مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ١

جواد الكاظمي

مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ١

المؤلف:

جواد الكاظمي


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٦

الأصحاب العمل بها.

والثاني : أنّ المراد بهم يطيقونه بجهد ومشقّة لا يتحمّل مثلها ، ويؤيّده قراءة يطيّقونه ويطوّقونه ويتطوّقونه ويتطيّقون (١) لدلالتها على إمكان الصوم بجهد وتعب ، ويدلّ على ذلك ما رواه الكليني في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام (٢) في قول الله ـ عزوجل ـ (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) ، قال : الشيخ الكبير ، والّذي يأخذه العطاش ، وصحيحة محمّد بن مسلم (٣) قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : الشيخ الكبير والّذي به العطاش لا حرج عليهما أن يفطرا في شهر رمضان ، ويتصدّق كلّ واحد منهما في كلّ يوم بمدّ من طعام ولا قضاء عليهما فإن لم يقدرا فلا شيء عليهما ، وصحيحته الأخرى أيضا (٤) قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول الحامل المقرب والمرضع القليلة اللبن لا حرج عليهما أن تفطرا في شهر رمضان لأنّهما لا تطيقان الصوم ، وعليهما أن يتصدّق كلّ واحدة منهما في كلّ يوم تفطر فيه بمدّ من

__________________

(١) انظر تفصيل القرائات في ذلك في المجمع ج ١ ص ٢٨٢ والدر المنثور ج ١ ص ١٧٨ والطبري ج ٢ من ص ١٣٢ إلى ١٤١ والكشاف ج ١ ص ٢٠٥ وتفسير سفيان الثوري ط الهند رامبور ص ١٦ وروح الجنان ج ٢ ص ٥٦ وفتح القدير ج ١ ص ١٥٧ وتفسير الإمام الرازي ج ٥ ص ٨٦.

(٢) انظر الكافي ج ١ ص ١٩٤ والمرآة ج ٣ ص ٢٢٨ والتهذيب ج ٤ ص ٢٣٧ الرقم ٦٩٥ والمنتقى ج ٢ ص ٢٠٢ وتتمة الحديث : وعن قوله فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا قال : من مرض أو عطاش.

(٣) التهذيب ج ٤ ص ٢٣٨ الرقم ٦٩٧ والاستبصار ج ٢ ص ١٠٤ الرقم ٣٣٨ والفقيه ج ٢ ص ٨٤ الرقم ٣٧٥ والكافي ج ١ ص ١٩٤ والمرآة ج ٣ ص ٢٢٨ والمنتقى ج ٢ ص ٢٠٢ وفي كتابي الشيخ عن غير طريق الكليني في كل يوم بمدين ، وجمع الشيخ بين لفظي الحديث في الطريقين في التهذيب يكون المد لمن لم يطق غيره ، وفي الاستبصار بحمل المدين على ضرب من الاستحباب.

(٤) الكافي ج ١ ص ١٩٥ والمرآة ج ٣ ص ٢٢٨ والتهذيب ج ٤ ص ٢٣٩ الرقم ٧٠١ والفقيه ج ٢ ص ٨٤ الرقم ٣٧٨ والمنتقى ج ٢ ص ٣٠٣.

٣٢١

طعام ، وعليهما قضاء كلّ يوم أفطرتا فيه تقضيانه بعده فعلى هذا إنّما تجب الفدية على الشيخ والشيخة إذا أطاقا الصوم بمشقّة فلو لم يطيقا أصلا لم تجب الفدية عليهما ، وعلى هذا قول شيخنا المفيد والسيّد المرتضى واختاره سلّار وابن إدريس والعلّامة في المختلف ونقله في المنتهى عن أكثر علمائنا ، وقال الشيخ في أكثر كتبه : تجب الفدية عليهما إذا أفطرا لعجزهما عن الصيام سواء عجزا عنه بالكلّيّة أو قدرا عليه بمشقّة عظيمة ، وتابعه على ذلك جماعة من الأصحاب بل هو المشهور بينهم ، والشيخ في التهذيب بعد أن نقل كلام المفيد قال : هذا الّذي فصّل به بين من يطيق الصيام بمشقّة وبين من لا يطيقه أصلا فلم أجد به حديثا مفصّلا ، والأحاديث كلّها على أنّه متى عجزا كفّرا ، قال : والّذي حمله على هذا التفصيل هو أنّه ذهب إلى أنّ الكفّارة فرع على وجوب الصوم ، ومن ضعف عن الصيام ضعفا لا يقدر عليه جملة فإنّه يسقط عنه وجوبه جملة لأنّه لا يحسن تكليفه بالصيام وحاله هذه ، وقد قال الله تعالى (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) وهذا ليس بصحيح لأنّ وجوب الكفّارة ليس بمبنيّ على وجوب الصوم. إذ لا يمتنع أن يقول الله تعالى : متى لم تطيقوا الصيام فصار مصلحتكم في الكفّارة ، وسقط وجوب الصوم عنكم ، وليس لأحدهما تعلّق بالآخر. انتهى كلامه ـ أعلى الله مقامه.

واحتجّ العلّامة للمفيد بظاهر الآية المذكورة فإنّه دلّ بمفهومه على سقوط الفدية عن الّذي لا يطيقه ، ولأنّ الأصل براءة الذمّة فلا تخرج عنه إلّا بدليل يقطع العذر. ثمّ قال : وقول الشيخ لا استبعاد في إيجاب الكفّارة قلنا : لكن نفى الاستبعاد ليس دليلا على الإيجاب ، والأحاديث محتملة للتأويل.

أمّا صحيحة محمّد بن مسلم في بيان الآية فهي عليه لا له لأنّه سئل عن الّذين يطيقونه. فقال : الشيخ الكبير ، ولو كان عاجزا بالكليّة لما صحّ ذلك ، ونفي الحرج في الإفطار عنهما كما ورد في الأخبار الأخر صريح في ثبوت التكليف في الجملة ، وإنّما يتمّ مع القدرة.

قلت : الّذي أظنّه أنّ قول الشيخ بوجوب الفدية مطلقا لا يخلو من قوّة ، و

٣٢٢

استدلال العلّامة بالآية على السقوط عمّن لم يطق أصلا لا أظنّه إلّا من باب مفهوم الوصف أو غيره الّذي ليس بحجّة عند محقّقي أصحابنا ، وحينئذ فلا مانع من ثبوت الفدية على الّذين يطيقونه بهذه الآية وعلى غيرهم بدليل آخر أو أنّ المراد بالّذين يطيقونه الّذين كانوا يطيقونه بلا مشقّة كما مرّ في مرسلة ابن بكير على أنّ الأخبار عامّة في ثبوت الفدية على من لم يطق الصوم سواء أطاقه بتكلّف أولا ، وما ذكره العلّامة من تأويلها بعيد عن الظاهر لا موجب للمصير إليه إلّا بدليل صريح يقتضيه وهو غير معلوم هنا ، والأصل مندفع بعد قيام الدليل على خلافه ، ولعلّ العلّامة في المنتهى لذلك رجّح قول الشيخ حيث قال : وكلام الشيخ جيّد. إذ لا نزاع في سقوط التكليف بالصوم للعجز لكنّا نقول : إنّه سقط إلى بدل هو الكفّارة عملا بالأحاديث الدالّة عليه ، وهي مطلقة لا دلالة فيها على التفصيل الّذي ذكره المفيد. فيجب حملها على إطلاقها هذا ، ومقتضى صحيحة محمّد بن مسلم عدم القضاء على الشيخ وذي العطاش بعد الصحّة وهو كذلك عند أكثر الأصحاب فأوجبه بعضهم وهو بعيد أمّا الحامل المقرب والمرضع القليلة اللبن فظاهر الصحيحة السابقة وجوب القضاء عليهما بعد الصحّة ، وهو غير بعيد ، وذهب إلى عدمه بعض الأصحاب ، وفيه نظر.

(فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) فزاد في الفدية بأن أطعم أكثر من مسكين واحد أو أطعم المسكين أكثر من قدر الكفاية حتّى زاده على نصف صاع أو بزيادة في الإدام.

(فَهُوَ) فالتطوّع بالزيادة أو بالخير.

(خَيْرٌ لَهُ) وأحسن عند الله.

(وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) يعني صومكم خير لكم من الإفطار لما فيه من المصالح الخفيّة.

(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما فيه من الفضيلة والمصلحة أو إن كنتم من أهل العلم فيكون فيه إشارة إلى إظهار فضيلة الصوم من غير تعلّق بما نحن فيه ، وفضائل الصوم كثيرة لا تحصى.

ويحتمل أن يكون المراد الصوم لمطيقه خير : أي أكثر ثوابا من ثواب فدية

٣٢٣

من أفطر بالعجز ، وإن كان كلّ منهما واجبا ، وبالجملة مفادها أنّ الصوم خير من الفدية وإن كان كلّ واحد في محلّ ، وقال البيضاوي : معناها وأن تصوموا أيّها المطيقون (١) أو المطوّقون وجهدتم طاقتكم أو المرخّصون في الإفطار ليندرج تحته المريض والمسافر خير لكم من الفدية أو تطوّع الخير أو منهما ومن التأخير للقضاء ، ولا يخفى أنّ مقتضى الأوّل التخيير بين الفدية والصوم للمطيقين بالجهد ، وظاهر الآية وإن كان فيه دلالة عليه إلّا أنّه قد يعدل عن الظاهر لدليل اقتضاه وقد عرفته أمّا شمول الحكم للمسافر والمريض حتّى يكون فيها دلالة على خيريّة الصوم في السفر والمرض بالنسبة إلى الإفطار كما صرّح به فبعيد عن ظاهر الآية لانقطاع الكلام عنها بالمرّة وما بيّنّاه سابقا من اقتضاء صدر الآية تعيّن الإفطار عليهما ، وبذلك وردت الأخبار كما ما عرفت هذا.

وقد نقل في تفسير الآية وجه آخر رواه عليّ بن إبراهيم بإسناده عن الصادق عليه‌السلام (٢) قال : وعلى الّذين يطيقونه فدية من مرض في شهر رمضان فأفطر ثمّ صحّ ولم يقض ما فاته حتّى جاء شهر رمضان آخر فعليه أن يقضى ويتصدّق عن كلّ يوم مدّا من طعام ، وهذا غير بعيد عن ظاهر الآية فإنّه لمّا حكم أنّ على المسافر والمريض عدّة من أيّام أخر أراد أن يبيّن أنّهما إذا لم يقضيا العدّة مع الإمكان كان عليهما مع القضاء الفدية كما يعلم تفصيله من الأخبار الدالّة على وجوب القضاء على ذلك التقدير وإعطاء الفدية.

أمّا وجوب القضاء على ذلك التقدير فلا خلاف فيه بين أصحابنا وعموم من كان مريضا. الآية يدلّ عليه بل هذا العموم يقتضي وجوب قضاء الصوم الفائت في المرض سواء صحّ فيما بين الرمضانين أو لم يصحّ ، وإليه ذهب جماعة من الأصحاب ، والمشهور فيما بينهم أنّه مع استمرار المرض إلى الرمضان الثاني سقط عنه قضاء الأوّل ويتصدّق عن كلّ يوم بمدّ من طعام وهؤلاء يخصّون العموم السابق بمن صحّ وتمكّن من القضاء

__________________

(١) انظر البيضاوي ص ٣٨.

(٢) انظر تفسيره ط تبريز ١٣١٥ ص ٣٤ ورواه عند في المجمع ج ١ ص ٢٧٤ ونور الثقلين ج ١ ص ١٣٩ الرقم ٥٦٣ : والبرهان عن المجمع ج ١ ص ١٨١ الرقم ١٢.

٣٢٤

بين الرمضانين للأخبار المعتبرة الإسناد الدالّة عليه كحسنة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهم‌السلام (١) قال : سألتهما عن رجل مرض فلم يصم حتّى أدركه رمضان آخر فقالا : إن كان برأ ثمّ توانى قبل أن يدركه الصوم الآخر صام الّذي أدركه وتصدّق عن كلّ يوم بمدّ من طعام على مسكين ، وعليه قضاؤه ، فإن كان لم يزل مريضا حتّى أدركه شهر رمضان صام الّذي أدركه ، وتصدّق عن الأوّل لكلّ يوم مدّا على مسكين وليس عليه قضاء ، وصحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام (٢) في الرجل يمرض فيدركه شهر رمضان ويخرج عنه وهو مريض فلا يصحّ حتّى يدركه رمضان آخر قال : يتصدّق عن الأوّل ويصوم الثاني فإن كان صحّ فيما بينهما ولم يصم حتّى أدركه شهر رمضان آخر صامهما جميعا ، وتصدّق عن الأوّل ، ونحوهما من الأخبار ، ولأنّ وقت القضاء ما بين الرمضانين ، والعذر قد استمرّ أداء وقضاء فسقط التكليف به كما لو استوعب الإغماء

__________________

(١) الحديث رواه في الكافي ج ١ ص ١٩٥ وهو في المرآة ج ٣ ص ٢٢٩ والتهذيب ج ٤ ص ٢٥٠ الرقم ٧٤٣ والاستبصار ج ٢ ص ١١٠ الرقم ٣٦١ وهو في المنتقى ج ٢ ص ٢٢٧ وفيه بيان مواضع اختلاف ألفاظ الحديث في الكتب الثلاثة ووصفه المصنف بالحسن لأن في طريقه إبراهيم بن هاشم ، وقد عرفت صحته ص ١٢٨ من هذا الجزء ، ووصف الشهيد الثاني في المسالك هذا الحديث بالخصوص بالصحة ويتبين منه توثيقه إياه ، ولسيد علماءنا الاعلام بحر العلوم ـ طاب ثراه ـ من ص ٤٣٩ إلى ٤٦٤ ج ١ من فوائده الرجالية شرح وبسط كلام في حقه ، ولسماحة الحجة محمد صادق بحر العلوم عليه تعاليق نفيسة فراجع ، وعلى أى فلو ناقش أحد في التسمية بالصحيح في الاصطلاح فهو أمر ولكن لا مشاحة في الاصطلاح ، وأما العمل بأحاديثه فمما لا شك في كونه غير قاصر عن من يسمونه في الاصطلاح بالصحيح.

(٢) انظر الكافي ج ١ ص ١٩٥ والتهذيب ج ٤ ص ٢٥٠ الرقم ٧٤٤ والاستبصار ج ٢ ص ١١١ الرقم ٣٦٢ والفقيه ج ٢ ص ٩٥ الرقم ٤٢٩ وهو في المنتقى ج ٢ ص ٢٢٤ مع بيان مواضع اختلاف اللفظ وهو في المرآة ج ٣ ص ٢٢٩ مع كون إبراهيم بن هاشم في طريقه نظرا إلى طريق الفقيه أو إلى الطريق الأخر في الكافي وكتابي الشيخ ، وقال المجلسي حسن كالصحيح ، وقد عرفت منا غير مرة أن الحديث من طريق إبراهيم بن هاشم صحيح ، والطريق الأخر محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان ، وقد عرفت صحته في ص ١٣١ من هذا الجزء فراجع.

٣٢٥

والحيض وقت الصلاة.

والعلّامة في المنتهى قوّى القول بوجوب القضاء على تقدير الاستمرار قال : ولا تعارض الآية الّتي استدلّ بها الأحاديث المرويّة بطريق الآحاد ، وقولهم : وقت القضاء بين الرمضانين ممنوع ووجوب القضاء فيه لا يستلزم تعينه له ، ولهذا لو فرّط وجب عليه القضاء بعد رمضان الثاني هذا كلامه ، ومرجعه أنّ تخصيص القرآن بخبر الواحد لا يجوز وهو خلاف ما اختاره في كتبه بل خلاف ما اقتضته الأدلّة الأصوليّة فإنّها دلّت على جواز التخصيص به وخصوصا مع استفاضة الأخبار وصحّة إسنادها واعتضادها بعمل الأكثر من الأصحاب ، وحينئذ فيتعيّن العمل بما دلّت عليه ، وتخصيص الآية بها.

لا يقال : في الأخبار ما دلّ على القضاء وهو معارض لتلك الأخبار فيسلم ظاهر الآية فيجب العمل عليه ، وهو ما رآه سماعة (١). قال : سألته عن الرجل أدركه شهر رمضان وعليه رمضان قبل ذلك لم يصمه فقال : يتصدّق بدل كلّ يوم من الرمضان الّذي عليه بمدّ من طعام وليصم هذا الّذي أدرك فإذا أفطر فليصم رمضان الّذي كان عليه فإنّي كنت مريضا فمرّ علىّ ثلاث رمضانات لم أصحّ فيهنّ. ثمّ أدركت رمضانا فتصدّقت بدل كلّ يوم ممّا مضى بمدّ من طعام. ثمّ عافاني الله وصمتهنّ.

لأنّا نقول : الرواية ضعيفة السند مقطوعة (٢) فلا تعارض أخبارنا الصحيحة بل تضمحلّ في مقابلتها مع أنّ حملها على الاستحباب ممكن وما ذكره من منع التوقيت لا يخفى ما فيه بعد ما بيّناه ، والفرق بين المفرط وغيره واضح بسبب استقرار الوجوب وعدمه.

وأمّا وجوب الفدية على تقدير عدم اتّصال المرض إلى رمضان آخر وصحّ فيما

__________________

(١) التهذيب ج ٤ ص ٢٥١ الرقم ٧٤٧ والاستبصار ج ٢ ص ١١٢ الرقم ٣٦٦. قال الشيخ : ليس في الخبر أنه لم يصح بينهن وإنما قال : (فمر بي ثلاث رمضانات لم أصح فيهن ثم أدركت رمضانا) وهذا يقتضي أنه لم يصح في رمضانات أنفسهن لا فيما بينهن.

(٢) إذ في سند الحديث عثمان بن عيسى عن سماعه ، وقد عرفت الكلام فيهما في ص ٢٣٠ من هذا الجزء ومع ذلك فهي مضمرة.

٣٢٦

بينهما بحيث يقدر على القضاء لكنّه تركه سواء كان غير متوان به أو عازما عليه فهو قول جماعة من الأصحاب ، وآخرون قالوا : بالفرق بين التواني وعدمه فأوجبوا الفدية في الأوّل لا في الثاني مستدلّين عليه بأنّه مع عدم التواني لا يكون مفرطا في واجب فإنّه عازم على إيقاعه ، وإنّما أخّره لسعة الوقت. ثمّ حصل له مانع مثل حيض أو مرض أو سفر ضروري فلا يناسب حاله وجوب الفدية لأنّها عقوبة ولم يصدر منه ما يوجبها ، وبحسنة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام.

وقد سلفت حيث علّقت الصدقة فيها على التواني وهو يشعر بالعليّة لأنّه وصف صالح ، وقد قارن حكما يحسن ترتّبه عليه فينتفى مع انتفائه ، وبما رواه أبو بصير (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا مرض الرجل من رمضان إلى رمضان. ثمّ صحّ فإنّما عليه لكلّ يوم أفطر فدية طعام هو مدّ لكلّ مسكين ، وإن صحّ فيما بين الرمضانين فإنّما عليه أن يقضى الصيام فإن تهاون به وقد صحّ فعليه الصدقة والصيام جميعا لكلّ يوم مدّ إذا فرغ من ذلك الرمضان.

وفيه نظر فإنّ التفريط وعدمه لا يؤثّر في اختلاف الحكم مع قيام الدليل عليه وحسنة بن مسلم غير ظاهرة فيما قالوه بل الظاهر منها خلافه. إذ لا يراد من التواني في الفعل سوى عدم الإتيان به سواء كان عازما عليه أولا ، ويؤيّد ذلك ما في صحيحة زرارة المتقدّمة وغيرها من الأخبار بحيث جعل الصحّة فيما بين الرمضانين مقابلا لاستمرار المرض ، وهو ظاهر في ثبوت الفدية على من صحّ وتمكّن من الصيام بين الرمضانين ، ولم يفعله سواء كان عازما عليه أو لم يكن ، ورواية أبي بصير مع ضعفها (٢) غير ظاهرة

__________________

(١) التهذيب ج ٤ ص ٢٥١ الرقم ٧٤٦ والاستبصار ج ٢ ص ١١١ الرقم ٣٦٤ وفيهما بين قوله : لكل مسكين ، وقوله : وإن صح «قال : فكذلك أيضا في كفارة اليمين وكفارة الظهار مدا مدا».

(٢) فان سند الحديث هكذا «الحسين بن سعيد عن القاسم بن محمد عن على عن أبى بصير» ومعلوم أن القاسم بن محمد هذا هو الجوهري يروى كثيرا عن أبى بصير بواسطة البطائني وهو واقفي على ما ذكره علماء الرجال (انظر ص ٣٣٥ إتقان المقال وص ٢٦٥ منهج المقال وغيرهما من كتب الرجال).

٣٢٧

فيما قالوه أيضا بل الظاهر منها أنّ المراد بالتهاون مطلق الترك سواء كان عازما عليه أولا وإلّا لزم ترك قسم آخر وهو ترك القضاء مع الصحّة وعدم التهاون فكان ينبغي التنبيه عليه والتعرّض لحكمه.

وبالجملة فالروايات خالية عن الدلالة على ذلك فإثبات حكمه في الحقيقة إثبات بغير دليل.

ولو قيل : إنّ الأصل عدم وجوب الفدية ، والمفهوم من تعليق الحكم بالتواني عدمه عند عدمه.

لقلنا : الأخبار الصحيحة رافعة لحكم الأصل ومنطوقها مقدّم على المفهوم على أنّ في اعتبار مثل هذا المفهوم نظر ، ومنه يعلم أنّما ذكروه من حمل المطلق على المقيّد لا وجه له إذ لا منافاة بين الأخبار حتّى يلزم ذلك ، وقد ظهر ممّا ذكرناه أنّه لو تركه متهاونا به أو غير متهاون به وجب عليه الفدية أيضا كما هو مقتضى الأخبار الصحيحة ، وعليه أكثر الأصحاب ، وخالفهم ابن إدريس في أصل ذلك فأوجب القضاء فقط دون الفدية محتجّا بأصالة البراءة من وجوبها والأخبار ظنيّة لا تفيد القطع ، وبأنّ أحدا من

__________________

ـ وعلى هذا هو على بن أبي حمزة سالم البطائني قائد أبي بصير أحد عمد الواقفة لا يشك أحد في وقفه كان عنده ثلاثون ألف دينار للإمام الكاظم فجحدها ، وكان ذلك سبب وقفه روى الكشي ص ٣٤٥ و ٣٧٦ عن أبى الحسن على قال بعد موت ابن أبي حمزة : إنه قد أقعد في قبره فسئل عن الأئمة (ع) فأخبر بأسمائهم حتى انتهى إلى فسئل فوقف فضرب على رأسه ضربة امتلأ قبره منها نارا انظر ترجمته في كتب الرجال.

وأبو بصير وإن كان مشتركا بين المرادي والأسدي بل قيل : وغيرهما إلا أن الذي يروى عنه على بن أبي حمزة هو الأسدي المكفوف يحيى بن أبى القاسم : وأبو بصير هذا وإن وثقه محمد باقرون الأربعة (المجلسي ـ البهبهاني ـ السبزواري ـ الشفتي) على ما نقله عنهم ميرزا هاشم الخوانساري في ص ٤٥ و ٥١ من رسالته من أجزاء مباني الأصول إلا أنى لم أصر إلى الان لهم خامسا ولا أضعفه بالبت بل أنا في حقه من المتوقفين ، وتفصيل الكلام لا يسعه المقام ، وعلى أى فالحديث ضعيف كما ذكره المصنف بل سنده سلسلة الضعفاء.

٣٢٨

علمائنا لم يذكر هذه المسئلة سوى الشيخين ، ومن قلّد كتبهما وتعلّق بأخبار الآحاد الّتي ليست حجّة عند أهل البيت عليهم‌السلام ، وبالجملة بناه على أصله من عدم العمل بأخبار الآحاد ، وهو ضعيف لقيام الدليل على وجوب العمل بها على ما ثبت في الأصول فترتفع الأصالة في مقابلها ، وعدم ذكر أحد من أصحابنا هذه المسئلة ليس حجّة على العدم فإنّ الشيخين هما القيّمان بالمذهب مع أنّ ابن بابويه وابن أبى عقيل ذكروا وجوب الصدقة من غير تفصيل إلى التواني وعدمه وهما أسبق من الشيخين.

وقد رواه محمّد بن مسلم وزرارة ابن أعين وأبو الصباح الكناني وأبو بصير وغيرهم من الرواة ، وهم من أجلّاء أصحابنا وثقات رواتنا ، ولم يوجد لهم مخالف صريح في ذلك فلا معنى للإنكار.

واعلم أنّ جماعة من الأصحاب ألحقوا المسافر بالمريض في الحكم المذكور ، ومنع منه آخرون لاختصاص الأخبار بالمرض ، وإلحاق السفر بها قياس لا نقول به ، ولا يبعد القول بإلحاقه في وجوب الفدية عليه بمعنى أنّه لو أمكنه قضاء ما فاته من رمضان بالسفر ولم يفعله بين الرمضانين وجبت عليه الفدية لأنّها وجبت في أعظم الأعذار وهو المرض فلأن تجب في الأدون بطريق أولى ، وليس ذلك من باب القياس في شيء بل من باب الأولويّة ، ودلالة البيّنة الّتي هي حجّة عندنا أمّا الحاقه بالمريض في سقوط القضاء فلا لعموم الآية الكريمة في وجوب قضاء العدّة من الأيّام الأخر على المسافر والمريض سقط حكمها في المريض مع استمرار المرض لمعارضة الأخبار الصحيحة الدالّة على سقوط القضاء هناك فيبقى العموم بالنسبة إلى المسافر سالما عن المعارض فيعمل عمله ولأنّه لا يلزم من إسقاط القضاء في المرض الّذي هو أعظم الأعذار إسقاطه في الأدون وهو ظاهر.

(شَهْرُ رَمَضانَ) الشهر ما بين الهلالين أو ثلاثون يوما وجمعه أشهر في القلّة وشهور في الكثرة ، ورمضان مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء أضيف إليه الشهر وجعل المجموع علما ممنوعا من الصرف للعلميّة والألف والنون قالوا : ونظيره في منع الصرف ابن داية للغراب فعلى هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من صام رمضان فله كذا على حذف المضاف

٣٢٩

لأمن الالتباس ، وكذا ما ورد في الأحاديث مجرّدا عن الشهر فإنّه على حذفه ، ويؤيّده ما ورد في بعض الأخبار لا تقولوا : رمضان (١) فإنّكم ما تدرون ما هو بل قولوا : شهر رمضان ، وإنّما سمّوا هذا الشهر بذلك (٢) لارتماضهم فيه من الجوع والعطش أو لارتماض الذنوب فيه أو لأنّهم لمّا نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سمّوها بالأزمنة الّتي وقعت فيها فوافق هذا الشهر من أيّام رمض الحرّ ، وهو مرفوع على الخبريّة عن مبتدا دلّ عليه (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أي هي شهر رمضان أو على البدليّة عن الصيام على حذف المضاف : أي كتب عليكم صيام شهر رمضان ، وهذان الوجهان صريحان في عدم النسخ كما أشرنا إليه ، ويجوز على الابتداء خبره قوله :

(الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) أي ابتداء نزوله فيه ، وكان ذلك في ليلة القدر أو أنزل جميعه في ليلة القدر إلى السماء الدنيا. ثمّ انزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ذلك نجوما في مدّة عشرين سنة.

وروي ابن بابويه في الأمالي مسندا عن حفص بن غياث قلت للصادق جعفر بن محمّد عليه‌السلام : أخبرني عن قول الله ـ عزوجل ـ (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) كيف انزل القرآن في شهر رمضان ، وإنّما أنزل القرآن في مدّة عشرين سنة أوّله وآخره فقال عليه‌السلام : انزل القرآن جملة في شهر رمضان إلى البيت المعمور. ثمّ أنزل من البيت المعمور في مدّة عشرين سنة ، وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة

__________________

(١) انظر الكافي ج ١ ص ١٨٢ الباب ٤ من أبواب الصيام وهو في المرآة ج ٣ ص ٢١٤ والإقبال لجمال العارفين رضى الدين على بن طاوس ص ٣ والوسائل الباب ١٩ من أبواب أحكام شهر رمضان ج ٢ ص ١٠٧ ط الأميري ، والمستدرك ج ١ ص ٥٧٨ ومن طرق أهل السنة انظر الدر المنثور ج ١ ص ١٨٣ وسنن البيهقي ج ٤ ص ٢٠١ وفتح الباري ج ٥ ص ١٤.

(٢) ونقل في المرآة وجها آخر عن الخليل أنه من الرمض بتسكين الميم ، وهو مطر يأتي في وقت الخريف يطهر وجه الأرض من الغبار سمى الشهر بذلك لانه يطهر الأبدان عن أوضار والأوزار ونقل وجها آخر وهو أن أهل الجاهلية كانوا يرمضون أسلحتهم فيه ليقضوا منها أوطارهم في شوال قبل دخول الأشهر الحرم.

٣٣٠

من رمضان (١) وأنزلت التوراة لستّ مضين من شهر رمضان ، والإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان ، وانزل زبور داود لثمان عشرة ليلة مضت من رمضان والقرآن لأربع وعشرين منه.

ورواه في مجمع البيان عن العياشي عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) أو يكون المراد أنزل في فرضه وإيجاب صومه على الخلق القرآن ، وهو قوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) كما يقول القائل : أنزل في الزكاة كذا وكذا يريد في فرضها.

ويجوز أن يكون الموصول بصلته صفة شهر رمضان والخبر فمن شهد ، وألفا بوصف المبتداء بما تضمّنه معنى الشرط.

(هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) حالان من القرآن : أي انزل وهو هداية للناس إلى الحقّ وهو آيات واضحات مكشوفات ممّا يهدى إلى الحقّ ويفرق بين الحقّ والباطل فالمراد بالهدي الأوّل القرآن نفسه ، وبالثاني أنّه من جملة ما هدى

__________________

(١) وفي المجمع أنزلت صحف إبراهيم لثلاث مضين من شهر رمضان ، والظاهر أنه من غلط الناسخ والصحيح ما في المتن.

(٢) انظر المجمع ج ١ ص ٢٧٦ وفيه بعد نقل الحديث عن تفسير الثعلبي ورواه العياشي عن أبى عبد الله (ع) عن النبي (ص) وهو في العياشي ج ١ ص ٨٠ الرقم ١٨٤ هكذا : عن إبراهيم عن أبى عبد الله قال : سألته عن قوله : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن كيف انزل فيه القرآن وانما أنزل في طول عشرين سنة من أوله إلى آخره فقال : نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور. ثم انزل من البيت المعمور في طول عشرين سنة ، ثم قال : قال النبي (ص) : نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان ، وأنزلت الإنجيل لثلاث عشر ليلة خلت من شهر رمضان ، وانزل الزبور لثماني عشرة من رمضان وانزل القرآن لأربع وعشرين من رمضان. انتهى الحديث ، ونقله عنه في البحار ج ٢٠ ص ١٠٦ والبرهان ج ١ ص ١٨٣ الحديث ١٠ وقريب منه حديث حفص بن غياث في أصول الكافي آخر كتاب القرآن باب النوادر الحديث ٦ مع تفاوت يسير في ألفاظ الحديث ، وفيه : وانزل القرآن في ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان ونقله عنه في البرهان ج ١ ص ١٨٢ الحديث ٢ ونور الثقلين ج ١ ص ١٣٩ الرقم ٥٦٤ وهو في الشافي شرح ملا خليل القزويني ص ٦٦ من ـ

٣٣١

الله به الناس وفرّق به بين الحقّ والباطل من الكتب السماويّة الفارقة بين الهدى والضلال فإنّ الهدى قسمان : جليّ مكشوف وخفيّ مشتبه فوصفه أوّلا بجنس الهداية ثمّ قال : إنّه من النوع البيّن الواضع ، ويحتمل أن يقال : القرآن هدي في نفسه ومع ذلك ففيه أيضا بيّنات من هدى الكتب المتقدّمة فيكون المراد بالهدي والفرقان التورية والإنجيل أو يقال : الهدى الأوّل أصول الدين ، والثاني فروعه فلا تكرار.

(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) أي فمن حضر منكم في الشهر ولم يكن مسافرا فليصم فيه ولا يفطر ، والشهر منصوب على الظرفيّة ، وكذا إلها في فليصمه ، ولا يكون منصوبا على أنّه مفعول به كقولك : شهدت الجمعة لأنّ المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر كذا في الكشّاف ، وبالجملة فالمراد بالشهود الحضور غير مسافر وكان المراد مع القدرة على الصوم أيضا : أي الصحّة ليقابله قوله :

__________________

ـ الجزء السادس ج ٢ وهو في المرآة ج ٢ ص ٥٣٥ وفيه : «ويمكن أن يكون عدم ذكر الكسر : أى الثلاث مع العشرين للظهور لم يعتد بما نزل في الثلث لقلته أو يكون بعد نزول الكل عشرين سنة» وروى حديث إنزال الكتب المذكورة بشرح ما في الخبر في التهذيب ج ٤ ص ١٩٣ الرقم ٥٥٢ والفقيه ج ٢ ص ١٠٢ الرقم ٤٥٧ والكافي ج ١ ص ٢٠٦ عن أبى بصير عن أبى عبد الله (ع) إلا أن فيه ونزل الفرقان في ليلة القدر والحديث في الوسائل الباب ١٨ من أحكام شهر رمضان الحديث ١٦.

وأخرج حديث إنزال الكتب بنحو ما في العياشي السيوطي في الدر المنثور ج ١ ص ١٨٩ عن أحمد وابن جرير ومحمد بن نصر وابن أبى حاتم والطبراني والبيهقي في شعب الايمان والأصبهاني في الترغيب عن وائلة بن الأسقع عن النبي (ص) وفيه روايات أخر مع تفاوت يسير في ترتيب الانزال ، وفيه أيضا عن ابن جرير عن ابن عباس حديث نزول القرآن جملة إلى البيت المعمور ثم نزوله رسلا رسلا.

وللعلامة الطباطبائي ـ مد ظله ـ في شرح معنى النزولين بيان متين في تفسيره الميزان ج ٢ ص ١٤ وج ٣ ص ٥٤ وله في جواب اعتراضات صاحب المنار على حديث إنزال الكتب في ج ٢ من ص ١٧ إلى ٢١ بيان شاف كاف فراجع.

٣٣٢

(وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وقيل : إنّ المراد من شهد منكم هلال شهر رمضان فليصمه على أنّه مفعول به ، ومن كان مريضا الآية مخصوص له لأنّ المسافر والمريض ممّن شهد الشهر لم يجب عليهما الصوم وفيه بعد عن الظاهر ومن ثمّ نفاه صاحب الكشّاف كما أشرنا إليه والتفصيل بين الحكمين شاهد صدق على أنّ فرض المسافر والمريض الإفطار والقضاء ليس إلّا على ما أسلفناه. إذا لتفصيل قاطع للشركة فلا يجزى الصوم للمسافر لكونه مأمورا بخلافه ، وتكرير هذا الحكم أعنى وجوب القضاء عليهما يدلّ على كمال الاعتناء به وأنّه لا ينبغي أن يقع فيه تغيير ولا تبديل وهو ظاهر في كونه عزيمة لا يجوز تركه ، ويؤيّده.

(يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) أي يريد أن ييسر عليكم في أحكامكم ، وظاهر أنّ ارادة الشيء يستلزم عدم إرادة ضدّه بل هي عينها فيكون العسر غير مراد فقوله :

(وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) مؤكّد له والمراد أنّه تعالى أحبّ إليكم إذا كنتم مسافرين أو مرضى الإفطار والقضاء في عدّة أيّام أخر فاللازم عليكم اتّباع ذلك ، وتجاوز الأمر ، واستدلّ بعضهم بالآية على عدم جواز السفر في شهر رمضان لأنّه تعالى حكم على من كان حاضرا في الشهر بوجوب الصيام ، ومن كان مسافرا أو مريضا بوجوب القضاء وهو يقتضي عدم جواز السفر للحاضر ، وإليه ذهب أبو الصلاح فحرّم السفر اختيارا.

ويؤيّده رواية أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام (١) عن الخروج إذا دخل شهر رمضان فقال : لا إلّا فيما أخبرك به خروجا إلى مكّة أو غزوا في سبيل الله أو مالا تخاف هلاكه أو أخا تخاف هلاكه وقال : إنّه ليس أخ من الأب والامّ.

والجواب أنّ الظاهر من الآية أنّ من حضر جميع الشهر وجب عليه صيامه أجمع ، ومن حضر في بعضه يجب عليه صيام ذلك البعض ، وبالجملة الواجب صيام الزمان

__________________

(١) انظر التهذيب ج ٤ ص ٣٢٧ الرقم ١٠١٨ والفقيه ج ٢ ص ٨٩ الرقم ٣٩٨ والكافي ج ١ ص ١٩٧ وهو في المرآة ج ٣ ص ٢٣١ واللفظ في الكافي أو أخ تريد وداعه مكان تخاف هلاكه.

٣٣٣

الّذي حضر فيه من الشهر ، وظاهر أنّ من سافر في الأثناء لم يشهد الجميع فلا يتناوله الأمر بالصوم ، ولأنّ قوله : فمن كان مريضا أو على سفر فعدّة من أيّام أخر ظاهر في أنّ المسافر مطلقا يجب عليه القضاء والإفطار سواء شهد الشهر أو لم يشهده ، ولأنّ المنع من السفر في شهر رمضان عسر على المكلّفين ، وقد نفي تعالى إرادته بالمكلّف.

ويوضح ذلك من الأخبار ما رواه ابن بابويه في الصحيح عن العلاء عن محمّد بن مسلم عن أبى جعفر عليه‌السلام (١) قال : سئل عن الرجل يعرض له السفر في شهر رمضان وهو مقيم وقد مضى منه أيّام فقال : لا بأس بأن يسافر ويفطر ولا يصوم ، والأخبار في ذلك كثيرة ، ورواية أبي بصير ضعيفة (٢) لا تقاوم ما ذكرنا من الأخبار مع أنّ ظاهر الرواية انحصار جواز الخروج في الأمور المذكورة ، وهو خلاف ما يذهب إليه أبو الصلاح فإنّه يجوز السفر في كلّ أمر ضروري ، والأولى حمل النهي فيها على الكراهة جمعا بينها وبين غيرها ممّا دلّ على الجواز فإنّ الفضل في المقام كما دلّ عليه صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : سألته عن الرجل يدخل عليه شهر رمضان وهو مقيم لا يريد براحا ثمّ يبدو له بعد ما يدخل شهر رمضان أن يسافر فسكت فسألته غير مرّة فقال : يقيم أفضل إلّا أن يكون له حاجة لا بدّ من الخروج فيها أو يتخوّف على ماله ونحوها ، والمشهور بين الأصحاب أنّ الكراهة تزول بمضي ثلاث وعشرين يوما منه ، وقد دلّ عليه رواية عليّ بن أسباط (٤)

__________________

(١) الفقيه ج ٢ ص ٩٠ الرقم ٤٠٠.

(٢) إذ في سند الحديث القاسم بن محمد الجوهري وعلى بن أبي حمزة البطائني وأبو بصير الأسدي المكفوف ، وقد عرفت حال كل واحد منهم في ص ٣٢٧ فراجع.

(٣) الفقيه ج ٢ ص ٨٩ الرقم ٣٩٩ والكافي ج ١ ص ١٩٧ وهو في المرآة ج ٣ ص ٢٣١ وفيه بعد نقل معنى البراح بفتح الباء عن الجوهري بالمتسع من الأرض لا زرع فيه ولا شجر أن في بعض النسخ نزاحا بالنون والزاء المعجمة من قولهم ، نزح بفلان إذا بعد عن دياره غيبة بعيدة ، وأورد الحديث في المنتقى ج ٢ ص ٢٠٥ وأوضح صحة طريق الصدوق في الحديث قلت : وكذا طريق الكليني كما قد عرفت غير مرة صحة الحديث من طريق إبراهيم بن هاشم

(٤) التهذيب ج ٤ ص ٢١٦ الرقم ٦٢٦.

٣٣٤

عن رجل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا دخل شهر رمضان فلله فيه شرط قال : فمن شهد منكم الشهر فليصمه. فليس للرجل إذا دخل شهر رمضان أن يخرج إلّا في حجّ أو عمرة أو مال يخاف تلفه أو أخ يخاف هلاكه ، وليس له أن يخرج في إتلاف مال أخيه فإذا مضت ليلة ثلاثة وعشرين فليخرج حيث شاء ، وقد يظهر من بعضهم بقاء الكراهة أيضا وإن كان أقلّ ممّا قبله وهو غير بعيد.

(وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) يحتمل عطفه على اليسر ، والتقدير يريد الله بكم اليسر فيما أسقط عنكم من فرض الصوم على المسافر والمريض وأوجب الإفطار ، ويريد إكمال عدّة ما أفطرتم فيه من أيّام السفر والمرض ، ووجهه ما تقدّم من زيادة اللام بعد الإرادة. ويحتمل أن يكون معطوفا على عليه مقدّرة مثل ليسهل عليكم أو لتعملوا ما تعلمون.

ويحتمل أن يكون علّة لفعل محذوف ذلّ عليه ما سبق : أى وشرع جملة ما ذكر من أمر الشاهد بالصوم وأمر المسافر والمريض بالإفطار والقضاء ومراعاة عدّة ما أفطر فيه لتكمل عدّة الشهر لأنّه مع الحضور وعدم العذر يسهل عليه إكمال عدده فيكون هو مع قوله :

(وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) علل لما تقدّم على طريق اللفّ فإن قوله تعالى (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) على الأمر بمراعاة العدّة فإنّ قوله : ولتكبّروا الله على الأمر بالقضاء ، وبيان كيفيّته ، ولعلّكم تشكرون علّة إيجاب القضاء والتيسير ، والمراد بالتكبير تعظيم الله بالحمد والثناء عليه ولذلك عدّى بعلى ، وقيل : إنّ المراد به تكبير ليلة الفطر عقيب أربع صلوات : المغرب والعشاء الآخرة والغداة وصلاة العيد ، وقد تظافرت أخبارنا بذلك روي سعيد النقّاش (١) قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام لي : أما إنّ في الفطر تكبيرا ولكنّه مسنون قال قلت : وأين هو قال : في ليلة الفطر في المغرب والعشاء الآخرة وفي صلاة الفجر وفي صلاة العيد. ثمّ يقطع وهو قول الله ـ عزوجل ـ (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) يعني الصيام

__________________

(١) التهذيب ج ٣ ص ١٣٨ الرقم ٣٠١ والفقيه ج ٢ ص ١٠٨ الرقم ٤٦٤ والكافي ج ١ ص ٢٠٩ مع تفاوت يسير في ألفاظ الحديث وهو في المرآة ج ٣ ص ٢٤٣.

٣٣٥

ولتكبّروا الله على ما هداكم ، ونحوها عن الأخبار وأصحابنا على ذلك وهو أصحّ الأقوال وبين العامّة اختلاف في استحبابه ومن أثبته قال : يستحبّ في ثلاثة صلوات : المغرب والعشاء وليلة الفطر والصبح.

وقيل : إنّ المراد به التكبير يوم الفطر وهو عند أحمد ومالك من العامّة محتجّين عليه بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يخرج يوم الفطر والأضحى رافعا صوته بالتهليل والتكبير حتّى يأتي المصلّى ، وفي دلالتها على نفى التكبير ممّا عداه نظر.

واستدلّ بعضهم بظاهر قوله : تكملوا العدّة على أنّ شهر رمضان لا ينقص أبدا قال : لأنّه تعالى بيّن أنّ عدّة شهر رمضان محصورة يجب صيامها على الكمال ، ولا يدخلها نقصان ولا اختلاف ، ويؤيّده ما رواه الشيخ عن يعقوب بن شعيب (١) قال : قلت : لأبي عبد الله : إنّ الناس يقولون : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صام تسعة وعشرين يوما أكثر ممّا صام ثلاثين يوما فقال : كذبوا ما صام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا تامّا ، وذلك قوله : ولتكملوا العدّة. فشهر رمضان ثلاثون يوما ، وشهر شوال إلى تسعة وعشرين يوما ، وساق الحديث إلى أن قال : ثمّ الشهور على مثل ذلك شهر تامّ وشهر ناقص وشهر شعبان لا يتمّ أبدا ، ونحو ذلك من الأخبار المروية عن حذيفة بن منصور (٢) عن الصادق عليه‌السلام أنّ شهر رمضان ما نقص ولا ينقص أبدا من ثلاثين يوما وثلاثين ليلة.

والجواب عن الآية أنّها غير ظاهرة فيما ذكره بجواز إرادة عدّة ما أفطر فيها المسافر والمريض على ما عرفت ، ولو سلّم فالمراد اكملوا العدّة الّتي وجب عليكم صيامها ، وقد يجوز أن تكون هذه العدّة تارة ثلاثين ، وتارة تسعة وعشرين.

والأخبار غير واضحة الصحّة مع معارضتها بما هو أقوى سندا منها دالّة على أنّ

__________________

(١) انظر الفقيه ج ٢ ص ١١٠ الرقم ٤٧٢ والاستبصار ج ٢ ص ٦٧ و ٦٨ الرقم ٢١٦ و ٢١٧ و ٢١٨ والتهذيب ج ٤ ص ١٧١ و ١٧٢ الرقم ٤٨٣ و ٤٨٤ و ٤٨٥.

(٢) انظر التهذيب ج ٤ ص ١٦٧ إلى ١٦٩ من الرقم ٤٧٧ إلى ٤٨٢ والاستبصار ج ٢ ص ٦٥ من الرقم ٢١١ إلى ٢١٥ والفقيه ج ٢ ص ١١٠ الرقم ٤٧٠ و ٤٧١ والكافي ج ١ ص ١٨٤ المرآة ج ٣ ص ٢١٨.

٣٣٦

الاعتبار بالرؤية ، وأنّه قد تكون تسعة وعشرين يوما ونقلها يوجب التطويل ، وهذا القول نقله السيّد المرتضى عن شذاذ من أصحابنا ، ونقله الشهيد في الدروس عن ابن أبى عقيل ، وقد بالغ الشيخ في ردّه في كتابي الأخبار على وجه لا مزيد عليه فليرجع إليه من أراد الوقوف عليه.

ثمّ إنّه تعالى لمّا ذكر الصوم عقّبه بذكر الدعاء ومكانه من الداعي وإجابته إيّاه فقال :

(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي) روى أنّ أعرابيّا سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) فقال أقريب ربّنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فنزلت ، وعن قتادة أنّ الصحابة قالوا : يا نبيّ الله كيف ندعوا ربّنا؟ فنزلت ، والإضافة للتشريف ، والمراد السؤال عن كيفيّة أحواله من جهة القرب والبعد.

(فَإِنِّي قَرِيبٌ) أي فقل : إنّى قريب وهو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد ، وأقوالهم واطّلاعه على أحوالهم بحال من قرب مكانه منهم.

(أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) تقرير للقرب ، ووعد للداعي بالإجابة ، ولعلّ ذكر ـ إذا ـ في إذا دعان للتصريح في الدعاء والترغيب في تكراره وتعريف الداع للإشارة إلى داع خاصّ وهو الّذي يدعو متيقّن الإجابة ، ويطلب ماله فيه المصلحة من الدنيا والآخرة لا ما يكون محرّما كأن يدعو بإثم أو قطيعة رحم أو لا يكون فيه مصلحة فإنّ الله تعالى يعلم المصلحة ، ويستجيب الدعاء مع اقتضاء المصلحة ذلك لا بدونه وإنّما يقع التعجيل والتأخير في الاستجابة لذلك ، وعلى تقدير عدم الاستجابة في الدنيا فإنّ الله تعالى يعوّض في الدنيا ويثيب في الآخرة. فلا ينبغي ترك الدعاء مع عدم الإجابة إذ العالم بالمصلحة هو الله تعالى فاندفع ما يقال : إنّ كثيرا من الدعاء يقع ولم تحصل الإجابة فلا يصحّ إطلاقها مع حصول الدعاء.

ويمكن أن يجاب أيضا بأنّ الإجابة تكون مع المشيئة لا مطلقا

__________________

(١) الكشاف ج ١ ص ٢٥٦.

٣٣٧

ولو قيل : إنّ ما تقتضيه المصلحة لا بدّ أن يفعله الله فما معنى الدعاء.

لقلنا : إنّ الدعاء عبادة مخصوصة في نفسها تعبّد الله سبحانه بها عباده لما في ذلك من إظهار الخشوع والافتقار إلى الله سبحانه ، ولأنّه لا يمتنع أن يكون ما سأله العبد إنّما صار مصلحة بعد الدعاء فيحصل بالدعاء هذه الفائدة ، وفي الأخبار ما يدلّ على ذلك أيضا ، وفيها دلالة واضحة على أنّه تعالى ليس له مكان وإلّا لم يكن قريبا من كلّ من يناجيه ضرورة أنّ من كان قريبا من الشرقي كان بعيدا من الغربي ، ومن كان قريبا من حملة العرش كان بعيدا من غيرهم.

(فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) فيما دعوتهم إليه من الإيمان والطاعة كما أجيبهم إذا دعوني لمهامهم.

(وَلْيُؤْمِنُوا بِي) أمر بالثبات والمداومة عليه ، وفي مجمع البيان (١) روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : وليؤمنوا بي : أى ليتحقّقوا أنّى قادر على إعطائهم ما سألوه.

(لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) يصيبون الحقّ ويهتدون إليه ، ولعلّ ذكر هذه الآية بعد التكليف بعبادات شاقّة هي الصوم وتكميل العدّة على الوجه المتقدّم للدلالة على أنّه تعالى خبير بأحوالهم سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم مجازيهم على أعمالهم فيهون عليهم ذلك التكليف ، ويكونون حريصين على ما أمروا به غير متوانين فيه. ثمّ إنّه تعالى بيّن أحكام الصوم فقال :

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) روى علىّ بن إبراهيم (٢) بن

__________________

(١) المجمع ج ١ ص ٢٧٨.

(٢) الحديث رواه على بن إبراهيم في تفسيره ص ٣٥ والعياشي ج ١ ص ٨٣ الرقم ١٩٨ وعلم الهدى في رسالة المحكم والمتشابه ط تهران ١٣١٢ ص ١٣ والفقيه ج ٢ ص ٨١ الرقم ٣٦٢ والتهذيب ج ٤ ص ١٨٤ الرقم ٥١٢ والكافي ج ١ ص ١٩٠ وهو في المرآة ج ٣ ص ٢٢٣ والبحار عن العياشي والعماني ج ٢٠ ص ٦٩ و ٧٠ والوسائل الباب ٤٤ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ص ٨٠ ج ٢ ط أمير بهادر ، والمستدرك ج ١ ص ٥٦١ والبرهان ـ

٣٣٨

هاشم عن أبيه رفعه إلى أبى عبد الله عليه‌السلام قال : كان الأكل محرّما في شهر رمضان بالليل بعد النوم ، وكان النكاح حراما بالليل والنهار في شهر رمضان ، وكان رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقال له : مطعم بن جبير شيخا ضعيفا وكان صائما فأبطأت عليه أهله بالطعام فنام قبل أن يفطر فلمّا انتبه قال لأهله : قد حرّم علىّ الأكل في هذه الليلة فلمّا أصبح حضر حفر الخندق فأغمي عليه فرآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فرقّ له ، وكان قوم من الشبّان ينكحون بالليل سرّا في شهر رمضان فنزلت ، وذكر البيضاوي ، والكشّاف في سبب نزولها (١) أنّه كان في أوّل فرض الصوم إذا أمسى الرجل حلّ له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلّى العشاء الآخرة أو يرقد فإذا صلّاها أو رقد ولم يفطر حرّم عليه

__________________

ـ ج ١ ص ١٨٧ ونور الثقلين ج ١ ص ١٤٤ والوافي الجزء السابع ص ٣٤ وقلائد الدرر ج ١ ص ٣٦٧ وفي ألفاظ الحديث قليل اختلاف يظهر عند مراجعة المصادر التي سردناها ، واختلف نسخ المصادر في ابن جبير ففي بعضها مطعم بن جبير كما في المتن ، وفي بعضها خوات بن جبير وأظن أنه الصحيح ، وأن مطعم إنما وقع من سهو النساخ فانا لا نعرف مطعم بن جبير فيما بأيدينا من معاجم الصحابة ولا يحتمل أن يكون جبير بن مطعم القرشي بالقلب فإنه أسلم عام الحديبية أو عام الفتح ، وأما خوات بن جبير فهو ابن جبير بن النعمان بن أمية بن امرئ القيس (وهو البرك) بن ثعلبة بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي احد فرسان رسول الله (ص) شهد بدرا هو وأخوه عبد الله بن جبير في قول بعضهم. وقيل : لما خرج إلى بدر أصاب ساقه حجر فضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله له بسهمه وشهد أحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله له في الجاهلية قصة مشهورة مع ذات النحيين قد محاها الإسلام توفي بالمدينة سنة أربعين وهو ابن أربع وتسعين ترى ترجمته في أسد الغابة ج ٢ ص ١٢٥ والإصابة ج ١ ص ٤٥١ الرقم ٢٢٩٨ والاستيعاب ذيل الإصابة ج ١ ص ٤٤٢ والطبقات لابن سعد ج ٣ ص ٤٧٧ ط بيروت ، ورسالة الشيخ حر العاملي ص ٦١ الرقم ٢٢٣ وتراه في كتب الرجال ، وأنه من أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(١) انظر الكشاف ج ١ ص ٢٦٥ والبيضاوي ط المطبعة العثمانية ص ٣٩ وانظر أيضا الدر المنثور ج ١ ص ١٩٧ و ١٩٨ والطبري ج ٢ من ص ١٦٢ إلى ١٦٨ وفتح القدير ج ١ ص ١٦٤ والخازن ج ١ ص ١١٥ وابن كثير ج ١ ص ٢٢٠ و ٢٢١ وأسباب النزول للواحدي ص ٢٧ ولباب النقول ص ٢٧ وتفسير سفيان الثوري ط الهند رامبور ص ١٨.

٣٣٩

الطعام والشراب والنساء إلى القابلة. ثمّ إنّ عمر واقع أهله بعد صلاة العشاء الآخرة فلمّا اغتسل لام نفسه فأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله واعتذر إليه من نفسه الخاطئة وأخبره بما فعل فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما كنت جديرا بذلك يا عمر. فقام رجال فاعترفوا بما كانوا صنعوا بعد العشاء فنزلت.

«ولا يخفى عليك أنّ الإقدام على المحرّم من مثله بشهادة صاحبيه كاف في اتّصافه بالفسق مع اعترافهما عند قوله (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ) (١) الآية بأنّ الفاسق لا يصلح للإمامة على ما مرّ (٢) وليلة الصيام الليلة الّتي يصبح فيها صائما ، والرفث كناية عن الجماع لأنّه لا يخلوا من رفث ، وهو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه ، وعدّى بإلى لتضمّنه معنى الإفضاء ، ولعلّ التعبير بالرفث الدالّ على معنى القبيح دون غيره من الألفاظ كما وقع في غيرها من الآيات للإشارة إلى تقبيح ما ارتكبوه قبل الإباحة كما سمّاه اختيانا لذلك.

(هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ) استيناف بيّن فيه سبب الإخلال وهو قلّة الصبر عنهنّ وصعوبة اجتنابهنّ لما بينكم وبينهنّ من كثرة المخالطة وشدّة الملابسة ، والكلام على التمثيل شبّه حال الرجل والمرأة بسبب اعتناقهما واشتمال كلّ واحد منهما على صاحبه في عناقه بحال اللباس المشتمل على صاحبه.

(عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) تظلمونها بتعريضها للعقاب وتنقيص حظّها (٣) من الثواب بسبب كثرة الميل والشهوة ، وقلّة التدبّر في العواقب ، والاختيان

__________________

(١) البقرة ١٢٤.

(٢) انظر ص ١١٧ من هذا الجزء.

(٣) قال السيد الشريف الرضى في ص ١٢ من تلخيص البيان ط بغداد : وهذه استعارة لان خيانة الإنسان نفسه لا تصح على الحقيقة ، وإنما المراد أنه سبحانه خفف عنهم التكليف في ليال القيام بأن أباحهم فيها مع أكل الطعام وشرب الشراب الإفضاء إلى النساء ولو منعهم من ذلك لعلم أن كثيرا منهم يخلع عذار الصبر ويضعف عن مغالبة النفس فيواقع المعصية بفعل ما حضر عليه من غشيان النساء فيكون قد كسب على نفسه العقاب ونقصها الثواب ـ

٣٤٠