مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٢

جواد الكاظمي

مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٢

المؤلف:

جواد الكاظمي


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٣

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ) بترك المعاصي وفعل الطّاعات (وَأَهْلِيكُمْ) بأن تدعوهم إليها وتحثّوهم على فعلها (ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) أي يتّقد بهما كما يتّقد غيرها بالحطب ، وقيل : المراد بالحجارة هي حجارة الكبريت ، ومنع الأهل ذلك إنّما يكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وروى الكلينيّ عن أبى بصير في قوله عزوجل (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) قلت كيف أقيهم؟ قال تأمرهم بما أمر الله وتنهاهم عمّا نهاهم الله ، فإن أطاعوك كنت قد وقيتهم ، وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك ، وفيها دلالة على أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبغي أن يكون للأقرب فالأقرب ، ولذا ابتدأ بالنفس ثمّ بالأهل.

(عَلَيْها مَلائِكَةٌ) تلي أمرها زبانية موكلون بها (غِلاظٌ شِدادٌ) غلاظ الأقوال شداد الأفعال أو غلاظ في الأخلاق أقوياء على الأفعال الشديدة لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أمر الله تعالى ، والغضب له ، والانتقام من أعدائه ، وإن كانوا رقاق الأجسام لأنّ الظاهر من حال الملك أنّه روحانيّ فخروجه عن الرّوحانيّة كخروجه عن صورة الملائكة (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) فيتقبّلون أوامره ، ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أي يؤدّون ما يؤمرون به ، لا متثاقلين عنه ولا متوانين فيه.

قال الشيخ في التبيان (١) : وفي ذلك دلالة على أنّ الملائكة الموكّلين بالنّار وبعقاب العصاة معصومون من فعل القبائح لا يخالفون الله في أمره ، ويمتثلون كلّ ما يأمرهم به ، وعمومه يقتضي أنّهم لا يعصونه في صغيرة ولا كبيرة ، وقال الرّماني لا يجوز أن يعصى الملك في صغيرة ولا كبيرة لتمسّكه بما يدعو إليه العقل دون الطبع فإنّه لا يقع منه قبيح ، ثمّ قال : وقال الجبائي قوله تعالى (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) يعني في دار الدّنيا لأنّ الآخرة ليست دار تكليف إنّما هي دار جزاء ، وإنّما أمرهم الله بتعذيب أهل النّار على وجه الثواب لهم ، بأن جعل

__________________

(١) انظر التبيان ج ٢ ص ٦٩٠ ط إيران.

٣٨١

سرورهم ولذّاتهم في تعذيب أهل النّار كما جعل سرور المؤمنين ولذّاتهم في الجنّة.

الخامسة : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (١).

(وَسارِعُوا) بادروا (إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي الأعمال الموجبة للمغفرة كفعل الطّاعات واجتناب المعاصي ، والصّلوات الخمس والتوبة من الربا لأنّه ورد عقيب النهي عنه ، وفيها دلالة على استحباب المسارعة بأفعال الطّاعة ، فيستفاد منها الحثّ على الصّلوة في أوّل أوقاتها من غير توان وتكاسل ، إلّا ما خرج بالدّليل مثل تأخير العشاءين إلى المزدلفة وأصحاب الأعذار على القول بالتّأخير فيهم ، وبالجملة ما قام عليه دليل خرج من ذلك ، وإلّا فلا.

(وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) عطف على مغفرة ، أي وسارعوا إلى ما يوجب الجنّة ويستحقّ به من الطّاعات لأنّ الغفران ظاهره إزالة العقاب ، والجنّة معناها حصول الثواب ، ولا بدّ للمكلّف من تحصيل الأمرين ، والمراد وصفها بالسعة ، فإنّ العرب إذا وصفت الشيء بالسعة وصفته بالعرض. قال امرئ القيس بلاد عريضة وأرض أريضة ، أو كعرض السموات والأرض إذا ضمّ بعضها إلى بعض ، إذ من البيّن أنّ نفس السموات لا يكون عرضا للجنّة ، وقد صرّح بذلك في موضع آخر (كَعَرْضِ السَّماءِ) (٢) تشبيها بأوسع ما علمه النّاس [من مخلوقاته] وأبسطه للمبالغة في وصفها بالسعة.

قالوا : وإنّما ذكر العرض بالعظم دون الطّول ، للدّلالة على أنّ الطّول أعظم ، فانّ في العادة أنّ العرض أدنى من الطّول ، وإذا كان العرض هكذا فما ظنّك بالطّول ، وليس كذلك لو عكس الأمر ، أمّا كونها مع ذلك في السماء فالظاهر أنّ

__________________

(١) آل عمران : ١٣٣.

(٢) الحديد : ٢١.

٣٨٢

المراد به كون بعضها فيها ، بأن يكون البعض الآخر فوقها ، أو تكون أبوابها في السماء كما يقال في الدار بستان لاتّصال بابها إليها [أو المراد أنّها بتمامها فوق السموات تحت العرش لما روي عنه (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله الفردوس سقفها عرش الرّحمن] أو أنّها بتمامها فوق السماء ، وقول الحكماء أنّ ما فوق المحدّد لا خلأ ولا ملاء ، أو لا خرق ولا التيام في الأفلاك ، غير مسموع في الشريعة.

ولو قيل إنّ الجنة إذا كانت عرض السّموات والأرض فأين النّار؟ لقيل قد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سئل عن ذلك (٢) فقال إذا جاء اللّيل فأين النّهار؟ وهذه معارضة فيها إسقاط السّؤال ، لأنّ القادر على أن يذهب باللّيل حيث شاء قادر على أن يخلق النّار حيث شاء [أو أنّ المراد أنّ الفلك إذا دار حصل النّهار في جانب من العالم ، واللّيل في ضدّ ذلك الجانب ، فكذا الجنّة في جهة العلو والنّار في جهة السفل] (٣).

(أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) هيّئت لهم وظاهر الآية أنّ الجنّة مخلوقة ، لأنّها لا تكون معدّة إلّا وهي مخلوقة موجودة ، ويدلّ عليه بعض الأخبار ، وإلى هذا يذهب أصحابنا وصرّح الشيخ المفيد في بعض رسائله بأنّ الجنّة مخلوقة ومسكونة سكنتها الملائكة ويستفاد منها أنّ الغرض الأصليّ من بناء الجنّة دخول المتّقين أي المطيعين لله ورسوله بترك المعاصي وفعل الطّاعات ، وإن دخلها غيرهم من الأطفال والمجانين ، فعلى وجه التبع ، وكذا الفسّاق لو عفى عنهم.

ثمّ إنّه تعالى وصف المتّقين بقوله (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) في حالتي اليسر والعسر بمعنى أنّهم لا يخلون عن إنفاق في كلتا الحالتين ، ما قدروا عليه

__________________

(١) أخرجه النيسابوري في تفسير الآية ج ١ ص ٣٦٣ ط إيران.

(٢) المجمع ج ١ ص ٥٠٤ واللفظ فيه «إذا جاء النهار فأين الليل» وانظر أيضا الدر المنثور ج ٢ ص ٧٢ والجامع الصغير الرقم ٤٦٣٩ ج ٤ ص ٨٦ فيض القدير وتفسير النيسابوري ج ١ ص ٣٦٣ ط إيران.

(٣) زيادة : من سن ، وهكذا فيما سبق ويأتي.

٣٨٣

من كثير أو قليل ، أو المراد الإنفاق في جميع الأحوال لأنّ الإنسان لا يخلو في وقت من أوقاته عن مسرّة أو مضرّة ، فلا يمنعهم حال فرح وسرور ، ولا حال محنة وبلاء من إنفاق ما قدروا عليه.

(وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) الممسكين عليه الكافّين عن إمضائه مع القدرة ، من قولهم كظمت القربة إذا ملأتها وشددت رأسها ، ولعلّ الوجه في التعبير عن إمساك الغيظ بالكظم بهذا المعنى الإشارة إلى أنّه لا ينبغي أن يخرج منه شيء أصلا ، ولو قليلا ، فانّ المطلوب شدّ رأس القربة ، بحيث لا يترشّح منه شيء أصلا ، وإلّا لم يحصل الغرض.

(وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) بالصّفح والتجاوز ، وعدم المؤاخذة مع الجناية عليهم لكن ينبغي أن يكون بالنسبة إلى نفسه ، بحيث لا يؤول إلى إبطال الحدود والتعزيرات الشرعيّة ، والتّهاون فيها ، وفيه دليل على أنّ العفو عن الجاني مرغّب فيه مندوب إليه ، وإن لم يكن واجبا.

(وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) المحسن هو المنعم على غيره على وجه عار عن وجه القبح ، ويكون المحسن أيضا عبارة عن الفاعل للأفعال الحسنة من وجوه الطّاعات والقربات ، ويجوز أن يكون اللّام فيه للجنس فيتناول كلّ محسن ، ويدخل تحته هؤلاء المذكورون ، ويجوز أن يكون للعهد فيه فيكون إشارة إلى الموصوفين بالصّفات المذكورة كأنّه قيل : والله يحبّهم ، فعبّر عنهم بذلك ، ليدلّ على أنّ ذلك إحسان أيضا.

ومقتضى الآية أنّ الأوصاف المذكورة لها دخل في وصف التّقوى ، ولعلّ تقديم الإنفاق في العسر واليسر عليها لكونه أشقّ شيء على النفس ، وأدلّة على الإخلاص ولذا كثرت الأخبار في مدح السّخاء وذمّ البخل.

قال في مجمع البيان أوّل ما عدد الله سبحانه من أخلاق أهل الجنّة السّخاء ويؤيّد ذلك من الأخبار ما رواه أنس بن مالك (١) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال السّخاء شجرة

__________________

(١) المجمع ج ١ ص ٥٠٥ وقريب منه في المضمون الحديث بالرقم ٤٨٠٣ من الجامع الصغير ج ٤ ص ١٣٨ فيض القدير بعدة طرق عن عدة من الصحابة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فراجع.

٣٨٤

في الجنّة وأغصانها في الدّنيا من تعلّق بغصن من أغصانها قادته إلى الجنّة والبخل شجرة في الدّنيا أغصانها في النّار من تعلّق بغصن من أغصانها قادته إلى النّار.

وقريب من ذلك ما رواه الكليني (١) عن الوشّاء قال : سمعت أبا الحسن عليه‌السلام يقول السّخيّ قريب من الله قريب من الجنّة ، قريب من النّاس ، قال : وسمعته يقول السّخاء شجرة في الجنة من تعلّق بأغصانها دخل الجنّة.

وعن محمّد بن سنان (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : أتى رجل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله أيّ النّاس أفضلهم إيمانا فقال : أبسطهم كفّا.

وعن مسعدة بن صدقه عن (٣) جعفر عن آبائه عليهم‌السلام أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : السخيّ محبّب في السّموات محبّب في الأرض ، خلق من طينة عذبة ، وخلق ماء عينيه من ماء الكوثر والبخيل مبغّض في السّموات مبغّض في الأرض ، خلق من طينة سبخة وخلق ماء عينيه من ماء العوسج.

وعن جميل بن درّاج (٤) قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : خياركم سمحاؤكم

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ١٧٣ باب معرفة الجود والسخاء الحديث ٩ وهو في المرآة ج ٣ ص ٢٠٧ وفي الوافي الجزء السادس ص ٦٨ والوسائل الباب ٢٢ من أبواب النفقات الواجبة والمندوبة الحديث ٥ ج ٣ ص ١٤٢ ط الأميري.

وقريب منه ما رواه في المجمع ج ١ ص ٥٠٥ عن على عليه‌السلام ومثله في الجامع الصغير بالرقم ٤٨٠٤ عن عدة من الصحابة عن النبي (ص) بعدة طرق ج ٤ ص ١٣٨ فيض القدير مع تفاوت يسير فراجع.

(٢) الكافي ج ١ ص ١٧٣ باب معرفة الجود والسخاء الحديث ٧ وهو في المرآة ج ٣ ص ٢٠٧ والوافي الجزء السادس ص ٦٧ والوسائل الباب ٢٢ من أبواب النفقات الواجبة والمندوبة الحديث ٣ ج ٣ ص ١٤٢ ط الأميري.

(٣) الكافي ج ١ ص ١٧٢ باب معرفة الجود والسخاء الحديث ٣ وهو في المرآة ج ٣ ص ٢٠٧ والوافي الجزء السادس ص ٦٧ والوسائل الباب ٢٢ من أبواب النفقات الحديث ١ ج ٣ ص ١٤٢ ط الأميري والعوسج نوع من الشوك.

(٤) الكافي ج ١ ص ١٧٣ باب معرفة الجود والسخاء الحديث ١٥ وهو في المرآة ـ

٣٨٥

وشراركم بخلاؤكم ، ومن خالص الايمان البرّ بالإخوان والسعي في حوائجهم ، وإنّ البارّ بالإخوان ليحبّه الرحمن ، وفي ذلك مرغمة للشيطان ، وتزحزح من النّيران ودخول الجنان ، يا جميل أخبر غرر أصحابك قلت : جعلت فداك من غرر أصحابي قال : هم البارّون بالإخوان ، في العسر واليسر ، ثمّ قال يا جميل أما إنّ صاحب الكثير يهون عليه ذلك ، وقد مدح الله في ذلك صاحب القليل فقال في كتابه (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١).

وعن مسعدة بن صدقة (٢) قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام لبعض جلسائه : ألا أخبرك بشيء يقرّب من الله ، ويقرّب من الجنّة ويباعد من النّار؟ فقال : بلى ، فقال عليك بالسّخا ، فانّ الله خلق خلقا برحمته لرحمته ، فجعلهم للمعروف أهلا ، وللخير موضعا وللنّاس وجها ، يسعى إليهم لكي يحيوهم ، كما يحيي المطر الأرض ، أولئك هم المؤمنون الآمنون يوم القيمة والاخبار في ذلك كثيرة.

ثمّ إنّه تعالى عدّ بعد ذلك من أخلاق أهل الجنّة كظم الغيظ ، وممّا جاء في الأخبار ما رواه أبو أمامة (٣) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كظم غيظه وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله يوم القيمة برضاه وفي خبر آخر ملأه الله يوم القيامة أمنا وإيمانا.

وروى الكلينيّ عن سيف بن عميرة قال : حدّثني من سمع أبا عبد الله عليه‌السلام

__________________

ـ ج ٣ ص ٢٠٧ ورواه في الفقيه ج ٢ ص ٣٣ بالرقم ١٣٤ وهو في الوافي الجزء السادس ص ٦٨ والوسائل الباب ٢٩ من أبواب الصدقة الحديث ٢ ج ٢ ص ٥٣ ط الأميري.

(١) الحشر : ٩.

(٢) الكافي ج ١ ص ١٧٣ باب معرفة الجود والسخاء الحديث ١٢ وهو في المرآة ج ٣ ص ٢٠٧ وفي الوافي الجزء السادس ص ٦٨ والوسائل الباب ٢٢ من أبواب النفقات الحديث ٩ ج ٣ ص ١٤٢ ط الأميري.

(٣) المجمع ج ١ ص ٥٠٥ ورواه مرسلا في الكشاف ج ١ ص ٤١٥ بلفظ ملا الله قلبه أمنا وايمانا ومثله أيضا في المجمع وذكر ابن حجر في الكاف الشاف طرقه ورواه ـ

٣٨٦

يقول : من كظم غيظا ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة برضاه (١).

وعن الوصّافي (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : من كظم غيظا وهو يقدر على إمضائه حشى الله قلبه أمنا وإيمانا يوم القيمة.

وعن عليّ بن الحسين عليه‌السلام (٣) قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أحبّ السبيل إلى الله عزوجل جرعتان : جرعة غيظ يردّها بحلم ، وجرعة مصيبة يردّها بصبر وعن أبى عبد الله (٤) عليه‌السلام أنّه قال ما من عبد كظم غيظا إلّا زاده الله عزوجل عزّا في الدنيا والآخرة الحديث ، والأخبار في ذلك كثيرة.

ثمّ إنّ الله تعالى عدّد من أخلاق أهل الجنّة العفو عن النّاس ، وممّا جاء في

__________________

ـ في الجامع الصغير مثل لفظ الكشاف بالرقم ٨٩٩٧ ج ٦ ص ٢١٧ فيض القدير عن ابن أبى الدنيا عن أبي هريرة وفي فيض القدير طرق أخر للحديث وألفاظ أخر مثل زوجه الله من الحور العين أو دعاه الله على رؤس الخلق يوم القيمة حتى يزوجه من أى الحور شاء ، وأمثالها فراجع ، وأورده بلفظ الكشاف في ميزان الاعتدال ج ٢ ص ٥٣٥ الرقم ٤٧٥٠ ترجمة عبد الجليل.

(١ و ٢) أصول الكافي باب كظم الغيظ الحديث ٦ و ٧ وفي المرآة ج ٣ ص ١٢٢ والوافي الجزء الثالث ص ٨٦ وفي الوسائل الباب ١١٤ من أبواب أحكام العشرة الحديث ٨ و ٩ ج ٢ ص ٢٢٤ ط الأميري.

(٣) أصول الكافي باب كظم الغيظ الحديث ٩ وهو في المرآة ج ٢ ص ١٢٢ والوافي الجزء الثالث ص ٨٦ وفي الوسائل الباب ١١٤ من أبواب أحكام العشرة الحديث ٤ ج ٢ ص ٢٢٤.

(٤) أصول الكافي باب كظم الغيظ الحديث ٥ وهو في المرآة ج ٢ ص ١٢٢ والوافي الجزء الثالث ص ٨٤ وتتمة الحديث : وقد قال الله تعالى (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وأثابه الله مكان غيظه ذلك وفي المرآة بيان لطيف في شرح الحديث ، فراجع والحديث في الوسائل الباب ١١٤ من أبواب أحكام العشرة الحديث ٥ ج ٢ ص ٢٢٤.

٣٨٧

الأخبار ما رواه الكليني (١) في الحسن عن عبد الله بن سنان عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبة. ألا أخبركم بخير خلائق الدّنيا والآخرة؟ العفو عمّن ظلمك ، وتصل من قطعك ، والإحسان إلى من أساء إليك ، وإعطاء من حرمك.

وعن حمران بن أعين (٢) قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام ثلاث من مكارم الدّنيا والآخرة تعفو عمّن ظلمك ، وتصل من قطعك ، وتحلم إذا جهل عليك.

وعن السّكوني (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليكم بالعفو فانّ العفو لا يزيد العبد إلّا عزّا فتعافوا يعزّكم الله ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما عفا رجل عن مظلمة قطّ إلّا زاده الله بها عزّا والاخبار في ذلك كثيرة وفيما ذكرناه كفاية.

(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) فعلة متزايدة في القبح (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أو أذنبوا أيّ ذنب كان ، ممّا يؤاخذون به ، وقيل الفاحشة الزّنا ، وظلم النفس سائر المعاصي وقيل الفاحشة الكبائر ، وظلم النفس الصغائر ، ويحتمل كون الفاحشة المعصية فعلا والظلم المعصية قولا ، أو كون الفاحشة الظلم على الغير بتضييع حقوقه ، وظلم النفس الظلم عليها بتضييع حقوق الله تعالى.

(ذَكَرُوا اللهَ) تذكّروا وعيده ، أو حقّه العظيم ، وجلاله الموجب للخشية

__________________

(١) أصول الكافي باب العفو الحديث ١ وهو في المرآة ج ٢ ص ١٢٠ والوافي الجزء الثالث ص ٨٣ والخلائق جمع الخليقة وهي الطبيعة وفي بعض النسخ أخلاق الدنيا مكان خلائق والحديث في الوسائل الباب ١١٣ من أبواب أحكام العشرة الحديث ١ ج ٢ ص ٢٢٣ ط الأميري وروى مثله في مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٨٧ عن مجالس الشيخ عن ابن سنان عن أبى عبد الله وفي آخره وفي التباغض الحالقة لا أعني حالقة الشعر ولكن حالقة الدين.

(٢) أصول الكافي باب العفو الحديث ٣ وهو في المرآة ج ٢ ص ١٢١ والوافي الجزء الثالث ص ٨٣ وهو في الوسائل الباب ١١٣ من أبواب العشرة الحديث ٣.

(٣) أصول الكافي باب العفو الحديث ٥ وهو في المرآة ج ٢ ص ١٢١ والوافي الجزء الثالث ص ٨٣.

٣٨٨

والحياء منه ، أو ذكروه بالثناء والتعظيم ، فانّ من دأب المسئلة والدّعاء تقديم التعظيم.

(فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) فتابوا عنها بأن ندموا على ما وقع منهم من القبيح ، وعزموا على أن لا يعودوا إليه ، فأمّا الاستغفار بمجرّد اللّسان فلا أثر له في إزالة الذنب ، وإنّما يجب إظهار هذا الاستغفار لازالة التهمة ، ولإظهار كونه منقطعا إلى الله تعالى.

(وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) استفهام بمعنى النفي ، بيّن فيه وصف ذاته بسعة الرّحمة ، وعموم المغفرة ، وأنّه لا مفزع للمذنبين سواه ، وترغيب للعاصين في التوبة وطلب المغفرة.

وإسقاط العقاب بالتوبة عندنا تفضّل منه سبحانه وتعالى ، لا أنّه واجب عقليّ كما هو الظاهر من الكشاف ، حيث استدلّ عليه بأنّ العبد إذا جاء في الاعتذار والتفضّل بأقصى ما يقدر عليه وجب العفو والتجاوز ، فانّ ذلك في محلّ المنع ، إذ العقل لا يقبّح الانتقام والانتصاف بل ذلك محض العدل كما أشار إليه المحقّق الطوسيّ في التجريد.

وقد أجمع أصحابنا الإماميّة على عدم وجوب سقوطه عقلا ، نعم هو ساقط نقلا بمقتضى وعده ، وقد نقله الطبرسيّ في مواضع من مجمع البيان ، نعم استحقاق الثواب بالتوبة واجب عقلا ، لأنّه لو لم يكن مستحقّا بالتوبة لقبح تكليفه بها ، لما فيها من المشقّة ، وقد بسطنا الكلام في مواضع من كتابنا هذا.

والجملة وقعت معترضة بين المعطوف عليه والمعطوف وهو قوله (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) ولم يقيموا على ذنوبهم وهو من تتمّة التوبة ، فإنّ مجرّد الاستغفار مع الإصرار لا يكفى فيها ، وإنّما يؤثر عند ترك الإصرار.

وقد روى (١) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار

__________________

(١) المجمع ج ١ ص ٥٠٦ وعنه نور الثقلين ج ١ ص ٣٢٧ بالرقم ٤٧٢ ومثله الحديث عن أبى عبد الله رواه في أصول الكافي باب الإصرار على الذنوب الحديث ١ وهو في المرآة ج ٢ ص ٢٦٦ وللمجلسي قدس‌سره عليه شرح مبسوط فراجع. ـ

٣٨٩

يعني أنّه لا يبقى كبيرة مع التوبة والاستغفار ، ولا تبقى الصغيرة صغيرة مع الإصرار بل تصير كبيرة ، ومعنى الإصرار على الذّنب أن يكون عازما على إيقاعه كلما أراده بحيث لا يتحاشى عنه ، لا أن يكون متلبّسا به في جميع الأوقات ، فإنّ ذلك غير معتبر في معناه لغة ولا عرفا ، بل الظاهر ما قلناه يقال : فلان مصرّ على شرب الخمر ، ويريدون أنّه لا يتحاشى عنه ، ويشربه كلّما أراده.

وبالجملة فالإصرار إمّا فعلىّ كالمواظبة على نوع أو أنواع من الصّغائر ، بأن يكون مقيما على فعلها ، وإما حكميّ وهو العزم على فعلها ثانيا بعد وقوعه وإن لم يفعل ، وقريب من ذلك ما قاله ابن عبّاس (١) : الإصرار السّكون على الذنب بترك التوبة والاستغفار منه.

ورواه الكلينيّ (٢) عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله عزوجل (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) قال الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر ، ولا يحدّث نفسه بتوبة ، فذلك الإصرار ، وعلى هذا فعدم الإصرار إنّما يتحقّق بالعزم على عدم العود والإقلاع عنه بالمرّة. وأنّ تركه مرّة أو مرارا مع العزم عليه ، لا ينافي الإصرار والإقامة على الذّنب.

__________________

ـ وهو في الوافي الجزء الثالث ص ١٦٨ وفي الوسائل الباب ٤٧ من أبواب جهاد النفس الحديث ٣ وأخرجه في الكشاف بلفظ لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار وفي الكاف الشاف المطبوع ذيله ج ١ ص ٤١٦ ط دار الكتاب العربي تخريجه ورواه كذلك أيضا في مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٣١٩ عن القضاعي في كتاب الشهاب.

(١) نقله عنه في المجمع ج ١ ص ٥٠٦.

(٢) أصول الكافي باب الإصرار على الذنوب الحديث ٢ وهو في المرآة ج ٢ ص ٢٦٧ وعليه شرح مبسوط وهو في الوافي الجزء الثالث ص ١٦٨ وروى مثله العياشي ج ١ ص ١٩٨ بالرقم ١٤٤ ، ونقله عنه في البحار ج ٣ ص ١٠١ ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ٣١٩ والبرهان ج ١ ص ٣١٥ والحديث في الوسائل الباب ٤٧ من أبواب جهاد النفس الحديث ٤ ج ٢ ص ٤٦٦.

٣٩٠

وقد ظهر ممّا ذكرناه أنّه لو فعل الصّغيرة مرّة واحدة غير عازم على العود إليها لم يخرج بذلك عن العدالة ، ولم يحتج إلى التوبة ، وهو المشهور بين الفقهاء ، فإنّ الصّغيرة عندهم لا يقدح في العدالة من دون إصرار ، ولكن في الأخبار ما يدلّ على التوبة منه أيضا كالخبر السابق ، وأنّه بدون التوبة يكون مصرّا وهو الظاهر من القاضي (١) فإنّه قال : عند قوله (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) ولم يقيموا على ذنوبهم غير مستغفرين ، لقوله عليه‌السلام ما أصرّ من استغفر ، وإن عاد في اليوم سبعين مرّة ، ونحوه في الكشّاف (٢).

والظاهر أنّ مرادهما بالاستغفار التوبة تفسيرا للإصرار ، فما لم يتب يكون مصرّا ، ولكن يلزم عدم الفرق بين الكبيرة والصغيرة في أنّه لا يغفر إلّا مع التوبة وبدونها يكون فاسقا ، وهو خلاف المشهور كما عرفت.

(وَهُمْ يَعْلَمُونَ) قال في مجمع البيان (٣) يحتمل وجوها أحدها أنّ معناه وهم يعلمون الخطيئة ذاكرين لها غير ساهين ولا ناسين ، لأنّه تعالى يغفر للعبد ما نسيه من ذنوبه وإن لم يتب منه بعينه عن الجبائيّ والسدّي.

وثانيها أنّ معناه يعلمون الحجّة في أنّها خطيئة ، فإذا لم يعلموا أولا طريق لهم إلى العلم به ، كان الإثم موضوعا عنهم ، كمن تزوّج بامّه من الرضاع أو النّسب وهو لا يعلم به ، فإنّه لا يأثم ، وهذا قول ابن عبّاس والحسن.

وثالثها أنّ المراد وهم يعلمون أنّ الله يملك مغفرة ذنوبهم عن الضحّاك ، ولا يذهب عليك أنّ الظاهر من الآية الأوّل ، والجملة حال من فاعل «يصرّوا» قيد للمنفيّ لا للنفي.

__________________

(١) البيضاوي ص ٨٩ ط المطبعة العثمانية.

(٢) الكشاف ج ١ ص ٤١٦ وفي الكاف الشاف أخرجه أبو داود والترمذي وأبو يعلى والبزار وأخرجه البيضاوي أيضا وأخرجه السيوطي في الجامع الصغير بالرقم ٧٨٢٢ ج ٥ ص ٤٢٢ فيض القدير وفيه على الحديث شرح مبسوط فراجع.

(٣) المجمع ج ١ ص ٥٠٦.

٣٩١

(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) خبر عن «الّذين» إن جعل مبتدءا وجملة مستأنفة مبيّنة لما قبلها إن عطف «الّذين» على «المتّقين» أو على «الّذين ينفقون» فيكون المعنى أنّ الجنّة معدّة للمتّقين والتائبين بمعنى أنّ الغرض الأصليّ من خلقها دخولهم ، وحينئذ فلا ينافي ذلك دخول غيرهم ، وهم المصرّون كما أنّ النّار معدّة للكفّار جزاء لهم على كفرهم ، ومع ذلك يدخلها غيرهم من الفسّاق.

فقول صاحب الكشاف وفي هذه الآيات بيان قاطع أنّ الّذين آمنوا على ثلاث طبقات : متّقون ، وتائبون ، ومصرّون ، وأنّ الجنّة للمتّقين والتائبين منهم دون المصرّين ، فمن خالف ذلك. فقد كابر عقله وعاند ربّه.

مدفوع بما بيّناه ، وبما دلّ على دخول المصرّين الجنّة من الآيات الصّريحة في العفو والتفضّل والإحسان والمغفرة لمن يشاء ، وعموم قوله «من عمل صالحاً يجزيه» (١) وسائر ما يدلّ على وجوب إيصال ثواب العمل إلى صاحبه ، وبعد خلود النّار من فعل ذنبا واحدا آخر عمره ولم يتب عنه ، مع صرف أكثر عمره في الطاعة والعبادة ، وما ذكره مبنىّ على الإحباط وعلى أنّ كلّ ذنب كفر ، وعلى عدم جواز العفو ، وهي باطلة عندنا بما قام من الأدلّة العقليّة على بطلانها.

على أنّا لو سلّمنا دلالتها على أنّ الجزاء وأجر العمل الموجب لدخول الجنّة مخصوص بالمتّقين والتّائبين ، فلا يدلّ على عدم دخول غيرهما بالتفضّل والإحسان والعفو وكظم الغيظ الّتي مدح الله تعالى عباده المتّصفين بها وحثّهم عليها ، فيبعد أن يمنع نفسه وهو كريم على الإطلاق لا يزيد في ملكه الطّاعة ولا ينقصه المعصية ، هذه الصّفات الكاملة مع ترغيبه فيها للعبد الّذي الانتقام كالخلق والطّبع له.

ولأنّ الدّلالة على ذلك إنّما هي بالمفهوم الضّعيف ، فلا يصار إليه مع تصريح المنطوق بخلافه ، قال تعالى في سورة الحديد (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ

__________________

(١) النساء : ١٢٣.

٣٩٢

عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) (١) فعلم من ذلك أنّ ذكر المتّقين هنا للاهتمام أو لغيره لا للحصر ، وتنكير جنّات على تقدير كون «أولئك» خبر «الّذين» للدّلالة على أنّ ما لهم أدون ممّا للمتّقين الموصوفين بتلك الصّفات المذكورة في الآية المتقدّمة ، وكفاك فارقا بين القبيلين أنّه فصل آيتهم بأن بيّن أنّهم محسنون مستوجبون لمحبّة الله ، وذلك لأنّهم حافظوا على حدود الشّرع وتخطّوا إلى التخصيص بمكارمه ، وفصل آية هؤلاء بقوله (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) نظرا إلى أنّ المتدارك لتقصيره ، كالعامل لتحصيل بعض ما فوّت على نفسه ، وفرق ما بين المحسن والمتدارك ، والمحبوب والأجير ، ولعلّ في تبديل لفظ الجزاء بالأجر إشارة إلى هذه النكتة ، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره «ونعم أجر العاملين ذلك» يعني المغفرة والجنّات.

السادسة : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (٢).

(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) أي القرآن ، وقرئ نزّل على البناء للمجهول ونائب الفاعل قوله (أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ) وهي المخفّفة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ، والمعنى أنّه إذا سمعتم آيات الله (يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) وهما حالان من الآيات (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) وهو جزاء «إذا» الشرطيّة و «غيره» صفة «حديث» والمراد نهي المؤمنين عن مجالسة المعاندين المستهزئين ، وقت إظهار العناد والكفر والاستهزاء بالآيات منهم ، فضمير «معهم» يرجع إلى الكفّار

__________________

(١) الحديد : ٢١.

(٢) النساء : ١٤٠.

٣٩٣

والمستهزئين المدلول عليه بقوله (يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها).

وهذا تذكار لما نزل عليهم بمكّة من قوله في سورة الانعام (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (١) الآية ، وذلك أنّ المشركين بمكّة كانوا يخوضون في ذكر القرآن في مجالسهم فيستهزؤن به ، فنهي المسلمون عن القعود معهم ما داموا خائضين فيه ، فكان أحبار اليهود بالمدينة يفعلون نحو فعل المشركين ، فنهوا أن يقعدوا معهم كما نهوا عن مجالسة المشركين بمكّة ، وكان الّذين يقاعدون الخائضين في القرآن من الأحبار هم المنافقون.

(إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) في الإثم لأنّكم لم تنكروا عليهم مع قدرتكم على الإنكار والاعراض ، أو مثلهم في الكفر إن رضيتم به ، لأنّ الرضا بالكفر كفر والرّاضي به كافر قطعا ، وإنّما لم يكن المسلمون بمكّة حين كانوا يجالسون المشركين الخائضين بمثابتهم لأنّهم كانوا عاجزين عن الإنكار ، فكان تركهم الإنكار لعجزهم وهؤلاء لم ينكروا مع قدرتهم فكان ذلك عن رضى منهم.

(إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) أي يجمع الفريقين وهم القاعدون والمقعود معهم في النّار والعقوبة فيها كما اتّفقوا في الدّنيا على عداوة المؤمنين ، والمظاهرة عليهم ، وفي الآية دلالة واضحة على وجوب إنكار المنكر مع القدرة ، وزوال العذر ، وأنّ من رضى بالكفر فهو كافر ، ومن رضى بمنكر رآه وخالط أهله ـ وإن لم يباشر الفعل ـ كان شريكهم في الإثم ، وأنّ من ترك الإنكار مع القدرة عليه فهو مخطئ آثم.

قال جماعة من المفسّرين : ومن ذلك ما إذا تكلّم الرجل في مجلس بكذب فيضحك منه جلساؤه فيسخط الله عليهم وروى العياشي (٢) بإسناده عن عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام

__________________

(١) الأنعام : ٦٨.

(٢) العياشي ج ١ ص ٢٨١ الرقم ٢٩٠ وحكاه في البحار ج ٢١ ص ١١٧ والبرهان ج ١ ص ٤٢٣ ونور الثقلين ج ١ ص ٤٦٧ الرقم ٦٢٨ ونقله عن العياشي أيضا في المجمع ج ٢ ص ١٢٧.

٣٩٤

في تفسير هذه الآية قال : إذا سمعت الرّجل يجحد الحقّ ويكذب به ، ويقع في أهله فقم من عنده ولا تقاعده ، وروى الكلينيّ في (١) الصّحيح عن شعيب العقرقوفيّ قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها) إلى آخر الآية ، قال إنّما عنى بهذا الرّجل يجحد الحقّ ويكذب به ويقع في الأئمّة ، فقم من عنده ولا تقاعده كائنا من كان.

وفي الحسن عن عبد الأعلى (٢) قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدنّ في مجلس يعاب فيه إمام أو ينتقص فيه مؤمن ، وعن عبد الأعلى بن أعين (٣) عنه عليه‌السلام قال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس مجلسا ينتقص فيه إمام أو يعاب فيه مؤمن ، وعن عبد الله بن صالح (٤) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : لا ينبغي للمؤمن أن يجلس مجلسا يعصى الله فيه ، ولا يقدر على تغييره

__________________

(١) أصول الكافي باب مجالسة أهل المعاصي الحديث ٨ وهو في المرآة ج ٢ ص ٣٦٩ والوافي الجزء الثالث ص ١٧٤ ونور الثقلين ج ١ ص ٤٦٧ الرقم ٦٢٦ الوسائل الباب ٣٨ من أبواب الأمر والنهي الحديث ٦ وروى قريبا منه العياشي أيضا عن شعيب ج ١ ص ٢٨٢ الرقم ٢٩١ ونقله عنه في البحار ج ٢١ ص ١١٧ والبرهان ج ١ ص ٤٢٣ ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ٣٨٧.

(٢) أصول الكافي باب مجالسة أهل المعاصي الحديث ١١ وهو في المرآة ج ٢ ص ٣٦٩ والوافي الجزء الثاني ص ٥٦ باب الناصب ومجالسته وهو في الوسائل الباب ٣٨ من أبواب الأمر والنهي من كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحديث ٧ ج ٣ ص ٥٠٩ ط الأميري.

(٣) أصول الكافي باب مجالسة أهل المعاصي الحديث ٩ وهو في المرآة ج ٢ ص ٢٦٩ ، والوافي الجزء الثالث ص ١٧٤ ونقله في الوسائل في الباب المذكور في الحديث السابق.

(٤) أصول الكافي باب مجالسة أهل المعاصي الحديث ١ ، وهو في المرآة ج ٢ ص ٢٦٥ ، والوافي الجزء الثالث ص ١٧٤ ، والوسائل الباب السابق الحديث ٤.

٣٩٥

وعن زرارة (١) عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : من قعد في مجلس يسبّ فيه إمام من الأئمّة يقدر على الانتصاف ولم يفعل ألبسه الله الذّلّ في الدّنيا ، وعذّبه في الآخرة ، وسلبه صالح ما منّ عليه من معرفتنا ، والاخبار في ذلك كثيرة هذا.

وقد يظهر من الآية جواز مجالستهم في غير ذلك ، كما لو خاضوا في حديث غيره وإن كانوا كفّارا مستهزئين وهو الظاهر من الكشاف والقاضي (٢) على أن يكون «حتّى» غاية للتحريم ، ولا يخفى أنّه خلاف المشهور بين العلماء ، فإنّهم يقولون بتحريم الاختلاط مع الفسّاق ووجوب الاعراض عنهم ، وتحريم الميل إليهم ، وفي الاخبار دلالة على ذلك أيضا :

روى الكلينيّ (٣) ـ رحمه‌الله ـ عن عمر بن يزيد في الصّحيح عن أبى عبد الله عليه‌السلام : قال لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند النّاس كواحد منهم

__________________

(١) أصول الكافي باب مجالسة أهل المعاصي الحديث ١٥ وهو في المرآة ج ٢ ص ٣٧٠ والوافي الجزء الثاني باب الناصب ومجالسته ص ٥٦ والوسائل الباب السابق الحديث ٤.

(٢) انظر الكشاف ج ١ ص ٥٧٨ ط دار الكتاب العربي حيث قال «فنهى المسلمون عن القعود معهم ما داموا خائضين فيه» وفي البيضاوي ص ١٣٢ ط المطبعة العثمانية أن يكفر بها ويستهزئ بها حالان من الايات جيء بهما لتقييد النهي عن المجالسة في قوله فلا تقعد معهم حتى يخوضوا في حديث غيره الذي هو جزاء الشرط بما إذا كان من يجلسه هازئا معاندا غير مرجو ويؤيده الغاية.

(٣) أصول الكافي باب مجالسة أهل المعاصي الحديث ٣ وهو في المرآة ج ٢ ص ٣٦٦ والوافي الجزء الثالث ص ١٧٤ وتتمة الحديث قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله العرء على دين خليله وقرينه ورواه في الوسائل الباب ٣٨ من أبواب الأمر والنهي الحديث ١ ج ٢ ص ٥٠٩ ط الأميري ، وفي الباب ٢٧ من أبواب أحكام العشرة الحديث ١ ج ٢ ص ٢٠٨.

٣٩٦

وفي الصحيح عن داود بن سرحان (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبّهم والقول فيهم ، والوقيعة الحديث ، وعن عليّ بن الحسين (٢) عليه‌السلام يا بنىّ انظر خمسة فلا تصاحبهم ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق ، وعدّ منهم الكذّاب والفاسق والبخيل والأحمق والقاطع لرحمه ، ونحوها من الاخبار الدّالّة على النهي عن المجالسة مطلقا بل المرافقة ، وكفاك دليلا على ذلك ظاهر قوله تعالى (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (٣) ولا يراد من الظّالم سوى من كان مقارفا للذنوب والمعاصي غير مرتدع عنها ، وعلى هذا يمكن حمل الآية على أنّ حتّى لتعليل النهي ، والمعنى لا تقعدوا معهم حتّى يتركوا ذلك ، فانّ الجلوس عندهم قد يكون سببا للاستهزاء والكفر فإنّهم قد يقصدون إغاظة المسلمين ، فإذا لم يكونوا معهم رأسا لم يخوضوا فيه ، أو أنّ الجلوس عندهم قد يكون سببا لذكر آلهتهم فيريدون انتقام ذلك فيكفرون ويستهزؤن بالآيات.

[(وَلا تَرْكَنُوا) (٤) بفتح الكاف وضمّها مع فتح التاء والركون هو الميل اليسير (إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) الّذين وجد منهم الظلم ، والمراد لا تميلوا إليهم أدنى ميل كما هو

__________________

(١) أصول الكافي باب مجالسة أهل المعاصي الحديث ٤ وهو في المرآة ج ٢ ص ٣٦٦ وفيه بسط كلام في شرح الحديث وللحديث تتمة ورواه في الوسائل في الباب ٣٩ من أبواب الأمر والنهي من كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحديث ١ ج ٢ ص ٥١٠ ط الأميري.

(٢) أصول الكافي باب مجالسة أهل المعاصي الحديث ٧ وهو في في المرآة ج ٢ ص ٣٦٨ والوافي الجزء الثالث ص ١٠٥ والحديث طويل وفي المرآة عليه شرح مبسوط فراجع ورواه في الوسائل في الباب ١٧ من أبواب العشرة الحديث ١ ج ٢ ص ٢٠٦ ط الأميري.

(٣) هود : ١١٢.

(٤) ذكر هذه الآية من مختصات نسخة سن وهي تحت عنوان : السابعة.

٣٩٧

ظاهر معنى الركون والنّهى يتناول الانحطاط في هواهم ، والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم ، والرضي بأعمالهم والتشبّه بهم ، والتزيّي بزيّهم ومدّ العين إلى زهرتهم وذكرهم بما فيه تعظيم قولهم ، واستدامة ذكرهم فأما مداخلتهم لدفع ضرر عنه أو عن أحد من المؤمنين فلا قصور فيه.

(فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) بركونكم إليهم ، وإذا كان الرّكون إلى من وجد منه ما يسمّى ظلما بهذه المثابة فما ظنّك بالركون إلى الظّالمين أي الموسومين بالظّلم ثمّ الميل إليهم كلّ الميل ، وقد نقل عن بعض الأكابر أنّه لمّا قرأ الآية غشي عليه فلمّا أفاق قيل له فقال هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم؟ وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دعا لظالم بالبقاء فقد أحبّ أن يعصى الله في أرضه (١) وفي الآية دلالة على النهي عن الظلم والتهديد عليه على أبلغ وجه بمسيس النّار إذ كان يحصل بأدنى ميل إلى من ظلم فكيف بالظّلم نفسه والانهماك فيه.

(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) حال من قوله (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) أي فتمسّكم النار وأنتم على هذه الحال ، والمعنى وما لكم من دون الله من أنصار يقدرون على منعكم من عذابه (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) أي ثمّ لا ينصركم هو لأنّه وجب في حكمته تعذيبكم وترك الإبقاء عليكم و «ثمّ» لاستبعاد نصره إيّاهم وقد أوعدهم بالعذاب وأوجبه لهم

__________________

(١) الحديث أخرجه الكشاف ج ٢ ص ٤٣٤ عند تفسير الآية قال ابن حجر في الشاف الكاف قد رواه البيهقي في السادس والستين من الشعب من رواية يونس بن عبد عن الحسن من قوله وذكره أبو نعيم في الحلية من قول سفيان الثوري.

وقال ملا علي القارئ في الموضوعات الكبير ص ١١٩ بعد ذكره الحديث ذكره الغزالي في الاحياء والزمخشري في تفسيره قال السخاوي ولم نره في المرفوع بل أخرجه أبو نعيم في الحلية من قول سفيان الثوري وقال ابن الجوزي وكل ما يروى في معناه موضوع أى بحسب إسناده ومبناه ، والا فلا شك في صحة معناه ، وقد قال العراقي في تخريج أحاديث الاحياء رواه ابن أبى الدنيا في كتاب الصمت في قول الحسن البصري وكذا قال العسقلاني في تخريج الكشاف انتهى.

٣٩٨

ويجوز أن يكون منزّلا منزلة الفاء بمعنى الاستبعاد ، فإنّه لما بيّن أنّ الله تعالى معذّبهم وأنّ غيره لا يقدر على نصرهم أنتج ذلك أنّهم لا ينصرون أصلا].

السابعة : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (١).

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) ظاهره أنّ الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحتمل أن يكون له والمراد غيره من قبيل إيّاك أعني واسمعي يا جاره (٢) [وقيل إنّ

__________________

(١) الانعام : ٦٨ و ٦٩.

(٢) المثل يضرب لمن يتكلم بكلام ويريد شيئا غيره ذكره الميداني في مجمع الأمثال ج ١ ص ٤٩ بالرقم ١٨٧ ط مطبعة السعادة ونظمه الشيخ إبراهيم بن السيد على الأحدب الطرابلسي في كتابه فرائد اللآل في مجمع الأمثال ج ١ ص ٤٠ فقال :

يا نفس وعظي لك بالإشارة

إياك أعني واسمعي يا جاره

من قول سهل بن مالك الفزاري لما مر بحي حارثة بن لام الطائي فلم يره وقد رأى أخته أجمل امرأة وكانت عقيلة قومها فعلق بها فقال يعرض بذلك :

يا أخت خير البدو والحضاره

كيف ترين في فتى فزارة

أصبح يهوى حرة معطاره

إياك أعني واسمعي يا جاره

فلما سمعت ذلك عرفت أنه يعنيها فقالت ما ذا بقول ذي عقل أديب ، ولا رأى مصيب ، ولا ألف نجيب فأقم ما أقمت مكرما ثم ارتحل متى شئت مسلما ، وأجابته بقولها :

انى أقول يا فتى فزارة

لا أبتغي الزوج ولا الدعارة

ولا فراق أهل هذى الجارة

فارحل إلى أهلك باستخارة

فاستحيى وقال ما أردت منكرا ، واسوأتا قالت صدقت كأنها استحيت من تسرعها ـ

٣٩٩

الخطاب لغيره] ومعنى الخوض التكذيب ، وأصله التّخليط في المفاوضة على سبيل العبث واللّعب ، وترك التفهيم والتبيّن ، وقريب منه قول المفسّرين أنّه في الآية الشروع في آيات الله على سبيل الطعن والاستهزاء وقد كان قريش في أنديتهم يفعلون ذلك (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي اتركهم ولا تجالسهم (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) قد تقدّم الكلام في ذلك.

(وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ) أي إن أنساك الشّيطان النهي عن الجلوس معهم (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فلا تقعد معهم في شيء من المجالس بعد أن تذكر النهي عن المجالسة ، ووضع الظاهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم ، ويجوز أن يكون المراد إن كان الشيطان ينسينّك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنّها ممّا تنكره العقول ، فلا تقعد بعد أن ذكّرناك قبحها ونبّهناك عليه ، بالنّهي عن المجالسة معهم.

وإضافة الإنساء إلى الشيطان مع أنّه من الله تعالى لأنّه تعالى أجرى عادته بأن يفعل النّسيان عند الاعراض عن الذكر ، وتراكم الخواطر الرديّة والوساوس الفاسدة من الشيطان ، فجاز إضافة النّسيان إليه لما حصل عند فعله كذا في مجمع البيان (١).

ثمّ قال بعد ذلك : وقال الجبائي في هذه الآية دلالة على بطلان قول الإماميّة في جواز التقية على الأنبياء وعلى الأئمّة ، وأنّ النّسيان لا يجوز على الأنبياء ، وهذا القول غير صحيح ولا مستقيم لأنّ الإماميّة إنّما تجوّز التقيّة على الامام فيما يكون عليه دلالة قاطعة توصل إلى العلم ، ويكون المكلّف مزاح العلّة في تكليفه ، فأمّا ما لا يعرف إلّا بقول الامام من الاحكام ، ولا يكون على ذلك دليل إلّا من جهته فلا تجوّز عليه التقيّة فيه ، ويمكن أن يجاب بأنّ الآية لا تدلّ على عدم جواز التقيّة ، فإنّها مطلقة يجوز تقييدها بعدم الخوف والضرر ، وعدم المفسدة ، مع أنّ الإماميّة لا تجوّز

__________________

ـ الى تهمته ثم أتى النعمان فحياه وأكرمه فعاد ونزل على أخيها فتطلعت اليه نفسها وكان جميلا فأرسلت إليه اخطبنى ان كانت لك الى حاجة فخطبها وتزوجها وساربها الى قومه.

(١) المجمع ج ٢ ص ٣١٧.

٤٠٠