياب المؤمن الكافر ، لأنّه شبّهه بأكل لحم الأخ ولا أخوّة إلّا بين المؤمنين] وميتا حال من اللّحم أو الأخ (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) لمن اتّقى ما نهى عنه ، وتاب عمّا فرط منه ، والله أعلم.

وممّا له تعلّق بالمقام قوله تعالى (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (٣).

[(وَيْلٌ) لفظه ذمّ وسخط ، ومن وقع في هلكة دعا بالويل ويروى أنّه جبل في جهنّم (لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) الهمز الكسر كالهزم واللّمز الطّعن كاللهز ، وقد شاعا في الكسر من أعراض النّاس والطّعن فيهم ، نزلت في الأخنس بن شريق (٤) كان يلمز

__________________

(١) رواه المفيد في الاختصاص ص ٢٤٢ عن الرضا ورواه عنه في البحار ج ١٦ ص ١٨٩ وفي المستدرك ج ٢ ص ١٠٨ ورواه في المستدرك أيضا عن القطب الراوندي في لب اللباب عن النبي (ص) وأخرجه في الجامع الصغير بالرقم ٨٥٢٥ ج ٦ ص ٨٧ عن البيهقي عن أنس وأخرجه النيسابوري أيضا مرسلا عند تفسير الآية.

(٢) النور : ١٩.

(٣) من هنا الى آخر الباب من مختصات نسخة سن.

(٤) المجمع ج ٥ ص ٥٣٨ والكشاف ج ٤ ص ٧٩٥ وفيه وقد قيل نزلت في أمية بن خلف.

٤١٧

الناس ويغتابهم ، وخاصّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقيل نزلت في الوليد بن المغيرة كان يغتاب النبيّ من ورائه ويطعن عليه في وجهه.

وهو عامّ في كلّ من يفعل هذا الفعل كائنا من كان ، لأنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب ، وبناء فعلة يدلّ على أنّ ذلك عادة منه وقد عرف بها ، ونحوهما اللّعنة والضّحكة في المتعوّد للّعن والضّحك.

وقد اختلف عبارات المفسّرين في التعبير عنهما فقيل الهمزة المغتاب واللمزة المواجه بالسوء ، وقيل الهمز المواجهة بالسوء ، واللّمز بظهر الغيب ، وقيل الهمز باليد واللّمز باللّسان ، وقيل الهمز بكفّه واللّمز بالحاجب والعين ، وقيل الهمزة اللمزة الّذي يلقّب النّاس بما يكرهون ، ويدخل فيه من يحاكي النّاس بأقوالهم وأفعالهم وأصواتهم ليضحكوا ، وقد حكى الحكم بن العاص مشية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فنفاه من المدينة.

وقيل لابن عبّاس (١) ويل لكلّ همزة لمزة ، من هؤلاء الّذين ذمّهم الله بالويل؟ فقال هم المشّاؤن في النّاس بالنّميمة ، المفرّقون بين الأحبّة النّاعتون للنّاس بالعيب وقرئ (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) بسكون الميم والمراد به المسخرة الّذي يأتي بالأقاويل والأضاحيك ، فيضحك منه. وجميع هذه الوجوه متقاربة راجعة إلى أصل واحد ، وهو الطعن وإظهار العيب.

ثمّ ذلك على قسمين فإنّه إمّا أن يكون بالجدّ كما يكون عند الحسد والحقد وإمّا أن يكون بالهزل كما يكون عند السخريّة والإضحاك ، ثمّ إنّ كلّ واحد من القسمين إمّا أن يتعلّق بالدين والطّاعة وإمّا أن يتعلّق بالدّنيا ، وهو ما يتعلّق بالصورة والمشي أو الجلوس أو القول أو الفعل ، وهو غير مضبوط.

ثمّ إظهار العيب في هذه الأقسام الأربعة. إمّا أن يكون لشخص حاضر أو غائب وعلى التقادير ، فامّا أن يكون باللّفظ أو بإشارة الرأس أو العين أو غيرهما ، وكلّ

__________________

(١) أخرجه في الدر المنثور ج ٦ ص ٣٩٢ عن ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردويه عن ابن عباس.

٤١٨

ذلك داخل تحت الزجر والنهي ، فما كان اللفظ موضوعا له كان منهيّا عنه بحسب اللّفظ ، وما لم يكن اللّفظ موضوعا له كان داخلا بطريق الأولويّة.

(الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) بدل من الكلّ أو نصب على الذّم ، وإنّما وصفه تعالى بهذا الوصف لأنّه كالسّبب والعلّة في الهمز واللمز وهو إعجابه بما جمع من المال ظانّا أنّ الفضل فيه ، ولأجل ذلك ينتقص غيره ، ولعلّ التنكير في «مالا» للتنبيه على أنّ ماله بالنسبة إلى مال الدّنيا حقير قليل فكيف يفتخر به.

(يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) وصفه تعالى بضرب آخر من الجهل والمراد أنّ المال طوّل أمله حتّى أصبح لفرط تعلّقه وطول أمله يحسب أنّ ماله تركه خالدا في الدّنيا لا يموت (كَلَّا) حرف ردع أي ليس كما يظنّ أنّ المال أخلده ، وإنّما يخلده العلم والصّلاح ، ومنه قول عليّ عليه‌السلام : مات خزّان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدّهر. أو أنّ «كلّا» بمعنى حقّا.

(لَيُنْبَذَنَّ) جواب القسم ، وذكره بلفظ النبذ الدالّ على الإهانة لما أنّه كان يعتقد أنّه من أهل الكرامة (فِي الْحُطَمَةِ) وهي الّتي يحطم من وقع فيها وهي اسم من أسماء النّار ، والدّركة الثانية من دركاتها ، وقيل هي يحطم العظام وتأكل اللّحوم حتّى يهجم على القلوب ، وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال (١) إنّ الملك ليأخذ الكافر فيكسره على صلبه ، كما توضع الخشبة على الرّكبة فتكسر ثمّ يرمى بها إلى النّار ، ولعلّ في ذكر جهنّم بهذا الاسم تنبيها على أنّ الهامز يكسر غيره ليضع قدره ، فيلقيه في الحضيض فيقول تعالى فالحطمة يكسرك ويلقيك في حضيض جهنّم ، لكنّ الهمز ليس يكسر على الحقيقة أما الحطمة فإنّها يكسر كسرا لا تبقى ولا تذر.

(وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ) تهويل للأمر (نارُ اللهِ) في الإضافة تفخيم ، والمراد أنّها نار لا كسائر النّيران (الْمُوقَدَةُ) الّتي لا يخمد أبدا ، أو الموقدة بأمره أو بقدرته.

وفي الحديث (٢) أوقد عليها ألف سنة حتّى احمرّت ، وألف سنة حتّى ابيضّت

__________________

(١) أخرجه الإمام الرازي في تفسيره ج ٣٢ ص ٩٤.

(٢) أخرجه الإمام الرازي ج ٣٢ ص ٩٤ وأخرجه الخازن في تفسيره ج ٤ ص ٤٠٦ عن الترمذي عن أبي هريرة.

٤١٩

وألف سنة حتّى اسودّت فهي سوداء مظلمة.

(الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) تدخل في أجوافهم حتّى تصل إلى صدورهم وتطّلع على أفئدتهم ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد ولا أشدّ تألما منه بأدنى مماسة فكيف إذا اطّلعت نار جهنّم واستولت عليه ، ولعلّ تخصيص الأفئدة بذلك لأنّها مواطن الكفر والاعتقادات الخبيثة والنيّات الفاسدة ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ النّار (١) تأكل أهلها حتّى إذا اطّلعت على أفئدتهم انتهت ، ثمّ إنّها تأكل لحومهم وعظامهم مرّة. اخرى.

(إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) مطبقة من أصدت الباب وأوصدته (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) قرئ بضمّتين وبفتحتين وسكون الميم جمع عمود ، وهو المستطيل من الخشب أو الحديد والمعنى أنّها عليهم مؤصدة حال كونهم في المقاطير الّتي يقطر فيها اللّصوص.

اللهم نجّنا بكرمك من النّار].

(بسمه تعالى)

كان مرجعنا في تحقيق المتن نسخا أربعة تقدم ذكرها في صدر الجزء الأول وقد رمزنا في هذا الجزء للنسخة الأولى قض وللثانية چا وللثالثة عش وللرابعة سن فلا يذهب عليك.

محمد الباقر البهبودى

__________________

(١) تفسير النيسابوري تفسير سورة الهمزة والامام الرازي ج ٣٢ ص ٩٤.

٤٢٠