مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ١

جواد الكاظمي

مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ١

المؤلف:

جواد الكاظمي


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٦

(وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) ويخرجوا الزكاة المفروضة من أموالهم ، وذكرهما بالخصوص بعد مطلق العبادة يدلّ على زيادة الاعتناء بشأنهما بالنسبة إلى غيرهما ، (وَذلِكَ) المشار إليه ما تقدّم من العبادة على وجه الإخلاص ، وإقامة الصلاة فإيتاء الزكاة.

(دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي دين الملّة القيّمة ، فإنّما قدّر الملّة لأنّه إذا لم يقدر ذلك كان إضافة الشيء إلى صفته ، وهو غير جائز لأنّه بمنزلة إضافة الشيء إلى نفسه كذا قاله الطبرسي في مجمع البيان.

وفيه نظر فإنّا لا نسلّم عدم جواز هذه الإضافة مطلقا كيف والمانع منها إنّما هو البصريّون (١) فقط ، وأمّا الكوفيّون فإنّهم يجوّزون هذه الإضافة على أنّ البصريّين إنّما يمنعونها مع إفادة الصفتيّة لا مطلقا صرّح بذلك الشيخ الرضىّ ، ولهذا يجوّزون الإضافة البيانيّة. فتأمّل.

والقيّمة : المستمرّة في جهة الصواب فهو على وزن فعيلة أو فيعلة (٢) من قام بالأمر يقوم به إذا أجراه في جهة الاستقامة.

واستدلّ بالآية على وجوب النيّة في كلّ عبادة حتّى الطهارات الثلاث مائيّة وترابيّة نظرا إلى أنّه تعالى بيّن أنّ المأمور به العبادة على وجه الإخلاص ولا يمكن الإخلاص إلّا بالنيّة والقربة. والطهارة عبادة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الوضوء شطر الإيمان (٣)

__________________

(١) هذا أعنى جواز إضافة الاسم إلى ما يوافقه في المعنى من مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين انظر الرقم ٦١ ص ٤٣٦ من الانصاف ، واختار ابن الأنباري مذهب البصريين من المنع ، والحق ما اختاره المصنف هنا من الجواز لمجيئه في القرآن وكلام العرب كثيرا مثل (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ). و (لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ). و (جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ). و (ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ) ومن ذلك قولهم : صلاة الاولى ، ومسجد الجامع ، وما تأوله البصريون تكلف لا داعي له.

(٢) هذا أيضا من مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين انظر الرقم ١١٥ ص ٧٩٥ من كتاب الانصاف.

(٣) الحديث رواه في الكافي باب النوادر قبل كتاب الحيض عن السكوني عن أبي عبد الله وهو في مرآت العقول ج ٣ ص ٣٦ الحديث الثامن ، وفي الوسائل الباب ١ من أبواب الوضوء ـ

٨١

وما هو شطر الإيمان لا يكون إلّا عبادة ، ونحوه ممّا دلّ على ذلك ، وحينئذ فلا يجزى بغير نيّة واقتضى ذلك عدم صحّتها إلّا على ذلك الوجه لأنّ ما عداه غير المأمور به فلا يجزى ، ولا يرد أنّ المأمورين أهل الكتاب لأنّ حكمه تعالى بكون ذلك دين القيّمة : أي الملّة المستقيمة الحقّة صريح في ثبوت ذلك في ملّة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله على أنّ هذا ثابت في جميع الملل لم تختلف فيه ملّة دون ملّة ، ولم يعرض له نسخ ولا تبديل كما قاله الطبرسي في مجمع البيان ، وذكره غيره أيضا ، ولا يذهب عليك أنّ اللازم من ذلك وجوب العبادة على وجه الإخلاص أمّا وجوب النيّة على الوجه الّذي ذكروه فغير واضح منها ، ويدلّ على وجوب الإخلاص في العبادة قوله تعالى (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) فإنّ المراد والله أعلم أمر ربّك أمرا مقطوعا : أى حكم على عباده وأوجب عليهم أن يعبدوا الله وحده ولا يجعلوا للغير من العبادة نصيبا وهو معنى الإخلاص ، ويحتمل أن يكون المراد : حكم ربّك بأن لا تعبدوا على أنّ ـ الباء ـ صلة حذفت ، وهو قياس مطرد عندهم والمعنى واحد ، والآيات الدالّة على اعتبار الإخلاص في العبادة كثيرة وليس فيها دلالة على اعتبار النيّة على الوجه الّذي قالوه وهم أعرف.

الرابعة : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١) (إِنَّهُ) أى المنزل.

(لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) صفة له : أى قرآن حسن مرضيّ أو كثير النفع لتضمّنه أصول العلوم المهمّة من أحوال المبدء أو المعاد ، واشتماله على ما فيه من صلاح المعاش والمعاد أو لأنّه يوجب عظيم الأجر لتاليه والعامل بأحكامه أو أنّه جليل القدر بين

__________________

ـ ج ٥ ، وفي الجامع ج ١ ص ٨٧ الرقم ٧٤٠ ، ومستدرك الوسائل ج ١ ص ٥٣ عن دعائم الإسلام ودرر اللآلي ، وأخرج الحديث من أهل السنة أيضا السيوطي في الجامع الصغير الرقم ٩٦٨١ ص ٣٧٦ ج ٦ فيض القدير.

(١) الواقعة ٧٧ و ٧٨ و ٧٩.

٨٢

الكتب السماويّة لامتيازه عنها بأنّه معجز باق على مرّ الدهور.

(فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) صفة بعد أخرى أو خبر بعد خبر : أى مستور عن الخلق في اللوح المحفوظ.

(لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) صفة لقرآن ، ويحتمل أن يكون صفة ثانية لكتاب (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) صفة لقرآن فإنّه منزل من ربّ العباد على لسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قيل : فيه دلالة على عدم جواز مسّ القرآن للمحدث حدثا أصغر أو أكبر وفيه أنّ الدلالة موقوفة على كون لا يمسّه خبرا بمعنى النهي صفة لقرآن أو خبر ثان لكلمة أن بتقدير مقول فيه لا يمسّه إلّا المطهّرون ، وهو غير لازم. إذ يجوز أن يرجع الضمير إلى الكتاب المكنون : أى اللوح المحفوظ ، وجملة لا يمسّه صفة له. والمراد أنّ القرآن الكريم في كتاب مكنون لا يمسّه إلّا الملائكة المطهّرون من جميع الأدناس : أدناس الذنوب وغيرها. فلا حاجة إلى جعل لا يمسّه بمعنى النهي ، ويؤيّد ذلك أنّه أقرب ، وعدم الاحتياج إلى الجملة الخبريّة بمعنى النهي وموافقته لما هو الأصل من الإباحة ، ولكن يؤيّد الأوّل أنّ القرآن هو المحدث عنه في الآية الكريمة ، ولأنّ الفصل بين نعته الثاني والثالث بنعت الكتاب بمفرد فقط ليس بمثابة الفصل به ، وبجملة طويلة كما هو اللازم على التقدير الثاني ، ومن هنا نشأ اختلاف الأصحاب في جواز مسّ كتابة القرآن للمحدث. فقال الشيخ في المبسوط : بالكراهة ووافقه على ذلك جمع من الأصحاب وهو قول بعض العامّة أيضا (١) وقال الشيخ في الخلاف بالتحريم ، وعليه أكثر الأصحاب ، وهو مرويّ عن ابن عمر والحسن وعطا وطاوس والشعبي ، وقول مالك والشافعي وأصحاب الرأي ، ويؤيّده من الأخبار ما رواه حريز مرسلا عن الصادق عليه‌السلام (٢) أنّه نهى ابنه إسماعيل لمّا كان على غير وضوء

__________________

(١) قال ابن قدامة في المغني ج ١ ص ١٤٧ بعد نقل اشتراط الطهارة لمس الكتاب ولا نعلم مخالفا لهم إلا داود فإنه أباح مسه ، وأباح الحكم وحماد مسه بظاهر الكف لان آلة المس باطن اليد فينصرف النهي إليه دون غيره.

(٢) انظر الوسائل الباب ١٢ من أبواب الوضوء الحديث الثاني ، وفيه لا تمس الكتاب ومس الورق واقرأه.

٨٣

عن مسّ كتابة القرآن ، ونحوها رواية أبي بصير عنه عليه‌السلام (١) ، وروى العامّة عن أبي عبيدة قال في كتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لعمرو بن حزم : لا تمسّ القرآن إلّا طاهرا (٢)

__________________

(١) انظر الوسائل الباب ١٢ من أبواب الوضوء الحديث الأول ، وفيه الجواب عن سؤال القراءة على غير وضوء قال : لا بأس ولا تمس الكتاب.

(٢) أخرج الحديث بهذا الاجمال مالك في الموطإ انظر الرقم ٤٧٠ ج ٢ ص ٧ من شرح الزرقانى ، وأخرجه في الدر المنثور ج ٦ ص ١٦٢ وتفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٩٨ والخازن ج ٤ ص ٢٢٣ والشوكانى في فتح القدير ج ٥ ص ١٥٩ والبيهقي ج ١ ص ٨٨ والمنتقى في ص ٢٢٥ ج ١ من نيل الأوطار وغير.

والمروي عن النبي (ص) في ذلك كتابان في كليهما النهي عن مس القرآن بغير طهر ، الأول : كتابه إلى عمرو بن حزم الرقم ٣٢ من مكاتيب الرسول ص ١٩٧ والرقم ١٠٥ من الوثائق السياسية ص ١٣٧ نقله بتفصيله في تنوير الحوالك ج ١ ص ١٥٧ ، وصبح الأعشى ج ١٠ من ص ٩ إلى ١١ ، والنووي في النهاية الارب ج ١٨ ص ١٠٠ إلى ١٠٣. والثاني : كتابه إلى بني عبد كلال مع عمرو بن حزم الرقم ٣٣ من مكاتيب الرسول ص ٢٠٨ والرقم ١١٠ من مجموعة الوثائق ص ١٤٩ نقل تفصيله الحاكم في المستدرك ج ١ من ص ٣٩٥ إلى ٣٩٧ والبيهقي ج ٤ ص ٨٩ إلى ٩٠ ، ونقل بعضها في مجمع الزوائد ج ٣ ص ٧١ وفيه أيضا النهي عن مس القرآن بغير طهر.

وقد أوعز إلى الحديثين أحدهما أو كليهما كثير من الحفاظ والرواة في مواطن كثيرة من كتبهم الحديثية والفقهية وترجمة الصحابة ، وممن أو عز إليه : أبو عبيد كما نقله المصنف من ص ٣٥٨ إلى ٣٦٦ من الرقم ٩٣٣ إلى الرقم ٩٩١ من كتابه الأموال ، وقد تكلم الحفاظ في سند الحديث فصححه بعض وضعفه آخرون ، ونقل غير واحد عن ابن عبد البر منهم السيوطي في تنوير الحوالك أنه قال : لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث ، وقد روى مسندا من وجه صالح وهو كتاب مشهور عند أهل السير معروف عند أهل العلم معرفة يستغنى بها في شهرتها عن الإسناد لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقى الناس له بالقبول ، ويشعر بأن للنبي (ص) مكتوبا إلى عمرو بن حزم ، وإن لم نعلمه بالتفصيل ما رواه في التهذيب عن الامام الصادق ج ١٠ ص ٢٩١ الرقم ١١٣١ وفيه بعض أحكام الديات ، وهو في الوسائل أبواب ديات الشجاج والجراح الباب ٢ الحديث ١٣ ص ٥٠٦ ج ٣ ط أمير بهادر.

٨٤

ولا يردّ أنّهما ضعيفان لا يوجبان الخروج عن مقتضى الأصل لأنّ الاعتماد في ذلك على ظاهر الآية ، وهذه كالمؤيّدة لها. فتأمّل.

أمّا تحريم مسّه على الجنب فقد قال العلّامة في المنتهى : إنّه مذهب علماء الإسلام وحينئذ فلا مجال للتوقّف فيه ، وقد يستدلّ على تحريم خطّ المصحف للمحدث بالحدث الأصغر بصحيحة علىّ بن جعفر أنّه سأل أخاه موسى عليه‌السلام (١) عن الرجل أيحلّ له أن يكتب القرآن في الألواح والصحيفة وهو على غير وضوء؟ قال : لا حيث دلّت على تحريم كتابة القرآن للمحدث ، وهو يستلزم تحريم المسّ بطريق أولى. فتأمّل.

الخامسة : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (٢) (فِيهِ) أى في مسجد قبا.

(رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) من المعاصي والخصال الذميمة أو من النجاسات.

(وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) يرضى عنهم ويدنيهم من جنابه إدناء المحبّ حبيبه. قيل : إنّ سبب النزول أنّهم كانوا يتطهّرون بالماء عن الغائط والبول ، وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهم‌السلام كذا في مجمع البيان (٣) وهو أيضا في رواية عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لهم : ما ذا تفعلون (٤) في طهركم فإنّ الله قد أحسن الثناء عليكم قالوا : نغسل أثر الغائط ، فقال : أنزل الله فيكم (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) وقيل : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا سألهم وقال : يا معشر الأنصار إنّ الله (٥) ـ عزوجل ـ قد أثنى عليكم فما ذا الّذي

__________________

(١) انظر الوسائل الباب ١٢ من أبواب الوضوء الحديث ٤.

(٢) التوبة ١٠٨.

(٣) انظر ج ٣ ص ٧٣ ط صيدا.

(٤) انظر مجمع البيان ج ٣ ص ٧٣ وقريب منه في تفسير الطبري ج ١١ ص ٢٩ والخازن ج ٢ ص ٢٦٣ وروى قريبا منه في الوسائل الباب ٣٤ من أبواب الخلوة الحديث الأول ، واللفظ نستنجي بالماء بدل نغسل أثر الغائط.

(٥) انظر التفسير النيشابوري ط إيران ج ٢ ص ٢٧٣ والكشاف ج ٣ ص ٥٨.

٨٥

تصنعون عند الوضوء وعند الغائط فقالوا : يا رسول الله نتّبع الغائط الأحجار الثلاثة ثمّ نتّبع الأحجار الماء فتلا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الآية.

فعلى الأوّل فيها دلالة على استحباب إزالة الغائط مطلقا بالماء ، وإن جاز بالأحجار على أن يكون أفضل الفردين كما قاله الفقهاء لأنّه أقوى المطهّرين لإزالته العين والأثر.

وعلى الثاني فيها دلالة على استحباب الجمع بينهما لما فيه من المبالغة في الاستظهار وقد ذكر الفقهاء ذلك أيضا ، ويستفاد منها استحباب المبالغة في الاجتناب عن النجاسات وإنّ ترتّب الثواب على العمل لا يشترط فيه العلم بذلك فلو فعله جاهلا به ترتّب عليه ثوابه ، وفي الأخبار دلالة على ذلك أيضا ، وقد يستفاد من الآية استحباب الكون على الطهارة ، واستحباب المبالغة في الاجتناب عن المحرّمات والمكروهات والحرص على الطاعات والحسنات ونحوها بيان ذلك أنّ الطهارة هنا ليست مخصوصة بمعناها الشرعيّ الّذي هو رفع الحدث أو استباحة الصلاة اتّفاقا فلم يبق إلّا معناها اللغويّ : أي النزاهة والنظافة ، وهو يعمّ جميع ذلك كما لا يخفى ، وإلى هذا نظر البيضاوي حيث قال : أى المتنزّهين عن الفواحش والأقذار والإتيان في غير المأتي ، وفي الكشّاف أنّه عامّ في التطهير من النجاسات كلّها.

السادسة : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) (١).

(وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) أى مطرا فالمراد بالسماء إمّا السحاب بناء على أنّ كلّ ما علا يطلق عليه السماء لغة ، ولذا سمّوا سقف البيت سماء ، وإمّا الفلك بمعنى أنّ ابتداء نزول المطر منه إلى السحاب ، ومن السحاب إلى الأرض.

(لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) لعلّ المراد بتطهير الله إيّاهم توفيقهم للطهارة أو الحكم بها بعد استعمال الماء على الوجه المعتبر : أى من الحدث والجنابة.

__________________

(١) الأنفال ١١.

٨٦

(وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) : أى وسوسته إليكم وتخويفه إيّاكم فقد روى أنّ الكفّار سبقوا المسلمين إلى الماء (١) فاضطرّ المسلمون ونزلوا على تلّ من رمل سيّال لا تثبت فيه أقدامهم ، وأكثرهم خائفون لقلّتهم وكثرة الكفّار فباتوا تلك الليلة على غير ماء فاحتلم أكثرهم ، وقد غلب المشركون على الماء فوسوس إليهم الشيطان. وقال : كيف تنصرون وقد غلبتم على الماء وأنتم تصلّون محدثين مجنبين وتزعمون أنّكم أولياء الله وفيكم رسوله فأشفقوا فأنزل الله المطر ليلا حتّى جرى الوادي واتّخذوا الحياض غدوة الوادي ، وسقوا الركاب واغتسلوا وتوضّؤوا وتلبّد الرمل الّذي بينهم وبين عدوّهم حتّى تثبت فيه القدم وزالت الوسوسة ، ويحتمل أن يراد برجز الشيطان الجنابة الحاصلة بالاحتلام لأنّها من فعله وتخييله فيكون فيه إشارة إلى رفع الحدث. وفي قوله : ليطهّركم إلى إزالة الخبث.

(وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) ويقويها ليحصل لها الوثوق بلطف الله.

(وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) أى بالمطر حتّى لا تسوخ في الرمل أو في الربط حتّى يثبت بالمعركة ، ولا تكون متزلزلة ، وفي الآية دلالة على كون الماء المطلق مطهّرا يتطهّر به من حدث الجنابة وغيره لإطلاق التطهير به ، وهو يتحقّق من الحدث والخبث ، وقد انعقد إجماع الأمّة على ذلك وتظافرت به الأخبار ، وقد يستدلّ بها على نفى كون غير الماء المطلق مطهّرا ، ووجّهه العلّامة في المختلف بأنّه تعالى خصّص التطهير بالماء فلا يقع في غيره.

أمّا المقدّمة الأولى ، فلأنّه تعالى ذكرها في معرض الامتنان. فلو حصلت الطهارة بغيره أيضا لكان الامتنان بالأعمّ أولى ولم يكن للتخصيص فايدة.

وأمّا الثانية : فظاهرة ، واعترضه بعض المتأخّرين أنّه يجوز التخصيص بالذكر

__________________

(١) قال الشوكانى في تفسيره فتح القدير ج ٢ ص ٢٧٩ بعد نقله الرواية! إن المشهور في كتب السير المعتمدة أن المشركين لم يغلبوا المؤمنين على الماء بل المؤمنون هم الذين غلبوا عليه من الابتداء ، وهذا المروي عن ابن عباس في إسناده العوفي وهو ضعيف جدا.

٨٧

والامتنان بأحد الشيئين الممتنّ بهما إذا كان أحدهما أبلغ وأكثر وجودا وأعمّ نفعا فجاز كون التخصيص بالماء لذلك لا لكونه مختصّا بالحكم.

ثمّ إنّه وجّه في الاحتجاج بالاية طريقا آخر حاصله : أنّ النجاسة والطهارة حكمان شرعيّان يطريان على المحلّ فإذا ثبت أحدهما لم يرتفع إلّا بدليل من الشرع استصحابا لما ثبت فمع الحكم بالنجاسة إذا غسل بالماء المطلق يطهر بظاهر الآية ، وغيره لا يطهر تمسكا بالاستصحاب وعدم وجود دليل ، ولا يخفى أنّ الاعتراض وارد والتوجيه (١) بعيد لأنّ مرجعه الاحتجاج على كون الماء المطلق مطهّرا بالآية وعلى نفى طهوريّة المضاف بالاستصحاب وهو خروج عن الوجه المستدلّ به إلى وجه آخر ، والحاصل أنّ كون الماء المطلق مطهّرا أمر معلوم من الآية إنّما الكلام في دلالة الآية على نفى كون غيره مطهّرا ، وحديث الاستصحاب أجنبيّ منه. إذ يمكن تقريبه من دون ملاحظة الآية فيقال : النجاسة والطهارة حكمان شرعيّان ، وقد ثبت بالضرورة كون الماء المطلق في الجملة مطهّرا فإذا غسل به النجس طهر ومع غسله بغيره لم يطهر عملا بالاستصحاب.

واعلم أنّ المستفاد من أكثر الآيات أنّ المياه النابعة في الأرض كلّها أو جلّها من المطر كقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) (٢) وقوله تعالى (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) (٣) وقوله

__________________

(١) يمكن تقرير التوجيه بما يندفع عنه البعد بأن يقال : الشيء إذا حكم بنجاسته شرعا فالحكم بطهارته يتوقف على حكم الشارع بالطهارة ، ولم يعلم حكم الشارع بالطهارة إلا في الماء المطلق فيبقى غيره على المنع حتى يثبت الدليل وهو كلام جيد غير أن ما ذكره الأصحاب قد يأباه منه.

(٢) الزمر ٢١.

(٣) الفرقان ٤٩.

٨٨

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) (١) قال الشيخ في التبيان : يعنى أنّه تعالى أسكن الماء المنزل من السماء في الأرض وأثبته في العيون والأودية ونحوها من الآيات.

وقد صرّح جماعة بأنّ مياه الأرض كلّها من السماء ، وعلى هذا فيتمّ الاستدلال بها على كون الماء من حيث هو مطهّرا من الأحداث والأخباث ، ولكنّها كالمجملة وتفاصيل أحكامها وما يلحقها من كونها جارية أو راكدة مياه آبار ونحوها ، وما ينجسها وما يزيد حكم نجاستها يعلم من السنّة المطهّرة الواردة عن أصحاب العصمة عليهم‌السلام.

وقد يستدلّ بها على نجاسة المنيّ بناء على أنّ المراد برجز الشيطان المنىّ الحاصل من الجنابة ، والرجز بمعنى الرجس : أى النجس ، وفيه نظر لأنّ الرجس بمعنى القذر وهو أعمّ من النجاسة نعم النجاسة فيه ثابتة من خارج الآية ، وقد انعقد إجماعنا على النجاسة ، ووافقنا أكثر العامّة ، وخالف الشافعيّ فحكم بطهارة منيّ الإنسان لما روى عن عائشة قالت : كنت أفرك (٢) ثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ يصلّى فيه ، وفي الدلالة نظر إذ بعد تسليم الخبر يجوز أن يكون نجسا وإزالته بالفرك ، وتمام البحث يعلم من الفروع ، وفيها أيضا دلالة على إباحة المياه وجواز التصرّف فيها على أيّ وجه كان حتّى يثبت المانع ، ونحو الآية المذكورة في إفادة التطهير بالماء قوله تعالى (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) أى طاهرا في نفسه مطهّرا لغيره مزيلا للأحداث أو الأخباث ، وفي وصفه تعالى الماء بكونه طهورا مطلقا يدلّ على أنّ الطهوريّة صفة أصليّة للماء المطلق ثابتة له قبل الاستعمال بخلاف قولهم نحو ضارب لأنّه إنّما يوصف به بعد ضربه ، والطهور في لغة العرب هو المطهّر لغيره لأنّهم لا يفرّقون بين قول القائل هذا ماء طهور ، وهذا ماء مطهّر ، وأيضا وجدنا العرب تقول : هذا ماء طهور ، وهذا تراب طهور ولا

__________________

(١) المؤمنون ١٨.

(٢) انظر المنتقى بشرح نيل الأوطار ص ٦٥ ج ١ ولهم روايات أخر بألفاظ مختلفة واستنتج الشوكانى في ص ٩٧ بعد نقله الأقوال أن التعبد بالإزالة غسلا أو مسحا أو فركا أو سلتا أو حكا ثابت ، ولا معنى لكون الشيء نجسا إلا أنه مأمور بإزالته بما أحال عليه الشارع قال : فالصواب أن المنى نجس يجوز تطهيره بأحد الأمور الواردة.

٨٩

يقولون هذا ثوب طهور ، ولا خلّ طهور لأنّ التطهير ليس في شيء من ذلك.

لا يقال : الفعول الّذي ورد متعدّيا في كلام العرب هو الّذي فعله متعدّيا كالضارب ، والطهور ليس كذلك.

لأنّا نقول : ذلك ممنوع كيف وقد ورد كثيرا في أسماء المبالغة متعدّيا ، وإن لم يكن أصله متعدّيا ، ولا خلاف بين النحاة أنّ اسم الفعول موضوع للمبالغة وتكرار الصفة وظاهر أنّ الماء ممّا لا يتكرّر ولا يتزايد في طهارته فينبغي أن يعتبر في إطلاق الطهور عليه غير ذلك ممّا يمكن تزايده فيه ، وليس بعد ذلك إلّا أن يكون مطهّرا لغيره ويتمّ المطلوب.

وفي الكشّاف طهورا بليغا في طهارته ، وعن أحمد بن يحيى هو ما كان طاهرا في نفسه مطهّرا لغيره فإن كان ما قاله شرحا لبلاغته في الطهارة كان سديدا ، ويعضده قوله تعالى (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ) وإلّا فليس فعول عن التفعيل في شيء.

والطهور في العربيّة على وجهين : صفة واسم غير صفة ، فالصفة ماء طهور كقولك :

طاهر ، والاسم كقولك لما يتطهّر به : طهور كالوضوء ، والوقود لما يتوضّأ به ، ويوقد بالنار ، وقولهم : تطهرت طهورا حسنا كقولك : وضوءا حسنا ذكره سيبويه ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا صلاة إلّا بطهور : أي طهارة. انتهى.

واعترضه النيشابوري أنّه حيث سلّم أنّ الطهور في العربيّة على الوجهين اندفع النزاع لأنّ كون الماء ممّا يتطهّر به هو كونه مطهّرا لغيره فكأنّه قال : وأنزلنا من السماء ماء هو آلة للطهارة ويلزمه أن يكون طاهرا في نفسه وقال : وممّا يؤكّد هذا التفسير أنّه تعالى ذكره في معرض الانعام فوجب حمله على الوصف الأكمل ، وظاهر أنّ المطهّر أبلغ من الطاهر ، ونظيره قوله تعالى (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) انتهى ولا يخفى ما في تفسير الطهور بآلة الطهارة فإنّ الآلة لا يوصف بها من بين المشتقّات فكيف يستلزم ذلك التسليم اندفاع النزاع. فتأمّل.

ويمكن ردّ كلام الكشّاف بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : التراب طهور المسلم ، ولو لم يجد الماء عشر سنين ، ولو كان معنى الطهور الطاهر لكان معناه التراب طاهر المسلم فلا ينتظم و

٩٠

كذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعا ولو كان الطهور الطاهر لكان معناه طاهر إناء أحدكم فلا ينتظم فلا بدّ من حمله على المطهّر لينتظم الكلام.

السابعة : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (١).

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) هو مصدر ميمي كالمجيء والمبيت بمعنى الحيض فيصحّ عود الضمير إليه في قوله (قُلْ هُوَ أَذىً) أي الحيض أمر مستقذر مؤذ ينفر عنه الطبع واحتمل بعضهم أن يكون بمعنى المكان والتقدير هو ذو أذى ، وقيل : السائل أبو الدحداح (٢) في جمع من الصحابة.

(فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) أى اعتزلوا مجامعتهنّ ، وتقديم الأخبار بكونه أذى لترتّب الحكم بوجوب الاعتزال عليه ، وذلك لأنّ دم الحيض دم فاسد يتولّد من فضلة تدفعها طبيعة المرأة من طريق الرحم حتّى لو احتبست تلك الفضلة لمرضت المرأة فذلك الدم جار مجرى البول والغائط. فكان أذى وقذرا ، ولا يردّ دم الاستحاضة حيث لا يوجب الاعتزال لأنّ ذلك دم صالح يسيل من دم عرق ينفجر من عنق الرحم ، ويؤيّده ما رواه العامّة عن عائشة (٣) قالت : جاءت فاطمة بنت أبي حبيش فقالت : يا رسول الله

__________________

(١) البقرة ٢٢٢.

(٢) هو ثابت بن الدحداح أو الدحداحة يكنى أبا الدحداح انظر ترجمته في أسد الغابة ج ١ ص ٢٢٢ وقيل : السائل أسيد بن حضير وعباد بن بشر.

(٣) أخرج الحديث البخاري انظر ص ٣٤٤ و ٤٢٥ ج ١ فتح الباري ص ٢٤٦ و ٢٩١ ج ١ نيل الأوطار وفيه عن غير البخاري أيضا ، وأخرجه في أسد الغابة ج ٥ ص ٥١٨ عن الثلاثة وفي ألفاظ الحديث اختلاف يسير. أبو حبيش على ما في الفتح بالحاء المهملة والموحدة والشين المعجمة اسمه قيس بن المطلب بن أسد وفاطمة هذه غير فاطمة بنت قيس التي طلقت ثلاثا.

٩١

إنّي امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة. فقال : لا إنّما ذلك دم عرق وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فدع الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ، ومعنى العرق أنّه علّة حدثت بها من تصدّع العروق ، وقد اتّفق المسلمون كافّة على تحريم الجماع في زمان الحيض ، واتّفقوا أيضا على حلّ الاستمتاع بالمرأة بما فوق السرّة وتحت الركبة ، وإنّما اختلفوا في جوازه بها دون السرّة وفوق الركبة وعدمه. فقيل : بالجواز وعليه جماعة من المفسّرين ، وهو قول أكثر أصحابنا نظرا إلى أنّ المراد بالمحيض موضع الحيض ، والمعنى فاعتزلوا موضع الحيض من النساء.

ويؤيّده أنّه المتبادر من اعتزال النساء. إذ المقصود من معاشرتهنّ هو الجماع في الفرج ، ولأنّه كان في الجاهليّة (١) إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجالسوها على فرش ولم يساكنوها في بيت. فقال أناس من الأعراب : يا رسول الله البرد شديد والثياب قليلة فإن آثرناهنّ بالثياب هلك سائر أهل البيت ، وإن استأثرنا بها هلكت الحيّض فنزلت الآية. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن ولم يأمركم بإخراجهنّ من البيوت يعنى أنّ المراد من قوله : فاعتزلوا النساء فاعتزلوا مجامعتهنّ.

وروى العامّة عن عائشة حين سئلت عن ذلك أنّها قالت : يتجنّب شعار الدم (٢)

__________________

(١) روى القصة كما في المتن مع اختلاف يسير في جامع أحاديث الشيعة ص ١٩٠ ج ١ الرقم ١٧٩٠ نقلا عن ص ٧٧ مستدرك الوسائل عن الغوالي ، ونقلها في البحار أيضا ج ١٨ ص ١٠٨ وفي أحاديث أهل السنة نظير هذا المضمون في سبب النزول بوجه آخر انظر الدر المنثور ج ١ ص ٢٥٨ وفيه واصنعوا كل شيء إلا النكاح ، وفي لفظ كما حكاه ابن الهمام في ص ١١٥ ج ١ فتح القدير إلا الجماع ، وكذا في المنتقى بشرح نيل الأوطار ج ١ ص ٢٩٩ وفيه رواه الجماعة إلا البخاري.

(٢) وفي الدر المنثور ج ١ ص ٢٥٩ وأخرج عبد الرزاق وابن جرير والنحاس في ناسخه ، والبيهقي عن عائشة أنها سألت ما للرجل من امرأته وهي حائض فقالت : كل شيء إلا فرجها ، وفي المغني لابن قدامة ج ١ ص ٣٣٤ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : اجتنب منها شعار الدم.

٩٢

وله ما سوى ذلك ، وروينا في الصحيح عن عمر بن يزيد (١) قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما للرجل من الحائض؟ قال : ما بين إليتيها ولا يوقب ، ونحوها من الأخبار (٢) واستدلّ العلّامة في المنتهى (٣) على ذلك بما حاصله : أنّ المحيض المأمور بالاعتزال منه إمّا أن يراد به نفس المصدر أو زمان الحيض أو مكانه لكن نفسه غير مراد إذ لا معنى لكون المصدر ظرفا للاعتزال فلا بدّ من إضمار زمانه أو مكانه ، وإضمار المكان أولى. إذ لا يجب اعتزال مدّة الحيض بالكلّيّة إجماعا لجواز مضاجعتهنّ وملامستهنّ فتعيّن الثالث وهو المطلوب ، وفيه ما فيه (٤).

وقيل : بتحريم الاستمتاع فيما بين سرّتها وركبتها ، وعلى هذا السيّد المرتضى وجماعة من أصحابنا ، ووافقهم في ذلك أصحاب المذاهب عدا أحمد بن حنبل ومحمّد بن الحسن صاحب أبي حنيفة فإنّهما قالا : بالأوّل : أي يجب اعتزال ما اشتمل عليه الإزار (٥) بناء على أنّ المحيض مصدر كالمجيء والمبيت والتقدير فاعتزلوا تمتّع النساء في زمان الحيض ترك العمل بالآية ممّا فوق السرّة والركبة للإجماع فيبقى الباقي على الحرمة.

ويؤيّد هذا القول ما رواه ابن بابويه في الصحيح عن عبيد الله بن علىّ الحلبي

__________________

(١) الحديث رواه في الاستبصار ج ١ ص ١٢٩ الرقم ٤٤١ والتهذيب ج ١ ص ١٥٥ الرقم ٤٤٣ وتراه في جامع أحاديث الشيعة ص ١٩١ ج ١ الرقم ١٧٩٧ وفي الوسائل الباب ٢٥ من أبواب الحيض الحديث ٨.

(٢) بل ونحوها من طرق الشيعة ، وأهل السنة.

(٣) انظر المنتهى ج ١ ص ١١١ وسبقه في هذا البيان المحقق في المعتبر انظر ص ٥٩ ط إيران ١٣١٨ وللرازى في تفسيره أيضا بيان نظير ذلك انظر ص ٦٧ و ٧٢ ج ٦ الطبعة الأخيرة ولذلك قوى الجواز مع كونه شافعيا ، وقد روى عن الشافعي أيضا القول بالجواز.

(٤) لا أرى فيما حققه المحقق في المعتبر وقواه العلامة في المنتهى إلا المتانة.

(٥) تفسير لقول أصحاب المذاهب ، وإلا فمذهب أحمد كما نبه به المصنف جواز الاستمتاع بغير الجماع انظر المغني لابن قدامة ج ١ ص ٣٣٥ وكذا محمد بن الحسن انظر فتح القدير لابن الهمام ج ١ ص ١١٥ وروى ذلك أيضا عن عكرمة وعطا والشعبي والثوري وإسحاق والحكم والنخعي والأوزاعي والحاكم وداود.

٩٣

أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحائض ما يحلّ لزوجها قال : تئتزر بإزار إلى الركبتين وتجمع سرّتها. ثمّ له ما فوق الإزار (١) وروى العامّة عن عائشة أنّ عبد الله بن عمر (٢) سألها هل يباشر الرجل امرأته وهي حائض؟ فقالت : تشدّ إزارها على سفلتيها. ثمّ ليباشرها إن شاء ، وعن بريد بن أسلم [زيد بن أسلم (٣) خ ل] أنّ رجلا سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يحلّ لي من امرأتي وهي حائض قال : تشدّ عليها إزارها. ثمّ شأنك وأعلاها والأظهر الأوّل لعدم فهم هذا عن ظاهر الآية بل الظاهر الأوّل كما سلف ، والأخبار معارضة بمثلها كما عرفت ، وحمل الأخبار الواردة بالنهي عن استمتاع ما بين السرّة والركبة على الكراهيّة (٤) طريق الجمع بين الأدلّة.

ويؤيّده الأخبار الدالّة على جواز التفخيذ (٥) وورود بعضها بتخصيص التحريم ثمّ بموضع الدم (٦) ولأصالة عدم وجوب الاجتناب خرج منه موضع الدم بالاتّفاق فيبقى

__________________

(١) انظر الفقيه ج ١ ص ٥٤ ط النجف ورواه أيضا في التهذيب ج ١ ص ١٥٤ الرقم ٤٣٩ وفي الاستبصار ج ١ ص ١٢٩ الرقم ٤٤٢ وتراه في جامع أحاديث الشيعة ج ١ ص ١٩١ الرقم ١٧٩٩ وفي الوسائل الباب ٢٦ من أبواب الحيض الحديث الأول ص ١٠٨ ط أمير بهادر.

(٢) أخرجه مالك في الموطإ انظر ج ١ من شرح الزرقانى ص ١١٦ الرقم ١٢٤ وتنوير الحوالك ج ١ ص ٥٩ وأخرجه في الدر ص ٢٦٠ عن مالك والشافعي والبيهقي.

(٣) أخرجه في الموطإ انظر ج ١ من شرح الزرقانى ص ١١٥ الرقم ١٢٢ وتنوير الحوالك ج ١ ص ٥٩ وأخرجه في الدر المنثور ج ١ ص ٢٦٠ عن مالك والبيهقي ونقل غير واحد وفي شرح الحديث عن ابن عبد البر أنه قال : لا أعلم أحدا رواه بهذا اللفظ سوى مالك ، ومعناه صحيح ثابت.

(٤) أقول : الظاهر أنها للإرشاد إلى أن الحوم حول الحمى مظنة للوقوع فيها ، وفي اللسان لغة (ر ت ع) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من يرتع حول الحمى يوشك أن يخالطه.

(٥) انظر التهذيب ج ١ ص ١٥٤ الرقم ٤٤٢ والاستبصار ج ١ ص ١٢٩ الرقم ٤٤٠.

(٦) انظر التهذيب ج ١ ص ١٥٤ الرقم ٤٣٦ والاستبصار ج ١ ص ١٢٨ الرقم ٤٣٧

٩٤

الباقي ولاستصحاب حليّة الاستمتاع (١) بما دون الفرج على أنّ القائل به من أصحابنا نادر بخلاف الأوّل ، والاحتياط يقتضي الاجتناب.

(وَلا تَقْرَبُوهُنَّ) تأكيد للاعتزال ، وبيان للغرض منه ، وهو يؤيّد الأوّل. إذ مقاربة النساء كناية عن مجامعتهنّ ظاهرا.

(حَتَّى يَطْهُرْنَ) قرأ حمزة والكسائي بالتشديد : أى يطهّرن ، وقرأ الباقون بالتخفيف بمعنى يخرجن من الحيض يقال : طهرت المرأة إذا انقطع حيضها.

وقد اختلف الأصحاب بل العلماء في أنّ الاعتزال مغيّى بانقطاع الدم أو بالغسل فعلى قراءة التخفيف تكون الآية دالّة على أنّ الغاية انقطاع الدم ، وعلى هذا أكثر الأصحاب.

وفي الأخبار دلالة عليه روى الشيخ عن علىّ بن يقطين (٢) عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : سألته عن الحائض ترى الطهر فيقع عليها زوجها قبل أن تغتسل. قال : لا بأس وبعد الغسل أحبّ إلىّ ، ونحوها ، وعلى قراءة التشديد تكون دالّة على أنّ غاية الاعتزال

__________________

(١) أقول : لا مجال للأصل والاستصحاب هنا. إذ لنا أن نقول بعد فرض إجمال الآية وتعارض الاخبار : إن قوله ـ عز من قائل ـ في سورة المؤمنون (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) الآية ٥ ـ ٦ وسورة المعارج الآية ٢٩ و ٣٠ عام دل على حلية كل استمتاع من الزوجة خصص بالمخصص المنفصل المجمل المردد بين الأقل والأكثر. فيكون حجة في غير ما تيقن تخصيصه وهو الجماع كما تقرر في الأصول ، ومع وجود الدليل اللفظي والحجة على الحكم لا مجال للأصل والاستصحاب فان مفاد الأصل هو البناء العملي على تقدير الشك في الشيء ، ومع الدليل والحجة يرتفع الشك ولو بالتعبد الشرعي سواء سمينا أحدهما حاكما على الأخر أو واردا أو غيرهما وسواء كان مفاد الأصل أو الاستصحاب موافقا لمفاد الدليل أو مخالفا ، وقد تقرر كل ذلك في الأصول.

(٢) انظر التهذيب ج ١ ص ١٦٧ الرقم ٤٨١ والاستبصار ج ١ ص ١٣٦ الرقم ٤٦٨ ورواه في الكافي بسند غير سند الشيخ انظر الباب ٨١ من كتاب النكاح وفي مرآت العقول ج ٣ ص ٥١٨ ولفظ الكافي ، والغسل أحب إلى.

٩٥

الغسل المتعقّب للانقطاع ، وقد ينسب إلى بعض الأصحاب ، وهو مذهب الشافعي ومالك والأوزاعي والثوري قال في التبيان : وبالتشديد معناه يغتسلن عن الحسن ، ويتوضّأن عن مجاهد وطاوس ، وهو مذهبنا ، وقال بعد ذلك في أحكام الحيض :

وثالثها : غايت تحريم الوطي واختلف فيه فمنهم من جعل الغاية انقطاع الدم ومنهم من قال : إذا توضّأت أو اغتسلت فرجها حلّ وطؤها عن عطا وطاوس وهو مذهبنا ، وإن كان المستحبّ أن لا يقربها إلّا بعد الغسل ، ومنهم من قال : إذا انقطع دمها واغتسلت حلّ وطؤها عن الشافعي ، ومنهم من قال : إذا كان حيضها عشرا فنفس انقطاع الدم يحلّلها للزوج وإن كان دون العشرة فلا يحلّ وطؤها إلّا بعد الغسل أو التيمّم أو مضى وقت صلاة عليها عند أبي حنيفة. انتهى كلامه.

ومقتضاه أنّ مذهب أصحابنا أنّها إذا توضّأت أو غسلت فرجها بعد الانقطاع حلّ وطؤها ، وإن لم تغتسل ، ولعلّه إشارة إلى القول الأوّل من أنّ الغاية انقطاع الدم إلّا أنّ اعتبار الوضوء أو غسل الفرج في حلّ الوطي غير معلوم عندهم فإنّ أصحاب القول الأوّل يحكمون باستحباب غسل الفرج بعد الانقطاع.

ويمكن أن يكون ذلك مذهبا للشيخ الطبرسي من بين أصحابنا ثمّ الظاهر أنّ ذلك على قراءة التشديد كما هو صريح كلامه ، وحينئذ فيقوى الظنّ بالقول الأوّل. إذ المنافي له ليس إلّا قراءة التشديد ، وهي محمولة على غير الغسل ، ويمكن أن يقال أيضا : قراءة التشديد لا تنافي قراءة التخفيف لأنّ المضعف قد جاء في كلامهم بمعنى المخفّف نحو يطعمني بالطعام وطعمته ، وتبيّن بمعنى بان. فكان حملها على هذا أولى توفيقا بين القرائتين أو يحمل قراءة التضعيف على الاستحباب كما قاله في المعتبر صونا للقرائتين عن التنافي ، ولا يرد أنّ في الأخبار ما يدلّ على النهي عن الوطي قبل الغسل لأنّا نحملها على عدم الرجحان المطلق التحريم قبل الانقطاع والكراهة بعده إلى حين الغسل وقوله (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ) أى فجامعوهنّ لا ينافيه لأنّ مفهومه انتفاء رجحان الوطي مع عدم التطهّر ، وهو أعمّ من التحريم فيحتمل الإباحة ، ولو حملنا الأمر على الإذن قلنا : المراد بالتطهير المضعّف الطهر المخفّف كما سبق أو أنّ المراد المعنى اللغويّ المتحقّق

٩٦

بغسل الفرج سلّمنا أنّ المراد الغسل لكن نقول : مفهومان تعارضا فإن لم يترجّح أقواهما وهو الغاية تساقطا ، ويبقى حكم الأصل سالما عن المعارضة ، وفيه نظر لأنّ مفهوم الغاية لا يدلّ على الجواز قبل الغسل إمّا على التشديد فلما تقدّم ، وإمّا على التخفيف فلأنّ المتبادر من الطهارة هي الطهارة الشرعيّة وحملها على انقطاع الدم بعيد ، وغاية ما ذكر أن تكون ثابتة في اللغة بذلك المعنى لكن الحقيقة الشرعيّة مقدّمة على اللغويّة والعرفيّة ، وحينئذ فيكون معناها الحالة الحاصلة بعد فعل الطهارة الشرعيّة ومقتضاها تحريم الوطء قبل الغسل ، ولو قيل : إنّ هذا موقوف على ثبوت الحقائق الشرعيّة ، وفيه كلام لقلنا : ليس هذا بمثابة حمل قراءة التشديد على التخفيف استنادا إلى الشواهد المذكورة فإنّ ما هو معلوم من قواعد العربيّة أنّ كثرة المباني تدلّ على كثرة المعاني ، وهذا هو الكثير الشائع ، وما وقع من اتّفاقهما نادرا لا يوجب المصير إليه ، وترك ما هو الأكثر على أنّ الجاري في باب التفعّل مطاوعته لفعّل بالتشديد نحو كسّرت الإناء فتكسّر ، وهذا ليس ما نحن فيه ، وممّا ذكرنا يظهر جواب ما قيل : من أنّ تعارض المفهومين يوجب التساقط والرجوع إلى حكم الأصل لأنّ التعارض إنّما يلزم على ما قلتم ، ولو حملنا الجميع على الطهارة الشرعيّة يعني الغسل لم يقع تعارض أصلا ، واستغنى عن التكلّف ، ويؤيّده آخر الآية الدالّة على محبّته تعالى للمتطهّرين ، وظاهر أنّ الموصوف بها من فعل الطهارة بالاختيار حتّى يستحقّ المدح أمّا من حصل له الطهارة بغير اختياره كانقطاع الدم فإنّه لا يستحقّ الوصف بالمحبوبيّة ، وأمّا حمل قراءة التضعيف على الاستحباب بمعنى توقّف الوطء على الغسل المستحبّ فعدول عن الظاهر والحقيقة فإنّ صدر الآية النهي عن القرب المغيّى بالطهارة ، والنهي دالّ على التحريم فكيف يعلّق على المستحبّ ، وهو ظاهر ، والحقّ أنّ الآية غير دالّة على حلّ الوطء قبل الغسل ، والاستدلال بها عليه بعيد بل هي محتملة لكلّ من الأمرين (١) فالأولى الرجوع في استفادة الحكم إلى الروايات ، وهي وإن كانت متخالفة إلّا أنّها مطلقة في الطرفين فبعضها دالّ على

__________________

(١) ولنا في هذه المسئلة بيان في تذييلاتنا على كنز العرفان ج ١ ص ٤٣ و ٤٤ فراجع.

٩٧

المنع مطلقا وبعضها على الجواز مطلقا ، وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام (١) قال : المرأة ينقطع عنها دم الحيض في آخر أيّامها قال : إن أصاب زوجها شبق فلتغسل فرجها. ثمّ يمسّها زوجها إن شاء قبل أن تغتسل ، وهي دالّة على التفصيل ، وتحمل الأخبار من الجانبين عليها ، وبمضمونها أفتى الصدوق ، وما نقل عنه من المنع مطلقا لم يثبت عنه ، ولا يخفى دلالتها على وجوب غسل الفرج ، وحمل الآية على ذلك غير بعيد بأن يحمل التطهير فيها على الغسل ، ويكون مفادها المنع قبل الغسل لكن يخصّص بالشبق المحتاج إلى الجماع حيث يجوز له الجماع قبل الغسل بعد غسل الفرج لدليل ولعلّ هذا أقوى.

أمّا ما ذهب إليه أبو حنيفة من أنّها إذا طهرت على العشر جاز قربانها قبل الغسل وإن طهرت لأقلّه لم يجز إلّا بعد الغسل أو مضى وقت صلاة ففي غاية البعد ، واستفادته من الآية بعيدة بل هو في حكم الألغاز والتعمية مع شدّة احتياج الخلق إلى حكمها وما يتخيّل من استحسان العقل من عدم الصبر إذا انقطع على أكثر المدّة ولإمكان الصبر إذا انقطع على القليل باطل في الشريعة. إذ هو قول على الله بغير علم مع أنّه يمكن ملاحظة اعتبارات أقرب من ذلك ككونها حارّة المزاج أو باردته في البلاد الباردة أو الحارّة من سنّ اليأس أو عدمه ، وبالجملة يجب الوقوف على الظاهر إلّا أن يقوم دليل على عدم إرادته ، وقد استنبط بعض أصحابنا من الآية أحكاما ثلاثة :

الأوّل : دم الحيض نجس لأنّ الأذى بمعنى المستقذر :

وثانيها : أنّ نجاسته مغلّظة لأنّه لا يعفى عن شيء منها للمبالغة في قوله هو أذى.

وثالثها : أنّه من الأحداث الموجبة للغسل لإطلاق الطهارة المتعلّقة به. وفيه نظر.

أمّا الأوّل : فلمنع كون المستقذر بمعنى النجس كيف والقيء من المستقذرات وهو طاهر عندنا.

وأما الثاني : فلأنّ الضمير في هو أذى يرجع إلى المحيض بمعنى المصدريّ لا إلى

__________________

(١) رواه في الكافي الباب ٨١ من أبواب النكاح ج ٣ مرآت العقول ص ٥١٨ الحديث الأول ، وفي التهذيب ج ١ ص ١٦٦ الرقم ٤٧٧ والاستبصار ج ١ ص ١٣٥ الرقم ٤٦٣.

٩٨

الدم كما عليه المفسّرون فلا يتمّ ما ذكره.

فإن قيل : يجوز أن يراد بالمحيض الحيض ، وبضميره دمه على طريق الاستخدام.

قلت : هو احتمال لم يذكره المفسّرون فكيف يستنبط منه حكم شرعيّ.

وأما الثالث : فلأنّ الآية غير دالّة على الأمر بالغسل بشيء من الدلالات ولا سبيل إلى استفادة وجوبه من كونه مقدّمة الواجب أعنى تمكّن الزوج من الوطء لأنّ معظم فقهائنا على الجواز بعد الانقطاع قبل الغسل كما عرفت. هذا.

والأمر بالجماع في الآية للإباحة بالمعنى الأخصّ ، ومقتضى الأمر الوجوب وإن كان بعد الحظر إلّا أنّ الظاهر قد يعدل عنه لدليل ، وهو هنا الإجماع على عدم الوجوب ، ولكن قد يجب الوطء كما لو اعتزلها أربعة أشهر آخرها أوّل زمان انقطاع الدم ، وكذا لو وافق انقضاء مدّة التربّص في الإيلاء والظهار ، ووجوبه ليس من جهة هذا الأمر بل من وجه آخر.

(مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ). قيل : معناه من حيث أمركم الله بتجنّبه حال الحيض ، وهو الفرج. وقيل : من قبل الطهر دون الحيض. وقيل : من قبل النكاح دون الفجور والسفاح وقيل : من الجهات الّتي يحلّ فيها الوطء لا ما يحلّ كوطئهنّ وهنّ صائمات أو محرمات أو معتكفات قال في التبيان : والأوّل أوفق بالظاهر ، واعترض على الأوّل بأن إرادة الفرج بعيدة. إذ لو أراده لقال : حيث أمركم الله فلما قال : من حيث علمنا أنّه أراد من الجهة ، وأجيب بأنّ ـ من ـ لابتداء الغاية في الفعل نحو قولك : ائت زيدا من ما أتاه : أي من الوجه الّذي يولّي منه. فتأمّل.

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) من الذنوب.

(وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) أي بالماء ، ويؤيّده ما في أخبارنا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من أنّه ورد في رجل استنجى بالماء رواه في الفقيه أو التوّابين من الكبائر ، والمتطهّرين من الصغائر : أي باجتنابها فإنّ التوبة من الكبائر والاستمرار عليها يكفّر الصغيرة أو التوّابين من الذنوب والمتنزّهين عن الفواحش والأقذار كمجامعة الحائض ، فيدخل فيه كلّ مكروه وحرام. وترك كلّ مستحبّ وواجب خصوصا ما تقدّم في المقام ، ولم يذكر المتطهّرات

٩٩

لدخولهنّ في المتطهّرين كما في كثير من الأحكام.

الثامنة : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١) (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) بفتحتين مصدر كالغضب ، ووقوعه خبرا عن ذي الخبر إمّا بتقدير مضاف : أي ذو نجس أو بتأويله بالمشتقّ نظرا إلى أنّه صفة يستوي فيه الواحد وغيره يقال : رجل نجس وقوم نجس ورجلان نجس وامرأة نجس أو أنّه باق على المصدريّة من غير إضمار ولا تأويل ، ويكون الحمل على طريق المبالغة فكأنّهم تجسّموا من النجاسة وهذا أولى ، ويؤيّده الحصر فإنّه للمبالغة ، والقصر هنا إضافيّ من قصر الموصوف على الصفة نحو إنّما زيد شاعر ، وهو قصر قلب : أى ليس المشركون طاهرين كما يعتقدون بل هم نجس منحصرون في النجاسة.

وتوهّم الفخر الرازي أنّها من قصر الصفة على الموصوف : أى لا نجس من الإنسان غير المشركين ، وهو بعيد. ثمّ قال : وعكس بعض الناس ذلك وقالوا : لا نجس إلّا المسلم حيث ذهب إلى أنّ الماء الذي استعمله المسلم في رفع الحدث مثل الوضوء والغسل نجس. فالمنفصل من أعضائه من ذلك الماء حينئذ نجس بخلاف الماء الّذي استعمله المشرك فإنّه طاهر لعدم إزالة حدثه.

وحاول بهذا التشنيع الردّ على أبي حنيفة فإنه الّذي يذهب إلى ما ذكره.

وقد اختلف أصحابنا في المراد بالمشرك فالأكثر منهم على أنّ المراد به ما يعمّ عبّاد الأصنام ، وغيرهم من اليهود والنصارى لأنّهم مشركون أيضا لقوله تعالى (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) إلى قوله (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٢) وبها استدلّ صاحب الكشّاف على كون الكفّار مطلقا مشركين في غير هذا الموضع.

وربّما خصّه بعضهم بمن أثبت له تعالى شريكا وهو غير الكتابيّ وفيه بعد.

وقد اختلف المفسّرون في تفسير كون المشرك نجسا فأمّا الّذي عليه علماءنا ـ قدّس

__________________

(١) التوبة ٢٨

(٢) التوبة ٣٠.

١٠٠