مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٢

جواد الكاظمي

مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٢

المؤلف:

جواد الكاظمي


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٣

فأيقنوا بالهلاك ، فقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فدخل المسجد فصلّى ركعتين فسأل عنهم ، فذكر له أنّهم أقسموا أن لا يحلّوا أنفسهم حتّى يحلّهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا اقسم أن لا احلّهم حتّى أومر فيهم ، فنزلت الآية المتقدّمة على هذه ، فأطلقهم وعذرهم.

فقالوا يا رسول الله هذه أموالنا الّتي خلّفتنا عنك ، فتصدّق بها وطهّرنا فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فنزلت الآية فأخذ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعضا من أموالهم ، وترك الباقي.

وقد اختلف في الصدقة المأمور بأخذها فقيل ليس المراد بها الصدقة المفروضة بل هي على سبيل الكفّارة للذنوب الّتي أصابوها بسبب تخلّفهم عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وقيل أراد بها الزكاة المفروضة ونقله في مجمع البيان عن أكثر المفسّرين (١) ثمّ قال وهو الظاهر ، لأنّ حمله على الخصوص بغير دليل لا وجه له ، فيكون أمرا بأن يأخذ من المالكين للنصاب من الأموال المختلفة الزكاة من كلّ مال بخصوصه مع اجتماع الشرائط المعتبرة فيه على ما دلّت عليه الأخبار وانعقد عليه الإجماع.

واستدلّ بعض أصحابنا بظاهر الأمر على وجوب دفع الزكاة إلى النبيّ أو الإمام صلوات الله عليهما ، والآية خالية عن الدلالة على ذلك ، فإنّ أقصى ما دلّت عليه وجوب الأخذ وهو حقّ مع الدفع ، أمّا بدونه فلا.

ولو قيل إنّ وجوب الأخذ يستلزم وجوب الطلب في الجملة لقلنا نحن لا ننازع في وجوب الدفع مع الطلب ، أمّا وجوب الحمل إليه ابتداء فالآية الكريمة خالية عن الدلالة عليه ، والأمر في ذلك سهل لأنّ الإمام عليه‌السلام أبصر بالحكم لكنّ الكلام فيما يذهب إليه بعضهم من قيام الفقيه الجامع لشرائط الإفتاء مقامه في ذلك حيث أوجب الدفع إليه بظاهر الأمر وهو بعيد ، والاستحباب أقوى لأصالة عدم الوجوب ولأنّه امتثل الأمر في قوله (وَآتُوا الزَّكاةَ) ونحوه (٢) والروايات المستفيضة الدالّة على جواز تولّى المالك لذلك

__________________

(١) انظر المجمع ج ٣ ص ٦٨.

(٢) من الروايات خ.

٢١

بنفسه ، أو وكيله ، ووجه الاستحباب أنّه أبصر بمواقعها وأعرف بمواضعها ، ولما في ذلك من إزالة التهمة عن المالك بمنع الحقّ أو تفضيل بعض المستحقّين بمجرّد الميل هذا.

وقد يستدلّ بها على وجوب الأخذ من سائر أموال المسلمين إلّا ما أخرجه الدليل على ما يعلم تفصيله في محلّه.

(تُطَهِّرُهُمْ) عن الذنوب اللّاحقة لهم أو من حبّ المال المؤدّى بهم إلى مثله وارتفاعه على أنّه صفة الصدقة أو على الاستيناف ، ومن قرأه مجزوما جعله جواب الأمر.

(وَتُزَكِّيهِمْ بِها) وتنمي بها حسناتهم ، وترفعهم إلى منازل المخلصين وهو على الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويجوز في الأوّل الخطاب أيضا.

(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) أى ادع لهم (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) أى دعوتك ممّا تسكن إليه نفوسهم ، وتطمئنّ بها قلوبهم ، أو رحمة لهم ، والجمع لتعدّد المدعوّ لهم ، ومن قرأ على الوحدة أراد به الجنس الواقع على القليل والكثير.

وقد اختلف في الدعاء لهم هل هو على الوجوب أو على الاستحباب؟ الأكثر على الأوّل نظرا إلى ظاهر الأمر ، وهل الحكم جار في الفقيه أيضا إذا حملت الزكاة إليه؟ قيل نعم لكونه نائبا عن الامام ، وقيل لا نظرا إلى ظاهر الأمر فإنّه مخصوص به صلى‌الله‌عليه‌وآله بل قيل إنّه لا يجب عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطلقا نظرا إلى أنّها وردت في جماعة مخصوصين على ما تقدّم وفيه نظر فإنّ أكثر الأحكام متعدّية إلى غيره ، مع كون الخطاب خاصّا به. ومن ثمّ احتاج الاختصاص به وعدم مشاركة الغير له فيه إلى دليل يقتضيه ، وإلّا فالحكم على العموم ، وورودها في جماعة معيّنة لا يوجب قصر الحكم عليهم ، فإنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وقد روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى (١) لمّا أتاه بصدقته ، و

__________________

(١) انظر سنن أبى داود ج ٢ ص ١٤٢ الرقم ١٥٩٠ وابى ماجة ص ٥٧٢ الرقم ١٧٩٦ والنسائي ج ٥ ص ٣١ وصحيح مسلم بشرح النووي ج ٧ ص ١٨٤ والبخاري بشرح فتح الباري ج ٤ ص ١٠٤ وأخرجه في الدر المنثور ج ٣ ص ٢٧٥ عن ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وأبى داود والنسائي وابن ماجة وابن المنذر وابن مردويه. ـ

٢٢

مقتضى الآية جواز الصلاة على آحاد المسلمين وقد دلّ على ذلك غيرها فمنع البيضاوي وصاحب الكشاف (١) الصلاة على غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لكونها شعارا له ، لا وجه له مع أنّ الله والرسول كانا عالمين بذلك ، وقد ندبا إليه ، فهذا المنع في الحقيقة ردّ على الله والرسول في التجويز ، على أنّها إنّما صارت شعارا لمنعهم ذلك في غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلّا فهي ليست شعارا له وحده ، ومن ثمّ نذكر الآل معه في الصلاة وأيضا كونها شعارا له لا تنافي جوازه لغيره ، وقد سلف جانب من الكلام.

وقد يستدلّ (٢) بقوله (مِنْ أَمْوالِهِمْ) على أنّ الزكاة تجب في العين كما ذهب إليه أصحابنا لا في الذمّة ، كما هو قول بعض العامّة ، لدلالة من التبعيضيّة على ما قلناه ، ويتفرّع على الخلاف ما لو باع النصاب بعد وجوب الزكاة فيه ، فإنّه ينفذ في قدر نصيبه قولا واحدا ، وهل يبطل في نصيب الفقراء ، أم يبقى موقوفا؟ فان قلنا بوجوبها في الذمّة صحّت ولم تبطل وإن قلنا بوجوبها في العين لم يصحّ.

وعلى تقدير كونها في العين يحتمل كونه بطريق الشركة أو بطريق تعلّق أرش الجناية برقبة الجاني أو تعلّق الدين بالرهن ، والحقّ أنّ الآية غير ظاهرة في وجوبها

__________________

ـ ولفظ الحديث هكذا : عن عبد الله بن أبي أوفى كان النبي (ص) إذا أتاه قوم بصدقتهم قال اللهم صل على آل فلان (وفي لفظ على فلان) فأتاه أبى بصدقته فقال اللهم صل على آل أبي أوفى.

واسم أبي أوفى علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي شهد هو وابنه عبد الله بيعة الرضوان تحت الشجرة وعمر عبد الله الى ان كان أخر من مات من الصحابة بالكوفة وذلك سنة سبع وثمانين.

(١) انظر الكشاف ج ٢ ص ٥٤٩ تفسير الآية ٥٦ من سورة الأحزاب وكذلك البيضاوي ص ٥٦١ ولنا في تعليقاتنا على كنز العرفان ج ١ ص ١٣٨ و ١٣٩ في هذه المسئلة مطالب مفيدة فراجع.

(٢) انظر البحث في ذلك منقحا في مستمسك العروة الوثقى لاية الله الحكيم مد ظله ج ٩ من ص ١٥٨ الى ١٦٨.

٢٣

في العين (١) إنّما ذلك لو دلّت على أخذ الصدقة عن كلّ نصاب منه بخصوصه ، وليس فليس ويؤيده الإجماع على جواز أدائها من مال آخر ، وإخراج القيمة فيها ، سواء كان ما وجب فيه ذهبا أو فضّة أو إحدى الغلّات ، نعم اختلفوا في الحيوان فالشيخ والأكثر على جواز إخراج القيمة فيه ، ومنع الشيخ المفيد وجماعة من إخراج القيمة في الحيوان وهو بعيد فانّ المقصود من الزكاة نفع الفقراء ، وذلك متساو بالنسبة إلى العين والقيمة ، وهذا مرجّح للتعلّق في الذمة ، كاقاله بعض علمائنا ، وتمام تحقيقه يعلم من الفروع.

(وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع دعاك لهم ويعلم ما يكون منهم في الصدقات.

قيل : إنّهم لمّا سألوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأخذ من مالهم ما يكون كفّارة لذنوبهم فامتنع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من ذلك ، حتّى يؤذن له فيه ، ثمّ أذن له كما سبق.

بيّن تعالى أنّه ليس إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قبول توبتكم وأنّ ذلك إلى الله فقال (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) استفهام يراد به التنبيه على ما يجب أن يعلمه المخاطب فإنّه إذا رجع إلى نفسه وفكّر فيما نبّه عليه ، علم وجوبه ، وإنّما وجب أن يعلم أنّ الله يقبل التوبة ، لأنّه إذا علم ذلك ، كان سببا داعيا له إلى فعل التوبة ، والتمسّك بها والمسارعة إليها وما هذه صفته (٢) يجب العلم به ، ليحصل به الفوز بالثواب ، والخلاص من العقاب.

(وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) أي يتقبّلها ويضمن الجزاء عليها ، قال الجبائيّ جعل الله أخذ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين الصدقات أخذا من الله على وجه التشبيه والمجاز ، من حيث كان يأمره ، وقد ورد عنه عليه‌السلام أنّ الصدقة تقع في يد الله قبل أن تصل إلى يد السائل (٣) والمراد بذلك أنّها تنزّل هذا التنزيل ترغيبا للعباد في فعلها ، وذلك يرجع إلى تضمّن الجزاء عليها.

__________________

(١) وجه عدم الظهور أنه لو كان عنده نصاب الذهب فقط وأخذ الزكاة من الفضة التي لا تجب عليه فيها الزكاة يصدق عليه أنه أخذ الصدقة من أموالهم فأين الظهور؟. منه ـ ره.

(٢) صورته خ.

(٣) انظر الفقيه ج ٢ ص ٣٧ الرقم ١٥٦ والكافي ج ١ ص ١٦٢ والتهذيب ج ٤ ص ١١٢ الرقم ٢٣١ وغيره من الاخبار.

٢٤

(وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) عطف على مدخول العلم ، ولذلك فتح «أنّ» لأنّها مفعول وقد مرّ تفسير مثله.

الثانية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (١).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) قد مرّ وجه تخصيصهم بالخطاب (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) أي من حلاله أو من جيّده وخياره ، فإنّ الصدقة بالمحبوب أفضل الصدقات لقوله تعالى (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (٢) ومن فيه تبعضيّة لأنّ المراد بالإنفاق للبعض (٣) واحتمل بعضهم كونها ابتدائيّة وما مصدريّة بتأويل المفعول أي مكسوبا لكم.

(وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) معطوف على سابقه بحذف المضاف ، أى ومن طيّبات ما أخرجنا من الحبوب والثمار والمعادن والكنوز ونحوها ، ثمّ إنّه تعالى أكّد الأمر بإنفاق الطيّب بقوله (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ) أي لا تقصدوا الرديّ أو الحرام من المال (تُنْفِقُونَ) حال مقدّرة عن فاعل «تيمّموا» أي لا تقصدوا الخبيث من المال حال كونكم مقدّرين الإنفاق منه ويجوز أن يتعلّق «منه» به والضمير يرجع إلى الخبيث فيكون حالا عنه.

(وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ) أي وحالكم أنّكم لا تأخذونه في حقوقكم لرداءته (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) أي إلّا وقت إغماضكم وتسامحكم في أخذه أو إلّا لإغماضكم ، فالاغماض مجاز عن المسامحة ، من أغمض بصره إذا غمضه ، فكما أنّه إذا كانت العين مغمضة يؤخذ

__________________

(١) البقرة : ٢٦٧.

(٢) آل عمران : ١٩٢.

(٣) في سن : لان المراد الإنفاق من البعض.

٢٥

الردىّ والمعيب ، فكذلك إذا تسامح كأنّه لا يرى رداءته.

وفي مجمع البيان (١) أنّ هذا يقوّي كون المراد الرديّ لأنّ الاعماض لا يكون إلّا في الشيء الرديّ دون ما هو حرام (٢) ، ويؤيده أيضا ما قيل إنّها نزلت في قوم كانوا يتصدّقون بحشف التمر وشراره ، فنهوا عنه وقريب منه [ما] روى أبو بصير (٣) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أمر بالنخل أن يزكّى يجيء قوم بألوان التمر وهو من أردئ التمر يؤدّونه من زكوتهم يقال الجعرور والمعافارة ، قليلة اللّحم عظيم النوى إلى أن قال ، وفي ذلك نزل (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) الآية.

وفي رواية أخرى عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله تعالى (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) كان القوم قد كسبوا مكاسب في الجاهليّة ، فلمّا أسلموا أرادوا أن يخرجوها من أموالهم ليتصدّقوا بها فأبى الله عزوجل إلّا أن يخرجوا من طيّب ما كسبوا وهو يعطى كون المراد بالخبيث الحرام.

وقد اختلف في المراد بالإنفاق هنا ، فقيل : هو أمر بالنفقة في الزكاة الواجبة (٤) وقيل هو في الصدقة المتطوّع بها ، لأنّ المفروض من الصدقة له مقدار من القيمة إن قصر كان دينا عليه إلى أن يؤدّيه بتمامه ، وإذا كان ماله المزكّى كلّه رديئا فجائز له أن يعطى منه فلا يتمّ الأمر بإنفاق الطيّب على الإطلاق.

وقيل : إنّ المراد به الإنفاق في سبيل الخير وأعمال البرّ على العموم ، فيدخل

__________________

(١) انظر المجمع ج ١ ص ٣٨١.

(٢) زاد في سن : فإنه لا يجوز أخذه لا بإغماض ولا بغيره ، والآية تدل على أن هذا الخبيث يجوز أخذه بالإغماض.

(٣) انظر روايتي أبي بصير في الكافي باب النوادر من كتاب الزكاة الحديث ٩ و ١٠ ج ١ ص ١٧٥ وفي المرآة ج ٣ ص ٢٠٨ والأول أيضا في العياشي ج ١ ص ١٤٨ الرقم ٤٨٩ والبحار ج ٢٠ ص ١٣ وانظر البرهان ج ١ ص ٢٥٤.

(٤) زاد في سن : لأن الأمر للوجوب والإنفاق الواجب لا يكون إلا في الزكاة.

٢٦

فيه النفقة الواجبة والمتطوّع بها ، ورواية أبي بصير تؤيّد الأوّل ، والمشهور بين الأصحاب أنّ المراد بها الإشارة إلى وجوب إخراج الخمس من الأمور المذكورة ، ويراد بالمخرج من الأرض ما يعمّ المعادن والكنوز ونحوها ممّا يجب فيه الخمس فكذا في المعطوف عليه كأرباح التجارات والصناعات والزراعات ويكون ذلك على الاجمال ، وبيانه معلوم مفصّلا من دليل خارجيّ يدلّ عليه.

والحقّ أنّ هذه الآيات مجملة في المراد ، والمستفاد منها وجوب الإنفاق من الجيّد أو الحلال دون الرديء أو الحرام ، فينبغي التمسّك بها في ذلك ، وجعل بيانه موكولا إلى الدليل الخارجي.

الثالثة : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (١).

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) يحتمل أن يراد بذي القربى قرابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو الظاهر من أخبارنا : روى الكلينيّ (٢) عن عليّ بن أسباط قال : لمّا ورد أبو الحسن

__________________

(١) الروم : ٣٨.

(٢) الحديث رواه الكليني في الأصول آخر كتاب الحجة باب الفيء والأنفال قبيل كتاب الايمان والكفر الحديث ٥ وطبع أحاديث الفيء والأنفال الفروع ط ١٣١٢ آخر المجلد الأول والحديث فيه في ص ٤٢٥ وهو في المرآة ج ١ ص ٤٤٥ وفي شرح ملا صالح المازندراني ج ٧ ص ٤٠٣ وفي الشافي شرح ملا خليل القزويني أواخر المجلد الأول ص ٣٥٨ وفي البرهان ج ٢ ص ٤١٥ ونور الثقلين ج ٣ ص ١٥٤ الرقم ١٥٨ وكنز العرفان ج ١ ص ٢٥٣.

ورواه أيضا في التهذيب مع تفاوت يسير ج ٤ ص ١٤٨ الرقم ٤١٤ وهو في الوافي ـ

٢٧

موسى عليه‌السلام على المهدىّ وساق الحديث إلى أن قال : إنّ الله تعالى لمّا فتح على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدك وما والاها أنزل الله عليه (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) فلم يدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هم؟

__________________

ـ الجزء السادس ص ٤٢ وفي الوسائل الباب ١ من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام الحديث ٥ ص ٦٤ ج ٢ ط الأميري.

قال المجلسي في المرآة : وقد يستشكل بأن سورة الحشر مدنية وآية ذا القربى في سورة الإسراء وهي مكية فكيف نزلت بعد الاولى مع أنه معلوم أن هذه القصة كانت في المدينة؟ والجواب أن السور المكية قد تكون فيها آيات مدنية وبالعكس فان الاسمين مبنيان على الغالب ويؤيده أن الطبرسي قال في مجمع البيان سورة بني إسرائيل مكية كلها وقيل مكية إلا خمس آيات وعد منها وآت ذا القربى رواه عن الحسن وزاد ابن عباس ثلاثا أخر انتهى ما في المرآة.

أقول وترى ما نقله عن المجمع في ج ٣ ص ٣٩٣.

وحديث انحال رسول الله (ص) فدك فاطمة الزهراء عليها سلام الله رواه الإثبات من الفريقين ففي المجمع ج ٤ ص ٣٠٦ تفسير الآية ٣٨ من سورة الروم : وروى أبو سعيد الخدري وغيره انه لما نزلت هذه الآية على النبي (ص) أعطى فاطمة فدكا وسلمه إليها وهو المروي عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليهما‌السلام.

وفي الدر المنثور ج ٣ ص ١٧٧ تفسير الآية ٢٦ من سورة الإسراء : واخرج البزار وأبو يعلى وابن ابى حاتم وابن مردويه عن أبى سعيد الخدري رضى الله عنه قال لما نزلت هذه الآية (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) دعا رسول الله فاطمة وأعطاها فدك وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضى الله عنهما قال لما نزلت وآت ذا القربى حقه أقطع رسول الله (ص) فاطمة فدكا.

وفي عيون اخبار الرضا الباب ٢٣ مجلس الرضا مع المأمون في الفرق بين العترة والأمة حديث من ص ٢٢٨ الى ص ٢٤٠ ج ١ ط قم وفي ص ٢٣٣ منه : والآية الخامسة قول الله عزوجل (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) خصوصية خصهم الله العزيز الجبار بها واصطفاهم على الأمة ، فلما نزلت هذه الآية على رسول الله (ص) قال ادعوا إلىّ فاطمة فدعيت له فقال يا فاطمة ـ

٢٨

فراجع في ذلك جبرائيل ، فراجع جبرائيل ربّه ، فأوحى الله إليه أن ادفع فدك إلى

__________________

ـ قالت لبيك يا رسول الله فقال هذه فدك مما هي لم يوجف عليه بالخيل ولا ركاب وهي لي خاصة دون المسلمين وقد جعلتها لك لما أمرني الله تعالى به فخذيها لك ولولدك فهذه الخامسة.

وفي المجمع أيضا ج ٣ ص ٤١١ تفسير الآية ٢٦ من سورة الإسراء عن أبى الحمد مهدي بن نزار عن أبى القاسم عبيد الله بن عبد الله الحسكانى وساق الإسناد الى أبى سعيد الخدري انه قال لما نزل قوله (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) اعطى رسول الله فاطمة فدكا قال عبد الرحمن بن صالح كتب المأمون الى عبد الله ابن موسى يسأله عن قصة فدك فكتب اليه عبد الله بهذا الحديث رواه الفضيل بن مرزوق عن عطية فرد المأمون فدكا الى ولد فاطمة.

أقول وترى كتاب المأمون إلى قثم بن جعفر في جمهرة رسائل العرب لأحمد زكى صفوت ج ٣ ص ٥٠٩ و ٥١٠ بالرقم ٣٠٨ نقلا عن ص ٤ فتوح البلدان للبلاذرى وج ٦ ص ٣٤٥ معجم البلدان.

وقد روى المحدثون الإثبات من الفريقين ادعاء فاطمة الزهراء سلام الله عليها نحلة النبي (ص) إياها وشهادة على عليه‌السلام وأم أيمن لها وقد تضمنها الحديث المذكور في المتن عن على بن أسباط وانظر تمام الحديث في الكافي والتهذيب ورواها في الاختصاص عن عبد الله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام ص ١٨٣ ورواها في الاحتجاج ج ١ ص ١١٩ عن حماد بن عثمان عن أبى عبد الله عليه‌السلام وعلى بن إبراهيم عند تفسير الآية ٣٨ من سورة الروم ص ٣٩٥ عن حماد بن عثمان عن أبى عبد الله وانظر أيضا تفسير البرهان ج ٣ ص ٢٦٣ ونور الثقلين ج ٤ ص ١٨٦ والبحار ج ٨ باب نزول الايات في أمر فدك من ص ٩١ الى ١٤١ والشافي وكذا تلخيص الشافي ج ٣ ص ١٢١ الى ١٢٨ ط النجف وغاية المرام ص ٢٣٤ الباب الثامن عشر.

وانظر من كتب أهل السنة شرح ابن أبى الحديد عند شرحه الكتاب بالرقم ٤٥ من نهج البلاغة مكتوبة إلى عثمان بن حنيف الفصل الثالث من شرحه ص ٢٦٨ الى ٢٨٦ الطبعة الأخيرة ط دار احياء الكتب العربية سنة ١٩٦٢ ج ١٦ والصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمى ص ٣٥ ط مكتبة القاهرة ١٣٧٥ في الشبهة السابعة من شبه الرافضة في الطعن على أبى بكر ويظهر منه تصديق ابن حجر لادعاء فاطمة وشهادة على عليه‌السلام وأم أيمن واللفظ فيه : ودعواها ـ

٢٩

فاطمة ، فدفعها إليها وقبلت ذلك ، الحديث وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام(١).

ويحتمل أن يكون خطابا له ولغيره ، والمراد بالقرابة قرابة الرجل ، فيكون أمرا بصلة الرحم بالمال والنفس ، أو أنّ المراد نفقة الأقارب الواجبة على الرّجل ، ويكون مقتضى الآية العموم إلّا أنّ الإجماع خصّصها بالأبوين والأولاد.

ويظهر ممّا ذكرنا أنّ استدلال الحنفيّة بها على وجوب نفقة المحارم غير تامّ.

(وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) لعلّ المراد بحقّهما ما وصف لهما من الزكاة ، أو ما هو

__________________

ـ انه نحلها فدك لم تأت عليها إلا بعلى وأم أيمن فلم يكمل نصاب البينة انتهى.

وأستحيي الإمام الرازي عند تفسير الآية ٦ من سورة الحشر ج ٣٠ ص ٢٨٤ الطبعة الأخيرة عن ذكر أمير المؤمنين على (ع) ورد أبى بكر شهادته فعبر بمولى لرسول الله (ص) فقال : فشهد لها أم أيمن ومولى للرسول (ع) فطلب أبو بكر الشاهد الذي يجوز شهادته في الشيء فلم يكن : وكيف يمكن قصور شهادة على (ع) عن شهادة خزيمة بن ثابت الذي قبل شهادته النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مكان شهادتين والقصة مشهورة في كتب التواريخ ومعاجم الصحابة وعلى أخو النبي والحق معه يدور معه أينما دار وأم أيمن مشهودة عليها بالجنة كما ترى ترجمتها في معاجم الصحابة.

بل دعوى فاطمة عليها سلام الله كافية في صدقها وكيف يمكن تعقل ادعائها الكذب وهي سيدة نساء العالمين بإقرار الفريقين اختارها الله من نساء الأمة للمباهلة وفي حقها نزلت آية التطهير وهي برة الأبرار.

أنشدكم بالله أيها القارؤن الكرام هل عرف كون البينة حجة إلا بقول النبي (ص) الذي لا ينطق عن الهوى ان هو إلا وحي يوحي؟ فكيف لا يقبل قول الله عزوجل في تطهيره أهل البيت ويطلب البينة ان هذا لشيء عجاب فيا لنا من مصيبة ما أعظمها نحتسبها عند الله ونبتغى منه الأجر والمثوبة تكذب سيدتنا فاطمة سلام الله عليها وترد شهادة مولانا أمير المؤمنين على (ع) فصبر جميل والله المستعان.

(١) انظر المجمع ج ٤ ص ٣٠٦.

٣٠

أعمّ من الواجب والمستحبّ (ذلِكَ خَيْرٌ) أي إعطاء الحقوق مستحقّها خير (لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) ذاته وجهته ، بمعنى أنّهم يقصدون بمعروفهم إيّاه خالصا أو جهة التقرّب إلى الله لا لجهة أخرى (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بثواب الله يوم القيامة.

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً) زيادة محرّمة في المعاملة (لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) ليزيد في أموالهم (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) بل هو محض الإثم (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) تبتغون به وجهه خالصا (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) ذو الاضعاف من الثواب لا من المقدار ، إذ ليس المراد أنّ من أعطى رغيفا (١) أنّ الله يعطيه عشرة وإنّما المراد أنّ الرغيف (٢) الواحد إذا اقتضى أن يكون قصرا في الجنّة ، فإنّ الله تعالى يعطيه عشرة قصور ، وعلى هذا فيكون المراد الربا المحرّم ونظيره قوله تعالى (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) (٣).

ويحتمل أن يراد بالربا في الآية الزيادة الغير المحرّمة ، وهو أن يعطى الرجل العطيّة أو يهدي الهدية ليعوّض أكثر ممّا وهب ، فبيّن الله تعالى أنّ ذلك لا يوجب الثواب عند الله وإن كان مباحا ، فليس له أجر ولا عليه وزر. ورواه الكلينيّ في الحسن عن إبراهيم بن عمر اليمانيّ (٤) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال الربا رباء ان ربا يؤكل وربا لا يؤكل : فأمّا الّذي يؤكل فهديّتك إلى الرجل تطلب منه الثواب أفضل منها ، فذلك الربا الّذي يؤكل ، وهو قول الله عزوجل (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) وأمّا الّذي لا يؤكل فهو الّذي نهى الله عنه وأوعد عليه النار.

__________________

(١) درهما ، خ.

(٢) الدرهم الواحد ، خ.

(٣) البقرة : ٢٧٦.

(٤) انظر فروع الكافي ج ١ ص ٣٦٩ باب الربا الحديث ٦ وهو في المرآة ج ٣ ص ٣٩٩ ورواه أيضا في التهذيب ج ٧ ص ١٧ الرقم ٧٣ وفي التهذيب أيضا ج ٧ ص ١٥ بالرقم ٦٧ عن الحسين بن سعيد عن حماد بن عيسى عن إبراهيم بن عمر عن أبى عبد الله (ع) في قوله تعالى (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) قال هو هديتك الى الرجل تطلب منه الثواب أفضل منها فذلك يؤكل وهو في الفقيه ج ٣ ص ١٧٤ الرقم ٧٨٥.

٣١

الخامسة : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١).

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) فقد اختلف في الفرق بينهما (٢) فقيل الفقير المتعفّف الّذي لا يسأل والمسكين الّذي يسأل ، وهو الوارد في رواية أبي بصير (٣) عن الصادق عليه‌السلام أنّ

__________________

(١) براءة : ٦١.

(٢) في سن هكذا : قد اختلف في أيهما أسوء حالا ، اى لا مال له ولا كسب بالكلية فقيل : هو الفقير نظرا الى وقوع الابتداء به في الآية ، وليس ذلك الا للاهتمام بشأنه في الحاجة ، من الفقار ، كأنه أصيب فقارة ، ولتعوذ النبي (ص) منه ، ولان المسكين قد يكون له مال لقوله تعالى (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ).

وقيل : المسكين لقوله تعالى (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) وهو المطروح على التراب لشدة احتياجه ولان الشاعر قد أثبت للفقير مالا في قوله :

أما الفقير الذي كانت حلوبته

وفق العيال فلم يترك له سيد

ويستفاد من رواية أبي بصير. إلخ.

(٣) انظر الحديث في فروع الكافي ج ١ ص ١٤١ والتهذيب ج ٤ ص ١٠٤ الرقم ٢٩٧ وهو في المرآة ج ٣ ص ١٨٥ وفي المنتقى ج ٢ ص ١٠٦ قال في المنتقى لا يبعد أن يكون من الحسن ، واحتمل حسنة أيضا المجلسي في المرآة ونص الحديث في التهذيب هكذا : محمد بن يعقوب عن على بن إبراهيم عن أحمد بن محمد عن أحمد بن خالد عن عبد الله بن يحيى عن عبد الله بن مسكان عن ابى بصير قال قلت لأبي عبد الله (ع) في قول الله عزوجل (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) قال الفقير الذي لا يسأل الناس والمسكين اجهد منه والبائس أجهدهم ، وكلما فرض الله عزوجل فإعلانه أفضل من إسراره ، وما كان تطوعا فإسراره أفضل من إعلانه ، ولو ان رجلا حمل زكاة ماله على عاتقة فقسمها علانية كان ذلك حسنا جميلا. ـ

٣٢

المسكين أسوء حالا لأنّه قال : الفقير الّذي لا يسأل الناس ، والمسكين أجهد منه ، وقيل الفقير هو ذو الزّمانة من أهل الحاجة والمسكين من كان ضعيفا محتاجا ، وقيل هما بمعنى واحد إلّا أنّه ذكر بالصفتين لتأكيد أمره ، ولا فائدة مهمّة في تحقيق البحث هنا بل اللازم أن يعلم أنّ المراد بهما من لا يملك قوت السنة له ولعياله الواجبي النفقة ولو بالصنعة والكسب (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) الساعين في جمعها وتحصيلها.

(وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) قوم من الكفّار أشراف (١) كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتألّفهم على

__________________

ـ وروى شطرا منه في العياشي ج ١ ص ٩٠ الرقم ٦٥ مع تفاوت في اللفظ حكاه عنه في البرهان ج ٢ ص ١٦٣ والبحار ج ٢٠ ص ١٦ وقريب من الحديث ما رواه محمد بن مسلم عن أحدهما الحديث ١٨ من فروع الكافي باب فرض الزكاة وهو في المرآة والمنتقى موصوف بالصحة ورواه أيضا في العياشي وفي دعائم الإسلام ج ١ ص ٢٦٠ عن جعفر بن محمد الفقير الذي لا يسأل والمسكين اجهد منه وحكاه في المستدرك ج ١ ص ٥٢١.

ولا ثمرة مهمة في تحقيق البحث في الفرق بينهما الا بناء على وجوب البسط في المقام وفيما لو أوصى أو وقف أو نذر للفقير أو للمسكين إذا قصد معنى اللفظ إجمالا والمتبع عندئذ مفاد الأحاديث السالفة.

ودعوى ظهورها في تفسير الفقير والمسكين في آية الزكاة في غير محلها إذ لا قرينة في غير حديث ابى بصير وهو ان كان مورده الآية لكنه بقرينة ذكر البائس ظاهر في إرادة تفسير اللفظين مطلقا.

وحكى عن ابن إدريس وجماعة من الفقهاء واللغويين ان الفقير أسوء حالا من المسكين واستدل لهم ببعض الوجوه الضعيفة في نفسها فضلا عن صلاحيتها لمعارضة ما سردناه لك من الأحاديث.

(١) انظر أسماءهم في المعارف لابن قتيبة ط المكتبة الحسينية ١٣٥٣ ص ١٤٩ والمخبر لمحمد بن حبيب البغدادي ص ٤٧٣ والدر المنثور ج ٣ ص ٢٥١ نقلا عن عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبى حاتم عن يحيى بن كثير ، وأحكام القرآن لابن العربي ص ٩٥٠ ـ ٩٥٤ وفيه توضيح أحوالهم ، ونهاية الارب للنويرى ج ٧ ص ٣٣٩ و ٣٤٠ والطبقات لابن سعد ط بيروت ج ٢ ص ١٥٢ وسيرة ابن هشام بهامش روض الأنف ج ٢ ص ٣٠٨ ـ ٣١٠ و ـ

٣٣

الإسلام ، ويستعين بهم على قتال غيرهم ، ويعطيهم سهما من الزكاة ، وهل هو ثابت في جميع الأحوال أو في وقت دون وقت ، قيل بالثاني وأنّه كان خاصّا على عهد رسول الله

__________________

ـ سرد أسماءهم أكثر كتب التاريخ عند ذكرهم غزوة حنين.

وراجع أيضا حديث أبى الجارود عن أبى جعفر المدرج في تفسير على بن إبراهيم عند تفسيره الآية ص ١٦٣ وحكاه عنه في البرهان ج ٢ ص ١٣٤ ونور الثقلين ج ٢ ص ٢٣٠ بالرقم ١٩٦ ، الا أن في ضبط أسمائهم في تفسير على بن إبراهيم وكذا الحاكي عنه البرهان ونور الثقلين اغتشاشا يعرف بالمراجعة ولعل ضبط ما في البحار ج ٢٠ ص ١٧ عند حكايته الحديث أصح.

ثم ان أول من أسقط حق المؤلفة كان عمر في زمن خلافة أبى بكر ، ففي الدر المنثور ج ٣ ص ٢٥٢ : وأخرج ابن أبى حاتم عن عبيدة السلماني قال : جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس الى أبى بكر فقالا : يا خليفة رسول الله (ص) ان عندنا أرضا سبخة ليس فيها كلاء ومنفعة ، فإن رأيت أن تعطيناها لعلنا نحرثها ونزرعها ، ولعل الله أن ينفع بها ، فأقطعهما إياها وكتب لهما بذلك كتابا وأشهد لهما.

فانطلقا الى عمر ليشهداه على ما فيه ، فلما قرء على عمر ما في الكتاب تناوله من أيديهما فتفل فيه فمحاه. فتذمرا وقالا له مقالة سيئة ، فقال عمر : ان رسول الله كان يتألفكما والإسلام يومئذ قليل ، وان الله قد أعز الإسلام ، فاذهبا فاجهدا جهدكما لا أرعى الله عليكما ان أرعيتما.

وأخرجه أيضا في الإصابة ج ٣ ص ٥٦ بالرقم ٦١٥٣ عند ترجمة عيينة بن حصن ، وفيه بعد ذلك : فأقبلا الى أبى بكر وهما يتذمران فقالا : ما ندري والله أنت الخليفة أو عمر؟ فقال : لا بل هو لو كان شاء.

فجاء عمر وهو مغضب حتى وقف على أبى بكر فقال : أخبرني عن هذا الذي أقطعتهما أرض هي لك خاصة أو للمسلمين عامة؟ قال : بل للمسلمين عامة ، قال : فما حملك على أن تخص هذين؟ قال : استشرت الذين حولي فأشاروا على بذلك ، وقد قلت لك : انك أقوى على هذا منى فغلبتني.

وقريب منه أيضا ما أخرجه في الإصابة ج ١ ص ٧٢ بالرقم ٢٣١ عند ترجمة الأقرع ـ

٣٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فروى جابر عن أبى جعفر عليه‌السلام (١) أنّه ثابت في كلّ عصر إلّا أنّ من شرطه أن يكون هناك إمام عدل يتألّفهم على ذلك ، وفي مؤلّفة الإسلام قولان للأصحاب فأثبتهم جماعة ، ونفاهم آخرون ، وهم أربع فرق قوم لهم نظراء من المشركين إذا اعطي المسلمون رغب نظراؤهم في الإسلام وقوم نيّاتهم ضعيفة في الدين يرجى بإعطائهم قوّة نيّتهم وقوم بأطراف بلاد الإسلام إذا أعطوا منعوا الكفّار من الدخول أو رغّبوهم في الإسلام ، وقوم جاوروا قوما يجب عليهم الزكاة إذا أعطوا منها جبوها منهم وأغنوا عن عامل.

والحقّ أنّ في دخول هؤلاء في قسم المؤلّفة نظر إذ يمكن ردّ ما عدا الأخير إلى سبيل الله والأخير إلى العمّالة ، وكيف كان فلا ثمرة مهمّة في تحقيقه.

(وَفِي الرِّقابِ) وللصرف في الرقاب بأن يعاونوا الكاتب بشيء منها على أداء نجومه وكذا العبيد إذا كانوا تحت الشدّة والضرّ ، فإنّهم يشترون ابتداء ويعتقون.

وقال الشافعي : إنّهم المكاتبون خاصّة ولم يعتبر باقي العامّة كون العبيد تحت

__________________

ـ بن حابس وأخرجه أيضا الجصاص في أحكام القرآن ج ٣ ص ١٥٣ وابن الهمام في فتح القدير ج ٢ ص ١٥ وكذا في شرح الهداية بهامش فتح القدير ، ونقله في النص والاجتهاد ط النجف ١٣٧٥ ص ٢٠ عن كتاب الجوهرة النيرة على مختصر القدورى وشرح ابن أبى الحديد وغيرهما.

(١) لم أظفر بالحديث كما في المتن عن جابر عن أبى جعفر عليه‌السلام ، نعم رواه في دعائم الإسلام ج ١ ص ٢٦٠ عن أبى جعفر عليه‌السلام مع تفاوت يسير في اللفظ ، من غير ذكر الراوي عنه ، وحكاه عنه في المستدرك ج ١ ص ٥٢١ ، وأرسله في المجمع ج ٣ ص ٤٧.

وفي تفسير الخازن : وقال قوم : سهمهم ثابت لم يسقط ، يروى ذلك عن الحسن والزهري وأبى جعفر محمد بن على وأبى ثور.

وفي التبيان ج ١ ص ٨٣٩ ط إيران عند تفسير الآية رواية خلاف ذلك عن أبى جعفر عليه‌السلام ففيه : فقال الحسن والشعبي : ان هذا كان خاصا على عهد رسول الله (ص) ، وروى جابر عن أبى جعفر محمد بن على ذلك.

٣٥

الضرّ والشدّة ، بل أطلقوا جواز شرائهم من مال الزكاة وإعتاقهم ، وهو قول بعض علمائنا نظرا إلى الظاهر من إطلاق الرقاب ، والأكثر على اشتراط الضرّ والشدّة لأنّ المملوك مع عدم ذلك غير محتاج إلى العتق حاجة الفقراء والمساكين إلى الزكاة ولا يرد المكاتب إذ يجوز الدفع إليه وإن لم يكن في ضرّ لأنّ الحاجة ماسّة من جهته وجهة مولاه ، فلا حاجة إلى اشتراطه.

ويؤيّده ما رواه عمرو بن أبى نصر (١) في الصحيح عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال سألته

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ١٥٨ باب الرجل يحج من الزكاة أو يعتق الحديث ٢ وهو في المرآة ج ٣ ص ١٩٧ وعن محمد بن يعقوب في التهذيب ج ٤ ص ١٠٠ ، الرقم ٢٨٢.

والضبط في النسخ المخطوطة من مسالك الافهام «عمرو بن أبى نصر» وهو الموافق لنسخ التهذيب على ما حكاه صاحب المعالم في المنتقى ، وأما في الكافي والمرآة فالضبط «عمرو عن أبى بصير» وكذلك في النسخة المطبوعة من التهذيب في النجف. ولعل مصحيحه لم يتفطنوا للفرق بين نسخ التهذيب والكافي فصححوه من الكافي.

وترى الحديث في الوسائل الباب ٤٢ من أبواب المستحقين للزكاة الحديث ج ٢ ص ٣٧ ط الأميري ، وفي الوافي الجزء السادس ص ٢٦.

قال في المنتقى ج ٢ ص ١١٢ عند شرح الحديث : وقد اتفقت عدة نسخ عندي للكافي على تصحيف إسناده بما يوجب ضعفه ، وذلك في تسمية راويه ، فذكر هذا عن عمرو عن أبى بصير ، وانما اعتمدنا في تصحيحه على إيراد الشيخ له في التهذيب موافقا للصواب. انتهى.

وظن صاحب الحدائق أن الصحيح ضبط الكافي وأن ضبط التهذيب تصحيف ، انظر ج ١٢ ص ١٨٢ ط النجف ، ونقله في قلائد الدرر ج ١ ص ٢٩١ عن الشيخ عن عمر بن أبى نصر.

ثم انه اختلف علماء الرجال في ان عمرو بن أبى نصر وعمر بن أبى نصر هل هما رجل واحد أو رجلان؟ فاختار العلامة البهبهاني في حواشيه الرجالية على منهج المقال ص ٢٤٩ انهما واحد ، واحتمله أيضا التفرشي في نقد الرجال ص ٢٥٣ واختاره أيضا أبو على في منتهى المقال ص ٢٣٢ والتستري في قاموس الرجال ج ٧ ص ١٧٨ وهو المختار عندي وأن الصحيح عمرو مع الواو وعمر بلا واو تصحيف.

ثم ان هذا الرجل وثقه النجاشي انظر ص ٢٢٢ من رجاله ط المكتبة المصطفوية وسرده ـ

٣٦

عن الرجل يجتمع عنده من الزكاة الخمسمائة والستّمائة يشتري منها نسمة فيعتقها؟ فقال : إذا يظلم قوما آخرين حقوقهم ، ثمّ مكث مليّا ثمّ قال : إلّا أن يكون عبدا مسلما في ضرر فيشتريه ويعتقه.

هذا كلّه مع وجود المستحقّ ، أمّا مع عدمه فلا كلام في جواز ذلك ، وقد نقل عليه المحقّق في المعتبر والعلّامة في المنتهى الإجماع ويدلّ عليه ما رواه الشيخ عن عبيد بن زرارة (١) قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أخرج زكاة ماله ألف درهم فلم يجدلها موضعا يدفع ذلك إليه ، فنظر إلى مملوك يباع فاشتراه بتلك الألف درهم الّتي أخرجها من زكوته ، فأعتقه هل يجوز ذلك؟ قال : نعم لا بأس بذلك ، الحديث.

ولو دفع من سهم الرقاب إلى من وجبت عليه كفّارة يشتري بها رقبة ويعتقها في كفّارته المرتّبة. أو المخيرة مع العجز ، جاز عند بعض علمائنا لإطلاق الآية وما رواه عليّ بن إبراهيم (٢) في تفسيره عن العالم عليه‌السلام قال : و (فِي الرِّقابِ) قوم لزمتهم كفّارات في قتل الخطا وفي الظهار وفي الأيمان وفي قتل الصيد في الحرم ، فليس عندهم ما يكفّرون به ، وهم مؤمنون ، فجعل الله تعالى لهم سهما في الصدقات فيكفّر عنهم.

ولا يخفى أنّ مقتضاها جواز إخراج الكفّارة من الزكاة وإن لم يكن عتقا لإطلاق الكفّارة فيها ، إلّا أنّها غير واضحة الصحّة ، إذ الظاهر أنّ علىّ بن إبراهيم أرسلها منه عليه‌السلام ومن ثمّ قال الشيخ الأحوط عندي أن يعطى ثمن الرقبة لفقره من سهم الفقراء فيشري هو ويعتق عن نفسه وجوّز المحقّق في المعتبر إعطاء هذا من سهم الغارمين أيضا لأنّ القصد بذلك إبراء ذمّة المكفّر ممّا في عهدته.

__________________

ـ العلامة في الخلاصة في القسم الأول انظر ص ١٢١ ط النجف وعده الشيخ في الرجال من أصحاب الصادق عليه‌السلام ص ٢٤٨ الرقم ٤١٢ وذكر في الفهرست ان له كتابا ص ١٣٧ الرقم ٤٩٤.

وأما عمر بن أبى نصر ، فلم يذكره أحد إلا الشيخ في الرجال عند سرد أصحاب الصادق ص ٢٥٣ الرقم ٤٨٨ ، وقد عرفت أن الأصح كونه مصحف عمرو ، مع الواو.

(١) التهذيب ج ٤ ص ١٠٠ الرقم ٢٨١ والكافي ج ١ ص ١٥٨.

(٢) تفسيره المطبوع ص ١٦٣ وحكاه الشيخ في التهذيب ج ٤ ص ٤٩ بالرقم ١٢٩.

٣٧

(وَالْغارِمِينَ) وهم الّذين ركبتهم الديون في غير معصية ولا إسراف ، فتقضي عنهم ديونهم ، ولو كان دينه في معصية لم يصرف إليه من سهم الغارمين عند علمائنا أجمع لما في القضاء عنه من الإغراء بالمعصية ، وهو قبيح. ويؤيّده من الأخبار ما روي عن الرضا عليه‌السلام قال (١) يقضى ما عليه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في طاعة الله عزوجل ، وإن كان أنفقه في معصية الله فلا شيء له على الامام ، ولو تاب عن المعصية فظاهر بعض علمائنا جواز الدفع إليه من سهم الغارمين ، واستبعده الشهيد في البيان نظرا إلى أنّ الدين إذا كان في معصية لم تتناوله الآية ، لعدم صدق الغارم فيها عليه ، مع ما فيه من الإغراء المذكور.

وقد يقال إنّ الآية لا تتناوله من حيث إنّه في معصية بل من حيث إنّه مديون لأنّ الحال ثابت والإغراء ممنوع.

هذا إذا دفع إليه من سهم الغارمين أمّا لو دفع إليه من سهم الفقراء ، فلا ريب في جوازه مع التوبة إن شرطنا العدالة ، وإلّا لم يتوقّف جواز الدفع على ذلك ، لصدق الفقر ، وعدم معارضة الفسق للدفع.

ولو جهل حال دينه فيما أنفقه من طاعة أو معصية ، فالمرويّ عن الرضا عليه‌السلام مرسلا أنه لا يعطى ، وهو ظاهر الشيخ في النهاية واحتجّ له في المختلف بذلك ، وبأنّ الشرط الإنفاق في الطاعة ومع الجهل به ينتفي المشروط ، وفيه نظر ، لضعف الرواية والأصل في تصرّفات المسلم الصحّة وعدم العصيان ، ولأنّ تتبّع مصارف الأموال عسر ، فلا يكون دفع الزكاة موقوفا على اعتباره ، ولأنّ الطاعة والمعصية من الأمور

__________________

(١) الحديث رواه الكافي باب الدين من كتاب المعيشة الحديث ٥ ج ١ ص ٣٥٣ ، وهو في المرآة ج ٣ ص ٣٨٧ ورواه في التهذيب أيضا ج ٦ ص ١٨٥ بالرقم ٣٨٥ وهو في الوسائل الباب ٩ من أبواب الدين الحديث ٢ ج ٢ ص ٦٢٢ ط الأميري والبرهان ج ١ ص ٢٦٠ الرقم ٢ ونور الثقلين ج ١ ص ٢٤٦ الرقم ١١٨٣ وقريب منه ما رواه العياشي عند تفسير الآية ٢٨٠ من سورة البقرة ج ١ ص ١٥٥ بالرقم ٥٢٠ وحكاه في البحار ج ٢٣ ص ٣٧ والبرهان ج ١ ص ٢٦١ بالرقم ١١.

٣٨

الخفيّة فيكفي فيها الظاهر ، ومن هنا ذهب ابن إدريس وجماعة إلى جواز إعطائه من هذا السهم وهو غير بعيد.

(وَفِي سَبِيلِ اللهِ) وللصرف فيه ، ولا خلاف في دخول الجهاد فيه وخصّه الشيخ به في النهاية والجمل والأكثر على أنّ المراد به القرب كلّها كمعونة الحاجّ ، وقضاء الدين عن الحيّ والميّت ، وعمارة المساجد ، وبناء القناطر والمصانع ، ونحوها ، لأنّ سبيل الله : الطريق إليه ، والمراد هنا ما يكون طريقا إلى رضوانه وثوابه ، لاستحالة التحيّز عليه فاذن يدخل فيه جميع ما يكون وصلة إلى الثواب من أفعال الخير.

ويؤيّده ما رواه عليّ بن إبراهيم (١) في تفسيره عن العالم عليه‌السلام قال (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) قوم يخرجون إلى الجهاد ، وليس عندهم ما ينفقون ، أو قوم مؤمنون ليس عندهم ما يحجّون به أو في جميع سبيل الخير ، فعلى الامام أن يعطيهم من مال الصدقات حتّى يقووا على الحجّ والجهاد.

واحتجّ الشيخ بأنّ إطلاق السبيل ينصرف إلى الجهاد فيحمل عليه قضية لدلالة الحقيقة ، والجواب أنّ انصرافه إليه من حيث إنّه فرد من السبيل مسلّم ، ومن حيث إنّه هو المراد ممنوع ، كيف وسبيل الله الطريق إليه على ما عرفت ، وحيث إنّ الجهاد داخل فيه إمّا بالخصوص أو بالعموم (٢) فعمومه يقتضي دخول الغزاة وإن كانوا من جند الديوان ، ولهم سهم في الفيء.

ومنع الشافعي من إعطائهم والشيخ في المبسوط تردّد بين المنع والإعطاء والوجه الإعطاء ، عملا بعموم اللفظ ، كما هو قول أكثر الأصحاب.

(وَابْنِ السَّبِيلِ) وهو المنقطع به في غير بلده ، سمّي به لملازمته السبيل بمعنى

__________________

(١) قد مر أنه في ص ١٦٣ من تفسيره المطبوع ، وحكاه في التهذيب ج ٤ ص ٤٩ بالرقم ١٢٩.

(٢) كذا في الأصل ـ نسخة القاضي ـ وفي سائر النسخ : «اما أنه هو المراد أو في ضمن سبيل الله فعمومه يقتضي إلخ.

٣٩

الطريق كما سمّى اللصّ القاطع الطريق بابن الطريق ، ويدخل فيه الضيف وهذا التفسير ممّا اختاره الشيخ وأكثر أصحابنا ، وتابعهم فيه مالك وأبو حنيفة ، وقال الشافعيّ : ابن السبيل المجتاز ، والمنشئ للسفر أيضا وهو قول ابن الجنيد من أصحابنا ، والأظهر الأوّل لأنّ المتبادر من ابن السبيل من كان ملازما له وكونه فيه ، وظاهر أنّ ذلك لا يتحقّق في المنشئ للسفر ، ويؤيده ما ذكره علىّ بن إبراهيم (١) في تفسيره عن العالم عليه‌السلام قال : ابن السبيل أبناء الطريق الّذين يكونون في الأسفار في طاعة الله ، فيقطع عليهم ، ويذهب ما لهم ، فعلى الامام أن يردّهم إلى أوطانهم من مال الصدقات.

احتجّ الخصم بأنّه يسمّى ابن السبيل لأنّه يريد الطريق ولأنّه يريد إنشاء السفر في غير معصية ، فجاز أن يعطى من سهم ابن السبيل كما لو نوى إقامة مدّة ينقطع بها سفره ثمّ أراد الخروج فإنّه يدفع إليه من الصدقة إجماعا ، مع كونه منشئا للسفر.

والجواب عن الأوّل أنّ التسمية فيه مجاز باعتبار ما يؤل إليه واللفظ عند الإطلاق وعراء القرائن إنّما ينصرف إلى الحقيقة وعن الثاني بأنّ انقطاع السفر فيما ذكرتموه من الصور حكم شرعيّ لا عرفي ولا لغويّ إذ لا يسمّى الخارج من غير بلده بعد مقام خمسة عشر يوما أو عشرة أيّام على اختلاف المذهبين أنّه منشئ للسفر لغة ولا عرفا ، فيكون مثله داخلا في الآية لكونه ملازما للسفر لا لكونه منشئا له ، والغرض من هذا الكلام أنّ المنشئ للسفر لا يعطى من سهم ابن السبيل ، نعم يعطى من سهم الفقراء إن كان فقيرا.

(فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) نصب على المصدر ، أي فرض الله ذلك فريضة وهو دالّ على الوجوب وقرئ بالرفع على «تلك فريضة».

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يضع الأشياء في مواضعها ، والظاهر من الآية أنّ المذكورين مصرفها ، وأنّها لهم لا تخرج منهم إلى غيرهم ، وهو ألصق بما قبلها أعنى قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا) الآية :

أخبر تعالى عن طعن المنافقين ولمزهم بأنّهم إذا لم يعطوا من الصدقات سخطوا وإن أعطوا رضوا ، فاقتضى الحال الردّ عليهم ببيان من يجب صرف الصدقات إليه قطعا

__________________

(١) قد مر الايعاز الى المصدر قبل ذلك.

٤٠