مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ١

جواد الكاظمي

مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ١

المؤلف:

جواد الكاظمي


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٦

فيه نظر أو باعتبار عدم جواز بعض أفراد الغسل في الممسوح كالغسل المشتمل على الدلك ونحوه ، ويدلّ على ذلك صدق اسم المسح في صورة تحقّق أقلّ الغسل لغة وعرفا والسكوت عن مثله في الأخبار الواردة بإطلاق المسح بالبلّة الباقية من غير استفصال بكونها قليلة غير جارية أوّلا ، وكذلك الأخبار الدالّة على بيان وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع أنّ الغالب أنّ الجريان لا ينفكّ عن اليد بعد الفراغ من غسل العضو ، ولم ينقل في شيء من الأخبار أنّهم عليهم‌السلام جفّفوا الرطوبة الزائدة عن أيديهم ثمّ مسحوا بعد ذلك ، ولا تعرّضوا لبيانه مع أنّه ممّا تعمّ به البلوى ، ولو كان مثله مرادا ولم يبيّن لكان إغراء وتأخيرا للبيان عن وقت الحاجة وهو نعم الدليل على إجزائه فتأمّل ، والاحتياط واضح.

(وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) يحتمل عطفه على جملة الشرط الواقعة في صدر الآية فلا يكون مندرجا تحت القيام إلى الصلاة ويكون الكلام في قوّة يا أيّها الّذين آمنوا إن كنتم جنبا فاطّهروا بالاغتسال ، وعلى هذا ففيها دلالة على وجوب الغسل لنفسه بمجرّد حصول سببه وإن لم يجب مشروط بالطهارة ، ويكون الفرق بين الوضوء والغسل من حيث وجوب الأوّل لوجوب القيام إلى الصلاة دون الثاني ظاهرا من الآية ، ويؤيّد هذا قولهم عليهم‌السلام : إذا التقى الختانان (١) فقد وجب الغسل ، وقول الباقر عليه‌السلام : إذا أدخله فقد وجب الغسل والمهر والرجم (٢) وأمثال ذلك ، وإطلاق الوجوب شامل لمشغول

__________________

(١) انظر الوسائل الباب ٦ من أبواب الجنابة ص ٨٩ ج ١ ط أمير بهادر ، وانظر أيضا ص ١٥٧. إلى ١٦٠ من جامع أحاديث الشيعة ، وانظر من طريق أهل السنة أيضا فيض القدير ج ١ ص ٣٠١ الرقم ٤٨٨ من الجامع الصغير ، ونقل المناوى في شرحه صحة الحديث عن عدة ، وإخراج عدة له كالشافعي في الأم والمختصر وأحمد والنسائي والترمذي وابن ماجة.

(٢) إشارة إلى الحديث المروي عن محمد بن مسلم عن أحدهما قال : سألته متى يجب الغسل على الرجل والمرأة فقال : إذا أدخله فقد وجب الغسل والمهر والرجم رواه في الوسائل ج ١ ب ٦ أبواب الجنابة ، وفي جامع أحاديث الشيعة ص ١٥٧ الرقم ١٤٥٣ عن الكافي والسرائر مع اختلاف يسير في لفظي الكافي والسرائر ثم إنا قد ذكرنا في ص ٢٣ ج ٧١ من كنز العرفان ـ

٦١

الذمّة بمشروط بالطهارة وغيره ، ولأنّ وجوب الرجم والمهر يعمّ الأوقات فيكون الغسل كذلك ليجري الكلام على نسق واحد ، وإلى هذا ذهب بعض علمائنا ، ويحتمل عطفه على جزاء الشرط الأوّل ويكون الكلام في قوّة إذا قمتم إلى الصلاة فإن كنتم محدثين فتوضّؤوا ، وإن كنتم جنبا فاغتسلوا فيكون الغسل بمثابة الوضوء في اعتبار وجوبه بوجوب مشروطه ، ويؤيّده جريان الكلام على وتيرة واحدة. إذ صدر الآية اقتضى الوجوب لغيره وعجزها كذلك إجماعا فناسب كون الوسط كذلك وإلّا لم تتناسق المتعاطفات في الآية وفي الأخبار دلالة على ذلك (١) أيضا ، وقد يرجّح هذا بذهاب الأكثر إليه ، والأخبار السابقة مقيّدة بوجوب المشروط كما هو في غيرها. إذ المطلق يحمل على المقيّد ويتفرّع على الخلاف نيّة الوجوب مع خلوّ الذمّة عن مشروط بالطهارة وعدمها وحكمه أنّه لا يتضيّق إلّا بتضيّق وقت المشروط به أو لظنّ الموت في جزء من الوقت فيجب عليه الإتيان به قبله ، ولو تركه عصى ، والمراد بالتطهير المتعلّق بجميع البدن لأنّه تعالى أمر بالتطهير على الإطلاق غير معيّن بعضو مخصوص فاقتضى ذلك تطهير الجميع ، وكيفيّة تفاصيله وما يتعلّق به من الأحكام يعلم من كتب الفروع.

(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) الظاهر أنّه عطف على محذوف ، والكلام في قوّة إذا

__________________

ـ تأييد القول بالوجوب النفسي كما اختاره العلامة في المختلف والمنتهى فراجع ، ونزيدك هنا تأييدا للمختار أن الاخبار الدالة على إجزاء غسل واحد للميت وهو جنب ، والاخبار الدالة على تعدد غسل موضحة تمام الإيضاح وجوبه النفسي فراجع الوسائل الباب ١ من أبواب الغسل الميت ، والتعبير في الحديث الأول منه لأنهما حرمتان اجتمعتا في حرمة واحدة ، وانظر أيضا ص ٢٧٥ من جامع أحاديث الشيعة ، ويؤيد المختار أيضا صحيحة عبد الرحمن بن أبى عبد الله قال : سألت أبا عبد الله عن الرجل يواقع أهله أينام على ذلك؟ قال : إن الله يتوفى الأنفس في منامها ولا يدرى ما يطرقه من البلية إذا فرع فليغتسل ص ١٦٩ من جامع أحاديث الشيعة الرقم ١٥٧٦ وج ٤ من ب ٢٤ من أبواب الجنابة من كتاب الوسائل.

(١) مراده ـ قدس‌سره ـ ما ورد من تأخير المرأة غسل الجنابة إذا فاجأها الحيض ، وفي الدلالة ما لا يخفى.

٦٢

قمتم إلى الصلاة ، وكنتم صحاحا حاضرين قادرين على استعمال الماء فإن كنتم محدثين بغير الجنابة فتوضّؤوا أو جنبا فاطّهروا ، وإن كنتم مرضى مرضا يضرّكم معه استعمال الماء أو يوجب العجز عن السعي إليه أو عن استعماله ، والآية وإن كانت مطلقة في المرض إلّا أنّها مقيّدة بذلك للدليل.

(أَوْ عَلى سَفَرٍ) أى مسافرين لما أنّ الغالب في السفر عدم الماء.

(أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) وهو كناية عن الحدث الأصغر الخارج من أحد السبيلين. إذ الغائط المكان المنخفض من الأرض وكانوا يقصدون للحدث مكانا منخفضا تغيّب فيه أشخاصهم عن الرائين. فكنّى به عن الحدث.

(أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) كناية عن الحدث الأكبر. إذ المراد جماعهنّ كما هو المنقول عن أئمة الهدى ـ صلوات الله عليهم ـ (١).

روي أبو مريم (٢) قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : ما تقول في الرجل يتوضّأ يدعوا جاريته فتأخذ بيدها حتّى ينتهي إلى المسجد. فإنّ من عندنا من يزعم أنّه الملامسة.

فقال : لا والله ما بذلك بأس وربّما فعلته ، وما يعنى بهذا أو لامستم النساء إلّا المواقعة في الفرج ، ويؤيّده قوله تعالى (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) (٣) والمراد الجماع ، واللمس والمسّ واحد كما قاله أهل اللغة ، وقد نقل الخاصّ والعام عن ابن عبّاس (٤) أنّه قال : إنّ الله حيّ كريم يعبّر عن مباشرت النساء بملابستهنّ

__________________

(١) انظر الباب ٩ من أبواب نواقض الوضوء من الوسائل وص ١٣٦ ـ ١٣٨ من جامع أحاديث الشيعة.

(٢) انظر التهذيب ج ١ ص ٢٢ الرقم ٥٥ والاستبصار ج ١ ص ٨٧ الرقم ٢٢٨ وهو في الوسائل الباب ٩ أبواب نواقض الوضوء ج ٣ وفي جامع أحاديث الشيعة ص ١٣٨ الرقم ١٢٤٤ ورواه العياشي أيضا مع أدنى تفاوت في اللفظ ، ونقله في البرهان ج ١ ص ٣٧١ والبحار ج ١٨ ص ٥٢.

(٣) البقرة ٢٢٧.

(٤) انظر قلائد الدرر ج ١ ص ٣٣ ط النجف والمجمع ج ٢ ص ٥٢ والبحار ج ١٨ ـ

٦٣

وإلى هذا يذهب أبو حنيفة أيضا ، وقال الشافعيّ : إنّ المراد مطلق اللمس لغير محرّم وخصّه مالك بما كان عن شهوة وهما بعيدان.

(فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) عطف على وإن كنتم وحينئذ يتعلّق الجزاء الّذي هو الأمر بالتيمّم عند عدم الماء بالأحوال الأربعة ، وإنّ المرضي إذا عدموا الماء لضعف حركتهم وعجزهم عن الوصول إليه ففرضهم التيمّم ، وكذلك المسافرون إذا عدموه لبعده ، وكذا المحدثون أصغر وأكبر إذا لم يجدوه لبعض أسبابه.

ويكون المراد بعدم وجدان الماء عدم التمكّن من استعماله وإن كان موجودا إذ الممنوع عنه كفاقده فهو غير موجود بالنسبة إليه.

ومن هنا يظهر أنّ ما ذهب إليه الشيخ في النهاية من أنّه إذا اشتبه الإناءان بالنجس وجب إهراقهما والتيمّم نظرا إلى أنّه بدون الإهراق واجد للماء. فلا يباح له التيمّم لاشتراطه بعدم الوجدان بعيد. فإنّ وجوب التيمّم منوط بعدم التمكّن من استعماله ، ولا شكّ أنّ منع الشرع من الاستعمال أقوى الموانع.

وربّما استدلّ الشيخ في ذلك إلى ظاهر روايتي سماعة وعمّار (١) عن الصادق عليه‌السلام الدالّتين على وجوب الإهراق والتيمّم ، ويردّه بعد تسليم سندهما (٢) أنّ الأمر بالإراقة جاز أن يكون كناية عن تجنّب استعمالهما للطهارة ، والكناية بالإراقة

__________________

ـ ص ١٢٣ وتفسير الطبري من ص ١٠١ إلى ١٠٣ ج ٥ مع اختلاف في الألفاظ المنقول عن ابن عباس لكن لم يختلفوا أنه يقول : معنى أولا مستم هو الجماع.

(١) انظر رواية سماعة في الاستبصار ج ١ ص ٢١ الرقم ٤٨ والتهذيب ج ١ ص ٢٢٩ الرقم ٦٦٢ وص ٢٤٩ الرقم ٧١٣ والكافي ج ٣ مرآت العقول ص ٩ باب الوضوء من سؤر الدواب الحديث السادس ، وانظر رواية عمار في التهذيب ج ١ ص ٢٤٨ الرقم ٧١٢ وص ٤٠٧ الرقم ١٢٨١ ولفظ التهذيب والاستبصار بعد السؤال عن الإنائين المشتبهين يهريقهما ويتيمم ولفظ الكافي يهريقهما جميعا ويتيمم ، وترى مضمون الحديث في فقه الرضا ص ٥ باب المياه وشربها وانظر الحديث في جامع أحاديث الشيعة ١٨ الرقم ١٥٥.

(٢) فان سماعة واقفي وعمار فطحي.

٦٤

عن التجنّب واقع كثيرا في الاستعمال لا أنّ المراد تحتّم الإهراق فإنّ الماء قد يتعلّق به غرض آخر كسقي الدوابّ والشرب مع الضرورة ونحو ذلك.

ويحتمل كون (أو) في قوله : أو جاء أحد بمعنى الواو ، والمعنى إن كنتم مرضى أو مسافرين أو جاء أحد منكم من الحدث الأصغر أو الأكبر ، ويرجّح الأوّل باشتماله على حكم الحاضر العادم للماء فإنّ فرضه التيمّم لما عرفت بخلاف الثاني لخلوّه عن حكمه لكن هذا يؤيّد قول السيّد المرتضى ـ رحمه‌الله ـ بوجوب إعادة الصلاة على الحاضر إذا تيمّم لفقد الماء نظرا إلى ظاهر الآية المشتمل علي ذكر المرض أو السفر وهو بعيد لأنّ حمل الكلام على خلاف الظاهر يحتاج إلى قرينة ، وكون «أو» بمعنى الواو كذلك غير ظاهر ، والمستفاد من الآية أنّ المسوّغ للتيمّم عدم الماء ، وذكر السفر في الآية ليس بيانا لاشتراطه في الجواز كيف والمذكور فيها السفر والمرض والحدث فكما يجوز التيمّم في السفر لا بشرط المرض كذا يجوز مع الحدث لا بشرط السفر والمرض فإنّ العطف ينافي الاشتراط على أنّ ذكر السفر في الآية لخروجه مخرج الأغلب فإنّ الأغلب أنّ عدم وجدان الماء يكون في السفر دون الحضر فذكره لا يوجب تقييدا كما ثبت في محلّه ولأنّه إن كان مأمورا بالتيمّم ثمّ بالصلاة فقد امتثل الأمر وخرج عن العهدة وإلّا لم يجب عليه التيمّم والصلاة. فالقول بوجوب التيمّم والصلاة ثمّ الإعادة مع وجدان الماء لا وجه له.

ثمّ إنّ الظاهر من الكلام عدم وجدان ماء يكفي للطهارة الّتي هو مخاطب بها للصلاة. فلو وجد ماء يكفى غسل بعض أعضائها كان بمثابة العادم وفرضه التيمّم ، وأوجب الشيخ في بعض كتبه غسل ذلك العضو ثمّ استيناف التيمّم (١) تامّا لأنّه واجد للماء بالنسبة إلى ذلك العضو فلا يسوّغ التيمّم بالنسبة إليه وإنّما وجب عليه المسح التيمّمى بعد الغسل تتميما للتيمّم بالنسبة إلى الأعضاء الّتي لم يصل إليها الماء فإنّ التيمّم بالنسبة إليها واجب لصدق فقدان الماء بالنسبة إليها وهو موقوف على مسح الأعضاء المغسولة

__________________

(١) انظر مفتاح الكرامة ج ١ ص ٥٢٧.

٦٥

لعدم صحة التجزّي وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب وهذا قول بعض العامّة (١) ولا يخفى ما فيه من الضعف فإنّه إن امتنع التجزّي لم يفد غسل البعض وإلّا فلا حاجة إلى مسح ما غسّله أوّلا ولتعذر النيّة لعدم تحقّقها بدون الرفع والاستباحة ولا يحصل شيء منهما لكون غسل البعض غير رافع ولا مبيح ، وخالف هنا بعض العامّة فأوجب استعمال ذلك الماء في بعض الأعضاء والتيمّم للباقي وهو ضعيف ، ويؤيّد ما قلناه قوله تعالى في كفّارة اليمين (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) وقد حكم الجميع بأنّه لو وجد إطعام أقلّ من العشرة انتقل فرضه إلى الصوم ، وهذا بخلاف ما لو وجب على المكلّف طهارتان ووجد من الماء ما يكفي لأحدهما فإنّه يستعمله ويتيمّم عن الأخرى لكون كلّ منهما منفصلة عن الأخرى.

(فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) فتعمّدوا واقصدوا شيئا من الصعيد طاهرا ، وقد اختلف كلام أهل اللغة في الصعيد ففي الصحاح : إنّه التراب ، ونقله ابن دريد في الجمهرة عن أبي عبيدة ، ونقل في الكشّاف عن الزجّاج أنّه وجه الأرض ترابا كان أو غيره وإن كان صخرا لا تراب عليه ، وقريب منه ما نقله الجوهريّ عن تغلب ، ومن هنا نشأ الاختلاف في جواز التيمّم على الحجر مع وجود التراب. فالأكثر من أصحابنا على الجواز نظرا إلى أنّه من الصعيد ، ويؤيّده ظاهر قوله تعالى (صَعِيداً زَلَقاً) والمراد الصخر الأملس ووافقهم في ذلك أبو حنيفة وأصحابه ، وذهب آخرون منهم إلى عدم الجواز نظرا إلى عدم دخوله في اسم الصعيد ، وإلى هذا يذهب الشافعيّة ، وقد يترجّح بقوله (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) أى من بعضه كما هو مقتضى ـ من ـ التبعيضيّة ، وظاهر أنّ هذا لا يتأتى في الصخر الّذي لا تراب عليه ، وقول الأوّلين إنّ ـ من ـ لابتداء الغاية بعيد بل ادّعى صاحب الكشّاف أنّه لا يفهم أحد من العرب من قول القائل : مسحت برأسه من الدهن ومن التراب إلّا معنى التبعيض ، وقوله فيما يتعلّق بالعربيّة مقبول. إذ لم يكن له معارض ويؤيّد كونها للتبعيض ما في صحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام في حديث طويل (٢) قال

__________________

(١) انظر المغني لابن قدامة ج ١ ص ٢٣٧ و ٢٣٨.

(٢) إشارة إلى الحديث المار ذكره في ص ٤٣.

٦٦

فيه. ثمّ قال : فلم تجدوا ماء فتيمّموا صعيدا طيّبا فامسحوا بوجوهكم فلمّا أن وضع الوضوء عمّن لم يجد الماء أثبت بعض الغسل مسحا لأنّه قال : بوجوهكم. ثمّ وصل بها وأيديكم منه : أى من ذلك التيمّم لأنّه علم أنّ ذلك أجمع لم يجرى على الوجه لأنّه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكفّ ولا يعلق ببعضها. الحديث ، والمراد بقوله من ذلك التيمّم المتيمّم به كما يعطيه ممّا بعده ، وممّا ذكرنا يظهر اشتراط أن يعلق شيء من التراب باليد ولا يجزى بدونه فقول العلّامة : إنّ الآية خالية عن اشتراط العلوق لأنّ لفظة ـ من ـ فيها مشتركة بين التبعيض وابتداء الغاية فلا أولوية في الاحتجاج بها مدفوع بما قلناه ، وما يقال : إنّه لو كان المراد ذلك لما أهمله في الآية الواقعة في سورة النساء حيث لم يذكر لفظة ـ من ـ فيها ولأنّه لا يعتبر العلوق في اليد لمسح اليد إجماعا فكذا الوجه مدفوع بأنّ المطلق يحمل على المقيّد والمراد العلوق لمسح الوجه لأنّ التعليق بالمجموع يكفى فيه الامتثال بالنسبة إلى بعض أجزائه أو لخروجه بالإجماع وإلّا لم يكن بدّ من القول به ، وقد يؤيّد هذا القول ما اشتهر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا (١) ولو كانت الأرض بتمامها طهورا وإن لم يكن ترابا لكان ذكر التراب واقعا في غير محلّه فالكلام في بيان الامتنان على الأمّة بالتخفيف والتسهيل ، ولا ينافي هذا القول ما في الأخبار الدالّة على استحباب نفض التراب بعد الضرب فإنّ ذلك يعطى عدم اشتراط العلوق وإلّا لما عرض به للزوال لأنّ استحباب

__________________

(١) انظر في ذلك بيان المجلسي ـ قدس‌سره ـ في البحار ج ١٨ ص ١٢٦ ثم الحديث وإن كان في اصطلاحهم عاميا أخرجه ابن ماجه بلفظ ومسلم بلفظ وأحمد بلفظ ترى كلها في ج ٣ ص ٣٤٩ من فيض القدير ، وأخرجه أيضا البيهقي ج ١ ص ٢١٣ و ٢١٤ بعدة طرق بألفاظ متقاربة مثل جعلت الأرض لنا مسجدا ، وجعل ترابها طهورا أو جعلت تربتها لنا طهورا أو جعل ترابها لنا طهورا ، وغيرها إلا أنه لا يمكن الحكم بضعف الحديث مع عمل مثل السيد المرتضى به مع أنه لا يعمل بخبر الواحد إلا مع الاحتفاف بالقرائن القطعية. فعمل مثله يخرجه عن حد الضعف إلى أعلى مراتب القوة ، وقد أرسله المحقق أيضا في المعتبر انظر ص ١٠٣ ط إيران ١٣١٨ وقد قوينا نحن أيضا في تعاليقنا على كنز العرفان ما اختاره المصنف هنا.

٦٧

النفض لإرادة تقليل ما يوجب تشويه الوجه من الأجزاء الترابيّة اللاصقة بالكفّين فإنّ الظاهر أنّ تلك الأجزاء الصغيرة الغباريّة لا تتخلّص بأجمعها من اليدين بمجرّد النفض وأين الدلالة على استحباب المبالغة في النفض حتّى لا يبقى شيء من تلك الأجزاء لاصقا بشيء من اليدين.

واعلم أنّ أكثر العلماء أوجبوا النيّة في التيمّم بظاهر قوله : فتيمّموا : أى اقصدوا فإنّ الظاهر من القصد هو النيّة وقال زفر : لا تجب النيّة في التيمّم وهو بعيد. ثمّ إنّ ظاهر الآية قد يشعر بأنّ أوّل أفعال التيمّم مسح الوجه لعطفه بالفاء المتعقّب لقصد الصعيد من دون توسّط الضرب على الأرض فتأيّد به ما ذهب إليه العلّامة في النهاية من جواز مقارنة نيّة التيمّم لمسح الوجه على أنّ الضرب على الأرض بمثابة اغتراف الماء في الوضوء ، والمشهور بين الأصحاب أنّ الضرب على الأرض أوّل أفعاله حملا لقصد الصعيد عليه ، ولا يبعد استفادة ذلك بمعونة الأخبار المبيّنة للتيمّم ، وحيث بيّنا سابقا أنّ ـ الباء ـ للتبعيض كان مقتضى الآية وجوب مسح بعض الوجه ، وبعض اليدين ، والخروج عن العهدة بذلك لا الجميع كما قاله البيضاوي مع حكمه في الوضوء بمسح البعض لدلالة ـ الباء ـ عليه ، وعلى هذا أكثر أصحابنا ، وفي الأخبار دلالة على ذلك أيضا (١) ، وذهب على ابن بابويه إلى وجوب استيعاب الوجه واليدين إلى المرفقين نظرا إلى ظاهر بعض الأخبار ، وخيّر المحقّق بين الأمرين لورود الروايات بكلّ من الوجهين.

والتحقيق أنّ اختلاف الأخبار يوجب سقوطها والرجوع إلى ظاهر الآية والعمل بما يطابقها.

وقد يستفاد من الآية الاكتفاء بالضربة الواحدة على الأرض لمسح الوجه واليدين سواء كان ذلك التيمّم بدلا عن الوضوء أو الغسل ، ويؤيّد ذلك بعض الأخبار المعتبرة الإسناد.

__________________

(١) انظر جامع أحاديث الشيعة ص ٢٢٢ إلى ٢٢٤ والوسائل الباب ١١ من أبواب التيمم وسائر أبوابه أيضا.

٦٨

ومن أوجب الضربتين فإنّما استفاده من خارج الآية كالأخبار الدالّة عليه ، ولا يبعد القول بالتخيير جمعا بين الأدلّة وتمام ما يتعلّق بذلك يعلم من الفروع ، وقد استدلّ بعضهم بقوله (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) على وجوب طلب الماء غلوة سهم (١) في الحزنة ، وغلوتين في السهلة كما دلّ عليه الخبر (٢) والدلالة بعيدة ، والخبر الّذي دلّ على ذلك ضعيف (٣) نعم يجب الطلب ليحصل له العلم بعدم الماء في رحله أو حواليه كما قد يظهر من الأخبار الصحيحة أيضا يعلم ذلك من راجعها هذا ، وفي إيجاب التيمّم مع عدم وجدان الماء على الإطلاق دلالة واضحة على عدم جواز الوضوء بالمضاف مطلقا وربّما جوّزه بعض أصحابنا (٤) وأبو حنيفة وأصحابه جوّزوا الوضوء بنبيذ التمر في السفر

__________________

(١) في اللسان الغلوة قدر رمية بسهم ، ونقل في كشف اللثام معاني أخر لها عن أهل اللغة فراجع ولعلها لبيان المصداق.

(٢) إشارة إلى الخبر المروي في التهذيب ج ١ ص ٢٠٢ الرقم ٥٨٦ والاستبصار ج ١ ص ١٦٥ الرقم ٥٧١ وهو في الوسائل الباب ١ من أبواب التيمم الحديث الثاني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن على قال : يطلب الماء في السفر إن كانت الحزونة فغلوة ، وإن كانت سهولة فغلوتين لا يطلب أكثر من ذلك.

(٣) فان في سنده إبراهيم بن هاشم عن النوفلي عن السكوني. والسكوني هو إسماعيل بن أبى زياد ، وإن تكلم فيه علماء الرجال إلا أن كتب أصحابنا مشحونة بالفتاوى المستندة إلى روايته فهو ممن لا بأس بحديثه قطعا ، والنوفلي الراوي عن السكوني هو الحسين بن يزيد لا غير وإنا وإن كنا لا نعتمد على القميين في رميهم بالغلو إلا أنا لم نر أيضا من مدح الحسين بن يزيد فيعد إذا في المجهولين لكن الذي يسهل الخطب أن الأصحاب عملوا بمضمون الحديث مستندا إليه فهو جابر لضعفه قطعا.

واختلفوا في معنى الحديث والذي يقوى عندي أن مفاده وجوب الطلب في دائرة مركزه الموقف ونصف قطرها غلوة سهم أو سهمين ، وقيل : غير ذلك ، والله أعلم.

(٤) نسب إلى ابن أبى عقيل جواز الوضوء بل مطلق الطهارة بمطلق المضاف عند الضرورة وعدم وجود الماء ، وأجاز ابن بابويه الوضوء والغسل بماء الورد كما ترى في عبارته ص ٦ ج ١ ط النجف باب المياه وطهرها ، وأصرح منه ما في أماليه ص ٣٨٣ ط ١٣٠٠ المجلس الثالث ـ

٦٩

مع عدم الماء (١) إذا كان حلوا أو فارشا ووافق الجماعة في عدم الجواز إذا غلا واشتدّ وقذف بالزبد ، وجه الدلالة أنّه تعالى أوجب التيمّم عند عدم الماء المطلق وواجد المضاف غير واجد للمطلق وانتفت الواسطة ، ويؤيّده من الأخبار ما رواه أبو بصير (٢) عن الصادق عليه‌السلام الرجل يكون معه اللبن أيتوضّأ منه للصلاة قال : لا إنّما هو الماء ، والصعيد نفى أن يكون غير الماء المطلق والتراب مطهّرا ، وهو يستلزم نفى التطهير بالمضاف.

__________________

ـ والتسعين ، وروى في الكافي والتهذيب والاستبصار عن يونس عن أبى الحسن قال قلت له : الرجل يغتسل بماء الورد ويتوضأ به للصلاة قال : لا بأس بذلك انظر ص ٩٠ جامع أحاديث الشيعة الرقم ٧٦٣ وقد قوينا في تذييلنا على كنز العرفان ج ١ ص ٤٠ توجيه المحدث الكاشاني بعدم كون ماء الورد مضافا. وفي مدارك العروة تقرير درس آية الله الخويي ـ مد ظله ـ القسم الثاني من الجزء الأول من ص ٢٣ إلى ٢٥ والتنقيح تقرير آخر لدروسه ج ١ من ص ٢٤ إلى ٢٨ بيان في أقسام ماء الورد فراجع ، ومما يوضح لنا أن ابن بابويه لا يجيز الطهارة بالماء المضاف قوله بعيد ذلك ص ١١ من الفقيه ولا يجوز التوضأ باللبن لان الوضوء إنما هو بالماء والصعيد.

(١) انظر ص ٣٢ ج ١ من بداية المجتهد المسألة السادسة من أحكام المياه ، والمغني لابن قدامه ج ١ ص ١٠ والمحلى لابن حزم ج ١ من ص ١٦٩ إلى ١٧٣ ، وفتح القدير لابن همام الحنفي ج ١ ص ٨١ و ٨٢ وكذا شرح العناية بهامشه ومجمع الانهر في الفقه الحنفي ج ١ ص ٣٦ و ٣٧ وبهامشه درر المنتقى وفتح الباري ج ١ ص ٣٦٧ وتفسير الإمام الرازي ج ١١ ص ١٦٩ ثم المراد بأصحابه من قال برأيه. هذا ، وإلا فقد خالفه صاحباه المعروفان أبو يوسف ومحمد الحسن ، فقال الأول : يتيمم عند عدم الماء وقال الثاني : يجمع بين التيمم والوضوء وقد شدد النكير هذا الحكم الطحاوي مع كونه من الحنفية على ما حكى عنه في شرح معاني الأخبار ج ١ ص ٥٧ و ٥٨ وكذا الزيلعى الحنفي على ما حكى عنه في نصب الراية ج ١ ص ٧٢ حكاهما أحمد محمد شاكر في تذييله على جامع الترمذي ج ١ ص ١٤٨.

(٢) رواه في التهذيب ج ١ ص ١٨٨ الرقم ٥٤٠ وفي الاستبصار ج ١ ص ١٤ الرقم ٢٦ وص ١٥٥ الرقم ٥٣٤ وتراه في جامع أحاديث الشيعة ص ٨٩ الرقم ٧٥٩ وفي الوسائل الباب ١ من أبواب الماء المضاف الحديث الأول.

٧٠

احتجّ أبو حنيفة على قوله بما رواه أبو زيد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لابن مسعود ليلة الجنّ : هل معك ماء يا ابن مسعود؟ فقال : لا إلّا نبيذ التمر في إداوة. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : تمرة طيّبة وماء طهور فأخذه وتوضّأ به (١).

والجواب من وجوه :

فأوّلا : أنّ أبا يوسف من أصحاب أبي حنيفة لم يصحّح هذا الحديث ، ولو كان صحيحا لما خفي عليه.

وثانيا : أنّ راويه هو أبو زيد مجهول (٢).

__________________

(١) الحديث أخرجه أبو داود ج ١ ص ٥٤ الرقم ٤٢ ط مطبعة السعادة ١٣٦٩ والترمذي ج ١ ص ١٤٧ الرقم ٨٨ ط ١٣٥٧ مطبعة مصطفى البابى الحلبي وابن ماجة ص ١٣٥ الرقم ٣٨٤ ط عيسى البابى الحلبي ١٣٧٢ عن أبي فزارة (العبسي) عن أبى زيد (مولى عمرو بن حريث) عن عبد الله بن مسعود مع اختلاف يسير في اللفظ ، وليس في لفظ واحد منها كلمة التمر كما في المتن وليس في أبي داود أيضا فتوضأ منه أو فأخذه فتوضأ به كما في المتن.

(٢) فقد قال الترمذي نفسه بعد نقله الحديث : وأبو زيد رجل مجهول عند أهل الحديث لا يعرف له رواية غير هذا الحديث ، وفي ميزان الاعتدال ج ٤ ص ٥٢٦ الرقم ١٠٢٠٩ أبو زيد مولى عمرو بن حريث لا يعرف عن ابن مسعود ، وعنه أبو فزارة لا يصح حديثه ذكره البخاري في الضعفاء ومتن حديثه : أن نبي الله توضأ بالنبيذ قال أبو أحمد الحاكم : رجل مجهول قلت ماله سوى حديث واحد ، وفي لسان الميزان ج ٦ ص ٧٩٥ الرقم ٥٤٩٧ أبو زيد المخزومي مولى عمرو بن حريث وقيل : أبو زائد عن ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ وعنه أبو فزارة مجهول وفي الجرح والتعديل القسم الثاني من الجزء الرابع ص ٣٧٣ الرقم ١٧٢١ عن أبى زرعة أنه يقول : أبو زيد على هذا مجهول لا يعرف ولا أعرف اسمه قلت وليس علة الحديث في أبي زيد فقط فإن أبا زرعة العبسي هذا هو راشد بن كيسان صرح أبو زرعة بعدم صحة حديثه انظر ص ٤٨٥ من القسم الثاني من المجلد الأول من الجرح والتعديل الرقم ٢١٩٢ وص ٣٥ ج ٢ الرقم ٢٧٠٧ من ميزان الاعتدال ، وفي شرح العناية بهامش فتح القدير ج ١ ص ٨٢ أن أبا فزارة كان نباذا روى هذا الحديث ليهون أمر النبيذ.

وللحديث طريق آخر في ابن ماجة بالرقم ٣٨٥ عن العباس بن الوليد الدمشقي عن ـ

٧١

وثالثا : أنّ عبد الله بن مسعود سئل (١) هل كنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة الجنّ؟ فقال : ما كان معه أحد منّا وددت أنّى كنت معه.

__________________

ـ مروان بن محمد عن ابن لهيعة عن قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن ابن عباس عن ابن مسعود فقال محمد فؤاد عبد الباقي ، حديث ابن عباس تفرد به المصنف في سنده ابن لهيعة وهو ضعيف.

قلت بل سنده سلسلة الضعفاء انظر ترجمة العباس بن الوليد الدمشقي في ميزان الاعتدال ج ٢ ص ٣٨٦ الرقم ٤١٨٥ وفيه عن أبى داود لا أحدث عنه. وترجمة مروان بن محمد في ج ٤ ص ٩٣ الرقم ٨٤٣٥ وفيه أنه كان مرجئا ، وفيه أنه ضعفه ابن حزم وترجمة عبد الله بن لهيعة في ج ٢ ص ٤٧٥ الرقم ٤٥٣٠ وفيه ذكر تضعيف عدة إياه كابن معين ويحيى بن سعيد والنسائي وأبى زرعة وغيرهم ، وترجمة حنش الصنعاني في ج ١ ص ٦٢٠ الرقم ٢٣٦٩ وفيه عن أبى حاتم لا أراهم يحتجون به ، وللحديث طرق آخر كلها ضعاف قد أفصح عن ضعفها البيهقي في سننه ج ١ ص ١٠ نقلا عن أبى الحسن الدارقطنى الحافظ فراجع

(١) سأله علقمة بن قيس الكوفي النخعي ، وكان من أصحابه ، وأخرج قصته مفصلا مسلم في صحيحه كتاب الصلاة في الجهر بالقراءة في الصبح انظر ص ١٦٩ إلى ١٧١ ج ٤ من شرح النووي ، وحكم النووي بصحة الحديث وأنه لم يكن مع النبي أحد ليلة الجن : وأخرجه أيضا الترمذي بتفصيل مع اختلاف يسير في كتاب التفسير تفسير سورة الأحقاف الآية ٢٩ ج ٢ ص ١٥٨ ط دهلي ، وصرح في آخره بصحة الحديث ، وحسنه وأخرجه منصور على ناصف في كتاب التاج ج ٤ ص ٢٠٩ وابن كثير ج ٤ ص ١٦٤ والخازن ج ٤ ص ١٣٠ والدر المنثور ج ٦ ص ٤٤ والبيهقي في سننه ج ١ ص ١١ وفي فتح القدير للشوكانى أنه أخرجه عبد بن حميد وأحمد ومسلم والترمذي وأخرجه القرطبي أيضا في ج ١٦ ص ٢١٣ وأنه لم يشهد أحد من الصحابة مع النبي (ص) ليلة الجن بإسناده. ثم نقل عن الدارقطنى أن إسناده صحيح لا يختلف وأخرجه أيضا أبو داود ج ١ ص ٥٤ الرقم ٨٥ باختصار.

قلت : وبعد اللتيا والتي قليلة الجن كانت بمكة وآيتا التيمم مدنيتان باتفاق فهما ناسختان للجواز لو فرض.

٧٢

ورابعا : أنّه يحتمل أن يكون المراد بالنبيذ ما ترك فيه قليل التمر بحيث أزال ملوحة الماء ، ولم يبلغ الشدّة الحاصلة في النبيذ ، وفي أخبارنا ما يدلّ على ذلك روى عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : إنّ أهل المدينة (١) شكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تغيّر الماء وفساد طبائعهم فأمرهم أن ينبذوا فكان الرجل يأمر خادمه أن ينبذ فيعمد إلى الكفّ من التمر فيقذف به في الشنّ فمنه شربه ، ومنه طهوره قيل : وكم كان عدد التمر الّذي في الكفّ فقال : ما حمل الكفّ ربّما كان واحدة ، وربّما كان ثنتين. قيل : وكم كان يسع الشنّ؟ فقال : ما بين الأربعين إلى الثمانين إلى فوق ذلك بأرطال مكيال العراق فاندفع الخبر بحذافيره ، وسلم ظاهر الآية من التخصيص.

(ما يُرِيدُ اللهُ) الأمر بالطهارة إلى الصلاة ، والأمر بالتيمّم مع عدم الماء.

(لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) يتضيّق به حالكم فإنّ عادته التسهيل والتخفيف ، وفيها دلالة على أنّ صاحب الجبيرة إذا لم يتمكّن من نزعها ولا إيصال الماء إليها مسح عليها سواء كانت في موضع الغسل أو المسح ، ويؤيّده ما رواه عبد الأعلى مولى آل سام (٢) قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة

__________________

(١) انظر التهذيب ج ١ ص ٢٢٠ الرقم ٦٢٩ والاستبصار ج ١ ص ١٦ الرقم ٢٩ والكافي باب النبيذ وهو في مرآت العقول ج ٤ ص ٩٥ الحديث الثالث وفي الوسائل الباب ٢ من أبواب ماء المضاف ج ٣ والحديث عن الكلبي النسابة وفي الباب حديث آخر عن عبد الله بن المغيرة عن بعض الصادقين إلى أن قال : إن النبي قد توضأ بنبيذ ولم يقدر على الماء المروي في الاستبصار ج ١ ص ١٥ الرقم ٢٨ والتهذيب ج ١ ص ٢١٩ الرقم ٦٢٨ وفي الوسائل ب ٢ من أبواب الوضوء الحديث الأول ، والظاهر أن المراد منه من النبيذ ما ينبذ فيه تمر لكسر مرارة الماء كما تضمنه خبر الكلبي النسابة المار ذكره مع أنه ليس فيه إسناده إلى إمام بل إلى من اعتقده الراوي أنه صادق على الظاهر فلا يستند به.

(٢) رواه العياشي ج ص ٣٠٢ الرقم ٦٦ وليس في آخره امسح عليه ، والاستبصار ج ١ ص ٧٧ الرقم ٢٤٠ والتهذيب ج ١ ص ٣٦٣ الرقم ١٠٩٧ والكافي باب الجبائر ص ٢١ ج ٣ مرآت العقول الحديث ٤ وهو في الوسائل الباب ٣٩ من أبواب الوضوء الحديث ٥ وفي جامع أحاديث الشيعة ١٢٣ الرقم ١٠٨٦.

٧٣

فكيف أصنع بالوضوء. فقال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) امسح عليه ، وقد استدلّ بها على أنّ الأصل في المضارّ الحرمة ، وفي المنافع الإباحة ، وهذا أصل معتبر في علم الفقه ، وقد يتمسّك به في نفي القياس لأنّ كلّ حادثة فحكمها المفصّل إن كان مذكورا في الكتاب والسنّة فذاك ، وإلّا فإن كان من باب المضارّ فالأصل فيه الحرمة أو من باب المنافع فالأصل الإباحة ، والقياس المعارض لهذين الأصلين يكون قياسا واقعا في مقابلة النصّ فيكون مردودا.

(وَلكِنْ يُرِيدُ) الأمر بالطهارة على ما تقدّم.

(لِيُطَهِّرَكُمْ) أى ينظّفكم من الأحداث ويزيل المنع عن الدخول معها فيما هو شرط فيه الطهارة أو المراد يطهّركم من الذنوب فإنّ الوضوء تطهير منها لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله الوضوء يطهّر ما قبله أو المراد يطهّركم بالتراب إذا أعوزكم التطهير بالماء. فمفعول يريد في الموضعين محذوف كما أشرنا إليه ، ويحتمل أن يكون اللام مزيدة ومدخولها مفعولة : أى ما يريد الله جعل الحرج عليكم حتّى لا يرخّص لكم في التيمّم ولكن يريد تطهيركم واستضعف البيضاوي هذا الوجه نظرا إلى أنّ ـ أن ـ لا تقدّر بعد المزيدة ، وفيه نظر فإنّ الشيخ الرضىّ صرّح بأنّ اللام المقدّرة بعدها أن بعد فعل الأمر والإرادة زائدة كقوله تعالى (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ) الآية على أنّ البيضاوي نفسه في قوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) صرّح بأنّ اللام مزيدة لتأكيد معنى الاستقبال ومدخولها مفعول يريد وهو منه تهافت.

(وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) أى بما شرعه لكم ممّا يتضمّن تطهير أبدانكم وقلوبكم أو يكفّر ذنوبكم أو ليتمّ برخصه انعامه عليكم بعزائمه ، واللام هنا كأختها في احتمال التعليل ، ومفعول الإرادة محذوف ومدخولها المفعول.

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) على نعمائه المتكاثرة الّتي من جملتها ما شرعه في هذه الآية أو المراد لكي تؤدّوا شكره بالقيام بما كلّفكم به فيها ، ويظهر من الآية أن التيمّم طهارة يستباح بها ما يستباح بالماء ، ويؤيّده ما في الأخبار الصحيحة يكفيك الصعيد

٧٤

عشر سنين ، وربّ التراب والماء واحد (١) ومن تقيّده بعدم وجدان الماء أنّه لا يرفع به الحدث بالكلّيّة بل إذا وجد الماء تطهر عنه ، وعلى هذا إجماع الأمّة إلّا من شذّ أمّا ارتفاع الحدث به إلى وقت وجود الماء فغير بعيد ، وحكم بعضهم بالإباحة على ذلك التقدير دون الرفع ، وفيه ما فيه ، وتحقيقه في الفروع.

الثانية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) (٢).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ) (٣) (وَأَنْتُمْ سُكارى») أى لا تصلّوا في تلك الحالة ومقتضى النهي بطلان الصلاة لو أتى بها فيجب عليه القضاء بعد شعوره لأنّها فائتة ، والنهي متوجّه إلى الثمل (٤) الّذي لم يزل عقله بعد وهو يعلم ما يقول الان : أى لا تقربوا الصلاة في شيء من الحالات إذا علمتم زوال عقولكم بالسكر بعد الدخول فيها.

__________________

(١) الجملتان معا أو إحداهما وردتا في مضامين روايات كثيرة انظر جامع أحاديث الشيعة ص ٢١٣ و ٢١٤ و ٢٢٤ إلى ٢٢٧.

(٢) النساء ٤٣.

(٣) أى لا تصلوا ، ولا يخفى ما فيه من المبالغة في النهي عن الصلاة ، وأنتم سكارى بضم السين وإثبات الألف على القراءة المشهورة ، وقرء بضم السين بدون الالف كحبلى على أن يكون صفة للجماعة ، وبفتحها بدونها على أن يكون جمعا نحو هلكى وجوعي أو مفردا نحو امرأة سكرى ، وتكون صفة للجماعة : أى أنتم جماعة سكرى ، وقرء بالفتح مع الالف جمع سكارى كجيارا جمع جيران قبل : في الآية دلالة على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج عن الايمان ، ومقتضى النهي بطلان الصلاة منه.

(٤) والثمل محركة السكر ، وثمل الرجل كفرح فهو ثمل إذا أخذ الشراب مجمع البحرين ـ

٧٥

«حتّى تعلموا ما تقولون في صلوتكم» وهو غاية النهي وعلّته : أي إنّما نهيتم عن قرباتها في تلك الحالة لأنّ السكران لا يعلم ما يقول منه ، وقيل : إنّ المراد بذلك سكر النعاس فإنّ الناعس لا يعلم ما يقول وهو مروي عن الباقر عليه‌السلام (١) ويلزم من النهي عن قرباتها في حالة سكر الخمر بطريق أولى ، وفي الآية دلالة على أنّ الصلاة مع زوال العقل لا تقع صحيحة كما قاله الفقهاء ، وفيه تنبيه على أنّه ينبغي أن يعلم ما يقوله المصلّى حال صلوته ، ويلاحظ معاني ما يقرأه من الأدعية والأذكار ، وفي الحديث عن الصادق عليه‌السلام (٢) أنّه قال : من صلّى ركعتين يعلم ما يقول فيهما انصرف وليس بينه وبين الله عزوجل ذنب إلّا غفر له.

(وَلا جُنُباً) عطف على محلّ قوله (وَأَنْتُمْ سُكارى) لأنّ محلّ الجملة مع الواو النصب على الحال كأنّه قيل : لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنبا ، والجنب ممّا يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأنّه اسم جرى مجرى المصدر أعنى الاجناب (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) استثناء من عامّة أحوال المخاطبين وانتصابه على الحال.

(حَتَّى تَغْتَسِلُوا) غاية النهي عن قربان الصلاة حال الجنابة : أى ولا تقربوا الصلاة جنبا في عامّة الأحوال حتّى تغتسلوا إلّا في السفر ، وذلك إذا لم تجدوا الماء ويتيمّم

__________________

(١) ففي العياشي ج ١ ص ٢٤٢ الرقم ١٣٤ عن زرارة عن أبى جعفر قال : لا تقم إلى الصلاة متكاسلا ، ولا متباعسا ، ولا متثاقلا فإنها من خلل النفاق ، وأن الله بهي المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة وهم سكارى من النوم ، وقريب منه حديث في الكافي بوجه أبسط الحديث الأول من باب الخشوع في الصلاة وهو في مرآت العقول ج ٣ ص ١١٩ ، وفي الوسائل الحديث السابع من الباب ١ من أبواب أفعال الصلاة ص ٣٣٨ ط أمير بهادر وسينقله المصنف في تفسير آية المؤمنون وبهذا المضمون أحاديث أخر عن الامام الباقر عليه‌السلام وغيره انظر البرهان ج ١ ص ٣٧٠ والوسائل أبواب أفعال الصلاة وغيرها.

(٢) انظر الوسائل الباب ٢ من أبواب أفعال الصلاة الحديث ٧ ص ٣٤١ ط أمير بهادر رواه عن ثواب الاعمال وقريب منه الحديث الثاني في الباب بعده عن الكليني ، وانظر أيضا جامع أحاديث الشيعة ص ٢٤٧ ج ٢ الرقم ٢٢٨٧.

٧٦

له ، ويحتمل أن يكون إلّا صفة لقوله : جنبا : أى جنبا غير عابري سبيل بأن يكونوا مقيمين فيكون المنهي عنه وهو القربان في حالة الجنابة مقيّدا بالإقامة ، ومنه يعلم أنّ قرباتها حال الجنابة مع عدم الإقامة غير منهي عنه ، وقد يقال : على هذا الوجه إنّ حمل الآية على الصفة إنّما يكون مع تقدير حملها على الاستثناء وهو هنا غير متعذّر لما عرفته من الوجه الأوّل ، واستدلّ به على أن التيمّم لا يرفع الحدث وهو جيد إن أريد به في جميع الأوقات بحيث لا ينتقض بالتمكّن من استعمال الماء ، وإن أريد به إلى وقت وجود الماء فهو ممنوع بل الظاهر أنّه يرفعه إلى ذلك الوقت ، وإطلاق الجنب على المتيمّم قد يستفاد كما قد يستفاد من الآية تجوّزا.

والمراد بالجنب الّذي لم يغتسل كأنّه قيل : لا تقربوا الصلاة غير مغتسلين حتّى تغتسلوا إلّا أن تكونوا مسافرين ، وبهذا صرّح في الكشّاف ، ويحتمل أن يراد من الصلاة في الموضعين مواضعها أعنى المساجد إمّا من تسمية المحلّ باسم الحالّ فإنّه نوع من المجاز شائع في كلام البلغاء أو على حذف مضاف ، والمعنى لا تقربوا المساجد في حالتين :

أحدهما : حالة السكر فإنّ الأغلب أنّ الّذي يأتي المسجد إنّما يأتيه للصلاة وهي مشتملة على أذكار وأقوال يمنع السكر من الإتيان بها على وجهها.

والثانية : حالة الجنابة ، واستثنى من هذه الحالة ما إذا كنتم عابري سبيل : أى مارّين في المسجد مجتازين فيه ، والعبور : الاجتياز ، وقوّى الطبرسي في مجمع البيان هذا القول لخلوّه عن شائبة التكرار فإنّه تعالى بيّن حكم الجنب العادم للماء في آخر الآية فلو كان هذا بيانا لحكمة أيضا كان تكرارا ، وفيه نظر ، وقد يؤيّد هذا الوجه ما رواه زرارة ومحمّد بن مسلم عن الباقر عليه‌السلام قال : لا يدخل الجنب والحائض (١)

__________________

(١) انظر العلل ط قم ج ١ ص ٢٧٢ الباب ٢١٠ وانظر أيضا جامع أحاديث الشيعة ص ١٦٤ ج ١ الرقم ١٥٢٧ وللحديث تتمة لم يذكرها المصنف ، وروى قريبا منه أيضا العياشي في تفسيره نقلا في الجامع بالرقم ١٥٢٦.

٧٧

المسجد إلّا مجتازين إنّ الله تبارك وتعالى يقول (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) وفي الآية الكريمة وجه آخر ذكره بعض فضلاء العربيّة من أصحابنا ، وهو أن تكون الصلاة في قوله تعالى (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ) على معناه الحقيقيّ ، وفي قوله (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) على معناه المجازيّ : أي مواضعها ، وعدّ ذلك من باب الاستخدام (١) قال في كتابه بعد أن عرّف الاستخدام بأنّه عبارة عن أن يأتي المتكلّم بلفظة مشتركة بين معنيين مقرونة بقرينتين يستخدم بكلّ قرينة منهما معنى من معنيي تلك اللفظة ، وفي الآية الكريمة قد استخدم سبحانه لفظ الصلاة لمعنيين :

أحدهما : إقامة الصلاة بقرينة قوله سبحانه (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ).

والآخر : موضع الصلاة بقرينة قوله (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) انتهى كلامه ، وهذا نوع من الاستخدام غير مشهور ، وحمل الآية عليه مع عدم ما يوجب المصير إليه بعيد وعلى اعتباره فجواز الاجتياز للجنب في المساجد مقيّد عند علمائنا بما عدا المسجدين وبذلك وردت الروايات وانعقد إجماعنا عليه ، وأطلق الشافعيّة جواز الاجتياز ومنع الحنفيّة منه إلّا أن يكون الماء فيه أو الطريق ، وقد استنبط فخر المحقّقين من هذه الآية عدم جواز الطواف بالبيت للجنب المتيمّم بل ولا مكثه في شيء من المساجد ، وإن تيمّم تيمّما مبيحا للصلاة لأنّه سبحانه علّق دخول الجنب إلى المسجد على الإتيان بالغسل لا غير بخلاف صلوته فإنّه تعالى علّقها على الغسل مع وجود الماء ، وعلى التيمّم مع العدم ، وحمل الطواف والمكث على الصلاة في ذلك قياس لا نقول به.

__________________

(١) الاستخدام على ما عرفه أهل الأدب أن يؤتى بلفظ له معنيان أو أكثر (حقيقيان أو مجازيان أو مختلفان) يراد به إحداهما ثم يراد بضميره المعنى الأخر أو يعاد عليه ضميران يراد بثانيهما غير ما أريد بأولهما مثل : أقر الله عين الأمير ، وكفاه شرها وأجرى له عذبها وأكثر لديه تبرها ، وانشدوا :

وللغزالة شيء من تلفته

ونورها من ضياء خديه مكتسب

أراد بالغزالة الحيوان المعروف وبضمير (نورها) الغزالة ، بمعنى الشمس.

٧٨

وهذا القول بعيد لأنّه حينئذ ذكر أوّلا حكم الصحيح وعيّن له الغسل. ثمّ عيّن للمعذور التيمّم بدل عنه فاقتضى ذلك أنّ الغسل متعيّن على الصحيح والتيمّم على المعذور في جميع ما يحتاج إليه من عبادة وغيرها لعدم تعقّل الفرق بين العبادات مع أنّ احترام المساجد لكونها مواضع للصلاة فإذا أباح التيمّم الدخول فيها أباح الدخول في المساجد بطريق أولى ، ولأنّه يلزم المحذور ، وهو إمّا عدم وجوب الطواف عليه أو عدم تحلّله حتّى يتمكّن من الغسل وهو حرج منفيّ بالعقل والنقل.

ويؤيّد العموم ما في الأخبار المتكثّرة الدالّة على أنّه أحد الطهورين ، وأنّه يكفى عشر سنين فإنّ ربّ الماء وربّ التراب واحد (١) ونحو ذلك ممّا هو صريح في العموم ، ولأنّ استفادة ما ذكره من الآية إن كان على التفسير الأوّل من كون المراد الصلاة نفسها فواضح العدم ، وإن كان على الثاني فلأنّ المراد النهي عن قرب مواضع الصلاة جنبا ، ولا نسلّم صدق الجنب عليه بعد التيمّم بل هو متطهّر ، والمراد بالجنب غير المغتسل كما مرّ على أن ذكر الغسل في الآية جاز أن يكون لخروجه مخرج الأغلب ومعه لا يكون المفهوم حجّة كما ثبت في محلّه ، وهذا الاحتمال غير بعيد من ظاهر اللفظ بل مساو لما ذكره فلا يصار إليه بل يترجّح هذا بما ذكرناه من الوجوه ، وقد يستدلّ بالآية على عدم احتياج غسل الجنابة إلى الوضوء لأجل الدخول في الصلاة لأنّه جعل النهي عن قربان الصلاة مغيّا بالغسل ، ولو كان مفتقرا إلى الوضوء أيضا لكان بعض الغاية غاية وهو باطل.

(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ).

قد تقدّم بيان ذلك مفصّلا وإطلاق مسح الوجه واليد مقيّد بما سبق من كونه ببعض. الصعيد حتّى لو تيمّم بالحجر لا يجزيه على هذا كما أشير إليه وهو قول بعض أصحابنا (٢) وتبعهم الشافعيّة وإن أجازه الآخرون.

__________________

(١) انظر صفحة ٦٧.

(٢) انظر المختلف ص ٤٨.

٧٩

لا يقال : التيمّم بالحجر مع عدم التراب مجز بالإجماع ، ولو لا دخوله في الصعيد لما أجزأ.

لأنّا نقول : إجزاء التيمّم به على ذلك التقدير لدليل دلّ عليه كالإجماع ونحوه لا يقتضي دخوله في الصعيد ، ولهذا جاز التيمّم بالوحل عند عدم الجميع لدليل اقتضاه ولا قائل بدخوله في الصعيد قطعا أمّا تعميم الغائط بحيث يشمل جميع أفراد الحدث الأصغر ، واللمس بحيث يشمل جميع أفراد الحدث الأكبر فبعيد بل لا وجه له.

وقد يستدلّ بهذه الآية وسابقتها على حصول الجنابة بمجرد غيبوبة الحشفة لصدق الملامسة الّتي هي الجماع مع الإدخال خرج منه ما دون الحشفة بالإجماع ، والأخبار فيبقى الباقي.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) أي كثير الصفح فالتجاوز كثير المغفرة والستر فلذلك يستر الأمر عليكم.

الثالثة : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (١).

(وَما أُمِرُوا) أى أهل الكتاب في كتبهم المنزلة عليهم.

(إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) حال عنهم : أى لم يؤمروا إلّا بإيقاع العبادة على وجه الإخلاص لله تعالى غير خالطين بعبادته عبادة سواه.

(حُنَفاءَ) جمع حنيف وهو المائل إلى الحقّ والحنيفيّة الشريعة المائلة إلى الحقّ وأصله الميل ، ومن ذلك الأحنف المائل القدم إلى جهة القدم الآخر ، وقيل : أصله الاستقامة ، وإنّما قيل : للمائل القدم أحنف على التفأّل وهو في الحقيقة تأكيد لحصر العبادة في الله المفهوم من قوله : إلّا بعد تأكيده بالإخلاص.

(وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ) أي يدوموا عليها ويقيموا بحدودها.

__________________

(١) البينة ٥.

٨٠