مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ١

جواد الكاظمي

مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ١

المؤلف:

جواد الكاظمي


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٦

ما دلّت عليه الأخبار المعتبرة الإسناد. ففي حسنة الحلبي عن الصادق عليه‌السلام (١) قال : وفي المغرب يقوم الإمام وتجيء طائفة فيقومون خلفه ، ويصلّى بهم. ثمّ يقوم ويقومون فيمثل الإمام قائما ويصلّون الركعتين. ويتشهّدون ويسلّم بعضهم على بعض. ثمّ ينصرفون فيقومون في موقف أصحابهم ويجيء الآخرون فيقومون في موقف أصحابهم خلف الإمام فيصلّي بهم ركعة يقرأ فيها. ثمّ يجلس ويتشهّد ويقوم ويقومون معه فيصلّى بهم ركعة أخرى. ثمّ يجلس ويقومون هم فيصلّون ركعة أخرى. ثمّ يسلم عليهم ، وفيها دلالة على أنّه يصلّى بالأولى ركعة واحدة ، وفي صحيحة زرارة عن أبى جعفر عليه‌السلام (٢) ، قال إذا كان صلاة المغرب في الخوف فرّقهم فرقتين فيصلّى بفرقة ركعتين. ثمّ جلس بهم ثمّ أشار إليهم بيده. فقام كلّ إنسان منهم فيصلّي ركعة ثمّ سلّموا ، وقاموا مقام أصحابهم وجاءت الطائفة الأخرى فكبّروا ودخلوا في الصلاة ، وقام الإمام فصلّى بهم ركعة. ثمّ سلّم. ثمّ قام كلّ رجل منهم فصلّى ركعة فشفعها بالّتي صلّى مع الإمام. ثمّ قام فصلّى ركعة ليس فيها قراءة فتمّت للإمام ثلاث ركعات ، وللأوّلين ركعتان في جماعة وللآخرين وحدانا. الحديث ، وفيها دلالة على أنّه يصلّى بالأولى ركعتين ، وفي اختلاف الأخبار دلالة على التخيير كما أشرنا إليه.

(وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) جعل الحذر بمثابة الآلة الّتي يتحصّن بها الغازي فجمع بينه وبين الأسلحة في وجوب الأخذ فهو بمثابة قوله (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) وإنّما أمر هذه الطائفة بأخذ الحذر والأسلحة جميعا لأنّ العدوّ قلّما يتنبّه في أوّل الصلاة بكون المسلمين في الصلاة بل يظنّونهم قياما للمحاربة ، وأمّا في الركعة الثانية فيظهر لهم ذلك من ركوعهم وسجودهم الأوّلين فينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم.

__________________

(١) انظر التهذيب ج ٣ ص ١٧١ الرقم ٣٧٩ والاستبصار ج ١ ص ٤٥٥ الرقم ١٧٦٦ والكافي ج ١ ص ١٢٧ ، والمنتقى ج ١ ص ٥٦٩ وقد مر غير مرة أن الحديث من طريق إبراهيم بن هاشم صحيح وما نقله المصنف هنا ذيل الحديث.

(٢) انظر التهذيب ج ٣ ص ٣٠١ الرقم ٩١٧ والاستبصار ج ١ ص ٤٥٦ الرقم ١٧٦٧ وفي المنتقى ج ١ ص ٥٦٤ وذيله فصار للأولين التكبير وافتتاح الصلاة وللآخرين التسليم.

٢٨١

(وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أى تمنّوا.

(لَوْ تَغْفُلُونَ) في صلاتكم.

(عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ) الّتي تدفعونهم بها.

(وَأَمْتِعَتِكُمْ) الّتي بها بلاغكم إلى أسفاركم.

(فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) فيحملون عليكم حملة واحدة ، وأنتم تتشاغلون بصلاتكم وهو بيان ما لأجله أمروا بأخذ السلاح.

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) ولا إثم ولا ضيق عليكم.

(إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) إذا ضعفتم عن حملها وهو كالمؤكّد لوجوب أخذ السلاح عليهم على تقدير عدم الأذى لأنّ الأمر دلّ عليه وهذا رخصة في وضعه ، وعلى الوجوب أكثر أصحابنا ومن جعله مستحبّا فقد أبعد ، واحتجاج العلّامة له في المختلف بالبراءة الأصليّة غير تامّ بعد ورود الأمر وحمله الأمر على الإرشاد لما في أخذ السلاح من الاستظهار والتحفّظ من العدوّ فهو كقوله (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) بعيد إذ العدول عن ظاهر الأمر من غير موجب صريح لا وجه له ، وظاهر الآية الوجوب على الطائفة المصلّية ، وبه حكم الشيخ في الخلاف لكن ينبغي تقييده بالسلاح الّذي لا يشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر وقال ابن إدريس : هو واجب على الفريقين ، وهو غير بعيد لوجوب الحراسة على الطائفة الغير المصلّية وتوقّفها على حمل السلاح ممّا لا ريب فيه مع أنّك قد عرفت حمل بعضهم الآية على الطائفة الأخرى.

(وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) أمرهم مع ذلك بأخذ الحذر لئلا يهجم عليه العدوّ.

(إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) وعد المؤمنين بالنصر على الكفّار بعد أن أمرهم بأخذ السلاح لتقوّى قلوبهم وليعلموا أنّ الأمر بأخذ السلاح ليس لضعفهم وغلبة عدوّهم بل لأنّ الواجب أن يحافظوا في الأمور على مراسم التيقّظ والتدبّر ويتوكّلوا على الله فيها.

الثامنة : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ

٢٨٢

فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (١) (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) فإذا فرغتم منها وأدّيتموها على الوجه المأمور به.

(فَاذْكُرُوا اللهَ) أي دوموا على ذكر الله في هذه الأحوال وادعوه فيها لعلّه ينصركم على عدوّكم ويظفركم الله بهم كقوله (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ) ، وقيل : المعنى إذا أردتم قضاء الصلاة : أى فعلها ، والتعبير عن الإرادة بالفعل كثير على ما سلف واشتدّ الخوف عليكم ، ولا يمكنكم الصلاة على الشرائط المعتبرة. فالواجب الصلاة مهما أمكن عبّر عن الصلاة بالذكر لاشتمالها عليه ، ويمكن أن يكون إشارة إلى صلاة القادر والعاجز فيكون حكم شدّة الخوف مستفادا منه.

(قِياماً) إذا كنتم أصحّاء قادرين عليه.

(وَقُعُوداً) إذا كنتم مرضى ولا تقدرون على القيام.

(وَعَلى جُنُوبِكُمْ) إذا لم تقدروا على القعود ونقله في مجمع البيان عن ابن مسعود (٢).

ثمّ قال : وروي عن ابن عبّاس أنّه قال : عقيب تفسير الآية : لم يعذر الله أحدا في ترك ذكره إلّا المغلوب على عقله (٣) ، وليس في أخبارنا ما يدلّ على خصوص هذه الآية في هذا الوجه.

نعم روي الكليني في الحسن عن أبي حمزة عن أبى جعفر عليه‌السلام في قوله الله ـ عزوجل ـ (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) قال : الصحيح يصلّى قائما

__________________

(١) النساء ١٠٣.

(٢) انظر المجمع ج ٢ ص ١٠٤.

(٣) هكذا في جميع النسخ المخطوطة عندنا ، وكذا في زبدة البيان ص ١٢٣ ط المرتضوي واللفظ في نسخة المجمع ط صيدا ج ٢ ص ١٠٤ وروى أنه فالظاهر أنه من كلام ابن مسعود لا ابن عباس وأظن أن في نسخة المجمع ط صيدا سقطا ، وقد مر في ص ١٢٠ من هذا الجزء نقل مضمون الحديث عن ابن عباس عن ص ٢٦٠ ج ٥ الطبري فراجع.

٢٨٣

وقعودا المريض يصلّى جالسا ، وعلى جنوبهم الّذي يكون أضعف من المريض الّذي يصلّى جالسا (١).

ويمكن حمل الآية عليه ، وقد يستفاد منها الترتيب بين القيام والقعود والجنوب في الصلاة وهو كذلك بالإجماع ، ولأنّ الانتقال إلى الحالة الدنيا إنّما يكون بعد العجز عن الحالة العليا لانصراف الأوامر إليها ، أمّا تقديم الجانب الأيمن على الأيسر فغير ظاهر منها لإطلاق الجنوب المتحقّق بكلّ منهما ، وكذا لا يعلم منها الاستلقاء على الظهر مع العجز عن الجنبين ، ويمكن إرادة الكلّ من الجنوب بمعونة الأخبار.

وفيها إشارة إلى اعتبار العجز عن الجنبين في صحّة الاستلقاء ، وبه صرّح بعض الأصحاب ولا شكّ أنّه أحوط.

(فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) سكنت قلوبكم من الخوف وقدرتم على ما يعتبر فيها من الأمور وهو مؤيّد لإرادة شدّة الخوف من الكلام السابق.

(فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فعدلوا أو احفظوا أركانها وشرائطها وأتوا بها تامّة على الوجه المأمور أو إذا استقررتم في أوطانكم وأقمتم في أمصاركم فأتمّوا الصلاة الّتي أذن لكم في قصرها ، ونقله في مجمع البيان عن مجاهد وقتادة (٢).

(إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) قد مرّ تفسيره (٣) وهو شاهد صدق على أنّ المراد بالذكر في صدرها الصلاة ، ويلزم وجوبها في جميع أحوال الخوف وبه يندفع قول أبي حنيفة حيث لم يوجبها على المحارب حتّى يطمئنّ وسيجيء إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) انظر الكافي ط ١٣١٢ ج ١ ص ١١٤ باب صلاة الشيخ الكبير والمريض الحديث ١١ وهو في المرآة ج ٣ ص ١٦١ وسرده المصنف في الحسن لأن في طريقه إبراهيم بن هاشم ، وقد عرفت غير مرة أنه صحيح.

(٢) انظر الجمع ج ٢ ص ١٠٤.

(٣) ولا يفوتن القاري مراجعة تفسير البرهان ج ١ ص ٤١٢ وما ورد في تفسيرها عن الأئمة عليهم‌السلام.

٢٨٤

التاسعة : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (١).

(فَإِنْ خِفْتُمْ) قدّم سبحانه على هذه الآية وجوب المحافظة على الصلوات وإيقاعها على الوجه المعتبر فيها. ثمّ عقّبه بذكر الرخصة عند عروض الخوف. فكأنّه قال : يجب عليكم المحافظة على الصلوات بأداء أركانها وتوفية حقّها. والقيام لله قانتين فيها إن أمكنكم ذلك ، وإن لم يمكنكم توفية حقّها وخفتم عدوّا أو غيره.

(فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) فمفعول خفتم محذوف للعلم به ، ويحتمل أن يكون منزلا منزلة اللازم : أي إن حصل لكم خوف ، ونصبهما على الحالية : أي فصلّوا راجلين أو راكبين ، ورجال جمع راجل أو رجل بمعناه كقائم وقيام ، والمراد وجوب الصلاة على كلّ حال يمكنهم من المشي والركوب إلى جهة القبلة وغيرها ، ورواه الجمهور عن ابن عمر أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : فإن كان خوفا أشدّ من ذلك صلّوا رجالا قياما على أقدامهم ، أو ركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها (٢) ونحوه من الأخبار ، وكذا يصلّون بالقيام والركوع والسجود إن أمكن وإلّا فبالإيماء ، وإلّا فبالنيّة ، والتكبير والتشهّد والتسليم ، ويجب تحرّى المقدور من ذلك فلو أمكن الاستقبال والإتيان بالأفعال وجب ، وإلّا استقبل ببعضها وإلّا فبالتكبيرة ، وإلّا سقط ، وفي الآية إجمال في ذلك ، وتفصيله يعلم من الأخبار ، وفيها دلالة واضحة على وجوب الصلاة حال المسايفة والمشي والاضطراب في المعركة إذا حضر وقتها ، وعدم جواز تأخيرها عن

__________________

(١) البقرة ٢٣٩.

(٢) انظر الأم للشافعي ج ١ ص ٢٢٢ وفيه عن ابن عمر أنه ذكر صلاة الخوف فساقها ثم قال : فان كان خوفا أشد من ذلك صلوا رجالا أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها قال مالك : لا أراه يذكر ذلك إلا عن النبي وانظر الموطأ بشرح الزرقانى ج ١ ص ٣٧١ الرقم ٤٤٣.

٢٨٥

وقتها على ذلك التقدير ، وعلى هذا علماؤنا أجمع ، وقال الشافعي : إن تتابع الطعن أو الضرب أو المشي أو فعل ما يطول بطلت الصلاة لأنّ الفعل الطويل مبطل حال الأمن فكذا حال الشدّة كالحدث ، وقال أبو حنيفة : لا يصلّى حال المشي ولا حال المسايفة ، وإن حضر وقت الصلاة بل يؤخّرها إلى أن يتمكّن من الوقوف محتجّا عليه بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يصلّ يوم الخندق ، وأخّرها لهذه العلّة ، والخبر غير معلوم الصحّة (١) بل نقل في التبيان أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى يوم الأحزاب إيماء ، ويوم الأحزاب هو يوم الخندق (٢) والترجيح لرواية الثبوت ولو سلّم فقد نقل أبو سعيد الخدري أنّه كان قبل نزول الآية وإنّ آية الخوف نزلت بعد واقعة الخندق (٣) ويؤيّده أنّ ذلك اليوم لم يكن هناك مسايفة تبطل الصلاة ، ويجاب عمّا ذكره الشافعي أنّه عمل أبيح من أجل الخوف فأشبه استدبار القبلة والركوب والإيماء ، ولأنّ أحد الأمور ثابت على تقدير الاحتياج إلى الفعل الكثير أمّا تأخير الصلاة عن وقتها وهو باطل بالإجماع منّا ومنه ، وأمّا ترك القتال وهو باطل أيضا بالإجماع وبقوله (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وأمّا فعل الصلاة وهو المطلوب ، ومعه لا وجه للبطلان ، وإطلاق الخوف في الآية مقيّد بالخوف الّذي يعذر فيه كالخوف في القتال الواجب مع الكفّار أو مع أهل البغي أو لدفع الضرر عن النفس أو عن حيوان محترم أو عن المال ، ومثله الخوف الحاصل من السبع أو الحرق أو الغرق أو المطالب إذا كان معسرا خائفا من الحبس عاجزا عن بيّنة الإعسار. فلو لم يكن

__________________

(١) مر الكلام فيه ص ٢٧٧

(٢) انظر المجمع ج ١ ص ٣٤٤ تفسير الآية ٢٣٩ من سورة البقرة ، ورواه الشيخ أيضا في التبيان تفسير آية البقرة ج ١ ص ٢٥٤ ط إيران.

(٣) انظر المنتقى بشرح نيل الأوطار ج ٢ ص ٣١ أخرجه عن أحمد والنسائي ونقل الشوكانى عند شرحه رواية الطحاوي وابن خزيمة وابن حبان له أيضا ، وانظر أيضا سنن البيهقي ج ٣ ص ٢٥١ وشرح معاني الآثار للطحاوى ط المكتبة الرحيمية الواقعة في الديوبند پويى ج ١ ص ١٥٨.

٢٨٦

الخوف بهذه المثابة كالخوف في القتال المحظور لم يجز فيه صلاة الخوف لأنّ الرخص لا تناط بالمعاصي.

(فَإِذا أَمِنْتُمْ) وزال خوفكم.

(فَاذْكُرُوا اللهَ) فصلّوا صلاة الأمن على الوجه المأمور به أو المراد فاشكروه على الأمن والخلاص من الخوف والعدوّ.

(كَما عَلَّمَكُمْ) من أمور دينكم وكيفيّة صلوتكم حالتي الخوف والأمن. فما مصدريّة ، والكاف صفة محذوف : أي ذكرا مثل تعليمكم أو شكرا يوازي تعليمكم ، ويحتمل كون ما موصولة ، وقوله : ما لم تكونوا تعلمون مفعول علّمكم على الوجهين.

العاشرة : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (١).

(فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) أي إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب في الدعاء إلى ربّك وهو من النصب بمعنى التعب : أي لا تشتغل بعد الصلاة بالراحة مثل النوم ونحوه ممّا يوجب عدم الاشتغال بشيء من العبادة بل اشتغل بعدها بالدعاء ، وقد روي ابن بابويه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : إذا فرغ أحدكم من الصلاة فليرفع يديه إلى السماء ولينصب في الدعاء (٢) الحديث.

(وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) في المسئلة ولا تسئل غيره فإنّه القادر وحدة على اسعافك فلتكن رغبتك إليه في المسئلة فإنّه يعطيك ما يرضيك ، وتقديم الجارّ والمجرور لإفادة الحصر ، وعلى هذا فيكون فيه أمر بالتعقيب بعد الصلاة ، ويؤيّده ما روي عن الصادق عليه‌السلام أنّها الدعاء في دبر الصلاة (٣) وقد تظافرت الأخبار

__________________

(١) الانشراح ٧ و ٨.

(٢) انظر الفقيه ج ١ ص ٢١٣ الرقم ٩٥٥ والتهذيب ج ٢ ص ٣٢٢ الرقم ١٣١٥ وبعده فقال ابن سبا : يا أمير المؤمنين أليس الله ـ عزوجل ـ بكل مكان قال : بلى قال : فلم يرفع يديه إلى السماء قال : أو ما تقرأ (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) فمن أين يطلب الرزق إلا من موضعه وما وعد الله السماء.

(٣) انظر المجمع ج ٥ ص ٥٠٩.

٢٨٧

باستحباب التعقيب بعد الصلاة.

فقد روي عن الباقر عليه‌السلام أنّه قال : الدعاء بعد الفريضة أفضل من الصلاة تنفّلا (١) وينبغي إيقاعه بعد الفريضة قبل الاشتغال بشيء حتّى النافلة في جميع الصلوات المغرب وغيرها في ذلك سواء لدلالة الفاء على تعقيب الاشتغال به من غير فصل ، ويفهم ذلك أيضا من الروايات. فما ورد من فعلها قبل الكلام وتعجيلها محمول على الكلام غير التعقيب لما رواه ابن بابويه عن الصادق عليه‌السلام ، من صلّي المغرب ثمّ عقّب ولم يتكلّم حتّى يصلّى ركعتين كتبتا له في علّيين فإن صلّى أربعا كتبت له حجّة مبرورة (٢) ، وقد يظهر من الآية اعتبار كونه على هيئة الصلاة ، ويستفاد من الأخبار أيضا ، وبالغ الشهيد في الذكرى حتّى حكم بأنّه يضرّ بالتعقيب جميع ما يضرّ بالصلاة ، وتفصيل الكلام في ذلك يعلم من محلّه.

ويحتمل أن يكون المراد من الآية فإذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل وإذا فرغت من دنياك فانصب في عبادة ربّك ، أو إذا فرغت من الفرائض فانصب فيما رغبك الله فيه من الأعمال ، أو إذا فرغت من جهاد أعدائك فانصب بالعبادة الله ، أو إذا فرغت من التبليغ فانصب للعبادة شكرا لما عدّدنا عليك من النعم السالفة ، ووعدناك بالنعم الآتية ، أو إذا فرغت من أداء الرسالة فانصب لطلب الشفاعة ، وسئل ابن طلحة عن هذه الآية فقال : القول فيه كثير ، وقد سمعنا أنّه يقال : إذا صحّحت فاجعل صحّتك وفراغك نصبا في العبادة ، وقال عطا يريد تضرع إليه هاربا من النار راغبا في الجنة ، وكلّ هذه الوجوه بعيدة عن الظاهر بل الظاهر الأوّل.

الحادية عشر : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ

__________________

(١) انظر الفقيه ج ١ ص ٢١٦ الرقم ٩٦٢ والتهذيب ج ٢ ص ١٠٣ الرقم ٣٨٩ والكافي ج ١ ص ٩٥ ط ١٣١٢ وفي الفقيه زيادة وبذلك جرت السنة وفي النسخة المطبوعة في النجف من الفقيه الصادق بدل الباقر وأظن انه من سهو الناسخ.

(٢) الفقيه ج ١ ص ١٤٣ الرقم ٦٦٤ والتهذيب ج ٢ ص ١١٣ الرقم ٤٢٢.

٢٨٨

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (١).

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) الخطاب لبني إسرائيل كما يعلم من الآيات السابقة عليها ، والمراد أقيموا الصلاة المعلومة بين المسلمين على الوجه الّذي بيّنها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم.

(وَآتُوا الزَّكاةَ) وأعطوا ما فرض الله على لسان نبيّه من الزكاة الّتي أوجبها على أمّته أمرهم بفروع الإسلام بعد ما أمرهم بأصوله ، وهو أوضح دليل على أنّ الكفّار مخاطبون بالفروع.

(وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي في جماعاتهم ، والمراد صلّوا معهم جماعة لتقدّم ذكر الصلاة المفردة فلا تكرار لأنّ الأوّل أمر بإقامتها ، والثاني أمر بفعلها مع الجماعة ، والتعبير بالركوع عن الصلاة شائع في الإطلاق يقال : فرغت من ركوعي : أي من صلوتي ، وذلك أوّل ما يشاهد ممّا يدلّ على أنّ الإنسان في الصلاة ، ويجوز أن يكون التعبير بالركوع عنها لكون الخطاب لبني إسرائيل ، ولا ركوع في صلوتهم ، ولا يردّ أنّ الخطاب لهم فلا يشمل غيرهم لأنّه لمّا علم عدم الفرق به في الحكم كان الأمر بذلك متناولا لجميع المكلّفين. فيكون في الآية حثّ على صلاة الجماعة ، وبيان لفضلها وقد تواترت الأخبار من الطرفين بفضلها وأنّها تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة ، وفي رواية بخمس وعشرين رواها العامّة (٢) وعن طريق الخاصّة (٣) تفضل صلاة الفرد

__________________

(١) البقرة ٤٣ إلى ٤٦.

(٢) انظر تفصيل ذلك ووجه الجمع والنكتة في التخصيص بهذا العدد والبحث المبسوط في نيل الأوطار ج ٣ ص ١٣٥ وفتح الباري ج ٢ ص ٢٧١ ومميز العدد في أحاديث غير أبي هريرة درجة ، وفي أحاديث أبي هريرة مختلف ففي بعضها درجة وفي بعضها جزء وفي بعضها صلاة.

(٣) انظر الوسائل الباب ١ من أبواب صلاة الجماعة ص ٥٢١ ط أمير بهادر ، وانظر أحاديث فضل الجماعة في الباب المذكور ، وفي المستدرك ج ١ ص ٤٨٧.

٢٨٩

بأربع وعشرين درجة يكون خمسا وعشرين صلاة لما فيها من تظاهر النفوس ، والأكثر على أنّها ليست فرض عين إلّا في الجمعة والعيدين ، وعلى هذا علماؤنا أجمع والشافعيّة والحنفيّة والمالكيّة ، وذهب شرذمة من العامّة إلى وجوبها على الأعيان وهو ضعيف وهل تجب على الكفاية؟ ذهب أصحابنا والحنفيّة إلى العدم ، وقال الشافعي : إنّها فرض كفاية لقوله عليه‌السلام : عليك بالجماعة فإنّ الذئب يأخذ القاصية (١) وهو محمول على شدّة الاستحباب لا الوجوب ، وعلى هذا فيمكن الاستدلال بها على عدم إدراك الجماعة مع عدم إدراك الركوع مع الإمام حتّى لو كان الإمام راكعا وأدركه حينئذ لم يكن مدركا لها لعدم الركوع مع الراكع بل بعده ، وهذا القول مرغوب عنه بين أكثر الأصحاب لحكمهم بإدراك الركوع مع إدراك ركوع الإمام كما دلّت عليه الأخبار الصحيحة ويمكن إدخاله في الآية بأدنى عناية وتأمّل ، ويحتمل أن يكون المراد بالركوع في الآية الخضوع والانقياد إلى ما يلزمهم الشارع في دين الله فإنّ استعمال الركوع بهذا المعنى كثير قال :

لا تهين الفقير علّك أن

تركع يوما والدهر قد رفعه (٢)

__________________

(١) ففي الجامع الصغير للسيوطي الرقم ٨٠١٧ ص ٤٧٦ ج ٥ فيض القدير عن أبى الدرداء عن النبي (ص) : ما من ثلاثة في قرية ولا بلد ولا تقام فيه الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان فعليكم بالجماعة. فإنما يأكل الذئب القاصية أخرجه عن أحمد وأبى داود والنسائي وصحيح ابن حبان والحاكم ، وأخرجه عنهم وعن ابن خزيمة أيضا المنذرى في الترغيب والترهيب ج ١ ص ٢٧٢ ، وفيه وزاد رزين في جامعه وإن ذئب الإنسان الشيطان إذا خلا به أكله ، ولفظ المهذب لأبي إسحاق الشيرازي ج ١ ص ١٠٠ قريب من لفظ المصنف ففيه : فإنما يأخذ الذئب القاصية من الغنم ، والقاصية المنفردة عن القطيع من قصى يقصو قصوا : أى بعد فهو قصى وقاص.

(٢) البيت للاضبط بن قريع بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن رهط الزبرقان بن بدر جاهلي قديم قبل الإسلام بخمسمائة عام كما في التصريح ج ٢ ص ٢٠٨ وقيل : أربعمائة كما في المزهر ج ٢ ص ٤٧٧ ، وقال الرافعي في ج ٣ ص ٥ تاريخ آداب العرب : إن أولية الشعر بمعنى الموزون المقفى باللغة التي وصلت إلينا لا ترتفع عن مائتي سنة قبل الهجرة ، وعلى أى فالبيت ـ

٢٩٠

__________________

ـ قبل الإسلام بدهر طويل ، وأغرب السيوطي فنقل في شرح أبيات المغني شواهد عن الحماسة البصرية إن الأضبط بن قريع السعدي من شعراء الدولة الأموية ثم الأضبط ذكره السجستاني في المعمرين ص ١١ ونقل الآلوسي عن ابن الأنباري أنه عاش مائة وخمسين سنة وهو الذي أساء قومه مجاورته فانتقل منهم إلى آخرين ففعلوا مثل ذلك فقال : أينما أوجه الق سعدا (المثل بالرقم ٢١٨ ج ١ ص ٥٣ مجمع الأمثال) أو بكل واد بنو سعد (المثل بالرقم ٥٢٦ ج ١ ص ١٠٥) أو في كل أرض سعد بن زيد (المثل بالرقم ٢٧٩٧ ج ٢ ص ٨٣ مجمع الأمثال ط مطبعة السعادة ١٣٧٩).

والبيت من قصيدة أنشدها القالي في الأمالي ج ١ ص ١٠٧ والجاحظ في البيان والتبين ج ٣ ص ٣٤١ وابن الشجري في الحماسة ص ١٣٧ وابن قتيبة في الشعر والشعراء ص ١٤٤ والثعالبي في التمثيل والمحاضرة ص ٦٠ والنويرى في نهاية الارب ج ٣ ص ٦٩ والقزويني في شرح شواهد المجمع ج ١ ص ٢٦٤ والآلوسي في بلوغ الارب ج ٣ ص ١١٨ والشريف في جامع الشواهد ، والسيوطي في شواهد المغني شواهد لعل وهو في ص ٤٥٣ الرقم ٢٤٥ من الطبعة الأخيرة والبغدادي في الخزانة ج ٤ ص ٥٨٩ في شرح الشاهد الرابع والخمسين بعد التسعمائة وابن الأثير في المثل السائر ص ١٠٢ ط ١٣١٢ واللسان كل بيت في لغة مناسبة وفي عدد الأبيات وترتيبها وألفاظها تفاوت فيما سردناه لك ، وحيث إنها مشتملة على الحكم والنصائح يناسب لنا نقلها وننقلها بضبط الآلوسي وهي :

لكل هم من الهموم سعة

والصبح والمساء لا بقاء معه

قد يجمع المال غير آكله

ويأكل المال غير من جمعه

لا تحقرن الفقير علك أن

تركع يوما والدهر قد رفعه

وصل حبال البعيد إن وصل

الحبل وأقص القريب إن قطعه

واقبل من الدهر ما أتاك به

من قر عينا بعيشه نفعه

ما بال من سره مصابك لا

يملك شيئا من أمره وزعه

أذود عن حوضه ويدفعني

يا قوم من عاذرى من الخدعة

حتى إذا ما انجلت عمايته

اقبل يلحى وغيه فجعه

والمسمى بضم الميم وكسر وسكون السين لغة في الإمساء والصبح من الإصباح ، والرواية ـ

٢٩١

__________________

ـ الكثيرة لا فلاح معه مكان لا بقاء ، والفلاح أيضا بمعنى البقاء ، وصل حبال البعيد يعنى تقرب إلى البعيد إذا طلب قربك ، واهجر القريب من نسبك إذا هجرك. والمصاب بالضم المصيبة ، ووزعه يزعه وزعا كفه ومنعه ، والأصل ودعه يقول : ما بال من تتألم لمصيبته وفقره إذا وجد شيئا من الخبر كفه عنك ، واذود عن حوضه مثل للحماية ودفع المكروه عنه. والخدعة بضم الخاء المعجمة وفتح الدال المهملة بطن من بنى سعد بن زيد مناة بن تميم وهم قومه. وقيل الخدعة في هذا البيت اسم للدهر. ويقال دهر خادع وخدعة ، وهو مجاز. والعماية بفتح العين المهملة : الشدة التي تلتبس منها الأمور يقال : عمى عليه الأمر إذا التبس وأقبل شرع ويلحى يلوم. والغي : الضلال. وفجعه : أصابه بمكروه.

قال البكري في ص ٣٢٨ من سمط اللآلي ، ويروى في هذا الشعر بيت زائد وهو :

قد يرقع الثوب غير لابسه

ويلبس الثوب غير من رقعه

وروى البيت المستشهد له لا تعاد بدل لا تهين ، ولا تحقرن ولا تذل ، ورواه في الكامل ص ٤٨٠ ، ولا تهين مع الواو ، وروى مكان الفقير الضعيف ، وروى أن تخشع بدل أن تركع قال الآلوسي : زعم العيني وتبعه أناس إن هذا البيت من الخفيف ، وهو وهم كبير : والصواب أنه من المنسرح ، ويدل له القصيدة لكن دخل في أوله الخرم (بالراء) بعد خبنه فصار على وزن فاعلن ، وهذا جائز عند بعضهم وممتنع عند الخليل.

قلت : ولأجل ذلك عاب البكري في التنبيه ص ٤٤ على القالي وأخطأه حيث نقل عن الأصمعي إنشاده : فصلن البعيد إن وصل الحبل. وقال : هذا الإنشاد الذي نسبه إلى الأصمعي لا يجوز لان البيت يكون حينئذ من العروض الخفيف والشعر من المنسرح والأصمعي لا يجهل ذلك.

ثم البيت أنشده في اللسان لغة (ر ك ع) وكثير من التفاسير كالمجمع والتبيان وأبى الفتوح وأبى السعود وفتح القدير عند تفسر الآية ٤٣ من سورة البقرة ، وكنز العرفان عند تفسير الآية ٧٧ من سورة الحج ج ١ ص ١٢٤ والمصنف هنا لبيان معنى الركوع واستشهد بالبيت علماء الأدب لحذف نون التأكيد الخفيفة على خلاف الأصل وهو حذف أول الساكنين وهو غير مدة. فاستشهد به في المغني الباب الخامس حذف نون التأكيد وشروح الألفية ، وجعل العيني عند شرح البيت عليه رمز ظقهع والاشمونى وأوضح المسالك والتصريح وشرح التصريف وشرح الرضى على الشافية ج ٢ ص ٢٣٢ والكافية ج ٢ ص ٤٠٦ ط المطبعة الحاج محرم افندى ١٢٧٥ ـ

٢٩٢

قال الشيخ في التبيان : والأوّل أقوى (١) لأنّ هذا مجاز مشبه به ، ويجوز أن يراد من الركوع معناه المشهور ، وهو الانحناء الخاص ، ويكون الفائدة في ذكره بعد الأمر

__________________

ـ وجامع الدروس العربية للقلائينى ج ١ ص ٩٦ وشرحه البغدادي في شرح الشاهد ٨٤ ص ١٦٠ من شرح شواهد الشافية ، وفي الشاهد الرابع والخمسين بعد التسع مائة ص ٥٨٨ من الخزانة آخر شواهد الكافية ، وشرحه السيد السند صاحب المدارك في شرح شواهد ابن الناظم ص ٣٧٢.

قال القزويني في شرح شواهد المجمع : ويجوز أن يكون المحذوف النون التي هي جزء الكلمة حذفت من غير علة كما حذفت في لم يكن اعتباطا وإنما الدليل على حذف النون المؤكدة فتحة النون الموجودة لان المؤكدة المخففة ساكنة فإذا لقيت ساكنا انكسرت : ويمكن أن يقال : لو لم تكن فتحة النون رواية ثابتة جاز ضمها لتكون لا نافية ، والكلام خبرا لفظا والمعنى على النهي كما قيل في قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) وكما تقول : تذهب إلى فلان وتقول له : كذا وكذا تريد الأمر.

واستشهدوا بالبيت أيضا على استعمال عل مكان لعل كما في المغني لفظ عل والانصاف وحاشية محمد محي الدين عبد الحميد على الاشمونى ج ٣ ص ١٨٩.

والمسئلة من مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين سردها ابن الأنباري في الإنصاف المسئلة ٢٦ من مسائل الخلاف ص ٢١٨ وهي أن لام لعل الاولى هل هي زائدة أو أصلية ، فالكوفيون على أنها أصلية ، والبصريون على أنها زائدة مستشهدين بهذا البيت ونظائره. وقال الكوفيون : حذف اللام إنما هو لكثرة استعمال لعل في أبياتهم فتلعبت العرب بهذه الكلمة وفي لعل عشر لغات معروفة جمعها ابن الوردي في تحفته المنظومة في النحو :

لعل عل ولعن عنا

لغن غن ولأن أنا

رعن مع رغن تلك عشرا

قلت ، ويزاد عليها لون ورعل ورغل وهن ولعا ولعلت فتصير ست عشرة لغة ، وقراءة اللام الأخيرة من لعل وعل مكسورة وساكنة أيضا ، ولعلهم قرءوا المبدلة منها سوى لعا ولعلت أيضا كذلك إلا أنى لم أر التصريح بذلك انظر اللسان لفظ عل ولعل ومعيار اللغة ، والحدائق الندية وشرح الدسوقى على المغني لفظة لعل ثم اقتران الخبر بأن في البيت لتضمنها معنى عسى فحمل عليها في اقتران الخبر بان ، وروى لعل بعضكم أن يكون ألحن من بعض كما حمل عسى عليها في العمل.

(١) انظر التبيان ج ١ ص ٧٠ ط إيران.

٢٩٣

بإقامة الصلاة للإشارة إلى أنّ المراد بها الصلاة المتقرّرة في الشرع المحمّدي ، وعدم إرادة صلوتهم حيث كان اللفظ متناولا لها كما قال الشيخ في التبيان.

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) الاستفهام للتقرير مع التوبيخ ، والتعجّب من حالهم والبرّ اسم جامع لإعمال الخير ، وكلّ طاعة لله تعالى فلا خلاف أنّها برّ ويتناول كلّ خير ، ومن ثمّ قيل : البرّ ثلاثة : برّ في عبادة الله تعالى ، وبرّ في مراعاة الأقارب وبرّ في معاملة الأجانب.

(وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) تتركونها خالية من البرّ كالمنسيات نزلت في أخبار بني إسرائيل.

واختلف في المراد بالبرّ فيها فقيل : هو التمسّك بكتابهم فإنّهم كانوا يأمرون الناس باتّباعه ولم يؤمنوا به ولا يتّبعونه ، وذلك لأنّ جحدهم نبوّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو تركهم التمسّك به للدلالة على وجوب اتّباعه.

وقيل : كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدّقون ، ويمكن حملها على ما هو أعمّ من ذلك.

فإن قيل : فإذا كان فعل البرّ واجبا والأمر به واجبا فلما ذا وبّخهم على الأمر بالبرّ.

قلنا : لم يوبخهم على الأمر بالبرّ وإنّما وبّخهم على ترك فعل البرّ المضموم إلى الأمر به لأنّ ترك البرّ ممّن يأمر به أقبح من تركه ممّن لا يأمر به كقوله :

لا تنه عن خلق وتأتى مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

وبالجملة فالمراد النهي عن كون النفس فاعلة للمعاصي والذنوب ، وتاركة للخير والعمل الصالح كالإيمان به صلى‌الله‌عليه‌وآله واتّباعه والتصدّق ونحوه مع أمر الناس بضدّه.

(وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) أي التورية الدالّة على نعته صلى‌الله‌عليه‌وآله وكونه نبيّا حقّا أو ما فيها من الوعيد على ترك البرّ ومخالفة القول العمل.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) قبح صنيعكم فيصدّكم استقباحه على الإقدام عليه فكأنّكم في

٢٩٤

ذلك مسلوبو العقل لأنّ العقول تأبى مثل ذلك الفعل وتدفعه وهو توبيخ عظيم لهم ، بيانه أنّ المقصود من البرّ إرشاد الغير المصلحة وتحذيره عمّا يوقعه في المفسدة والإحسان إلى النفس أولى من الإحسان إلى الغير كما يشهد به العقل والنقل وفيه دلالة على كون القبح عقليّا ، وقول التفتازاني : إنّ التوبيخ هنا مرتّب على ما صدر عنهم بعد تلاوة الكتاب وهو دليل كون القبح شرعيّا لا يخفى ما فيه لظهور أنّه مرتّب على قبح صنيعهم الّذي تدركه العقول. فتأمّل فيه.

والآية ناعية على من يعظ غيره ولا يتّعظ هو نفسه فيقدم على سوء الصنيعة وخبث النفس.

وفيها حثّ للواعظ على أن يزكّى نفسه ويطهرها ممّا يصدر على لسانه في وعظه غيره ، ولا شكّ أنّ الوعظ على ذلك التقدير أوقع في النفس ، وأسرع سماعا ، وفي الحديث أنّ الموعظة إذا خرجت من القلب نفذت إلى القلب ، ويجوز أن يكون التعجّب في الآية من جهة أنّ مثل هذه المواعظ تصير سببا للمعصية لأنّ الناس يقولون لو لا أنّ هذا الواعظ مطّلع على أنّه لا أصل لهذه التخويفات لما أقدم على المناهي فيكون داعيا لهم إلى التهاون بالدين والجرأة على المعاصي ، وهذا مناف للغرض من الموعظة. ولا يليق الكلام بالعقلاء ، وليس في الآية دلالة على عدم جواز أمر الفاسق غيره بالطاعات مع ارتكاب المعاصي كما قاله بعضهم مستدلّا بهذه الآية ، إذ لا قصور في أمر الفاسق غيره بالطاعة ووعظه بما يوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإن كان حاله على خلافها ، والأصل يقتضي ذلك أيضا فإنّ الأمر بالمعروف واجب وفعله واجب آخر ، والإخلال بأحد الأمرين الواجبين لا يستلزم الإخلال بالآخر والذمّ في الآية مرتّب على الشقّ الثاني وهو نسيان النفس عن فعل البرّ لا على مجموع الأمرين ، وعلى هذا فيجوز لتارك الصلاة أمر غيره بها.

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) قيل : هو خطاب للمسلمين ، المؤمنين بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّ من ينكر الصلاة والصبر على دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقال له : استعن بالصبر والصلاة.

٢٩٥

وقيل هو خطاب لأهل الكتاب وإلّا لزم تفكيك النظم ولكنّه يتناول المسلمين على وجه التأديب قولكم : إذا كانوا منكرين فكيف يؤمرون قلنا : لا نسلّم كونهم منكرين فإنّ اليهود كانوا يصلّون على كيفيّة أخرى تخالف صلاة المسلمين (١) فأمرهم تعالى بالاستعانة بالصلاة على ذلك الوجه قال الشيخ في التبيان : والأولى أن يكون خطابا لجميع المكلّفين لفقد الدلالة على التخصيص واقتضاء العموم ذلك ، وهو جيّد ، والاستعانة طلب العون والمعاونة ، والصبر منع النفس عن محابها وكفّها عن هواها ، والمراد بالاستعانة على الحوائج إلى الله بالجمع بينهما بأن يصلّوا صابرين على تكاليف الصلاة متحمّلين لمشاقّها ، وما يجب فيها من صرف المال في الطهارة وستر العورة وإخلاص القلب وصدق النيّات ، ورفع الوساوس ومراعاة الآداب ، والاحتراس من المكاره مع الخشية والخشوع ، واستحضار أنّ الصلاة انتصاب بين يدي جبّار الأرض والسموات يسأل فكّ الرقاب عن سخطه وعذابه.

ومن ثمّ قيل : إنّ الصلاة جامعة لأنواع العبادات النفسانيّة والبدنيّة حتّى تجابوا إلى تحصيل حوائجكم ، ويحتمل أن يكون المراد استعينوا على البلايا والنوائب بالصبر عليها والالتجاء إلى الصلاة والتوسّل بها عند وقوعها ، وفي الحديث أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا حزنه أمر فزع قام إلى الصلاة (٢) وعن الصادق عليه‌السلام قال : ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غمّ من غموم الدنيا أن يتوضأ ، ثمّ يدخل المسجد فيركع ركعتين ويدعو الله فيها أما سمعت الله تعالى يقول (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ).

ويحتمل أن يكون المراد استعينوا على ترك ما تحبّون من الدنيا والدخول فيما تستثقله طباعكم بالصبر : أي حبس النفس عن اللذّات فإنّكم إذا كلّفتم أنفسكم

__________________

(١) انظر في ذلك قاموس الكتاب المقدس كلمة (نماز) من ص ٨٨٧ إلى ٤٩١ يشير فيه إلى مواضع ذكر الصلاة في كتب العهدين وكيفيتها.

(٢) انظر فتح القدير ج ١ ص ٦٦ أخرجه عن أحمد وأبى داود وابن جرير عن حذيفة وقريب منه في رواياتنا عن الامام الصادق عن أمير المؤمنين (ع) انظر تفسير البرهان ج ١ ص ٩٤ الحديث ٢.

٢٩٦

ذلك مرنت عليه وخفّ عليها ، ثمّ إذا ضممتم الصلاة إلى ذلك كمل الأمر لأنّ المشتغل بالصلاة مشتغل بذكر لطفه وقهره فإذا تذكر لطفه مال إلى الطاعة ، وإذا تذكر قهره انتهى عن المعصية ، وإنّما قدّم الصبر على الصلاة لأنّ تأثير الصبر. في إزالة ما لا ينبغي وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي ، والنفي مقدّم على الإثبات ، ويحتمل أن يراد من الصبر الصوم فإنّ الصائم يصبر نفسه على الجوع والعطش ويحبسها عن المفطرات ، ولهذا سمّى شهر رمضان شهر الصبر ، ورواه ابن بابويه في الفقيه مرسلا عن الصادق عليه‌السلام قال : وقال : إذا نزلت بالرجل النازلة والشدّة فليصم فإنّ الله تعالى يقول (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (١).

ويحتمل أن يراد من الصلاة الدعاء : أي استعينوا على البلايا بالصبر والالتجاء إلى الدعاء والابتهال إلى الله في دفعها (وَإِنَّها) أي الاستعانة بهما أو الصلاة وتخصيصها بإرجاع الضمير إليها لعظم شأنها واستجماعها ضروبا من الصبر وقال في التبيان ، وهو قول أكثر المفسّرين.

ويجوز أن يرجع إلى جميع الأمور الّتي أمر بها بني إسرائيل من قوله (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ). إلى (وَاسْتَعِينُوا) وقيل : هو عائد إلى الإجابة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال الشيخ في التبيان : وهذا ضعيف لأنّه لم يجر للإجابة ذكر ، ولا هي معلومة إلّا بدليل غامض.

__________________

(١) لفظ الفقيه في ج ١ ص ٤٥ الرقم ٢٠١ في المطبوع بالنجف : وقال (ع) (مقصوده الامام الصادق) في قول الله ـ عزوجل ـ (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) قال : يعنى بالصبر الصوم ، وقال (ع) : إذا نزلت بالرجل النازلة أو الشدة فليصم فان الله ـ عزوجل ـ يقول (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) ، وليس في الفقيه ذكر تسمية شهر رمضان شهر الصبر ، ولكن نقله عنه في المرآة أيضا ج ٣ ص ٢١٣ عن الفقيه ثم إنه روى مضمون الحديث في الكافي مع أدنى تفاوت في اللفظ الباب الأول من كتاب الصيام الحديث ٧ وهو في المرآة ص ٢٣ ج ٣ وروى قريبا منه العياشي عن أبى الحسن ج ١ ص ٤٣ الرقم ٤١ ونقله عنه في البحار ج ٢٠ ص ٦٦ والبرهان ج ١ ص ٩٤.

٢٩٧

(لَكَبِيرَةٌ) لشاقّة على كلّ مكلّف.

(إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) المطمئنّين لله تعالى فإنّهم قد وطنوا أنفسهم على فعلها وعوّدوها إيّاها فلا تثقل عليهم أو لأنّهم علموا ما يحصل لهم من الثواب بفعلها فلا يثقل عليهم ذلك كما أنّ الإنسان يتجرع مرارة الدواء لما يرجوا به من نيل الشفاء ، فمن أمثال العرب : من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل.

(الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي يتوقّعون لقاء الله ونيل ما عنده فيطمعون فيه أو يتيقّنون أنّه لا بدّ من لقاء جزاء ربّهم. فيعملون على حسب ذلك بخلاف من لم يتيقّن ذلك ولم يرج الثواب فإنّها عليه مشقّة خالصة فلذلك ثقلت عليه كالمنافقين والمرائين فإنّ إطلاق الظنّ على العلم واليقين غير عزيز في الكلام أو يظنّون انقضاء أجلهم وسرعة موتهم فيكونون أبدا على حذر ووجل كمن يقال لمن مات : قد لقي الله.

(وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) أي بالإعادة في الآخرة أو راجعون بالموت كما كانوا في الحالة المتقدّمة لأنّهم كانوا أمواتا فأحيوا. ثمّ يموتون فيرجعون أمواتا كما كانوا أو راجعون إلى موضع لا يملكه أحد غيره تعالى كما كانوا في بدو الخلق قال في التبيان : وتحقيق معني الآية أنّهم مقرّون بالنشأة الثانية فجعل رجوعهم بعد الموت إلى الحشر رجوعا إليه.

الثانية عشر : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (١).

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) الإنصات : الاستماع مع السكوت.

__________________

(١) الأعراف ٥ : ٢ و ٢٠٦.

٢٩٨

الاستماع : شغل السمع بالسماع وقد اختلف المفسّرون في المراد بذلك.

فقيل : المراد به الأمر بالإنصات في الصلاة خلف الإمام الّذي يؤتمّ به إذا سمعت قرائته.

وهو المروي عن أبي جعفر ، وفي رواية جعفر بن محمّد عليه‌السلام أنّه سئل عن القراءة خلف الإمام (١) فقال : إذا كنت خلف إمام تتولّاه وتثق به فإنّه تجزيك قرائته ، وإن أحببت أن تقرأ فاقرأ فيما يخافت به فإذا جهر فأنصت قال الله (وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وذهب إليه ابن مسعود وسعيد بن جبير وجماعة.

ويؤيّده ما رواه ابن عبّاس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قرأ في الصلاة المكتوبة ، وقرأوا أصحابه رافعين أصواتهم فخلطوا عليه فنزلت (٢).

وقيل : المراد إذا تلي عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له.

وقيل : المراد استمعوا له وتدبّروا آياته لتعلموا ما فيه.

وقيل : كانوا يتكلّمون في الصلاة فنزلت وصارت سنّة في غير الصلاة : أي ينصت القوم إذا كانوا في مجلس يقرء فيه القرآن.

وقيل المراد : الإنصات في الخطبة والاستماع إلى الإمام يوم الجمعة حال الخطبة وإليه ذهب جماعة.

وقيل : المراد الإنصات فيهما جميعا ذهب إليه الحسن وجماعة قال الشيخ في التبيان (٣) : وأقوى الأقوال الأوّل لأنّه لا حال يجب فيه الإنصات لقراءة القرآن إلّا حال قراءة الإمام في الصلاة فإنّ على المأموم الإنصات والاستماع له.

فأمّا خارج الصلاة فلا خلاف أنّ الإنصات والاستماع غير واجب. ثمّ قال : وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : يجب الإنصات للقرآن في الصلاة وغيرها وذلك على وجه الاستحباب.

__________________

(١) رواه في التهذيب ج ٣ ص ٣٣ الرقم ١٢٠ وللحديث تتمة يذكرها المصنف.

(٢) انظر فتح القدير ج ٢ ص ٢٦٨ أخرجه عن ابن مردويه والبيهقي.

(٣) انظر التبيان ج ١ ص ٧٧٩.

٢٩٩

قلت : ويؤيّد الرواية المذكورة ما رواه الشيخ أيضا في التهذيب في الصحيح عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) قال : سألته عن الرجل يؤمّ القوم وأنت لا ترضى به في صلاة يجهر فيها بالقراءة. فقال : إذا سمعت كتاب الله يتلى فأنصت له ، وساق الحديث إلى أن قال : إنّ عليّا عليه‌السلام كان في صلاة الصبح فقرأ ابن الكواء وهو خلفه (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) فأنصت عليّ عليه‌السلام تعظيما للقرآن حتّى فرغ من الآية. ثمّ عاد في قرائته ثمّ أعاد ابن الكواء الآية فأنصت عليّ عليه‌السلام أيضا ثمّ قرء وأعاد ابن الكواء فأنصت عليّ عليه‌السلام ثمّ قال : فاصبر إنّ وعد الله حقّ ولا يستخفنّك الّذين لا يوقنون ثمّ أتمّ السورة ثمّ ركع قال الشيخ في التهذيب : ألا ترى أنّ أمير المؤمنين مع كونه في الصلاة أنصت لقراءة القرآن ثمّ عاد إلى قرائته لنفسه وأتمّ الصلاة بها ، وظاهره أنّه لو كان في غير الصلاة فالإنصات أولى ويظهر منه القول بوجوب ترك القراءة على المأموم مع السماع ، وقد والأخبار صرّح به في كتبه الفقهيّة وتابعه في ذلك جماعة من الأصحاب مستدلّين بظاهر الأمر في الآية الكريمة المعتبرة الإسناد الدالة على النهي عن القراءة مع السماع ، وما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما جعل الإمام إماما ليأتمّ به فإذا كبّر كبّروا وإذا قرأ فأنصتوا (٢).

وفي كلّ من الأدلّة نظر أمّا الآية فغير ظاهرة الدلالة على أنّ المراد بها إنصات المأموم بل يحتمل غيره احتمالا بيّنا على ما عرفت ، فسقطت الدلالة ، والأخبار الدالّة على النهي عن القراءة مع السماع معارضة بمثلها ، ومن ثمّ ذهب إليه جماعة من الأصحاب إلى كراهة القراءة على ذلك التقدير جمعا بين الأخبار ، ولا يخلوا الجمع عن تكلّف ، والحقّ أنّ المسئلة من المشكلات بسبب اختلاف الأخبار وأقوال الأصحاب وقد أوضحنا الحال في شرح الدروس.

__________________

(١) رواه في التهذيب ج ٣ ص ٣٥ الرقم ١٢٧ ، وروى شطرا منه في الاستبصار ج ١ ص ٤٣٠ الرقم ١٦٦١.

(٢) قد عقد البخاري له بابا انظر فتح الباري ج ٢ من ص ٢١٣ إلى ٢٢٢ وسائر كتبهم.

٣٠٠