مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٢

جواد الكاظمي

مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٢

المؤلف:

جواد الكاظمي


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٣

(وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) واتّقوه بالتبرّي عمّا سواه لكي تفلحوا بنعيم الأبد أو اتّقوا القبائح لكي تفوزوا بنيل المقامات الثلاث المترتّبة الّتي هي الصّبر على مضض الطّاعات ، ومصابرة النفس في رفض العادات ، ومرابطة البرّ على جناب الحقّ لترصّد الواردات المعبّر عنها بالشريعة والطريقة والحقيقة.

أو اتّقوا الله بلزوم أمره واجتناب نهيه ، لكي تظفروا وتفوزوا بنيل المنية ودرك البغية ، والوصول إلى النجح في الطلبة ، وذلك حقيقة الفلاح ، وفي مجمع البيان أنّ هذه الآية يتضمّن جميع ما يتناوله التكليف ، لأنّ قوله (اصْبِرُوا) يتناول لزوم العبادات ، وتجنّب المحرّمات (وَصابِرُوا) يتناول ما يتّصل بالغير كمجاهدة الجنّ والانس وما هو أعظم منها جهاد النفس (وَرابِطُوا) يدخل فيه الدفاع عن المسلمين والذبّ عن الدين (وَاتَّقُوا اللهَ) يتناول الانتهاء عن جميع المناهي والزّواجر ، والائتمار بجميع الأوامر ، ثمّ يتبع جميع ذلك الفلاح والنّجاح.

__________________

ـ ج ١ ص ٣١٢ وتفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٤٤ وتفسير الطبري ج ٤ ص ٢٢٢ والدر المنثور ج ٢ ص ١١٤.

ثم اللفظ في أخبار الشيعة أكثرها إسباغ الوضوء في السبرات ، وفي أخبار أهل السنة إسباغ الوضوء عند المكاره ، أو على المكاره ، إلا في الرقم ٣٤٧٢ من الجامع الصغير ج ٣ ص ٣٠٧ فيض القدير ففيه إسباغ الوضوء في السبرات ، وكذا في مجمع الزوائد ج ١ ص ٢٣٧.

والسبرات جمع سبرة بسكون الموحدة وهي شدة البرد كسجدة وسجدات.

٣٦١

النوع الرابع

(في قتال أهل البغي)

وفيه آية واحدة وهي :

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (١).

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) الجمع والتذكير من حيث المعنى لأنّ الطائفتين في معنى القوم والنّاس (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) بالنصيحة والطلب إلى حكم الله وشريعة رسوله ، ومقتضى الأمر وجوب البدء بالإصلاح قبل البدء بالقتال فلا يجب إلّا بعد البعث إليهم ، والسؤال عن سبب خروجهم ، وإيضاح ما عرض لهم من الشبهة.

وقد جرى ذلك من عليّ عليه‌السلام (٢) لما أراد قتال الخوارج حيث بعث إليهم ابن عبّاس وبيّن لهم الجواب عن الشبهة الّتي كانت معهم فرجع منهم قوم وبقي على البغي آخرون ، فقاتلهم حتّى قتلهم.

وقد يستفاد من ذلك أنّهم لو خرجوا من غير شبهة لم يكن حكمهم ذلك وقد حكم أصحابنا بأنّهم لو كانوا كذلك فهم قطّاع الطّريق وحكمهم حكم المحاربين.

(فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى) تعدّت عليها وطلبت ما لا يجوز لها (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) وتعتدي بالظلم (حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) حتّى ترجع إلى طاعته ، وتتوب عن المعصية الّتي صدرت عنها ، وفي الآية دلالة على أنّ غاية وجوب القتال هو الرّجوع إلى الطاعة بتوبة أو غيرها ، ومقتضى ذلك التحريم بعدها ، وهو كذلك إجماعا

__________________

(١) الحجرات : ١٠.

(٢) انظر التفصيل في البحار ج ٨ من ص ٦٠٠ الى ص ٦١٩ ط كمپانى.

٣٦٢

وفي أخبارنا دلالة عليه أيضا.

روى الشيخ (١) عن أبي البختريّ عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام قال : قال عليّ عليه‌السلام القتال قتالان قتال لأهل الشرك لا ينفر عنهم حتّى يسلموا أو يؤدّوا الجزية وقتال لأهل الزيغ لا ينفر عنهم حتّى يفيئوا إلى أمر الله أو يقتلوا ، ومقتضى الأمر بالقتال أنّه لا إثم على القاتل ، ولا ضمان مال ولا كفّارة ، لأنّه امتثل الأمر وقتل مباح الدّم ولأنّهم إذا لم يضمنوا الأنفس فالأموال أولى بعدم الضّمان.

(فَإِنْ فاءَتْ) رجعت ، وتابت وأقلعت وأنابت إلى طاعة الله (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) يعنى بينها وبين الطّائفة الّتي على الحقّ ولم تخرج عنه (بِالْعَدْلِ) أي لا تميلوا على واحد منهما (وَأَقْسِطُوا) أي اعدلوا في كلّ الأمور (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي العادلين يقال أقسط إذا عدل ، وقسط إذا جار ، قال تعالى (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) (٢).

واستدلّ بعض العامّة بها على أنّ الصّلح إذا وقع بينهم فلا تبعة على أهل البغي في نفس ولا مال لأنّه ذكر الصّلح آخرا كما ذكره أولا ، ولم يذكر تبعة ، فلو كانت واجبة لذكرها ، وهو بعيد لأنّ قوله تعالى (وَأَقْسِطُوا) دالّ على التبعة ، فإنّ القسط هو العدل ، وإنّما يتمّ العدل بإعادة ما أخذوه من مال أو عوض عن نفس.

سلّمنا أنّ الآية لا تدلّ عليه وحينئذ فلا مانع من الدّلالة عليه بأمر خارج عنها ، وقد انعقد إجماعنا على تضمين أهل البغي ما أتلفوه على أهل العدل من نفس أو مال ، ويدلّ عليه ظاهر قوله تعالى (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) (٣) ونحوها.

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ١٤٤ الرقم ٢٤٧ وهو في الوافي الجزء التاسع ص ١١ والوسائل الباب ٢٦ من أبواب وجوب الجهاد الحديث ١١ ج ٢ ص ٤٢٧ ط الأميري.

(٢) الجن : ١٥.

(٣) أسرى : ٣٣.

٣٦٣

وفي الآية دلالة على وجوب قتال الفئة الباغية وهي عندنا الطائفة الخارجة عن طاعة الإمام المعصوم لشبهة عرضت لهم ، والأكثر من أصحابنا على أنّهم كفّار يجب قتالهم بمقتضى الأمر كما يجب قتال المشركين.

وما قيل إنّ الآية دالّة على أنّ الطائفة الباغية مؤمنة فضعيف ، إذ الآية لا تدلّ على أنّها بعد البغي على الايمان ، ويطلق عليها هذا الاسم حقيقة ، بل التسمية على المجاز بناء على الظاهر أو بناء على ما كانوا عليه ، وهل ذلك إلا مثل قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) (١) والمرتدّ ليس بمؤمن اتّفاقا ، ونحو ذلك أن يقول «إن طائفة من المؤمنين ارتدّت عن الإسلام فاقتلوها» وهي بعد الارتداد كافرة قطعا.

أو تكون التسمية بناء على ما يعتقدونه كما في قوله تعالى (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) الآية (٢) وهذه صفة المنافقين إجماعا.

ولكن يفرّق بينهم وبين الكفّار في أنّهم لا يغنم أموالهم بعد تقضّي الحرب ولا تسبى نساؤهم وذراريهم بالإجماع ، ولو تركوا الحرب تركوا ، ولو انهزموا لم يتبعوا ، بل يقتصر على تفريقهم ، واختلال جمعهم ، نعم لو كان لهم فئة يرجعون إليها اتّبع مدبرهم وأجهز جريحهم ، وقتل أسيرهم بإجماع أصحابنا ، وقد روي الكلينيّ بسنده (٣) عن حفص بن غياث قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن طائفتين من

__________________

(١) البقرة : ٢١٧.

(٢) الأنفال : ٦.

(٣) الكافي ج ١ ص ٣٣٦ الباب ١٠ من أبواب وجوه الجهاد الحديث ٢ وهو في المرآة ج ٣ ص ٣٧٣ ورواه في التهذيب ج ٦ ص ١٤٤ بالرقم ٢٤٦ واللفظ في التهذيب «ولا يجيزوا على جريح» مكان «ولا يجهزوا على جريح» قال في الوافي الجزء التاسع ص ١٨ بعد نقله الحديث :

بيان : الإجازة على الجريح إثبات قتله والإسراع فيه والإتمام كالاجهاز. ـ

٣٦٤

المؤمنين إحداهما باغية والأخرى عادلة فهزمت العادلة الباغية فقال ليس لأهل العدل أن يتبعوا مدبرا ولا يقتلوا أسيرا ولا يجهزوا على جريح ، وهذا إذا لم يبق من أهل البغي أحد ، ولم يكن لهم فئة يرجعون إليها ، فإذا كان لهم فئة يرجعون إليها فإنّ أسيرهم يقتل ومدبرهم يتبع ، وجريحهم يجهز عليه.

هذا وقد استفاد بعضهم من الآية أنّ من كان عليه حقّ فمنعه بعد المطالبة به حلّ قتاله لأنّه تعالى أوجب قتال هؤلاء البغاة لمنع حقّ ، فكلّ من منع حقّا وجب قتاله عملا بالعلّة الثّابتة علّيّتها بالمناسبة.

قال العلّامة في المنتهى (١) : وهذا ليس بصحيح لأنّ الحقوق تتفاوت فأعظمها حقّ الإمام في التزام الطّاعة الّذي به يتمّ نظام نوع الإنسان ، فلا يلزم من وجوب المحاربة على تفويت أعظم الحقوق ، وجوبها على تفويت أدناها ، ولأنّ هذا خطاب للأئمّة دون آحاد الأمة انتهى كلامه ، وهو جيّد ، ولتفصيل أحكام البغاة بحث يطول فليطلب من محلّه.

***

وممّا يتعلّق بذلك قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) (٢) قرأه على الأصل نافع وابن عامر ، والباقون بدال مشدّدة (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) محبّة الله تعالى للعباد أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ، ويعظمهم ويثني عليهم ، ويرضى عنهم ، ومحبّة العباد لله تعالى إرادة طاعته وابتغاء مرضاته ، وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقابه.

(أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) عاطفين عليهم متذلّلين من الذّل الّذي هو اللّين لا من الذلّ

__________________

ـ والحديث في الوسائل الباب ٢٣ من أبواب وجوب الجهاد الحديث ١ ج ٢ ص ٤٢٦ ط الأميري وللحديث تتمة لم يذكرها المصنف.

(١) المنتهى ج ٢ ص ٩٨٣.

(٢) المائدة : ٥٤.

٣٦٥

بمعنى الهوان ، ودخول «على» لتضمين معنى العطف ، أو للتنبيه على أنّهم مع ذلك حافظون للمؤمنين وحاكمون عليهم ، وهم في حمايتهم ، أو لمقابلة (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) شداد غالبين عليهم من عزّه إذا غلبه.

(يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) صفة أخرى لقوم أو حال من الضّمير في أعزّة (وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) عطف على يجاهدون ، والمعنى أنّهم جامعون بين المجاهدة في سبيل الله والتصلّب في الدين ، ويحتمل أن يكون للحال أي يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين ، حيث يخافون لومة أوليائهم وفي وحدة اللّوم وتنكير اللّائم مبالغتان كأنّه قيل لا يخافون شيئا قطّ من لوم أحد اللّوّام.

(ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدّم من الأوصاف (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) وفيه تنبيه على أنّ الأوصاف المذكورة عطيّة من الله وفضله ، لا يمكن تحصيلها بالكسب من غير فضله ولطفه (وَاللهُ واسِعٌ) كثير الفضل (عَلِيمٌ) بمواقع الأشياء يعرف استحقاق كلّ أحد لأيّ مقدار من الفضل والانعام.

وقد اتّفق المفسّرون على أنّ الارتداد المذكور من الكائنات الّتي أخبر الله تعالى عنها قبل وقوعها ، واختلفوا فيمن وصف بهذه الأوصاف ، فقيل : هم أبو بكر وأصحابه الّذين قاتلوا أهل الردّة ، وقيل هم الأنصار وقيل هم أهل اليمن ، وقيل هم الفرس والّذي يذهب إليه أصحابنا أنّهم أمير المؤمنين علىّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأصحابه (١)

__________________

(١) وقد أفصح عن ذلك بأتم وجه القاضي نور الله الشهيد في إحقاق الحق ج ٣ من ص ١٩٧ الى ص ٢٤٣ والشيخ حسن المظفر في دلائل الصدق ج ٢ من ص ١٢١ الى ص ١٢٦ وعقد السيد البحراني الباب ٧٥ و ٧٦ من غاية المرام في ذلك انظر ص ٣٧٤.

قال الإمام الرازي في ج ١٢ ص ٢٠ عند تفسير الآية : وقال قوم انها نزلت في على ويدل عليه وجهان : الأول انه عليه‌السلام لما دفع الراية الى على عليه‌السلام يوم خيبر قال : لا دفعن الراية غدا الى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وهذا هو الصفة المذكورة في الآية.

والوجه الثاني أنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ

٣٦٦

حين قاتلوا الناكثين والقاسطين والمارقين ، وهم أعظم أهل الارتداد.

روى ذلك عن عمّار وحذيفة وابن عبّاس وجماعة من الصّحابة (١) ورواه أصحابنا (٢) عن الباقر والصّادق عليهما‌السلام وقد اشتهر (٣) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال يوم البصرة : والله ما قوتلت أهل هذه الآية حتّى اليوم ، وتلا هذه الآية ، ويؤيّد ذلك أنّه تعالى وصف من عناه بهذه الآية بأوصاف وجدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام مستكملا لها بالإجماع لأنّه تعالى وصفهم بأنّه يحبّهم ويحبّونه ، وقد شهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لأمير المؤمنين (٤) علىّ عليه‌السلام بما يوافق ذلك في قوله ، وقد ندبه لفتح خيبر بعد فرار من فرّ منها «لأعطينّ الرّاية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله ، كرّار غير فرّار ، لا يرجع حتّى يفتح ، ودفعها إلى علىّ عليه‌السلام دون غيره.

وأمّا الوصف باللّين على أهل الايمان والشدّة على الكفّار ، والجهاد في سبيل الله مع عدم الخوف من لومة لائم ، فهي أوصاف لم ير لأحد حظّا من اجتماعها فيه ، لما ظهر من شدّته على أهل الكفر ، ونكايته فيهم ، بحيث يقصر كلّ مجاهد عن منزلته ، ولا يراد من العزّة على الكافرين سوى قتالهم وجهادهم والانتقام منهم

__________________

آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) ، وهذه الآیة في حق على فكان الاولى جعل ما قبلها أيضاً في حقه انتهى.

(١ ـ ٣) المجمع ج ٢ ص ٢٠٨.

(٤) حديث إعطاء الراية وقول النبي (ص) قبله لأعطين إلخ لعله يعد من المتواترات وقد عقد السيد البحراني الباب التاسع والعاشر من الأحاديث الواردة في فضل على عليه‌السلام من كتابه غاية المرام من ص ٤٦٥ الى ص ٤٧١ في ذلك وروى ٣٥ حديثا من طرق العامة وثلاثة أحاديث من طريق الخاصة ثم قال في آخره : أقول : نقتصر في هذا الباب من طريق الخاصة على هذا القليل مخافة الإطالة ، والكثرة من رواية الخصم فيه كفاية ان شاء الله تعالى مع تواتر الخبر في القصة من طريق العامة والخاصة انتهى.

وانظر أيضا تعليقات آية الله المرعشي مد ظله على إحقاق الحق ج ٥ من ص ٣٦٤ الى ص ٤٦٨ فيه طرق الحديث من كتب أهل السنة.

٣٦٧

وظاهر انتفاء ذلك عن أبى بكر إجماعا ، إذ لا قتيل له في الإسلام ، ولا جهاد بين يدي الرّسول ، ولم يقارب أحد رتبة أمير المؤمنين علىّ عليه‌السلام ورأفته بالمؤمنين ، وتواضعه معهم مشهور حتّى أنّه لم ير قطّ طائشا ولا مستطيرا في حال من الأحوال وقد نسب إلى الدّعابة لكثرة تواضعه (١) وقالوا إنه كان فينا كأحدنا في زمن خلافته ويمشي في سوق الكوفة ويقول خلّوا سبيل المؤمن المجاهد في سبيل الله ، ومعلوم حال أبى بكر في الطيش والغضب حتّى اعترف طوعا بأنّ له شيطانا يعتريه عند غضبه.

__________________

(١) وقد شكى نفسه عليه‌السلام في الخطبة ٨٢ من نهج البلاغة وقال : عجبا لابن النابغة يزعم لأهل الشام ان في دعابة إلى آخر الخطبة ، وقال ابن أبى الحديد في ص ٣٢٦ ج ٦ من شرحه ط دار احياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبي وشركائه : فاصل ذلك كلمة قالها عمر فتلقفها حتى جعلها أعداؤه عيبا له وطعنا عليه ثم استند في ذلك الى رواية أحمد بن يحيى ثعلب في أماليه إلى آخر ما ذكره ، ثم اعتذر في ص ٣٢٧ عن جانب عمر بأن عمر لما كان شديد الغلظة والجانب خشن الملمس دائم العبوس ، كان يعتقد ان ذلك الفضيلة ، وان خلافه نقص ، ولو كان سهلا طلقا مطبوعا على البشاشة ، وسماحة الخلق لكان يعتقد أن ذلك الفضيلة ، وان خلافه نقص حتى لو قدرنا أن خلقه حاصل لعلى وخلق على حاصل له لقال في على لو لا شراسة فيه.

ثم قال في ص ٣٢٨ : وأنت إذا تأملت حال على عليه‌السلام في أيام رسول الله وجدته بعيدا عن ان ينسب إلى الدعابة والمزاح لانه لم ينقل عنه شيء من ذلك أصلا لا في كتب الشيعة ولا في كتب المحدثين وكذلك إذا تأملت حاله في أيام الخليفتين ابى بكر وعمر لم تجد في كتب السيرة حديثا واحدا يمكن ان يتعلق به متعلق في دعابته ومزاحه.

الى ان قال في ص ٣٢٩ : ولقد صدق عليه‌السلام في قوله «اننى ليمنعني من اللعب ذكر الموت» الى ان قال : فغير منكر ان يعيب عليا عليه‌السلام عمرو بن العاص وأمثاله من أعدائه بما إذا تأمله المتأمل علم انهم باعتمادهم عليه وتعلقهم به قد اجتهدوا في مدحه والثناء عليه لأنهم لو وجدوا عيبا غير ذلك لذكروه انتهى.

وقال الشارح الخويي قدس‌سره في ص ٨٨ ج ٦ ط الإسلامية بعد نقله كلام ابن ابى ـ

٣٦٨

وممّا يؤكّد ذلك إنذار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) قريشا بقتال عليّ عليه‌السلام لهم من بعده حيث جاء سهل بن عمرو في جماعة منهم فقالوا له يا محمّد إنّ أرقّاءنا لحقوا بك فارددهم علينا.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتنتهنّ معاشر قريش أو ليبعثنّ الله عليكم رجلا يضربكم

__________________

ـ الحديد هذا : أقول لعله الى ذلك ينظر الشاعر في قوله :

وإذا أتتك مذمتي من ناقص

فهي الشهادة لي بأني كامل

ثم قال ولعمري انه لا بيان فوق ما اتى به الشارح من البيان في توضيح براءة ساحته مما قاله ابن العاص في حقه من الكذب والبهتان ، الا أنه لو أنصف لعلم ان كل الصيد في جوف الفراء ، وان أول من فتح أمثال ذلك الباب لابن العاص ونظرائه هو عمر بن الخطاب ، إذ هو أول من صدر عنه هذه اللفظة فحذا ابن العاص حذوه انتهى.

(١) حديث إنذار رسول الله الناس بعلى عند ما كان علىّ يخصف النعل وانه يقاتل على تأويل القرآن مشهور مستفيض وقد عقد السيد البحراني الباب الخامس ومائة والسادس ومائة من كتاب غاية المرام ص ٦٥١ وص ٦٥٢ لذلك ، وروى من طريق العامة تسعة أحاديث ومن طريق الخاصة حديثين ، وسرد آية الله المرعشي مد ظله في ملحقات إحقاق الحق ج ٦ من ص ٢٤ الى ص ٣٧ أحاديث من كتب أهل السنة.

وروى الحديث بالوجه الذي ذكره المصنف في غاية المرام من طرق أهل السنة عن مسند أحمد بإسناده عن ربعي بن خراش عن على بن أبى طالب عليه الصلاة والسّلام ومن طرق الشيعة عن محمد بن العباس بإسناده عن ربعي بن خراش عن على بن أبى طالب عليه الصلاة والسّلام.

وفي الباب حديث بوجه آخر رواه العلامة المظفر في دلائل الصدق ج ٢ ص ١٢٤ عن كنز العمال ج ٦ ص ٣٩٦ الطبعة الأولى عن أحمد وابن جرير قال وصححه وعن سعيد بن منصور عن على عليه‌السلام قال جاء النبي (ص) أناس من قريش فقالوا : يا محمد انا جيرانك وحلفاؤك ، وان ناسا من عبيدنا قد أتوك ليس بهم رغبة في الدين ولا رغبة في الفقه ، انما فروا من ضياعنا وأموالنا فارددهم إلينا ، فقال لأبي بكر ما تقول قال صدقوا أنهم لجيرانك وحلفاؤك فتغير وجه رسول الله (ص) ثم قال لعمر ما تقول قال قد صدقوا انهم لجيرانك ـ

٣٦٩

على تأويل القرآن كما ضربتكم على تنزيله ، فقال له بعض أصحابه من هو يا رسول الله أبو بكر؟ قال لا قال فعمر قال لا ولكنه خاصف النعل في الحجرة وكان علىّ عليه‌السلام يخصف نعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال الرازي في تفسيره (١) هذه الآية من أدلّ الدّلائل على فساد مذهب الإماميّة لأنّ الّذين اتّفقوا على إمامة أبي بكر لو كانوا أنكروا نصّا جليا على إمامة عليّ عليه‌السلام لكان كلّهم مرتدّين ثمّ لجاء الله بقوم يحاربونهم ويردّونهم إلى الحقّ ولمّا لم يكن الأمر كذلك بل الأمر بالضدّ ، فانّ فرقة الشيعة مقهورون أبدا ، حصل الجزم بعدم النصّ.

وفيه نظر ، فانّ مقتضى الوعد أن يكون بعد الارتداد حصل جماعة موصوفون بالصّفة المذكورة ، ونحن نقول إنّهم عليّ عليه‌السلام وأصحابه ، لأنّهم ظهروا بعد موت الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقاتلوا النّاكثين والقاسطين والمارقين ، وغيرهم ، فيكون الوعد

__________________

ـ وحلفاؤك؟ فتغير وجه رسول الله (ص) فقال يا معشر قريش ليبعثن الله عليكم رجلا قد امتحن الله قلبه بالايمان فيضربكم على الدين أو يضرب بعضكم ، فقال أبو بكر أنا يا رسول الله فقال لا قال عمر أنا يا رسول الله؟ قال لا ، ولكنه الذي يخصف النعل ، وكان أعطى عليا نعلا يخصفها انتهى الحديث.

قال آية الله المظفر قدس‌سره : ومما يستوقف الفكر ويستثير العجب قول عمر صدقوا بعد ما تغير وجه رسول الله (ص) من قول أبى بكر ، وما أدرى كيف استباح هو وصاحبه أن يجعلا للكافرين على المؤمنين سبيلا ، ويردا من آمنوا بالله ورسوله ملكا وخدما لمن كفر بهما ، وكيف مع هذا يكونان إمامين للناس ويؤمنان على الأمة ونفوسها وأموالها انتهى.

(١) انظر ج ١٢ ص ٢٠ الطبعة الأخيرة من تفسيره.

٣٧٠

متحقّقا ولا يلزم استمرار ذلك في جميع أوقات الاستقبال.

وأجاب النيشابوري (١) عنه أيضا بأنّه ما يدريك أنّه تعالى لا يجيء بقوم يحاربونهم ، ولعلّ المراد بخروج المهدي عليه‌السلام هو ذلك ، فإنّ محاربة من دان بدين الأوائل هي محاربة الأوائل.

وهو جيّد ، ويؤيّده ما ذكره عليّ بن إبراهيم في تفسيره أنّها نزلت في مهديّ الأمة عليه الصلاة والسّلام وأصحابه (٢) وأوّلها خطاب لمن ظلم آل محمّد وقتلهم وغصبهم حقّهم فتأمّل.

__________________

(١) انظر تفسيره المطبوع بايران ج ٢ ص ٢٨.

(٢) انظر تفسيره المطبوع في ١٣١٥ ص ٩٢ ونقله عنه في نور الثقلين ج ١ ص ٥٣٢ بالرقم ٢٤٧.

٣٧١

كتاب

(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)

وفيه آيات :

الاولى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١).

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) أي جماعة هي بعضكم ، فمن للتبعيض [وقيل إنّها بيانيّة والمعنى كونوا أمة].

(يَدْعُونَ) لعلّ التذكير باعتبار حمل الأمّة على الجماعة من الذكور ، وإن دخلت فيه النّساء تغليبا (إِلَى الْخَيْرِ) أي الدين ، أو مطلق الأمور الحسنة شرعا وعقلا من المعروف وترك المنكر ، فيكون مجملا يفصّله قوله (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).

وفي الآية دلالة على وجوب الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر ، كما هو مقتضى الأمر ، ولا خلاف بين العلماء في وجوبهما وإنّما اختلفوا في كونه على الكفاية أو الأعيان ، وظاهر الآية الأوّل (٢) لدلالة (مِنْكُمْ) على أنّ المراد بعضكم فمقتضاها الوجوب على البعض.

ويؤيّده أنّه لا يصلح كلّ أحد لذلك فانّ للتّصدّى له شروطا لا يشترك فيها جميع الأمة كالعلم بالأحكام ، فإنّ الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر ومراتب الإنكار ، فإنّ الارتداع عن المنكر قد يحصل بأدنى إنكار فلا حاجة إلى

__________________

(١) آل عمران : ١٠٤.

(٢) وفي سن : فذهب جماعة إلى الأول واحتجوا عليه بظاهر الآية لدلالة منكم إلخ.

٣٧٢

الزّيادة عليه ، وكيفيّة إقامتها ، والتمكّن من القيام بها ، وخطاب الجميع ليدلّ على أنّهم لو تركوه رأسا أثموا جميعا ، وأنّه يسقط بفعل بعضهم كما في غيره من فروض الكفايات (١).

وذهب جماعة إلى وجوبهما على الأعيان ، وهو قول الشّيخ الطّوسيّ رحمه‌الله نظرا إلى أنّ لفظة منكم للتبيين ولتخصيص المخاطبين من بين سائر الأجناس فإنّه ما من مكلّف [مستجمع لشرائط وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر] إلّا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر إمّا بيده أو بلسانه أو بقلبه ، والمعنى كونوا أمة تأمرون كقوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) (٢) فهو كقولك فلان من أولاده جند ، تريد أنّ جميع أولاده كذلك ، لا بعضهم.

وقد يرجّح الأوّل بأنّ الفرض هو الردّ عن القبيح والبعث على الطّاعة ليقع المعروف ويرتفع المنكر من غير أن يكون لخصوص المكلّف في ذلك مدخل ، ولأنّهما إذا وقعا من واحد كان الأمر لغيره بهما عبثا (٣).

والحقّ أنّ النزاع في ذلك كاللّفظيّ ، فإنّ القائلين بالوجوب العينيّ قالوا هو وإن كان واجبا على الكلّ إلّا أنّه متى قام به البعض [قياما يترتّب عليه الأثر الّذي هو الانزجار عن فعل المنكر أو فعل المعروف ، فإنّه] سقط عن الباقين كسائر فروض الكفايات ، وهذا هو قول من أوجبه كفاية.

__________________

(١) زاد في سن بعد ذلك : وفيه نظر إذ أقصى ما يدل عليه الآية أنهما لا يجبان على كل الأمة ، فإن كل احد ليس مستجمعا لشرائط الوجوب كما قاله في توجيه الوجوب على البعض بل المستجمع للوجوب بعضهم والكلام انما هو في الوجوب على هذا البعض كفاية أو عينا ، وهو محل الخلاف بين الفريقين وليس في الآية دلالة على شيء منهما ، ومن ثم ذهب جماعة إلخ.

(٢) آل عمران : ١١٠.

(٣) زاد في سن : لكن يشترط في سقوط الوجوب عن الباقين ظن التأثير بالأول فلو خلى عن ظن التأثير ، كان الوجوب على الباقين بحاله ، ومن ثم قيل ان النزاع لفظي إلخ.

٣٧٣

وقد يؤيّد الوجوب كفاية ما رواه (١) الكلينيّ بإسناده عن مسعدة بن صدقة قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول ـ وسئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب هو على الأمة جميعا؟ ـ فقال لا فقيل له : ولم؟ قال إنّما هو على القويّ المطاع العالم بالمعروف من المنكر ، لا على الضعفة الّذين لا يهتدون سبيلا الحديث.

[وفيه أنّ الكلام في الحديث كالكلام في الآية من جهة عدم دلالتها على موضع النزاع على ما عرفت] (٢).

أمّا القول بوجوبه في العقل وأنّ السّمع مؤكّد له كما ذهب إليه جمع من العلماء فغير واضح ، إذ ليس في العقل ما يدلّ على الوجوب مطلقا ، نعم يمكن إذا كان على سبيل دفع الضرر. وعلى كلّ حال ، فإنّما يجب الأمر بالواجب والنهي عن الحرام أمّا المندوب فيستحبّ الأمر به ، وكذا المكروه يستحبّ النّهى عنه ، وعلى هذا فيمكن تخصيص المعروف بالواجب والمنكر بالحرام ، ويحتمل أيضا أن يراد من المعروف ما يعمّ الواجب والمندوب ، ويراد من الأمر المتعلّق به الرجحان المطلق الشامل لهما وبالمنكر خلاف الطّاعة وهو ما يعمّ الحرام والمكروه ، ومن النهي ما يعمّهما أيضا ويكون الوجوب المستفاد من قوله (وَلْتَكُنْ) ومن حصر الفلاح في الآمرين والناهين باعتبار بعض الافراد.

وعلى كلّ حال فلينظر الدّاعي إلى الخير في حال كلّ مكلّف ، فيدعوه إلى ما يليق به متدرّجا من الأسهل إلى الأصعب في الأمر والإنكار كلّ ذلك إيمانا واحتسابا لا سمعة ورياء ، ولا لغرض من الأغراض النّفسانيّة والجسمانيّة ، فإنّ هذه الدّعوة منصب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام من بعده.

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٣٤٤ باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحديث ١٦ وهو في المرآة ج ٣ ص ٣٧٩ ورواه في التهذيب ج ٦ ص ١٧٧ بالرقم ٣٦٠ وهو في الوافي الجزء التاسع ص ٣٠ والوسائل الباب ٢ من أبواب الأمر بالمعروف الحديث ١ ج ٢ ص ٤٨٩ وللحديث تتمة.

(٢) زيادة من سن.

٣٧٤

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه ، وخليفة رسوله وخليفة كتابه (١) وكفى بقوله (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الأخصّاء بالفلاح مدحا لهم ، وقد يتمسّك بهذا في أنّ الفاسق ليس له أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لأنّه ليس من أهل الفلاح.

[ويؤيّده قوله تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) الآية] (٢) وأجيب بأنّ هذا ورد على الغالب ، فانّ الظاهر أنّ الآمر بالمعروف والنّاهي عن المنكر لا يشرع فيه إلّا بعد إصلاح أحوال نفسه ، لأنّ العاقل يقدّم مهمّ نفسه على مهمّ الغير لا أنّ الأمر بالمعروف لا يكون إلّا من العدل غير الفاسق ، [والآية المذكورة قد سلف الكلام فيها].

وقد تحقّق ممّا ذكرنا أنّه لا يشترط في الآمر والنّاهي صفة زائدة على كونه عالما بالمعروف والمنكر ، من كونه عدلا ، فيجوز للعاصي أن ينهى عمّا يرتكبه من المعاصي ، لأنّه يجب عليه التّرك والإنكار ، فلا يسقط بترك أحدهما وجوب الآخر ولعلّ في إطلاق «منكم» من غير تقييد إشعارا به.

الثانية : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) (٣).

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) دلّ على خيرتهم في الماضي ، ولا يلزم منه انقطاع خيرتهم

__________________

(١) المجمع عن الحسن عن النبي (ص) ج ١ ص ٤٨٤ وأخرجه في الكشاف أيضا ج ١ ص ٣٩٧ ط دار الكتاب عند تفسير الآية قال ابن حجر في الكاف الشاف أخرجه ابن عدا في الكامل في ترجمة كادح بن رحمة وعلى بن معبد في كتاب الطاعة والثعلبي.

(٢) زيادة من سن. والآية في البقرة : ٤٤.

(٣) آل عمران : ١١٠.

٣٧٥

في المستقبل ، ونظيره قوله (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ومغفرته المستأنفة كالماضية ، وقيل : إنّ «كان» تامّة ، والمعنى وجدتم خير امّة وخلقتم كذلك ، وقيل كنتم في علم الله أو في اللّوح المحفوظ ، أو فيما بين الأمم المتقدّمة ، وقيل إنّها بمعنى صار.

(أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) أظهرت وخلقت (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) كلام مستأنف بيّن به كونهم خير امّة كما تقول زيد كريم : يطعم النّاس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم (وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) عطف على سابقه والمراد الايمان بتوحيده وعدله ودينه وجميع ما يجب أن يؤمن به.

والوجه في كون هذه الأمّة خير الأمم مع أنّ الصّفات الثلاث كانت حاصلة لسائر الأمم أنّ الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللّسان وباليد وأقواها ما يكون بالقتال لأنّه إلقاء النفس في خطر القتل ، وأعرف المعروفات الدين الحقّ والايمان بالتوحيد والنبوّة ، وأنكر المنكرات الكفر بالله ، فكان الجهاد في الدين تحمّلا لأعظم المضارّ لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع وتخليصه من أعظم المضارّ ، فكان من أعظم العبادات ، ولمّا كان أمر الجهاد في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع ، لا جرم صار ذلك موجبا لفضل هذه الأمة على سائر الأمم.

وأمّا الإيمان فلا شكّ أنّه في هذه الأمة أكمل من غيرها ، لأنّهم آمنوا بكلّ ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب إلى غير ذلك ، ولا يقولون (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) فإنّ الايمان بالبعض دون البعض بمثابة عدم الإيمان بالله عزوجل.

ولقد أخبر الله تعالى عن الكفّار بقوله (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) (١) وإنّما أخّره مع أنّ حقّه أن يقدّم ، لانّه قصد بذكره الدلالة على أنهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر إيمانا بالله وتصديقا ، وإظهارا لدينه ، واقتصر في وصف الأمّة على الإيمان

__________________

(١) النساء : ١٥٠.

٣٧٦

بالله ، لأنّه يستلزم الإيمان بالنبوّة وبسائر ما عددناه ، وإلّا لم يكن في الحقيقة إيمانا.

وفي الآية دلالة على وجوب الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر ، لأنّ خيريّتهم إذا كانت من هذا الوجه كان ما نافاه منافيا للخير ، فيكون حراما ، واستدلّ بها على أنّ إجماع الأمة حجّة ، لأنّها يقتضي كونهم آمرين بكلّ معروف ، وناهين عن كلّ منكر ، إذ اللّام فيها للاستغراق ، فلو أجمعوا على باطل كان أمرهم على خلاف ذلك وهذا لا ينافي ما يذهب إليه معاشر الإماميّة من حجيّة الإجماع بدخول قول المعصوم ضرورة أنّ المعصوم داخل في الأمّة ، بل هو رئيسهم في الأقوال والأفعال فإجماعهم مظنّة لدخول قوله ، وإن لم يعلم بخصوصه على ما ثبت في الأصول.

الثالثة : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (١).

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) الإنصاف بين الخلق ، والتعامل بالاعتدال الّذي ليس فيه ميل إلى أحد الجانبين والتوسّط في جميع الاعتقادات والافعال والأقوال ، وعدم التفريط والإفراط فيها ، فلا يكون اعتقاده في حقّ الله ناقصا ولا فوق ما لا يجوز بأن يعتقد الشركة والاتّصاف بالصّفات النّاقصة ، واتّصاف النبيّ بالالوهيّة وكذا الإمام بالنبوّة ، وفي العبادات لا يجعلها ناقصة عن الوظيفة المقرّرة من الشارع ، ولا يخترع فوقها ، وبالجملة لا يخرج عن حدود الشرع الشريف.

(وَالْإِحْسانِ) إلى الغير ، وهو التفضّل ، ولفظ الإحسان جامع لكلّ خير ولكنّ الأغلب استعماله في التبرّع بإيتاء المال ، وبذل السعي الجميل ، ويحتمل دخول العبادات فيه ويراد إحسان الطّاعات ، إمّا بحسب الكميّة كالتطوّع بالنوافل أو الكيفية كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه ، فان لم تكن تراه فإنّه يراك.

__________________

(١) النحل : ٩٠.

٣٧٧

(وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) وإعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه المعبّر عنه بصلة الرّحم وهو تخصيص بعد تعميم للاهتمام بل الإحسان أيضا كذلك ، وعلى هذا فهو عامّ في جميع الخلق ، ويحتمل أن يكون أمرا بصلة قرابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشار إليها في قوله (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) وهو المرويّ عن أبى جعفر عليه‌السلام قال نحن هم (١).

(وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) الإفراط في متابعة القوّة الشهوانيّة كالزّنا فإنّه قبيح بل هو أقبح أحوال الإنسان وأشنعها (وَالْمُنْكَرِ) ما ينكر على صاحبه من جميع المعاصي ، فهو تعميم بعد تخصيص (وَالْبَغْيِ) الاستعلاء على النّاس ، والتجبّر والتكبّر المحرّم ، بل بمنزلة الكفر ، والجمع بين الأوصاف الثلاثة في النّهي مع أنّ الكلّ منكر فاحش ليتبين بذلك تفصيل ما نهي عنه لأنّ الفحشاء قد يكون ما يفعله الإنسان في نفسه ممّا لا يظهر أمره ويعظم قبحه ، والمنكر ما يظهر للنّاس ممّا يجب عليهم إنكاره والبغي ما يتطاول به من الظّلم لغيره ، وقيل : العدل استواء السّريرة والعلانية والإحسان كون السريرة أحسن من العلانية ، والمنكر أن يكون العلانية أحسن من السريرة.

(يَعِظُكُمْ) بما تضمّنت هذه الآية من مكارم الأخلاق (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) لكي تتّعظوا وتتذكّروا ، فترجعون إلى الحقّ وتعملون به ، وعن ابن مسعود هي أجمع آية في كتاب الله للخير والشرّ وصارت سببا لحسن إسلام عثمان بن مظعون.

قال في الكشّاف (٢) وحين أسقطت من الخطب لعنة الملاعين على أمير المؤمنين عليه‌السلام أقيمت هذه الآية مقامها ، ولعمري إنّها كانت فاحشة ومنكرا وبغيا ضاعف الله لمن سنّها غضبا ونكالا وخزيا ، إجابة لدعوة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «وعاد من عاداه».

قال المحشّي يريد بلعنة الملاعين من لعن عليّا عليه‌السلام من بنى أميّة وبنى مروان والّذي أسقطه عمر بن عبد العزيز ، والّذي سنّ ذلك معاوية لعنه الله انتهى.

__________________

(١) المجمع ج ٣ ص ٣٨٠ ، والآية في الشورى : ٢٣.

(٢) انظر الكشاف ج ٢ ص ٦٢٩ ط دار الكتاب العربي وج ٢ ص ٢١٥ ط مصطفى البابى الحلبي ١٣٦٧ عند تفسير الآية.

٣٧٨

وأشار بدعوة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ما وقع في يوم الغدير من دعائه له بذلك ، وهو متواتر عندنا مشهور عندهم (١).

ولا يذهب عليك أنّ هذا الكلام من الكشاف صريح في لعن معاوية ، ولقد وقع في مواضع من الكشاف التصريح بأنّه ما كان على الحقّ ، وأنّ جهاده مع عليّ عليه‌السلام لم يكن باجتهاد ولا كان معذورا فيه ، بل ظلما وعدوانا.

قال في سورة يونس عند قوله (وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (٢) روي أنّ أبا قتادة (٣) تخلّف عن تلقّى معاوية حين قدم المدينة وقد تلقّته الأنصار ثمّ دخل عليه فقال له مالك لم تتلقّنا؟ قال لم تكن عندنا دوابّ قال فأين النواضح؟ قال قطعناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا معشر الأنصار ستلقون بعدي أثره قال معاوية فما ذا قال؟ قال : قال : فاصبروا حتّى تلقوني ، قال فاصبر! قال إذن نصبر ، فقال عبد الرّحمن بن حسّان :

__________________

(١) قد خص العلامة آية الله مير سيد حامد حسين أعلى الله مقامه الشريف المجلد الأول من المنهج الثاني من كتابه عبقات الأنوار بتحقيق حديث الغدير وطبع في جزئين ضخمين وفيه ترجمة العلماء الذين أخرجوا الحديث في كتبهم قرب مائة وخمسين عالما ، وترجمة العلماء الذين ذكروا مجيء مولى بمعنى الاولى قرب أربعين عالما.

وألف آية الله الامينى مد ظله كتابه الغدير حول الحديث وبرز منه ١١ مجلدا.

(٢) يونس : ١٠٩.

(٣) الكشاف ج ٢ ص ٣٧٦ ط دار الكتاب وقال ابن حجر في تخريج الحديث : أخرجه إسحاق بن راهويه ومن طريقه الحاكم والبيهقي عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن عقيل ان معاوية لما قدم المدينة لقيه أبو قتادة الأنصاري فقال معاوية تلقانا الناس كلهم غيركم يا معشر الأنصار فما يمنعكم أن تلقوني؟ قال لم تكن لنا دواب ، فقال معاوية فأين النواضح قال أبو قتادة عقرناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر.

ثم قال أبو قتادة ان رسول الله (ص) قال أما إنكم سترون بعدي أثره قال معاوية فما أمركم؟ قال أمرنا أن نصبر حتى نلقاه ، قال فاصبروا حتى تلقوه ، فقال عبد الرحمن بن حسان حين بلغه ذلك فذكر البيتين وقال يا أمير المؤمنين انتهى ما في الكاف الشاف.

٣٧٩

ألا أبلغ معاوية بن حرب

أمير الظّالمين نثا كلامي

بأنا صابرون فمنظروكم

إلى يوم التغابن والخصام (١)

ولعمري إنّ من جعل معاوية أسوة في دينه ، ومقتداه في عبادته ، أو رضي بأفعاله وأقواله ، بعد ما بلغت إليه لمن الضالّين الّذين لم يتّبعوا شريعة الرّسول ، ولا آمنوا به ، وكيف يرتضى بأفعال من لم يخالط الإسلام قلبه ، وإنّما كان دخوله إلى الإسلام كرها وخروجه منه طوعا ورغبة ، وقد ثبت بالنّقل الصّحيح عن أئمّتنا الّذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا حيث سئلوا عن كون يزيد أسوء حالا أو معاوية ، فقالوا : إنّ يزيد سيّئة من سيّئات معاوية. وكفى بهذا بيانا بحاله في الرّداءة.

الرابعة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٢).

__________________

(١) قال الشيخ محمد عليان المرزوقي في مشاهد الانصاف على شواهد الكشاف المطبوع ذيل الكشاف : لعبد الرحمن بن حسان حين دخل معاوية بن أبى سفيان المدينة فتلقته الأنصار وتخلف أبو قتادة ثم دخل عليه فقال له مالك تخلفت فقال لم يكن عندنا دواب قال فأين النواضح قال قطعناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر ، وقد قال (ص) يا معشر الأنصار ستلقون بعدي أثره قال معاوية فما ذا قال؟ قال : فاصبروا حتى تلقوني قال فاصبروا قال إذا نصبر.

والثناء يقال للخير وقد يقال للشر والنثاء خاص بالشر ، وروى «نثا كلامي» ومنتظروكم ممهلوكم أى أنت وقومك ، والتغابن ظهور الغبن للعمال في تجارات الاعمال ، والخصام المخاصمة والمجادلة ، أي إلى يوم القيمة انتهى ما في مشاهد الانصاف.

ومما يعجبني هنا نقله ما في القاموس في معنى معاوية قال في لغة (ع وى) والمعاوية الكلبة المستحرمة وجرو الثعلب وبلا لام ابن أبى سفيان الصحابي انتهى والكلبة المستحرمة هي التي تبغي الفحل.

(٢) التحريم : ٦.

٣٨٠