مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ١

جواد الكاظمي

مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ١

المؤلف:

جواد الكاظمي


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٦

حقيقته على أنّ ما ذكر يستلزم جواز البيع إذا لم يكن مانعا عنها كما لو جمع بين المضي إلى الصلاة الواجب عليه والبيع والشراء ، وهو غير ظاهر بل الظاهر التحريم فإنّ تحريم البيع غير معقول العلّة فلا يتعدّى إلى سائر ما يشبهه من المعاملات ، لأنّه قياس لا نقول به مع أصالة الإباحة ، ومن ثمّ لم يعهد من المتقدّمين القول بشمول الحكم جميع المعاملات ، ولو خالف وأوقع البيع مع النهي عنه فهل ينعقد قيل : نعم نظرا إلى أنّ النهي في المعاملات لا يوجب فسادا. إذ لا مانع من كون الشيء حراما ، ومع هذا لو أتى به ترتّب عليه أثره المطلوب الّذي هو معنى الانعقاد. وقيل : لا نظرا إلى أنّ المطلوب الّذي هو الترغيب في الصلاة إنّما يتمّ على ذلك التقدير ، ولأنّ ما يدلّ على انعقاده هو إباحته فمع رفعها لا يكون منعقدا مضافا إلى أنّ الأصل بقاء الملك على صاحبه ، وعدم انتقاله عنه إلّا بدليل شرعي ، وكون العقد المحرّم الّذي لا يجوّزه الشارع ولم يرض به دليلا غير واضح وفيه تأمّل ، وكيف كان فالتحريم يختصّ بالمخاطب بالجمعة فلو لم يكن مخاطبا بها لم يحرم ، ولو عقد مع غيره فقد كره الشيخ في حقّه ذلك ولا يبعد التحريم للإعانة على المعصية ، وقد انعقد إجماع المسلمين على وجوب صلاة الجمعة على كلّ مؤمن لكن خصّ العموم بالذكر الحرّ الحاضر الصحيح فلا يجب علي المرأة ولا العبد ولا المسافر ولا المريض والأعمى ونحوه الأعرج والمقعد كلّ ذلك علم من الأدلّة ، وإطلاق الآية مقيّد بالعدد ، وعليه العلماء كافّة ، والّذي اعتبره أكثر أصحابنا في ذلك خمسة ، وربّما ذهب بعضهم إلى اعتبار السبعة ، وقال الشافعي : لا ينعقد بأقلّ من الأربعين ، وهو قول مالك وأحمد واكتفى أبو حنيفة بأربعة أحدهم الإمام واكتفى أبو يوسف بثلاثة أحدهم الإمام ، وقال داود والحسن : تنعقد بواحد كسائر الجماعات وهي أقوال مرغوب عنها فيما بيننا.

وفي أخبار المعتبرة ما يوجب الاكتفاء بالخمسة فيعمل عليه ، ولا ينافيه أخبار الواردة بالسبعة لأنّها محمولة على الوجوب العيني والخمسة على التخييري كذا جمع الشيخ بينهما ، ويمكن الجمع بينهما بوجه آخر بيّناه في محلّه.

ثمّ إنّ إطلاق الآية يقتضي ثبوت الوجوب مع حضور الإمام وغيبته ، وهو

٢٦١

كذلك عند أكثر الأصحاب ، وذهب السيّد المرتضى إلى عدم الجواز مع الغيبة ، واختاره ابن إدريس وجماعة ، وظاهر هؤلاء تخريمها على ذلك التقدير ، وعدم إجزائها عن الظهر لو فعلت محتجّين عليه بأنّ شرط انعقادها الإمام أو من نصبه على الخصوص فينتفى المشروط مع انتفاء الشرط ، ولأنّها لو شرعت حال الغيبة لوجبت عينا فلا يجوز فعل الظهر أمّا الملازمة فلظهور الأمر في الوجوب العيني ، فتعيّن حمله عليه مع عدم المعارض ، ولأنّها بدل عن الظهر وهو واجب عينا ، وأمّا الثاني : فمنتف بالإجماع فيبطل المقدّم.

وفيه نظر فإنّا لا نسلّم الاشتراط المذكور مطلقا حتّى في حال الغيبة وأين الدليل عليه ، والّذي يصلح أن يكون دليلا عليه بعض الروايات المشتملة على ذكر الإمام كرواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين ولا تجب على أقلّ منهم : الإمام وقاضيه المدّعى حقّا والمدّعي عليه ، والشاهدان والّذي يضرب الحدود بين يدي الإمام (١) وهي ضعيفة السند بالحكم بن مسكين (٢) فلا تصلح أن تكون مقيّدة لإطلاق الآية المؤيّد بالأخبار الصحيحة الدالّة على الوجوب

__________________

(١) رواه في التهذيب ج ٣ ص ٢٠ الرقم ٧٥ والاستبصار ج ١ ص ٤١٨ الرقم ١٦٠٨ والفقيه ج ١ ص ٢٦٧ الرقم ١٢٢٢ وهو في الوافي الجزء الخامس ص ١٦٧.

(٢) قلت : في حكم المصنف بضعف السند نظر. إذ لم نقف على نقل قدح في الحكم بن مسكين غاية الأمر أنهم لم ينقلوا في حقه مدحا أيضا ، وهذا يدرجه في الحسان لا الضعاف ولذا سرده الشيخ محمد طه في إتقان المقال ص ١٨٤ أيضا في القسم الحسان لكن نقل أجلاء أصحابنا عنه مثل ابن أبى عمير والحسن ابن محبوب ومحمد بن الحسين بن أبى الخطاب والحسن بن على بن فضال والحسن موسى الخشاب عنه ، وكونه كثير الرواية ، ونقل بعض كونه من مشيخة الفقيه لعله يدرجه في مقبولي الرواية انظر الحواشي الرجالية للعلامة البهبهاني على منهج المقال ص ١٢٣ وجامع الرواة ج ١ ص ٢٦٧.

قال الشهيد في الذكرى في مبحث صلاة الجمعة بعد نقل الحديث ، والنقل عن المختلف منع صحة السند : قلت : الحكم ذكره الكشي ، ولم يتعرض له بذمة ، والرواية مشهور لا يضرّ فيها كون الراوي مجهولا عند بعض الناس انتهى ما في الذكرى ، وليس في رجال الكشي ترجمة ـ

٢٦٢

كذلك على أنّها متروكة أيضا لإطباق المسلمين كافّة على عدم اشتراط حضور من اشتملت عليه إلّا أن يقال المراد : حضور سبعة مثلا.

سلّمنا الاشتراط لكن لا يلزم منه التحريم حال الغيبة كيف والفقيه الجامع لشرائط الفتوى منصوب من قبل الإمام عموما كما دلّت عليه مقبولة عمر بن حنظلة (١) ، ومن ثمّ يمضي أحكامه ويجب مساعدته على إقامة الحدود والقضاء بين الناس ، وهذا أعظم

__________________

ـ الحكم منفردا ، ولعله ذكره في سند حديث وكان المقام يقتضي الطعن بالجهالة لو كان كذلك ولم يطعن فاستند به الشهيد ـ قدس‌سره.

(١) الحديث رواه في أصول الكافي باب اختلاف الحديث الحديث العاشر ، وشرحه المجلسي في المرآة ج ١ ص ٤٥ وفي البحار ج ١ ص ١٣٨ وملا صالح المازندراني في ج ٢ ص ٤٠٦ وملا خليل القزويني في الشافي الجزء الأول من المجلد الأول ص ١٤٦ ورواه في التهذيب ج ٦ ص ٣٠١ الرقم ٨٤٥ ونقله في الجامع في المقدمات ص ٨٥ الرقم ٥٩٢ وتراه في الاحتجاج ج ٢ ص ١٠٦ ط النجف ، وروى شطرا من الحديث أيضا في الكافي في الفروع كتاب القضاء الباب ٨ كراهة الارتفاع إلى قضاة الجور ج ٢ ص ٣٥٨ ط ١٣١٤ وهو في المرآة ج ٤ ص ٢٣٣ وهو في التهذيب ج ٦ ص ٢١٨ الرقم ٥١٤ والشطر المذكور في الوسائل الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ص ٣٨٥ ج ٣ ط أمير بهادر الحديث الأول ، ونحن ننقل هذا الشطر المذكور في الفروغ لارتباطه بالمسئلة المستدل لها بإسناده في الكافي : محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن عيسى عن صفوان بن يحيى عن داود بن الحصين عن عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبد الله عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاء أيحل ذلك؟ فقال : من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقا ثابتا لأنه أخذه بحكم الطاغوت ، وقد أمر الله أن يكفر به قلت : كيف يصنعان ، قال : ينظران إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حكما فانى قد جعلته عليكم حاكما فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما بحكم الله استخف وعلينا رد ، والراد علينا الراد على الله ، وهو على حد الشرك بالله. انتهى الحديث إلى هنا ما في الفروع والرقم ٥١٤ من التهذيب ، ووصف الحديث في المرآة في الموضعين وفي البحار بالموثق وتلقاه أصحابنا بالقبول ، ونقل ملا صالح في شرح الحديث عن الشهيد أنه قال : في طريق هذا الخبر ضعف لكنه مشهور بين الأصحاب متفق على العمل بمضمونه بينهم فكان ـ

٢٦٣

مباشرة من إمامة الصلاة ، ونجيب عن الثاني بأنّ الدليل دلّ على الوجوب وهو وإن كان ظاهرا في الوجوب العيني كما عرفت إلّا أنّ الإجماع على عدمه ولولاه لما كان لنا عنه عدول ، وحينئذ فيعمل بمقتضى الأدلّة في الوجوب التخييري لأنّه فرد من الوجوب ، ومن هنا ترى القائلين بشرعيّتها مختلفين في التعبير عن حكمها. فبعضهم بالجواز ، وبعضهم بالاستحباب ، وبعضهم بالوجوب ، والمرجع واحد هو الوجوب مخيّرا بينها وبين الظهر وإن كانت عندهم أفضل من الظهر.

فإنّه لا منافاة في ذلك. إذ جميع أفراد الواجب المخيّر كذلك إذا تفاوتت بعضها على بعض في الفضيلة ، ويظهر ممّا ذكرنا أنّه لا يشترط في إقامتها المجتهد بل يكفي في ذلك من يمكنه الإمامة في الصلاة مع التمكّن من الاجتماع والخطبتين ، وباقي الشرائط لعدم ما يدلّ على اشتراط ذلك صريحا. فيبقي إطلاق الآية سالما عن المعارض.

وقد صرّح بذلك شيخنا المفيد (١) في بحث صلاة الجمعة من المقنعة حيث قال : والشرائط الّتي تجب فيمن يجب معه الاجتماع أن يكون حرّا بالغا طاهرا في ولادته

__________________

ـ ذلك جابرا للضعف عندهم.

قلت وفي طريق الحديث داود بن الحصين كما عرفت ، وقال الشيخ في رجاله عند سرده أصحاب الإمام الكاظم ص ٣٤٩ ، إنه واقفي ، وكذا نقله العلامة في الخلاصة عن ابن عقدة كما في ص ٢٢١ من خلاصته ووثقه النجاشي انظر ص ١٢٢ ، وأنظر أيضا مجمع الرجال للقهپائى ج ٢ ص ٢٨٠ وسرده ابن داود في القسم الأول الثقات مع نقل قول بكونه واقفيا انظر ص ١٤٣ الرقم ٥٧٤ وسرده الشيخ محمد طه نجف في إتقان المقال ص ٥٨ في الثقات وتوقف العلامة في الخلاصة في حقه إلا أنه وصف حديثه في أنه لا قنوت في الجمعة في المنتهى ج ١ ص ٣٣٧ بالصحة (وحديثه هذا في التهذيب ج ٣ ص ١٧ الرقم ٦١ وفي الاستبصار ج ١ ص ٤١٨ الرقم ١٦٠٥) وأكثر أهل الرجال على أن النجاشي أضبط من الشيخ ، وقد عرفت توثيق النجاشي إياه ، ويزيدنا تأييدا رواية مثل صفوان بن يحيى وجعفر بن بشير وابن أبي نصر عنه انظر الحواشي الرجالية للعلامة البهبهاني على منهج المقال ص ١٣٥ وجامع الرواة ج ١ ص ٣٠٣.

(١) انظر المقنعة ط ١٢٧٤ ص ٢٧.

٢٦٤

مجنّبا من الأمراض : الجذام والبرص خاصّة في جلدته مسلما مؤمنا معتقدا للحقّ باسرة في ديانته مصلّيا للفرض في ساعته. فإذا كان كذلك واجتمع منه أربعة نفر وجب الاجتماع انتهى ، وهو ظاهر ممّا قلناه ، وبه صرّح أبو الصلاح أيضا ، وهذه جملة نافعة هنا ، وتمام ما يتعلّق بذلك يعلم من كتب الفروع.

الثانية : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١).

(فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) أي فعلت وفرغ منها.

(فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) تفرّقوا فيها فإنّه قد أطلق لكم ما حظر عليكم بعد قضاء الصلاة.

(وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) اطلبوا الرزق في البيع والشراء من فضله ورحمته ، وفيه إيماء إلى أنّ التاجر والكاسب للرزق لا ينبغي أن يعتمد على كسبه وتجارته بل يطلب من فضل الله ورحمته ويجعل التجارة والكسب وسيلة إلى ذلك ، وهو من باب الأمر الوارد بعد الحظر ، وذلك إذا كان للوجوب على الأصحّ كما بيّناه إلّا أنّه هنا محمول على الاستحباب للإجماع على عدم وجوب ذلك إلّا أن يكون الكسب لمثل النفقة الواجبة ونحوها ، وقد مرّ نظيره ، والمراد اطلبوا الرزق فالتمسوه من فضل الله وإن لم يكن بخصوص البيع والشراء ، بل على أيّ وجه كان.

ويؤيّده ما رواه عمرو بن يزيد (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إنّي لأركب في الحاجة الّتي كفاها الله ما اركب فيها إلّا التماس أن يراني الله أضحي في طلب الحلال أما تسمع قول الله عزوجل (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) أرأيت لو أنّ رجلا دخل بيتا وطيّن عليه بابه. ثمّ قال. رزقي ينزل عليّ كان يكون

__________________

(١) الجمعة ١٠.

(٢) انظر المجمع ج ٥ ص ٢٨٩ ونور الثقلين ج ٥ ص ٣٢٧ الرقم ٤٤.

٢٦٥

هذا أحد الثلاثة الّذي لا يستجاب لهم قلت : من هؤلاء قال : رجل تكون عنده المرأة فيدعو عليها فلا يستجاب له لأنّ عصمتها في يده ، والرجل يكون له الحقّ فلا يشهد عليه ، والرجل يكون عنده الشيء فيجلس في بيته فلا ينتشر ولا يلتمس ولا يطلب حتّى يأكله. ثمّ يدعوا فلا يستجاب له.

وعن ابن عبّاس (١) لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا إنّما هو عيادة المرضى ، وحضور الجنائز ، وزيارة أخ في الله.

وعن سعيد ابن المسيّب هو طلب العلم ، وقيل : صلاة التطوّع ونحوها.

(وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) واذكروه في مجامع أحوالكم ولا تخصّوا ذكره بالصلاة لأنّه عمّكم بالإحسان ، وقيل : المراد به الفكر كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : تفكّر ساعة خير من عبادة سنة.

وقيل : ذكر الله في تجاراتكم وأسواقكم. فقد روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : من ذكر الله في السوق مخلصا عند غفلة الناس وشغلهم بما فيه كتب الله له ألف حسنة ، ويغفر له يوم القيمة مغفرة لم تخطر على قلب بشر (٢) ولا يبعد أن يكون المراد وابتغوا من فضل الله.

واذكروا أوامره ونواهيه في طلب الرزق فلا تأخذوه إلّا من موضع يحلّ لكم أخذه لا ما يحرم.

(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لكي تكونوا من المفلحين والفائزين بخير الدنيا والآخرة.

الثالثة : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (٣).

__________________

(١) انظر الدر المنثور ج ٦ ص ٢٢٠ أخرجه عن ابن مردويه ، وأخرجه أيضا في الكشاف ج ٣ ص ٢٣٢.

(٢) انظر المجمع ج ٥ ص ٢٨٩ ونور الثقلين ص ٣٢٨ الرقم ٤٩.

(٣) الجمعة ١١.

٢٦٦

(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) تفرّقوا عنك خارجين إليها روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يخطب للجمعة فمرّت عير تحمل الطعام فخرج الناس إليهم إلّا يسيرا قيل : ثمانية ، وقيل : أحد عشر ، وقيل : اثنى عشر ، وقيل : أربعون. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : والّذي نفس محمّد بيده لو خرجوا جميعا لأضرم الوادي نارا (١) ، والمراد باللهو الطبل الّذي كانوا يستقبلون به العير بالتصفيق ، والضمير المجرور يعود إلى التجارة ، وإنّما خصّت بردّ الضمير إليها لأنّها كانت أهمّ إليهم وهم بها أسرّ ، والترديد بأو للدلالة على أنّ منهم من انفضّ لمجرّد سماع الطبل ورؤيته أو للدلالة على أنّ الانفضاض إلى التجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها إذا كان مذموما كان الانفضاض إلى اللهو أولى بالذم ، وقيل : تقديره إذا رأوا تجارة انفضّوا إليها ، وإذا رأوا تجارة انفضّوا إليها ، وإذا رأوا لهوا انفضّوا إليه على أنّ أو بمعنى الواو.

(وَتَرَكُوكَ قائِماً) على المنبر تخطب وهو المروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٢) ، وسئل عبد الله بن مسعود أكان النبيّ يخطب قائما؟ قال : أما تقرأ وتركوك قائما (٣) وروي جابر بن سمرة (٤) قال : وقيل : أراد قائما في الصلاة.

(قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ) الّذي تركوا الصلاة لأجله.

(وَمِنَ التِّجارَةِ) أيضا لأنّها موهومة قليلة الفائدة. فلا معنى لترك التجارة العظيمة الباقية وهي الصلاة معك تركا مستلزما للعقاب تحصيلا لما هو فان قليل الفائدة ، وفي تقديم التجارة في الصدر على اللهو ، وتقديمه عليها في العجز تقريع لهم

__________________

(١) انظر الكشاف ج ٣ ص ٢٣٢.

(٢) انظر المجمع ج ٥ ص ٢٨٩.

(٣) انظر الدر المنثور ج ٦ ص ٢٢١ أخرجه عن ابن أبي شيبة وابن ماجة والطبراني وابن مردويه.

(٤) انظر النسائي ج ٣ ص ١١٠ وأخرجه أيضا أبو داود بزيادة : فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة ج ١ ص ٣٩٢ الرقم ١٠٩٣ وكذا في صحيح مسلم ، واللفظ فيه : فمن نبأك. وقال النووي في شرحه ج ٦ ص ١٥٠ : المراد من ألفي صلاة الصلوات الخمس لا الجمعة.

٢٦٧

لخفة أحلامهم حيث يتركون الصلاة بمجرّد اللهو الّذي لا فايدة له فضلا عن التجارة الّتي يترتّب عليها أدنا فايدة ، ولم يعلموا أنّ ما عند الله من الفضل خير من اللهو الّذي لا نفع فيه رأسا ومن التجارة ، وإن كان فيها نفع متوهم.

(وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فتوكّلوا عليه واطلبوا الرزق منه فإنّه يرزقكم وإن لم تتركوا الخطبة والجمعة ، وليس في الآية دلالة علي وجوب القيام في الخطبة. إذ لم يعلم أنّ المراد القيام فيها واحتمال القيام في الصلاة ثابت كما عرفت ، ولو سلّم كونه فيها للرواية عن الصادق عليه‌السلام فلا نسلّم أنّ فعله ذلك كان على جهة الوجوب ، ومن ثمّ لم يوجبه جماعة من العامّة كالحنفيّة. وفيه نظر لعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : صلّوا كما رأيتموني أصلّي ، وهو يقتضي الوجوب إلّا ما خرج بالدليل ، لما في الأخبار الصحيحة الدالّة على الوجوب كصحيحة معاوية بن وهب قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام إنّ أوّل من خطب وهو جالس معاوية (١) الحديث ، وأصحابنا إنّما أوجبوه لدليل من خارج دلّ عليه ، وهو الأخبار الصحيحة إلّا أن نقول بوجوب التأسي مطلقا فيتمّ الحكم ، وفيه ، كلام وكذا لا دلالة فيها على تقدير كون المراد تركوك قائما في الصلاة على أنّ الجماعة في الجمعة شرط في الابتداء لا في الاستدامة وإن علم ذلك من الأخبار أيضا هذا.

وفي مجمع البيان عند بيان فضل سورة الجمعة : منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : من الواجب على كلّ مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة وسبّح اسم ربّك ، وفي صلاة الظهر بالجمعة والمنافقين. فإذا فعل فكأنّما يعمل عمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان ثوابه وجزاؤه على الله الجنّة (٢) ، وهذه الرواية غير موجودة في الكتب المشهورة نعم ذكرها الصدوق في كتاب ثواب الأعمال بسند غير معلوم الصحّة (٣) ولعلّ الوجوب فيها محمول على تأكّد الاستحباب لعدم ظهور القول بوجوب

__________________

(١) انظر التهذيب ج ٣ ص ٢٠ الرقم ٧٤ وهو في المنتقى ج ١ ص ٤٧٩.

(٢) انظر المجمع ج ٥ ص ٢٨٣.

(٣) انظر الوسائل الباب ٤٩ من أبواب القراءة الحديث ٨ ص ٣٦٠ ج ١ ط أمير بهادر ـ

٢٦٨

ذلك ليلة الجمعة نعم للصدوق قول بوجوب الجمعة والمنافقين في ظهر الجمعة ، ونقل ابن إدريس عن بعض علمائنا وجوبها في صلاة الجمعة أيضا ، ولعلّه لما في الأخبار الدالّة على الأمر بقرائتهما فيها ، وفي بعضها أنّه لا صلاة لمن تركهما متعمّدا ، ويرده ما في صحيحة عليّ بن يقطين قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يقرأ في صلاة الجمعة بغير سورة الجمعة متعمّدا قال : لا بأس بذلك (١) وظاهر أنّ إجزاء غيرها في صلاة الجمعة يستلزم إجزاء غيرها في الظهر للإجماع على أولويتهما هنا.

الرابعة : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (٢).

قد يستدلّ بها على وجوب صلاة العيد ، وفي الدلالة بعد لاحتمال كون المراد غيرها على ما مرّ بيانه فيسقط الاستدلال.

الخامسة : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) (٣).

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ) نهي من الله تعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أن يصلّى على أحد من المنافقين بعد موته ، والمراد صلاة الأموات المعروفة ، وقد روي في أنّ سبب النزول أنّ عبد الله بن أبي سلول دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مرضه ، فلمّا دخل عليه سأله أن يستغفر له ويكفّنه في شعاره الّذي يلي جسده [جلده خ ل] ويصلّى عليه.

__________________

ـ قال المحقق الأردبيلي في زبدة البيان ط المرتضوي ص ١١٧ في سنده محمد بن حسان وهو مجهول وإسماعيل بن مهران وفيه خلاف وإن كان الظاهر أنه ثقة والحسن وهو مشترك والذي يظهر من ثواب الأعمال أنه ابن على كأنه ابن فضال.

(١) انظر الوسائل الباب ٧١ من أبواب القراءة في الصلاة الحديث ١ ص ٣٦٦ ج ١ ط أمير بهادر وهو في التهذيب ج ٣ ص ٧ الرقم ١٩ وفي الاستبصار ج ١ ص ٤١٤ الرقم ١٥٨٦ وفي المنتقى ج ١ ص ٤٨٩.

(٢) الكوثر ٢.

(٣) التوبة ٨٤.

٢٦٩

فلمّا مات وأرسل إليه قميصه ليكفّن وذهب ليصلّي عليه فنزلت (١) ، وقيل : صلّى عليه ثمّ نزلت ، والأكثر في الرواية أنّه لم يصلّ عليه كذا في مجمع البيان (٢) ، وإنّما لم ينه عن التكفين في قميصه لأنّ الضنة بالقميص تخلّ بالكرم ، وروي أنّه قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لم وجّهت بقميصك إليه يكفن فيه وهو كافر فقال : إنّ قميصي لن يغني عنه من الله شيئا وإنّي أؤمل من الله ، أن يدخل بهذا السبب في الإسلام خلق كثير ، وقد وقع ذلك فقد روي أنّه أسلم ألف من الخزرج ذكره الزجاج ، ومات في محلّ الجرّ صفة لأحد ، وقوله :

(أَبَداً) منصوب بتصلّ ، والمراد نهيه عن الصلاة عليهم في جميع الأوقات على التأبيد قطعا لاطماعهم في ذلك ، وجعل البيضاوي مات أبدا بمعنى الموت على الكفر فإنّ إحياء الكافر للتعذيب دون التمتّع فكأنّه لم يجيء ، وفيه بعد.

(وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) أي تتولّى دفنه أو تتركه في قبره من قولهم : قام فلان بأمر فلان ، ويحتمل الوقوف على القبر للدعاء فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا صلّى على ميّت وقف على قبره ساعة ، ودعا له ، والقبر حفرة يدفن فيها الميّت تقول : أقبرته إذا جعلته في قبره.

(إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن طاعة الله إلى معصيته وهو تعليل للنهي عن الأمرين المتقدّمين وبيان لسببه ، وإنّما وصفهم بالفسق لأنّ الكافر قد يكون عدلا في دينه ، والكذب والنفاق والخداع والجبن والخبث مستقبح في جميع الأديان ، ومقتضى الأصل جواز الصلاة على كلّ أحد خرج الكافر الّذي مات على الكفر لهذا النهي فبقي ما عداه على الجواز والسنة تثبت كونها فرضا على الكفاية إذا قام قوم سقط عن الباقين.

وقد أجمع العلماء على وجوبها كذلك على كلّ مظهر للشهادتين ومن في حكمه من سائر فرق الإسلام لكن إذا لم يعتقدوا خلاف ما علم ثبوته من الدين ضرورة

__________________

(١) انظر الكشاف ج ٢ ص ٥٢.

(٢) انظر المجمع ج ٣ ص ٥٧ وقريب منه أيضا في الكشاف.

٢٧٠

كالقادحين في عليّ عليه‌السلام أو أحد الأئمّة عليه‌السلام كالخوارج ، أو من غلا فيهم كالنصيريّة (١) والخطابيّة (٢) وكذا المجسمة. فهؤلاء لا تجب الصلاة عليهم عندنا لكفرهم ، وهي دعاء ليس فيها قراءة ولا تسبيح.

__________________

(١) النصيرية بضم النون وفتح الصاد وسكون الياء آخر الحروف طائفة من غلاة الشيعة يقال لهم ، النصيرية نسبوا إلى رجل اسمه نصير ، وكان في جماعة قريبا من سبعة عشر نفسا ، وقيل : سبعين كانوا يزعمون أن عليا عليه‌السلام هو الله ـ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ـ وكان ذلك في زمنه عليه‌السلام قيل : لما سمع مقالتهم أمرهم بالتوبة وتجديد إسلامهم فامتنعوا فأمر بهم فاحرقوا فقالوا : الان تحقق أنه الله لانه بلغنا أن النبي (ص) قال : لا يعذب بالنار إلا ربها وهرب منهم نصير واشتهر عنه هذا الكفر ، ولهم جماعة ينصرون مذهبهم وينوبون عن مقالتهم مع خلاف بينهم في كيفية إطلاق اسم الإلهية على الأئمة من أهل البيت بتفصيل ما في الكتب المرتبطة انظر اللباب ج ٣ ص ٢٢٧ والملل والنحل بهامش الفصل ج ٢ ص ٢٤ والبحار ج ٧ ص ٢٤٩ وريحانة الأدب ج ٤ ص ٢٠٦ وغيرها من الكتب وفي ص ٩٤ من كتاب المذاهب الإسلامية للأستاذ أبي زهرة ما يدل على قلة اطلاعه كما نبهناك على ذلك غير مرة.

(٢) الخطابية بفتح الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة وبعد الالف باء موحدة جماعة من غلاة الشيعة ، وهم أصحاب أبي الخطاب الأسدي محمد بن أبى زينب «اسمه مقلاص) البرار الأجدع ، ويكنى أبا إسماعيل وأبا الظبيان أيضا كان يقول ، بإلهية الامام جعفر الصادق ثم ادعى الإلهية لنفسه ، وكان يزعم أن الأئمة أنبياء ، وفي كل وقت رسول ناطق وصامت فالناطق على والصامت محمد يقال لكل واحد منهم ، خطابي وأن رسل الله تترى أى اثنان في كل وقت قالوا فجعفر أحد الرسولين إليهم والأخر أبو الخطاب ، وافترقوا فرقا شتى بشرح ما في كتب الفرق وأنهاهم المقريزى على ما نقله عنه محمد محي الدين عبد الحميد في تذييله على مقالات الاسلاميين ج ١ ص ٧٦ إلى خمسين فرقة وقد لعنه أئمتنا (ع) ، وانظر تفصيل ما تلوناك في رجال الكشي ص ٢٤٦ والبحار ج ٧ من ص ٢٤٦ إلى ٢٥٩ وج ١ ص ١٤٧ ومواضع متعددة من ج ١١ وسفينة البحار ج ١ ص ٤٠١ ومستدرك الوسائل ج ٣ ص ٣١٥ واللباب ج ١ ص ٣٧٩ والتبصير للاسفرائينى ص ١١١ والحور العين ص ١٦٦ والمقالات والفرق ص ٨١ وفرق الشيعة ص ٥٨ ومقالات الاسلاميين ج ١ ص ٧٥ والملل والنحل بهامش الفصل ج ٢ ص ١٥ وشرح المواقف ط بولاق ص ٦٢٥ والفرق بين الفرق للبغدادى ط ١٣٦٧ ص ١٥٠ وغيرها من كتب الفرق والتاريخ والاخبار.

٢٧١

ويجب عندنا فيها خمس تكبيرات ، وعند الفقهاء أربع تكبيرات ويسلّم (١). قال الشيخ أبو جعفر في التبيان : وسمعت أبا الطيب الطبري وكان إمام أصحاب الشافعي يقول : الخلاف بيننا وبينكم في عبارة لأنّ عندكم ينصرف بالخامسة وعندنا بالتسليم فجعلتم مكان التسليم التكبير ، وذلك خلاف في عبارة انتهى (٢) ، وفي كونه خلافا في عبارة تأمّل ، وتفاصيل أحوال صلاة الميّت وكيفيّتها وما يعتبر فيها من الشرائط يعلم من كتب الفروع.

السادسة : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) (٣).

(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) سافرتم فيها.

(فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) حرج وإثم.

(أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) من عدد الصلاة بتنصيف ركعاتها فتصلّوا الرباعيّات ركعتين ركعتين ، وهو صفة محذوف : أي شيئا من الصلاة ، وقيل : من زائدة والصلاة مفعول تقصروا ، وليس في رفع الجناح دلالة على التخيير بينه وبين الإتمام كما قاله الشافعي حيث ذهب إلى أنّ القصر رخصة كسائر رخص السفر فإن شاء أتمّ وإن شاء قصّر بل أنّهم لمّا ألغوا الإتمام واعتادوا عليه كان مظنّة لأن يخطر ببالهم أنّ عليهم نقصانا في القصر فنفى عنهم الجناح لتطيّب به أنفسهم ، ونظيره في الوجوب قوله تعالى (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) مع أنّ الطواف بهما واجب.

__________________

(١) انظر تعاليقنا على كنز العرفان ج ١ ص ١٧٩ و ١٨٠.

(٢) انظر التبيان ط إيران ج ١ ص ٨٤٩.

(٣) النساء ١٠٠.

٢٧٢

وقد أوضح ذلك صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم (١) قالا : قلنا لأبي جعفر عليه‌السلام : ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي وكم هي؟ فقال إنّ الله ـ عزوجل ـ يقول (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر قالا : قلنا إنّما قال الله (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) ولم يقل افعلوا فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر. فقال عليه‌السلام : أو ليس قد قال : إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوّف بهما» ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض لأنّ الله ـ عزوجل ـ ذكره في كتابه وصنعه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذا التقصير في السفر صنعه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكره الله في كتابه. قالا : قلنا : فمن صلّى في السفر أربعا أيعيد أم لا؟ قال : إن كان قد قرئت عليه آية التقصير ، وفسّرت له فصلّى أربعا أعاد ، وإن لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه ، والصلاة كلّها في السفر الفريضة ركعتان كلّ صلاة إلّا المغرب فإنّها ثلاث ليس فيها تقصير تركها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في السفر والحضر ثلاث ركعات الحديث ، ونحوه من الأخبار الدالّة على الوجوب ، ومقتضاها كون صلاة السفر عزيمة لا رخصة. فلا يجزيه الإتمام بوجه.

__________________

(١) روى الحديث إلى ما نقله المصنف العياشي ج ١ ص ٢٧١ الرقم ٢٥٤ ونقله عنه في البرهان ج ١ ص ٤١٠ الرقم ٨ والبحار ج ١٨ ص ٦٩٤ والمجمع ج ٢ ص ١٠١ ورواه في الفقيه ج ١ ص ٢٧٨ الرقم ١٢٦٦ مع تفاوت يسير في بعض الألفاظ ، وفيه بعد قوله : ثلاث ركعات : وقد سافر رسول الله (ص) إلى ذي خشب وهي مسيرة يوم من المدينة يكون إليها بريدان أربعة وعشرون ميلا فقصر وأفطر فصارت سنة ، وقد سمى رسول الله (ص) قوما صاموا حين أفطر العصاة قال : فهم العصاة إلى يوم القيامة وإنا لنعرف أبناءهم وأبناء أبناءهم إلى يومنا هذا ، ونقله عنه في البرهان بالرقم ٦ إلى ثلاث ركعات ، ونقل تمامه في المنتقى ج ١ ص ٥٥١ وقال : في طريق الفقيه إلى محمد بن مسلم جهالة والاعتبار بالطريق عن زرارة ونقله بتمامه أيضا في الحدائق ج ١١ ص ٢٩٦ وكذا في القلائد الدرر ج ١ ص ٢٣٣ وزبدة البيان ط المرتضوي ص ١٢٠ وفي ذيله نقل حاشية منه ـ قدس‌سره ـ في بيان ما يستفاد من الحديث من الفوائد والاحكام يناسب لنا نقلها قال ـ قدس‌سره ـ في شرح الفوائد المستفاد من الحديث.

وهي كون القصر عزيمة وواجبا كالتمام وكون الأمر للوجوب ، وكون نفى الجناح لا ـ

٢٧٣

ويؤيّده ما روته عائشة (١) أوّل ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر ، وقول عمر (٢) صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله وما روي عن ابن عبّاس قال كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا خرج مسافرا صلّى ركعتين ، وقد نعقد إجماع الطائفة المحقّة عليه وهو حجّة قاطعة ، ووافقهم في ذلك أبو حنيفة وجماعة من العامّة قال البيضاوي ونفى الحرج فيه يدلّ على جوازه دون وجوبه (٣) ، ويؤيّده أنّه عليه‌السلام أتمّ في السفر (٤) ، فإنّ عائشة اعتمرت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت يا رسول الله : قصرت وأتممت وصمت وأفطرت فقال : أحسنت.

وفيه نظر فإنّ نفي الجناح وإن كان فيه إشارة إلى ما قاله لكن الأخبار بيّنت المراد منه ، ولا استبعاد فيه فإنّ أكثر الآيات المستنبطة منها الأحكام كالمجملة تبيّن

__________________

ـ ينافي الوجوب العيني ، وكون التأسي واجبا ، وكون السعي واجبا ووجوب إعادة الصلاة الباطلة بالزيادة مع العلم بعدمها أداء وقضاء ، وكون الجاهل معذورا في الإتمام ، ووجوب التقصير في جميع الصلوات بحذف الركعتين الأخيرتين إلا المغرب ، وكونها ثلاثة فيه ، وفي الحضر وكون مسيرة يوم أربعة وعشرين ميلا وهي ثماني فراسخ فكل ميل ثلث فرسخ وكون ذلك موجبا للتقصير ووجوب الإفطار وتسمية الواجب بالسنة وكون ترك ذلك عصيانا وكونهم (ع) عالمين بالغيب وبإعلام الله ورسوله (ص) إياهم انتهى ، وفي الباب ١ و ١٧ و ٢٢ من أبواب صلاة المسافر من الوسائل بعض أشطر الحديث.

(١) أخرج الحديث باللفظ الذي حكاه المصنف في الكشاف ج ١ ص ٤٢٠ والبيضاوي ص ١٢٤ وبألفاظ قريبة منه البخاري أول كتاب الصلاة ج ٢ فتح الباري ص ٨ وأبواب التقصير ج ٣ ص ٢٢٤ ومسلم كما في ص ١٩٤ و ١٩٥ ج ٥ شرح النووي والبيهقي ج ٣ ص ١٣٥ ومالك في الموطإ كما في ص ٢٦ ج ١ من المنتقى شرح الباجى على الموطإ.

(٢) أخرجه النسائي ج ٣ ص ١١٨ وابن ماجة ج ١ ص ٣٣٨ الرقم ١٠٦٣ و ١٠٦٤

(٣) انظر البيضاوي ط المطبعة العثمانية ص ١٢٤.

(٤) قال ابن حزم في ج ٤ ص ٤٥٣ : وأما حديث عطا فانفرد به المغيرة بن زياد لم يروه غيره ، وقال : فيه أحمد بن حنبل هو ضعيف كل حديث أسنده فهو منكر ، وقال البيهقي : مع كونه شافعيا مصرا في إجازة الإتمام في ص ١٤١ ج ٣ : قال الشيخ. ولهذا شاهد من حديث دلهم بن صالح والمغيرة بل زياد وطلحة بن عمرو وكلهم ضعيف ، وحكى حديثا في ص ١٤٢ عن عمر بن ـ

٢٧٤

بالأخبار كما مرّ غير مرّة ، والخبر الدالّ على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أتمّ في السفر غير مقبول عند أكثر أصحابه فضلا عن أصحابنا ، ولا حجّة في فعل عائشة (١) لجواز جهلها بالقصر ، ولأنّها لو أحسنت بالتمام لم يكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله محسنا بالقصر ، وهو باطل بالإجماع وبمقتضى ما ذكرناه تعيّن القصر في السفر فلو أتمّ أعاد إلّا أن يكون جاهلا بالحكم فإنّه معذور على ما دلّت عليه الرواية السابقة. ثمّ إنّ ظاهر الآية أنّ مجرّد صدق السفر كاف في وجوب القصر به ، وبه أخذ جماعة شاذة من العامّة زعما منهم أنّ قليل السفر وكثيره سواء في القصر ، ولكن الإجماع من العلماء منعقد على أنّه لا يكفى مجردة.

وقد اختلفوا في القدر الموجب له. فأصحابنا أجمع على أنّ القدر الموجب له قصد ثمانية فراسخ ، وعليه دلّت الأخبار المعتبرة وفي بعضها الاكتفاء بأربعة فراسخ وأخذ بها بعض أصحابنا واعتبر آخرون الرجوع ليومه أو ليلته في وجوب القصر بالأربعة وخيّر آخرون منهم بين القصر والتمام على ذلك التقدير ، وهو غير بعيد ، وقال الشافعي يعتبر مسيرة يومين أو أربعة برد ستّة عشر فرسخا ، وعن أبي حنيفة مسير ثلاثة أيّام بلياليهنّ مسير الإبل ومشى الأقدام على القصد أو ستّة برد أربعة وعشرين فرسخا ، وما قلناه

__________________

ـ ذر عن عطا قال : فهو كالموافق له ، وقال ابن التركمانى في ذيلة : عمر بن ذر ذكره ابن الجوزي في كتابه وقال : قال على بن الجنيد : كان مرجيا ضعيفا قلت : لو كان النبي أتم في سفر لم يعيبوا على عثمان حين أتم بمنى وكتب أخبارهم والسير والتواريخ مشحون بعيبهم على عثمان حتى أن ابن مسعود استرجع حين سمع ذلك وحكاه البيهقي نفسه في ص ١٤٣ وانظر في ذلك تعاليقنا على كنز العرفان ج ١ من ص ١٨٢ إلى ١٨٦ فان فيها مطالب مفيدة.

(١) قال ابن حزم في ج ٤ ص ٤٥٣ : انفرد به العلاء بن زهير الأزدي لم يروه غيره وهو مجهول ، وقال ابن التركمانى في الجوهر النقي ذيل البيهقي : وفي الحديث أمران : أحدهما أن العلاء قال فيه : ابن حبان يروى عن الثقات مالا يشبه حديث الإثبات فبطل الاحتجاج به. والثاني : أن إسناده مضطرب ، واستبعد ابن تيمية وابن القيم الجوزية على ما في ص ١٢٨ ج ١ زاد المعاد مخالفة أم المؤمنين رسول الله (ص) وجميع أصحابه فتصلي خلاف صلوته في حياته (ص) نعم أتمت بعد موت النبي (ص) ، وتأولت كما تأول عثمان ، وقد أشبعنا الكلام في تعاليقنا على كنز العرفان فراجع.

٢٧٥

أولى لأنّ ظاهر الآية الاكتفاء بمجرّد صدق السفر خرج عنه ما دون الثمانية بالإجماع فيبقى الباقي لأنّ التخصيص كلّما كان أقلّ فهو أولى ولا يرد الأربعة لأنّ الكلام في تحتّم القصر والتخيير فيها لدليل لا ينافيه كما يعلم من محلّه ، وأيضا ظاهر الآية أنّ مجرّد الخروج إلى السفر وصدق الضرب سبب موجب للقصر ولكن حدّده أكثر الأصحاب بالوصول إلى موضع لا يسمع فيه الأذان ، ولا يرى الجدران ، واكتفى بعضهم بأحدهما.

وقال آخرون : يكفى مجرّد الخروج من موضعه ، ولكلّ شاهد من الأخبار قيّد ظاهر الآية على ما يعلم تفصيله من محلّه.

(إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) شرط خرج مخرج الغالب في ذلك الوقت (١) ومن ثمّ لم يعتبر مفهومه.

فإنّ المفهوم إنّما يعتبر إذا لم يظهر فايدة للتقييد سواه كما بيّن. والفائدة هنا كونه أغلبيّا في وقت النزول فإنّ غالب أسفار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأكثرها لم يخل من خوف قتال الكفّار وأمثاله في القرآن كثير نحو (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) وقوله تعالى (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) فلا يصحّ التمسّك بها في ذلك الوقت ، وقد تظافرت الأخبار وانعقد إجماعنا على أنّ السفر مستقلّ في وجوب القصر من غير مدخليّة الخوف منه كما أنّ الخوف مستقلّ في القصر أيضا.

وقد روي عن الباقر عليه‌السلام أنّه سئل عن صلاة الخوف وصلاة السفر تقصّران جميعا فقال : نعم وصلاة الخوف أحقّ أن تقصّر من صلاة السفر الّذي ليس به خوف بانفراده (٢) وهذا عند أكثر أصحابنا ، وسيجيء بيانه إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) قال في الحدائق ج ١١ ص ٢٦٦ ويؤيد ما ذكرناه القراءة بترك إن خفتم قلت. نقل هذه القراءة في المجمع ج ٢ ص ١٠١ وفتح القدير ج ١ ص ٤٧٠ عن أبى بن كعب ، ونقل الاركاتى في نثر المرجان ج ١ ص ٦٥٣ عن عبد الله بن مسعود.

(٢) رواه في الفقيه ج ١ ص ٢٩٤ الرقم ١٣٤٢ والضبط لان فيها خوفا [وكذا في الوسائل ـ

٢٧٦

السابعة : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) (١).

(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبظاهرها تعلّق من خصّ صلاة الخوف بالرسول كأبي يوسف لمكان التخصيص بالخطاب وشرط كونه فيهم ولأن تغيّر هيئة الصلاة أمر على خلاف الدليل جوّزنا ذلك في حقّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لفضيلة الصلاة خلفه فيبقى غيره على المنع ، وقال المزني : الآية منسوخة محتجّا بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أخّر يوم الخندق أربع صلوات لاشتغاله بالقتال ولم يصلّ صلاة الخوف (٢).

__________________

ـ الباب ١ من أبواب صلاة الخوف الحديث ١ ص ٥٤١ ط أمير بهادر] وذيله سماحة الحجة الخرسان بان في نسخة ألف وب وج لان ليس فيها خوف ، والضبط في قلائد الدرر ج ١ ص ٢٤٠ والحدائق ج ١١ ص ٢٦٦ كما في المتن الذي لا خوف فيه ، وحكاه في المنتقى ج ١ ص ٥٦٣ عن الفقيه قال وفي آخره ليس فيها خوف وهو مطابق اللفظ التهذيب ج ٣ ص ٣٠٢ الرقم ٩٢١ الا ان فيه ليس خوف ، ولم نعثر على كلمة بانفراده فيما راجعنا من حكاية الحديث.

(١) النساء ١٠١.

(٢) أخرجه هكذا الترمذي ج ١ ص ٣٣٧ الرقم ١٧٩ والنسائي ج ١ ص ٢٩٧ وج ٢ ص ١٧ وفي سند الحديث أبو عبيدة بن عبد الله (ابن مسعود) عن عبد الله ، وقد صرح الحفاظ بعدم لقائه ابن مسعود فالحديث إذا منقطع وسيشير المصنف بعد ذلك إلى عدم صحة الحديث ، وأخرج ـ

٢٧٧

والجواب عن الأوّل أنّ التخصيص لفظا لا يمنع وجوب المتابعة ، ومن ثمّ أنكرت الصحابة على مانعي الزكاة حيث تعلّقوا بظاهر الخطاب في قوله (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) وحكموا بأنّها مخصوصة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولأنّ أئمّة الأمّة نوّاب عنه في كلّ عصر فيندرجون في الخطاب ، وعن الثاني بالمنع من تأخير الصلاة سلّمناه لكن جرى ذلك قبل نزول آية الخوف (١) ، والواجب الأخذ بالأخير سلّمناه لكن صلاة الخوف منوطة بشروط فربّما كان بعضها غير حاصل والأكثر بل الإجماع على أنّه ثابتة بعد النبيّ ، وأنّه تعالى علّم الرسول كيفيّتها ليأتمّ به من بعده فإنّه المخاطب في سائر الأحكام مع عموم التكليف ولا إشكال في دخول الأئمّة في الحكم لأنّهم عليهم‌السلام نوّاب عن الرسول في كلّ عصر قوّام بما كان يقوم به فحضورهم كحضوره أمّا حال الغيبة فإن وجد ما يخالف الاستقرار في الصلاة فقد استشكل بعضهم نظرا إلى ظاهر الخطاب وهو بعيد بل الظاهر الجواز مطلقا لما عرفت ، والتأسّي يقتضيه أيضا.

(فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) فاجعلهم طائفتين فلتقم إحداهما معك في صلوتك ، وتقوم الأخرى تجاه العدوّ ولم يذكر ما ينبغي أن تفعله الطائفة الأخرى غير المصلّية لدلالة ظاهر الكلام عليه.

(وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) أي المصلّون وقيل : المضمر للطائفة الأخرى ، وذكر الطائفة الأولى يدلّ عليهم فيصحّ إرجاع الضمير إليهم ، والسلاح اسم لما يدفع الإنسان به عن نفسه.

(فَإِذا سَجَدُوا) يعنى الطائفة المصلّية : أي إذا فرغوا من سجودهم

__________________

ـ مالك في الموطإ كما في ج ١ شرح الزرقانى ص ٣٧٢ الرقم ٤٤٤ فوت الظهر والعصر والصحيحين ذكر فوت العصر فقط قال النووي في ص ١٣٠ ج ٥ : وطريق الجمع بين هذه الروايات إن وقعة الخندق بقيت أياما فكان هذا في بعض الأيام وهذا في بعض الأيام.

(١) فان غزوة الخندق كانت سنة أربع أو خمس ونزول الآية سنة ست ، وأيضا لا إشعار في أحاديث فوت الصلاة يوم الخندق كونه عن عمد ، ولعله لو صح الحديث كان عن نسيان كالاشتغال بالحرب.

٢٧٨

(فَلْيَكُونُوا) أي غير المصلّين.

(مِنْ وَرائِكُمْ) يحرسونكم ، والخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن يصلّى معه.

(وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا) لاشتغالهم بالحراسة.

(فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) ظاهر الآية يحمل على أحد وجهين :

الأوّل : أنّ الامام يفرّق أصحابه فرقتين يصلّى بإحداهما الصلاة ركعتين ويسلّم بهم ، والثانية تحرسهم. ثمّ يصلّى بالثانية ركعتين يعيدها معهم فتكون لهم فريضة وله نافلة ، وقد حمل الآية على ذلك جماعة من المفسّرين وهذه صلاة بطن النخل صلّاها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأصحابه هناك ، والصلاة على هذا الوجه لا مخالفة فيها لصلاة المختار ، ومن ثمّ جزم بعض أصحابنا بجواز صلوتها في الأمن أيضا نعم يترجّح فعلها في الخوف إلّا أن يمنع إعادة الجامع فيشكل مشروعيّتها حينئذ فتأمّل.

الثاني : أن يفرّقهم فرقتين فيصلّى بكلّ فرقة منهم ركعة إن كانت الصلاة ركعتين وكيفيّتها أن يصلّى بالأولى ركعة وينتظر قائما في الركعة الثانية حتّى يصلّوا الركعة الأخرى ويتشهّدون ويسلّمون ، ويذهبون إلى وجه العدوّ. فتأتي الأخرى فيتمّ بهم. الإمام الركعة الثانية وينتظرهم قاعدا حتّى يتمّوا صلوتهم ويسلّم بهم. فيكون للطائفة الأولى تكبيرة الافتتاح وللثانية التسليم كما فعله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذات الرقاع (١)

__________________

(١) أقول قد وردت حديث صلاة ذات الرقاع في أحاديث الشيعة مسندا انظر التهذيب ج ٣ ص ١٧٢ الرقم ٣٨٠ والفقيه ج ١ ص ٢٩٣ الرقم ١٣٣٧ والكافي ط ١٣١٢ ج ١ ص ١٢٧ والمنتقى ج ١ ٥٦٨ وأما صلاة بطن نخل فرواه الشيخ عن الحسن عن أبي بكرة في المبسوط انظر ج ١ ص ١٦٧ ط المرتضوي ، وأما صلاة عسفان فأرسله أيضا الشيخ في المبسوط انظر ص ١٦٦ وقال الشهيد في الذكرى جوابا عن توقف العلامة في المنتهى تبعا للمحقق في المعتبر : بعدم ثبوت النقل عن أهل البيت.

قلت : هذه صلاة مشهورة في النقل فهي كسائر المشهورات الثابتة وإن لم تنقل بأسانيد صحيحة ، وقد ذكرها الشيخ مرسلا لها غير مسند ولا محيل على سند فلو لم تصح عنده لم يتعرض لها حتى ينبه على ضعفها فلا تقصر فتواه عن روايته انتهى ما أردنا نقله ، وتحامل عليه في البحار ج ١٨ ص ٧٠٦ وفي الحدائق ج ١١ ص ٢٨٦ فراجع ، وأما أهل السنة فلهم في كيفيتها روايات ـ

٢٧٩

والصلاة على هذين الوجهين ثابتة عندنا ، والثانية واردة في أخبارنا عن أصحاب العصمة عليهم‌السلام وقد اشترط لها شروط :

منها كون العدوّ في خلاف جهة القبلة ذهب إليه علمائنا أجمع على ما في المنتهى وربّما دلّ عليه قوله (مِنْ وَرائِكُمْ).

ومنها كثرة المسلمين بحيث يمكنهم الافتراق فرقتين تفيء كلّ فرقة بمقاومة العدوّ لتحصيل المتابعة بفعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّه هكذا فعل.

ومنها قوّة العدوّ بحيث يخاف هجومه.

ومنها كون القتال سائغا على قول.

ومنها عدم الاحتياج إلى الزيادة على فرقتين على قول.

وقيل : إنّ الطائفة الأولى إذا فرغت من ركعة سلّموا ويمضون إلى وجه العدوّ وتأتي الطائفة الأخرى ويصلّى بهم الركعة قال في التبيان : وهو مذهب من يرى أنّ صلاة الخوف ركعة واحدة.

وقيل : إنّه إذا صلّى بالطائفة الأولى ركعة مضوا إلى وجه العدوّ ، وتأتي الطائفة الأخرى فيكبّرون ويصلّى بهم ركعة الثانية ، ويسلّم الإمام ويعودون إلى وجه العدوّ ، وتأتي الطائفة الأولى فيقضون ركعة بغير قراءة لأنّهم لاحقون أدركوا لأوّل الصلاة مع الإمام فهم في حكم من خلف الإمام ويسلّمون ويرجعون إلى وجه العدوّ ، وتأتي الطائفة الثانية فيقضون ركعة بقراءة لأنّهم مسبوقون فارقوا الإمام بعد فراغه من الصلاة والمسبوق فيما يأتي به كالمنفرد في صلوته وهو مذهب أبي حنيفة وهذان القولان بعيدان عن ظاهر الآية ، ولو كانت الصلاة ثلاثيّة تخيّر الإمام بين أن يصلّى بالطائفة الأولى ركعة ، وبالثانية ركعتين وبين أن يصلّى على العكس من ذلك على

__________________

ـ أنهوها إلى أربع وعشرين صفة انظر سنن أبى داود ج ٢ من ص ١٥ إلى ٢٤ والام للشافعي ج ١ من ص ٢١٠ إلى ص ٢٢٩ وأحكام القرآن لابن العربي من ص ٤٩١ إلى ٤٩٦ والبيهقي ج ٣ من ص ٢٥٢ إلى ٢٦٤ والدر المنثور ج ٢ من ص ٢١١ إلى ٢١٤.

ثم ذات الرقاع بكسر الراء وبطن نخل وعسفان على وزن عثمان أسماء لمواضع صلى فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صلاة الخوف انظر تعاليقنا على كنز العرفان ج ١ ص ١٨٩.

٢٨٠