مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ١

جواد الكاظمي

مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ١

المؤلف:

جواد الكاظمي


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٦

هارون ، وظاهر أنّ هارون كان متصرّفا في أمر دينه بأمره الحقّ مع الاحتياج إليه. فيكون هو عليه‌السلام كذلك أيضا ، ويلزم منه استمرار الحكم إلى بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والبيضاوي بعد أن قطع بنزولها في علىّ عليه‌السلام قال : واستدلّ بها الشيعة على إمامته زاعمين أنّ المراد بالوليّ المتولّي للأمور والمستحقّ للتصرّف فيهم ، والظاهر ما ذكرناه وأراد به كونه بمعنى المحبّ لأنّه ذكره بعد النهي عن موالاة الكفّار بهذا المعنى. ثمّ قال : مع أنّ حمل الجمع على الواحد أيضا خلاف الظاهر وإن صحّ أنّه نزل فيه لترغيب الناس في مثل فعله فيندرجوا فيه (١).

ولا يخفى ضعف ما ذكره فإنّه بعد أن حكم بنزولها في عليّ عليه‌السلام لا وجه لحمل الولاية على الموالاة في الدين والمحبّة لأنّه لا تخصيص في هذا المعنى لمؤمن دون آخر بل المؤمنون كلّهم مشتركون في هذا المعنى كما قال تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (٢) ولأنّ الظاهر الولاية الثابتة هنا بمعنى الولاية الثابتة في الله والرسول على ما عرفت ، وما ذكره من أنّ حمل الجمع على الواحد خلاف الظاهر ينافي أوّل كلامه من حكمه بنزولها في حقّ عليّ عليه‌السلام كما لا يخفى على أنّ التعبير بلفظ الجمع عن الواحد على سبيل التفخيم والتعظيم شائع بين أهل اللغة وهو في كلامهم أشهر من أن يحتاج إلى الاستدلال عليه (٣) ، ووجه آخر في الدلالة على أنّ الولاية بهذا المعنى مختصّة

__________________

(١) انظر البيضاوي ص ١٥٤ ط المطبعة العثمانية.

(٢) التوبة ٢٦.

(٣) وقد اعترف القاضي نفسه في مواقع من تفسيره انظر ط المطبعة العثمانية ١٣٠٥ ففي ص ٤٦ تفسير الآية ٢١٥ من سورة البقرة (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) أن السائل كان عمرو بن الجموح ، وفي ص ٩٣ تفسير الآية ٢٧٤ من سورة البقرة (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) أنها نزلت في أبي بكر ، وقيل : في على (ع) وفي ص ٩٦ تفسير الآية ١٧٣ من سورة آل عمران (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) إن المراد عبد قيس أو نعيم بن مسعود ، وفيه وأطلق عليه الناس لانه من جنسه كما يقال : فلان يركب الخيل وما له إلا فرس واحد ، وفي ص ٩٨ تفسير الآية ١٨٢ سورة آل عمران (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا) أنه فنحاص بن ـ

٢٤١

به عليه‌السلام أنّه تعالى قال (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) مخاطبا به جميع المؤمنين ، وقد دخل بالخطاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. ثمّ قال : ورسوله ، فأخرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من جملتهم لكونهم مضافين إلى ولايته. ثمّ قال : والّذين آمنوا. فوجب أن يكون الّذي خوطب بالآية غير الّذي جعلت له الولاية وإلّا أدّى أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه ، وإلى أن يكون كلّ واحد من المؤمنين وليّ نفسه وهو محال.

لا يقال : يجوز أن يكون المراد بقوله : وهم راكعون إنّ هذه شيمتهم وعادتهم ولا يكون حالا لإيتاء الزكاة وذلك لأنّ قوله : يقيمون الصلاة موجب لدخول الركوع فيه. فإن لم يحمل قوله : وهم راكعون على أنّه حال من يؤتون الزكاة بل على أنّ من صفتهم وعادتهم الركوع كان ذلك كالتكرار الغير المفيد ، وظاهر أنّ حمل المفيد أولى من البعيد غير المفيد ، وبالجملة فالآية من أوضح الدلائل على إمامته عليه‌السلام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

ـ عازورا وفي ص ١٥٣ تفسير الآية ٥٢ سورة المائدة (يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) أنه ابن ابى بن سلول وفي ص ٤٦٥ تفسير الآية ٢٢ سورة النور (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) إنه أبو بكر وقد حلف أن لا ينفق على مسطح وكان ابن خالته (مع أن المروي عن ابن عباس حبر الأمة والأعلم بمواضع النزول إنها نزلت في ناس أقسموا أن لا يتصدقوا على رجل بالإفك كما في تفسير الطبري ج ١٨ ص ١٠٢) وفي ص ٨٢٩ تفسير الآية ١ سورة الممتحنة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وفي ص ٧٣٨ تفسير الآية ٨ سورة المنافقون (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ) إن المراد هو ابن أبي. أنشدك أيها القاري الكريم بالله العزيز الحكيم هل فيما تلوناك مما اعترف به القاضي نفسه باستعمال لفظ الجمع وإرادة الواحد كفاية؟

ثم إن أحسن ما بين في سر التعبير بالجمع في آية المباهلة ما أفاده المرحوم آية الله المظفر ـ طاب ثراه ـ في ص ٥٠ ج ٢ من دلائل الصدق ونحن ننقله بعين عبارته قال ـ قدس‌سره ـ : ثم إن الفائدة في التعبير عن أمير المؤمنين (ع) وهو فرد بصيغة الجمع هي تعظيمه والإشارة إلى أنه بمنزلة جميع المؤمنين المصلين المزكين لانه عميدهم ، ومن أقوى الأسباب في أيمانهم ومبراتهم كما أشار إلى ذلك رسول الله (ص) بقوله يوم الخندق : برز الايمان كله إلى الشرك كله ، وجعل الزمخشري الفائدة فيه ترغيب الناس في مثل فعله ليبينه أن سجية المؤمنين يجب أن يكون على هذه الغاية من الحرص على البر والإحسان انتهى ما أفاده ـ

٢٤٢

بلا فصل ، ولعمري إنّ المنكر لما قلناه مصداق قوله تعالى (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها (١) فقد روي الكليني عن أحمد بن عيسى (٢). قال : حدثني جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه عليهم‌السلام في قوله عزوجل (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) قال : لمّا نزلت (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية اجتمع نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مسجد المدينة

__________________

ـ وقال آية الله السيد شرف الدين ـ طاب ثراه ـ في المراجعة ٤٢ بعد سرده عدة نكت قلت : عندي في ذلك نكتة ألطف وأدق وهي أنه إنما أتى بعبارة الجمع دون عبارة المفرد بقيا منه تعالى على كثير من الناس فان شانئي على (ع) وأعداء بني هاشم وسائر المنافقين وأهل الحسد والتنافس لا يطيقون أن يسمعوها بصيغة المفرد. إذ لا يبقى لهم حينئذ مطمع في التمويه ولا ملتمس في التضليل فيكون منهم بسبب يأسهم حينئذ ما تخشى عواقبه على الإسلام فجائت الآية بصيغة الجمع مع كونها للمفرد اتقاء من معرتهم ، ثم كانت النصوص بعدها تترى بعبارات مختلفة ومقامات متعددة وبث فيهم أمر الولاية تدريجا تدريجا حتى أكمل الله الدين وأتم النعمة جريا منه صلى‌الله‌عليه‌وآلهعلى عادة الحكماء في تبليغ الناس ما يشق عليهم ولو كانت الآية بالعبارة المختصة بالمفرد لجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ، وهذه الحكمة مطردة في كل ما جاء في القرآن الحكيم من آيات فضل أمير المؤمنين وأهل بيته الطاهرين كما لا يخفى ، وقد أوضحنا هذه الجمل وأقمنا عليها الشواهد القاطعة والبراهين الساطعة في كتابينا. سبيل المؤمنين ـ وتنزيل الايات ، والحمد لله على الهداية والتوفيق والسّلام انتهى.

(١) النحل ٨٣.

(٢) الحديث رواه في أصول الكافي كتاب الحجة باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية الحديث ٧٧ وهو في مرآت العقول ج ١ ص ٣٣٢ وفي الوافي ص ٢١٥ من الجزء الثاني وفي الشافي شرح ملا خليل القزويني على أصول الكافي ١١٢ من الجزء الثالث من كتاب الحجة المجلد الأول ، وشرح ملا صالح المازندراني ج ٧ ص ٩٢ والبرهان ج ١ ص ٤٧٩ الحديث ١ ونور الثقلين ج ١ ص ٥٣٤ الرقم ٢٦٠ والبحار ج ٧ ص ١٠٤ وضمير ولكنا نتولده راجع إلى محمد (ص) وإرجاعه إلى على (ع) بعيد لفظا ومعنى.

ثم إنه ربما يختلج ببالك أنه كيف يصح ذلك وسورة النحل التي فيها آية ٨٣ (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) مكية ، وآية الولاية مدنية ، والجواب أنه ليس من المسلم كون سورة ـ

٢٤٣

فقال بعضهم لبعض : ما تقولون في هذه الآية إن كفرنا بها نكفر بسائرها وإن آمنّا فإنّ هذا ذلّ حين يسلّط علينا ابن أبي طالب فقالوا : قد علمنا أنّ محمّدا صادق فيما يقول ولكنّا نتولّاه ولا نطيع عليّا فيما أمرنا قال : فنزلت هذه الآية (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) يعنى ولاية عليّ عليه‌السلام وأكثرهم الكافرون بالولاية.

فلينظر المنصف بعين البصيرة فيما لهؤلاء من الحقد المبطون في أحشائهم وأنّهم يروّجون الباطل ويرون نزول بعض الآيات في حقّ صاحبهم فيحتجّون بها ، وليس من ذلك عين ولا أثر وإنّما هو تمويه منهم ، ويتركون النصّ القاطع ويأوّلونه بحسب ما تهوى أنفسهم ـ نعوذ بالله من مخالفة الله ورسوله ـ واستيفاء ما تعلّق بذلك الكلام يوجب التطويل. فمن أراده وقف عليه في مظانّه.

وفي الآية الكريمة دلالة على أنّ الفعل القليل لا يبطل الصلاة ، وبها استدلّ أهل العلم على ذلك كما قاله الواحدي في تفسيره. إذ الظاهر أنّ الخاتم كان مرجا في خنصره عليه‌السلام فلم يتكلّف لخلعه إلى كثير عمل يوجب فساد الصلاة ، وقد ذكر ذلك صاحب الكشّاف وغيره.

وقد حدّ أصحابنا الفعل الكثير الموجب للبطلان لما يخرج فاعله عن كونه مصلّيا عرفا ، ومنه يظهر أنّ القليل مالا يكون كذلك ، وقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قتل عقربا في الصلاة (١) ، وأمر بقتل الأسودين : الحيّة والعقرب فيها (٢) ، وتمام تفاصيل

__________________

ـ النحل مكية بل فيه اختلاف كثير انظر الإتقان ج ١ من ص ٨ إلى ٢٠ النوع الأول والثاني والبرهان للزركشى ج ١ من ص ١٨٧ إلى ٢٠٥ والتبيان ج ٢ ص ١٦٦ ومجمع البيان ج ٣ ص ٣٤٧.

والأشهر الأعرف أنها مكية إلى آخر الآية ٤٠ ومن الآية ٤١ (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) إلى آخر السورة مدنية ، وقد تكرر ذكر ذلك في الإتقان والبرهان ونقله في الإتقان عن قتادة وعن جابر بن زيد.

(١) رواه في البحار ج ١٤ ص ٥٣٣ عن المحاسن وروى البيهقي في ج ٢ ص ٢٦٦ إن عليا (ع) قتل في الصلاة عقربا فلم ير رسول الله (ص) يقتله إياها بأسا.

(٢) انظر المنتقى بشرح نيل الأوطار ج ٢ ص ٣٥٣ وفيه رواه الخمسة ، وصححه الترمذي ـ

٢٤٤

ذلك يعلم من الفروع.

وقد يستدلّ بها أيضا على أنّ رفع الزكاة إلى السائل في الصلاة جائز مع نيّة الزكاة كما قاله في مجمع البيان. إذ الظاهر أنّ ذلك العمل وقع بنيّة ويلزم من ذلك صحّة نيّة الزكاة احتسابا على الفقير الغائب ، وصحّة نيّة الصوم في الصلاة الليليّة ونحو ذلك ممّا لا يتوقّف النيّة فيه على مقارنة فعل من الأفعال المنافية للصلاة.

وفيها أيضا دلالة على صحّة تسمية الصدقة المندوبة زكاة. إذ الظاهر أنّ الّذي فعله عليه‌السلام كان تصدّقا مندوبا فإنّ الزكاة الواجبة لا يجوز تأخيرها ولو كان ذلك زكاة واجبة لأمكن الاستدلال بها على جواز تأخيرها في الجملة وعلى جواز إخراج القيمة لكن ذلك غير معلوم ولا أظنّ أحدا من المفسّرين حملها عليه ، والله العالم بحقائق الأحكام.

الرابعة : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) (١).

(إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) بدل ممّا يوحى قبله دالّ على أنّ الوحي مقصود على التوحيد الّذي هو منتهى العلم ، والأمر بالعبادة الّتي هي كمال العمل (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) خصّها بالذكر وأفردها بالأمر للعلّة الّتي أناط بها إقامتها وهي قوله :

(لِذِكْرِي) أي لاشتمالها على لذكري وشغل القلب واللسان به ، وقيل : لأنّي ذكرتها في الكتب وأمرت بها ، وقيل : لأن أذكرك بالمدح والثناء ، وقيل : الذكرى خاصّة لا ترائي بها ولا تشوبها بذكر غيري ، وقيل : لأوقات ذكري هي مواقيت الصلاة

__________________

ـ وأخرجه البيهقي أيضا ج ٢ ص ٢٦٦ ورواه في جامع أحاديث الشيعة ج ٢ ص ٤٢٨ الرقم ٣٩٥٢ عن معاني الاخبار ومستدرك الوسائل ج ١ ص ٤٠٥ ومعنى الأسودين : الحية والعقرب.

(١) طه ١٤.

٢٤٥

الّتي عيّنها في كتابه.

وقيل : لذكر صلوتى الفائتة إمّا بحذف المضاف أو لاستلزام ذكرها ذكره فيكون فيه دلالة على أنّ وقت القضاء الفائتة الذكر.

ويؤيّده ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : من نام عن صلاة أو نسيها فليقضها إذا ذكرها إنّ الله تعالى يقول (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (١) ، ونحوه روي أصحابنا عن عبيد بن زرارة عن أبيه عن أبي جعفر عليه‌السلام (٢) وعلى هذا فقد يستدلّ بالآية على وجوب ترتّب الفائتة على الحاضرة بمعنى وجوب تقديمها على الحاضرة حتّى لو قد منها على الفائتة بطلت الحاضرة وأعادها إلّا أن يكون وقت الحاضرة مضيّقا فيقدّم على الفائتة.

__________________

(١) انظر سنن البيهقي ج ٢ ص ٢١٦ إلى ٢١٩ بألفاظ مختلفة ، وفي سنن الدارمي ج ١ ص ٢٨٠ بلفظ من نسي صلاة أو نام عنها ، وفي سنن أبى داود ط ١٣٦٩ ج ١ ص ١٧٥ الرقم ٤٣٥ بلفظ من نسي صلاة ، وقال محمد محي الدين عبد الحميد في تذييله ، وأخرجه مسلم والترمذي وابن ماجة ، وقريب مما في سنن أبى داود في اللفظ ، والقصة ما رواه الشهيد في الذكرى بسنده الصحيح عن زرارة عن أبى جعفر ، وتراه في البحار ج ١٨ ص ٦٧٥ وفي الوسائل الباب ٦١ من أبواب المواقيت الحديث ٦ ص ٣٥٣ ج ١ ط أمير بهادر ، وفي الجامع ج ٢ ص ٩٣ الرقم ٧٨٩ قال في الحدائق ج ٦ ص ٢٧١ وهذه الرواية لم نقف عليها إلا في الذكرى وكفى به ناقلا ، وفي الذكرى بسط كلام في ما يستفاد من الحديث نقله في البحار ج ١٨ ص ٥٢٧ فراجع.

(٢) رواه في التهذيب ج ٢ ص ١٧٢ بالرقم ٦٨٦ وص ٢٦٨ الرقم ١٠٧٠ وفي الاستبصار ج ١ ص ٢٨٧ الرقم ١٠٥١ والكافي باب من نام عن الصلاة أو سهى عنها الحديث ٤ وهو في المرآة ج ٣ ص ١١٧ وهو في الوسائل الباب ٦٢ من أبواب المواقيت الحديث ٢ ص ٢٥٣ ج ١ ط أمير بهادر ، وفي البحار ج ١٨ ص ٦٧٥ والحديث هكذا : عن عبيد بن زرارة عن أبيه عن أبى جعفر قال : إذا فاتتك صلاة فذكرتها في وقت أخرى فإن كنت تعلم أنك إذا صليت التي قد فاتتك كنت من الأخرى في وقت فابدء بالتي فاتتك فان الله ـ عزوجل ـ يقول (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) ، وإن كنت تعلم إذا صليت التي فاتتك فاتتك التي بعدها فابدء بالتي أنت في وقتها وأقم الأخرى.

٢٤٦

ويؤيّده من الأخبار صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام (١) أنّه سئل عن رجل صلّى بغير طهور أو نسي صلوات لم يصلّها أو نام عنها فقال : يقضيها إذا ذكرها في أيّ ساعة ذكرها من الليل أو نهار فإذا دخل وقت الصلاة ولم يتمّ ما قد فاته فليقض ما لم يتخوّف أن يذهب وقت هذه الّتي قد حضرت وهذه أحقّ بوقتها فليصلّها فإذا قضاها فليصلّ ما قد فاته ممّا قد مضى ، وإلى هذا القول ذهب جماعة من أصحابنا وهو قول الحنفيّة أيضا والأكثر من أصحابنا على استحباب ترتّب الفائتة على الحاضرة ولو قدّم الحاضرة على الفائتة جاز وإن كان الوقت موسّعا لكن المستحبّ أن يبدأ بالفائتة على ذلك التقدير وإلى هذا القول يذهب الشافعيّة أيضا ويجاب عن أدلّة القول الأوّل بأنّ الآية غير ظاهرة في ذلك بل يحتمل وجوها أخر كما أشرنا إليها ، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال (٢)

__________________

(١) وتمام الحديث ولا يتطوع بركعة حتى يقضى الفريضة كلها ، والحديث رواه في الكافي باب من نام عن الصلاة أو سهى عنها الحديث الثالث ، وهو في المرآة ج ٣ ص ١١٧ ووصفه العلامة بالحسن ، وقد عرفت غير مرة أن الحديث من طريق إبراهيم بن هاشم صحيح ، ورواه في التهذيب ج ٢ ص ٢٦٦ الرقم ١٠٥٩ وفي الاستبصار ج ١ ص ٢٨٦ الرقم ١٠٤٦ ورواه في التهذيب عن محمد بن يعقوب أيضا في موضحين : أحدهما ج ٢ ص ١٧٢ الرقم ٦٨٥ والثاني ج ٣ ص ١٥٩ الرقم ٣٤١ ورواه في المنتقى ج ٢ ص ٤٩ ونحن ننقل عين عبارة المنتقى في شرح اختلاف ألفاظ الحديث : وفي جملة من ألفاظ المتن اختلاف في هذه المواضع منها قوله : فليقض ما لم يتخوف. ففي أحد الموضعين من التهذيب فليمن منها قوله : فليصليها ففي الأخر فليقضها ، ومنها قوله : مما قد مضى ففي ذلك فيما قد مضى ، واتفق الموضعان ، والكافي على زيادة كلمة كلها في آخر الحديث : وإسقاط كلمة قد من قوله : ما قد فاته : وتعريف لفظ صلاة من قوله : فإذا دخل وقت صلاة ، وترى الحديث في الوسائل في الباب ٦١ من أبواب مواقيت الصلاة الحديث ٣ ص ٢٥٢ ط أمير بهادر.

(٢) ولاستاذنا العلامة آية الله الحائري مؤسس الحوزة العلمية بقم ـ نور الله مضجعه الشريف ـ في كتاب الصلاة ط ١٣٥٣ ص ٣٩٢ في بيان الأصل في المسئلة بيان يعجبنا نقله هنا بعين عبارته قال ـ قدس‌سره ـ : تنبيه قلنا في صدر المسئلة : إن الشك في فورية القضاء ، وكذا الشك في ترتب الحاضرة ـ

٢٤٧

ولو سلّم فأقصى ما تدلّ عليه الوجوب عند الذكر ونحن نقول به أمّا الوجوب على التضييق فلا ، والحديث معارض بمثله ممّا دلّ على جواز تقديم الحاضرة مع السعة ، والجمع بينها بالاستحباب كما قلناه طريق الجمع بين الأدلّة.

(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) كائنة لا محالة.

(أَكادُ أُخْفِيها) أريد إخفاء وقتها أو أقرب إن اخفيها كما هو ظاهر كاد فلا أقول إنّها آتية ، ولو لا ما في الإخبار بإتيانها من اللطف وقطع الأعذار لما أخبرت به أو أكاد أظهرها من أخفاه إذا سلب خفاه فالهمزة للإزالة ، وفيه إيماء إلى أنّه ينبغي المبادرة إلى العبادة والصلاة.

(لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) تتعلّق بآتية أو باخفيها بالمعنى الأخيرة ، وفيه دلالة على أنّ مجازاة كلّ نفس بحسب عملها. فمن عمل الطاعات أثيب عليها ، ومن فعل المعاصي عوقب بحسبها ، فاستدلّت به المعتزلة على أنّ أعمال العباد بسعيهم. إذ لو لم يكن كذلك لما صحّ هذه الاسناد ، ولو لم يكن ثواب مستحقّا على العمل لم يكن لباء السببيّة معنى ، وما أجاب عنه الأشاعرة بأنّ اعتبار الوسط لا ينافي انتهاء الكلّ إليه بعيد في الغاية وتحقيقه في الكلام ، وقد يستدلّ به على عدم إجزاء العبادة مع فعل الغير لكن أخرج منه بعض المواضع للإجماع كما يعلم تفصيله من محلّه.

__________________

ـ على الفائتة مرجعها البراءة لكن فيه إشكال يجب التنبيه عليه ، وهو أن الأمر المتعلق بموضوع خاص غير مقيد بزمان وإن لم يكن مدلوله اللفظي ظاهرا في الفور ولا في التراخي ، ولكن لا يمكن التمسك به للتراخي بواسطة الإطلاق ، ولا التمسك بالبراءة العقلية لنفى الفورية لأنه يمكن أن يقال : بأن الفورية وإن كانت غير ملحوظة للأمر قيدا للعمل إلا أنها من لوازم الأمر المتعلق به فإن الأمر تحريك إلى العمل وعلة تشريعية ، وكما أن العلة التكوينية لا تنفك عن معلولها في الخارج كذلك العلة التشريعية تقتضي عدم انفكاكها عن معلولها في الخارج وإن لم يلاحظ الأمر ترتبه على العلة في الخارج قيدا ، وهذا نظير ما اخترناه أخيرا في باب تداخل الأسباب أن الأصل عد التداخل فان السببين وإن كانا واردين على الطبيعة الواحدة لكن مقتضى تأثير كل واحد منهما أن يوجد وجود خاص مستند إليه كما أن مقتضى سببية النار لاحراق ما تماسه تحقق الاحتراق المخصوص المستند إلى النار وإن تعدد النار المماسة لجسم آخر مثلا يتحقق ـ

٢٤٨

الخامسة : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) (١).

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) أي ذوي خلفة يخلف كلّ واحد منهما صاحبه ، ويقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه فمن فاته عمل الليل استدركه بالنهار وبالعكس أو المراد يعقّب كلّ منهما الآخر كقوله (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) والخلفة : الحالة الّتي يختلف عليها من خلف كالركبة ، والجلبة ، وقيل : المراد أنّه جعل كلّ واحد منهما مخالف لصاحبه فجعل أحدهما أسود والآخر أبيض.

(لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) وهما في الحقيقة سبب غائى للجعل المذكور : أى جعل ذلك ليحصل بذكر النعمة والتفكّر في صنعة. إذ يعلم أنّه لا بدّ لهما من صانع حكيم واجب الوجود رحيم على العباد واجب الشكر على إنعامه ، وكلمة أو لمنع الخلوّ واستدلّ بها على مشروعيّة قضاء فائتة الليل بالنهار ، وبالعكس ، ويؤيّده ما رواه ابن

__________________

ـ احتراق آخر مستند إلى النار الأخرى ، وإن كان هذان الوصفان أعنى الاستناد إليها وكون الاحتراق الثاني احتراقا آخر غير مستندين إلى تأثير السبب.

إذا عرفت ذلك فنقول : الأمر بالقضاء بنحو الإطلاق أعني بدون تحديد مدة له لا بد وأن يعامل معه معاملة العلة للعمل في الخارج فهو حجة على العبد بمعنى أن العبد ليس له أن يؤخر العمل ويعتذر بأن الإطلاق يقتضي جواز التأخير أو يقول : بأن تقييد العمل بالفورية مشكوك فيه ومقتضى الأصل البراءة هذا من جهة الشك في كون القضاء واجبا فورا ، وأما من جهة الشك في صحة الحاضرة من جهة احتمال أن يكون الشرط في صحتها ترتبها على الفائتة كما في ترتب العصر على الظهر مثلا فنقول : وإن كان الشك من هذه الجهة من مصاديق تردد الواجب بين المطلق والمقيد وبنينا على البراءة في الأصول ، ولكن يحتمل هنا أن يكون القول بصحة الفريضة والقول بالمضايقة في القضاء إحداث قول ثالث كما يظهر من بعض الكلمات فالعمدة في المقام التمسك بالأخبار الدالة على جواز البدئة بالفريضة مع كون الذمة مشغولة بالقضاء كما شرحنا سابقا. انتهى كلامه ـ رفع مقامه ـ

(١) الفرقان ٦٢.

٢٤٩

بابويه (١) عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : كلّما فات بالليل فاقضه بالنهار قال الله تبارك وتعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) يعني أنّه يقضى الرجل ما فاته بالليل بالنهار وما فاته بالنهار بالليل ، وإلى ذلك يذهب أكثر الأصحاب ويؤيّد أنّ في ذلك مبادرة إلى فعل الطاعة ، ومسارعة إلى الخير فيكون مندوبا إليه.

وقال ابن الجنيد : المستحبّ أن يقضى ما فاته الليل بالليل ، وما فاته النهار بالنهار إلى أن يزيد زوال الشمس ثمانية أقدام على زوال يومها محتجّا بصحيحة معاوية بن عمّار (٢) قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : اقض ما فاتك من صلاة النهار بالنهار ، وما فاتك من صلاة الليل بالليل قلت : أقضى وترين في ليلة؟ فقال : نعم اقض وترا أبدا ، والحقّ أنّ قول ابن الجنيد غير بعيد.

ودلالة الآية على ما قالوه غير واضحة لاحتمال ما تقدّم من الوجوه ، والخبر الّذي رواه ابن بابويه غير واضح الصحّة ، وحمل الأمر في الرواية الصحيحة على الإباحة بعيد ، وادّعى العلّامة كونه للندب ليس أولى من الإباحة لا يخفى ما فيه. إذ الندب أقرب إلى الوجوب من الإباحة فمع تعذّر الوجوب يحمل على الندب ، فلا نسلّم أنّ غير ذلك ينافي المبادرة. فتأمّل.

السادسة : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣).

__________________

(١) رواه في الفقيه ج ١ ص ٣١٥ بالرقم ١٣٢٨ وللحديث تتمة لم يذكرها المصنف ، وانظر أيضا جامع أحاديث الشيعة ج ٢ ص ٩٥ الرقم ٨١٣.

(٢) رواه في الكافي باب تقديم النوافل وتأخيرها الحديث الثالث ، وهو في المرآة ج ٣ ص ١٧٢ ، ورواه عن الكليني في التهذيب ج ٢ ص ١٦٢ بالرقم ٣٦٨ وبطريق آخر في ج ٣ ص ١٦٨ الرقم ٣٦٨ ورواه في منتقى الجمان ج ٢ ص ٥٨.

(٣) التوبة ٥.

٢٥٠

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) إلى قوله (فَإِنْ تابُوا)» عن الشرك واعترفوا بالايمان.

(وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) تصديقا لتوبتهم وإيمانهم.

(فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) فدعوهم ، ولا تتعرّضوا لهم بشيء من القتل والحصر والقعود في كلّ مرصد كما دلّ عليه ما قبلها.

واستدلّ بهذه الآية على أنّ تارك الصلاة عمدا يجب قتله لأنّه تعالى أوجب الامتناع من قتل المشركين بشرطين :

أحدهما : أن يتوبوا من الشرك.

والثاني : أن يقيموا الصلاة فيؤتوا الزكاة ، والحكم المعلّق على مجموع لا يتحقّق إلّا مع تحقّق المجموع ، ويكفي في حصول نقيضه أعنى اباحة قتلهم فوت واحد من المجموع ، ويلزم ما ذكرناه ، والآية وإن كانت في المشركين لكن يلزم ههنا ثبوت الحكم في المسلمين بطريق أولى لأنّهم قد التزموا شرائع الإسلام فلو ترك الصلاة لا يخلّى سبيلهم بل يجب قتلهم ، وفي أخبارنا دلالة على ذلك أيضا ، وروي عن العامّة (١) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال في ترك الصلاة : فقد برئت منه الذمّة ، وقال أبو حنيفة : لا يتعرّض لتارك الصلاة فإنّها أمانة منه ومن الله تعالى ، والأمر منها موكول إليه تعالى ، ولا يخفى ضعفه. هذا لكن إطلاق الآية يقتضي عدم الفرق بين كون الترك استحلالا وعدمه والمشهور أنّ القتل إنّما يكون مع الاستحلال ، ومن ثمّ حمل بعضهم الإقامة والإيتاء على اعتقاد وجوبهما ، والإقرار بذلك لكنّه بعيد عن الظاهر ، ولعلّهم فهموا ذلك من دليل خارج عن الآية كالأخبار.

__________________

(١) ولفظ الحديث في الرقم ١٤١٢ ج ٧ كنز العمال ص ٢٣٣ : لا تتركن الصلاة متعمدا فان من ترك الصلاة متعمدا برئت منه ذمة الله ورسوله عن أحمد عن أم أيمن ، وفي الجامع الصغير بالرقم ٨٥٨٧ ص ١٠٢ ج ٦ الفيض القدير ، من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر جهارا عن الطبراني الأوسط عن أنس.

٢٥١

السابعة : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١).

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) ظاهرها الأمر بالعبادة المتعلّقة بأفعال الجوارح ونقل عن ابن عبّاس أنّه قال : معناه وحّدوه. وقال الشيخ في التبيان : والأقوى حمله على عمومه في كلّ ما هو عبادة لله من معرفته ومعرفة أنبيائه ، والعمل بما أوجبه عليهم وندبهم إليه ، والخطاب متوجّه إلى جميع الناس مؤمنهم وكافرهم إلّا من كان غير مكلّف من الأطفال والمجانين ، وما يروي عن ابن عبّاس والحسن أنّ ما في القرآن من يا أيّها الناس فمكّى ، ويا أيّها الّذين آمنوا فمدنيّ إن صحّ (٢) لا يوجب التخصيص بالكفّار

__________________

(١) البقرة ٢١.

(٢) قال الزركشي في البرهان ج ١ ص ١٨٩ ما نصه : وذكر ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب فضائل القرآن حدثنا وكيع عن الأعمش عن علقمة قال : كل شيء نزل فيه يا أيها الناس فهو بمكة ، وكل شيء نزل فيه يا أيها الذين آمنوا فهو بالمدينة ، وهذا مرسل قد أسند عن عبد الله بن مسعود ، ورواه الحاكم في مستدركة في آخر كتاب الهجرة عن يحيى بن معين قال : حدثنا وكيع عن أبيه عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود به.

ورواه البيهقي في أواخر دلائل النبوة ، وكذا رواه البزار في مسنده ثم قال : وهذا يرويه غير قيس عن علقمة مرسلا ولا نعلم أحدا أسنده الا قيس. انتهى. ورواه ابن مردويه في تفسيره في سورة الحج عن علقمة عن أبيه وذكر في آخر الكتاب عن عروة بن الزبير نحوه ، وقد نص على هذا القول جماعة من الأئمة منهم أحمد بن حنبل وغيره وبه قال كثير من المفسرين ونقله ابن عباس ، وهذا القول إن أخذ على إطلاقه ففيه نظر فإن سورة البقرة مدنية ، وفيها (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) ، وفيها (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) ، وسورة النساء مدنية ، وفيها (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) ، وفيها (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ) ، وسورة الحج مكية وفيها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) فإن أراد المفسرون إن الغالب ذلك فهو صحيح ، ـ

٢٥٢

فإنّ المأمور به أصل العبادة المشترك بين بدؤها والزيادة فيها والمواظبة عليها فالمطلوب من الكفّار الشروع فيها بعد التلبّس بما يتوقّف عليه الصحّة من الإيمان المشتمل على معرفة الصانع والإقرار به ، إذ من لوازم وجوب الشيء وجوب ما لا يتمّ إلّا به فكما أنّ الحدث لا يمنع وجوب الصلاة فكذا الكفر لا يمنع وجوب العبادة فيجب رفعه والاشتغال بها عقيبه ، ومن المؤمنين ازديادهم من العبادة وثباتهم عليها ، ولا يرد بعد تناول الأمر لشيئين لأنّ الازدياد من العبادة عبادة كما أشرنا إليه ، وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الكافر مكلّف بالفروع.

(الَّذِي خَلَقَكُمْ) أى أوجدكم على تقدير واستواء بعد إن لم يكونوا موجودين وهو صفة ربّكم جرت عليه للتعظيم والتعليل ، واحتمل البيضاوي والكشّاف كونها للتقييد إن كان الخطاب للمشركين وأريد بالربّ ما هو أعمّ من الربّ الحقيقيّ والآلهة الّتي يسمّونها أربابا.

(وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) منصوب بالعطف على الضمير المنصوب : أي خلقكم وخلق من تقدّمكم سواء كان تقدّما بالذات أو بالزمان ، والخطاب مع الكفرة على هذا الوجه إمّا لاعترافهم به كما قال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) أو لتمكّنهم من العلم بأدنا نظر.

(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أى خلقكم لتتّقوه وتعبّدوه كقوله تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَ

__________________

ـ ولذا قال : مكي هذا إنما هو في الأكثر وليس بعام وفي كثير من السور المكية يا أيها الذين آمنوا انتهى ، والأقرب تنزيل قول من قال مكي أو مدني على أنه خطاب المقصود به أو جل المقصود به أهل مكة يا أيها الذين آمنوا كذلك بالنسبة إلى أهل المدينة : وفي تفسير الرازي عن علقمة والحسن أن ما في القرآن يا أيها الناس مكي ، وما كان يا أيها الذين آمنوا فبالمدينة وإن القاضي قال : إن كان الرجوع في هذا إلى النقل فمسلم ، وإن كان السبب فيه حصول المؤمنين بالمدينة على الكثرة دون مكة فضعيف إذ يجوز خطاب المؤمنين بصفتهم واسمهم وجنسهم ، ويؤمر غير المؤمنين بالعبادة كما يؤمر المؤمنون بالاستمرار عليها والازدياد منها اه. انتهى ما في البرهان.

٢٥٣

وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وهي بمعنى كي ومفادها [معناها خ ل] التعليل من غير أن يكون هناك شكّ من القائل بوجه ، ونظيره قولك : اقبل قولي لعلّك ترشد مع أنّه ليس في شكّ من الرشد ، وفايدة التعبير بلعلّ ترقيق للموعظة وتقريب لها من قلب الموعوظ ، ونقل الشيخ عن سيبويه إنّما ورد ذلك على شكّ المخاطبين كما قال تعالى (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) وأراد بذلك الإبهام على موسى عليه‌السلام وهارون قال : وفائدة إيراد لفظة لعلّ هو أن لا يحلّ العبد أبدا محلّ الآمن المدلّ بعمله بل يزداد حرصا على العمل وحذرا من تركه.

وقال بعضهم : معنى قوله : لعلّكم تتّقون لكي توقون النار في ظنّكم ورجائكم لأنّهم لا يعلمون أنّهم يوقون النار في الدار الآخرة لأنّ ذلك من علم الغيب الّذي لا يعلمه إلّا الله : أي لعلّكم تتّقون ذلك في ظنّكم ورجائكم ، وأجرى لعلّ على العباد دون نفسه تعالى الله عن ذلك.

قال الشيخ في التبيان (١) : وهذا قريب ممّا حكيناه عن سيبويه ، وعلى هذا فيكون جملة لعلّكم تتّقون جملة حالية من الضمير في اعبدوا : أى اعبدوا ربّكم راجين أن ينخرطوا في سلك المتّقين الفائزين بالهدي والفلاح المستوجبين لجوار الله تعالى ، وفيه تنبيه على أنّ التقوى هي الغاية القصوى من العبادة ، وأنكر صاحب الكشّاف مجيء لعلّ بمعنى كي ، ولكن صرّح صاحب المغني بأنّ كلمة لعلّ لها ثلاث معان وجعل التعليل أحدها قال : وأثبته جماعة منهم الأخفش والكسائي وحملوا عليه قوله تعالى (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) (٢) واختار في التبيان هذا الوجه ، ونقل عن غيره قولا ، وفي الآية تغليب المخاطبين على غيرهم وإن كان المعنى على إرادتهم جميعا قال البيضاوي (٣) : والآية تدلّ على أنّ الطريق إلى معرفة الله تعالى والعلم بوحدانيّته واستحقاقه للعبادة النظر في صنعه والاستدلال بأفعاله وأنّ العبد لا يستحقّ

__________________

(١) انظر التبيان ج ١ ص ٣٥ ط إيران.

(٢) طه ٣٤٤.

(٣) انظر تفسير البيضاوي ص ١٧ ط المطبعة العثمانية.

٢٥٤

بعبادته عليه ثوابا فإنّها لما وجبت عليه شكرا لما عدّده عليه من النعم السابقة فهو كأجير أخذ الأجرة قبل العمل. انتهى ، وما ذكره من الدلالة على الأوّل ظاهر أمّا الدلالة على كون العبد لا يستحقّ الثواب بالعبادة فغير ظاهرة منها. إذ وجوبها شكرا لا يستلزم عدم الثواب على هذا الشكر بل الظاهر أنّ استحقاق الثواب يترتّب على هذا الشكر الّذي وقع بإزاء النعمة كما يشعر به قوله تعالى (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) الآية ، والحاصل أنّا لو سلّمنا دلالة الآية على أن العبادة وجبت شكرا فلا نسلّم دلالتها على أنّ المكلّف لا يستحقّ الثواب على هذا الشكر الّذي نقوله إنّه يستحقّ الثواب عليه كما اقتضاه الدليل العقليّ ، وأشار إليه المحقّق الطوسي في التجريد بأنّ ذلك قبيح يمتنع صدوره عنه تعالى على أنّه يحتمل أن يكون ذكر النعم فيها للترغيب والتحريص على العبادة والحثّ على عدم الترك فإنّ الآمر إذا كان ذا نعم كثيرة وذكر نعمة عند الأمر كان ذلك ادعى في وقوع الفعل وأتمّ في حصول الامتثال أو يزيد للمأمور به رغبة في إيقاعه وتجانبا عن تركه قال الشيخ في التبيان : ذكر تعالى بذلك عباده نعمه عليهم فآلاؤه لديهم ليذكروا أياديه عندهم فيثبتوا على طاعته تعطّفا عنه بذلك عليهم ورأفة منه بهم ورحمة لهم من غير حاجة منه إلى عبادتهم ولكن ليتمّ نعمته عليهم لعلّهم يهتدون ، وبالجملة استحقاق الثواب على العبادة ثابت في الآيات الكثيرة والأخبار المتظافرة بل إجماعنا منعقد عليه وهو حجّة قاطعة ، ويؤيّد ما قلناه أنّ المنعم إذا كان غنيّا على الإطلاق وهو في نهاية ما يكون من الجود والفضل والرحمة على عباده.

ثمّ إنّه كثيرا ما يذكر نعمة في معرض الامتنان عليهم ، وظاهر أنّ الامتنان إنّما يتمّ مع عدم إرادة العوض فلا وجه بكونها عوضا في مقابلة نعمه على أنّ الظاهر أنّ هذا لم يذهب إليه من المسلمين إلّا نادر ، وليس بمذهب مشهور من المتعبّدين بالشريعة فإنّ الثواب والعقاب كالضروري عن دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بل كلّ الأديان وبهما يثبت الحشر والنشر والمعاد نعم نقله الشارح الجديد للتجريد عن أبى القاسم البلخي فقط وحاله غير معلوم. فتأمّل.

٢٥٥

وأمّا الحكم المستفاد من الآية فهو مشروعيّة العبادة على الإطلاق ، وحينئذ فلا يحتاج إلى التوقيت في الزمان بل يصحّ فعلها مطلقا إلّا فيما عيّن له الشارع وقتا معيّنا بخصوصه نعم يحتاج إلى التوقيت في كيفيّتها فإنّها ممّا تعبّد الشارع بمثلها فيصحّ الصوم مطلقا إلّا في الأوقات المخصوصة ، والصلاة تطوّعا كذلك وقضاء الصلوات ونحوها من أفراد العبادات ، وقد أغنى من ذكره هنا بيانه في كتب الفروع على التفصيل.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) في محلّ النصب إمّا صفة ثانية لربّكم أو على المدح والتعظيم أو على الرفع بالخبريّة ، ومعنى جعلها فراشا أن جعل بعض جوانبها بارزا من الماء مع ما في طبعه من الإحاطة بها وصيّرها متوسّطة بين الصلابة واللطافة حتّى صارت مهياة لأن يقعدوا ويناموا ويتقلّبوا عليها كما يتقلّب أحدهم على فراشه المبسوط ، ومن زعم أنّ فيها دلالة على سطح الأرض فقد أبعد لأنّ كرويّة شكلها مع عظم حجمها واتّساع أطرافها لا يأبى الافتراش عليها وإذا كان الافتراش مستهلا في الجبل الّذي هو وتد من أوتاد الأرض فهو في الأرض ذات الطول والعرض أسهل ، وفي الآية دلالة على إباحة السكون في كلّ جزء من الأرض كان على أيّ وجه وإباحة الصلاة في كلّ قطعة منها وكذا سائر العبادات لأنّه ذكر ذلك في معرض الامتنان فاقتضى الإباحة كذلك إلّا ما أخرجه الدليل.

(وَالسَّماءَ بِناءً) قبّة مضروبة عليكم ، والسماء اسم جنس يقع على الواحد والمتعدّد ، وقيل : جمع سما ، والبناء مصدر بمعنى المبنى بيتا كان أو قبّة أو خباء ، ومنه قيل : بنى على امرأته لأنّهم كانوا إذا تزوّجوا ضربوا عليها خباء جديدا.

(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) من هنا للابتداء سواء أريد من السماء السحاب فإنّ ما علاك سماء ومنه سمّى سقف البيت سماء أو الفلك نفسه فإنّ المطر يبتدء من السماء إلى السحاب ومنه إلى الأرض على ما دلّت عليه الظواهر.

(فَأَخْرَجَ بِهِ) عطف على أنزل.

(مِنَ الثَّمَراتِ) كلمة من للتبعيض. إذ ليس المخرج كلّ الثمرات بل بعضها.

٢٥٦

(رِزْقاً لَكُمْ) إمّا حالا أو مفعولا له : أى حال كونه رزقا أو لأجل رزقكم ، ويؤكّد التبعيض اكتناف المنكرات [النكرين خ ل] أعنى ماء ورزقا فكأنّه قال : وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم هذا هو المطابق للواقع. إذ لم ينزل من السماء الماء كلّه ولا أخرج بالمطر كلّ الثمرات ولا جعل الرزق كلّه في الثمرات ، ويجوز أن يكون للبيان قدّم على المبيّن كقولك : أنفقت من الدراهم ألفا ، وخروج النبات وإن كان بقدرة الله ومشيئته ولكن جعل الماء الممزوج بالتراب سببا في إخراجها ومادّة لها كالنطفة للحيوان في خلق الولد بأن أجرى عادته بإفاضة صورها وكيفيّاتها على المادّة الممزوجة منهما أو أبدع في الماء قوّة فاعلة ، وفي الأرض قوّة قابلة يتولّد من اجتماعهما أنواع الثمار وهو قادر على أن يوجد الأشياء كلّها بلا أسباب وموادّ كما أنشأ نفوس الأسباب والموادّ ولكن له في إنشائها مندرجا لها من حال إلى حال حكما ودواعي تتجدّد فيها لاولى الأبصار عبر وسكون إلى عظيم قدرته ليس في إيجادها دفعة.

وقد يستدلّ بها على إباحة جميع اللباس في الصلاة وغيرها إلّا ما أخرجه الدليل نظرا إلى أنّ الثمرة أعمّ من المطعوم والملبوس ، وفيه نظر. إذ الثمرة المخرجة هي الرزق لا غير فلا وجه لتناولها الملبوس إلّا أن يقال : إنّ الرزق متناول لذلك فإنّ المراد به ما يصحّ الانتفاع به ، ولا يكون لأحد المنع منه كما صرّح به في التبيان ، وحينئذ فيدخل الجميع ، وفيه تأمّل.

(فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) يحتمل تعلّقها باعبدوا : أي اعبدوا ربّكم فلا تجعلوا له أندادا لأنّ أصل العبادات وأساسها التوحيد ، وأن لا يجعل له ندّ ولا شريك ، ويحتمل أن يكون منصوبا بإضمار أن جوابا للأمر ، ويحتمل تعلّقه بلعلّ على أن ينتصب تجعلوا انتصاب فاطّلع في قوله تعالى (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) أي خلقكم لكي تتّقوا وتخافوا عقابه فلا تشبّهوه بخلقه كذا في الكشّاف ويحتمل تعلّقه بالّذي جعل إن استأنفت به على أنّه نهي وقع خبرا على تأويل مقول فيه لا تجعلوا وصحّ الفاء لتضمّن معنى الشرط ، والمعنى من جعلكم بهذه النعم الجسام

٢٥٧

والآيات العظام فينبغي أن لا تشركوا به شيئا ، والندّ المثل ولكن لا يقال إلّا على سبيل المخالف المماثل في الذات ، وتسمية ما يعبده المشركون من دون الله أندادا مع أنّهم ما كانوا يزعمون أنّها تخالف الله في أفعاله ولا تساويه في ذاته وصفاته لأنّهم لما تركوا عبادة الله إلى عبادتها وسمّوها آلهة أشبه حالها حال من يعتقد أنّها ذوات واجبة بالذات قادرة على أن تدفع عنهم بأس الله وتمنحهم ما لم يرد الله بهم من خير. فتهكّم بهم وشنع عليهم بأن جعلوا أندادا لمن يمتنع أن يكون له ندّ.

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة حالية من ضمير فلا تجعلوا ومفعوله متروك : أى وحالكم أنّكم من أهل العلم والنظر وإصابة الرأي أي فلو تأملتم أدنى تأمّل اضطرّ عقلكم إلى إثبات موجد الممكنات متفرّد بوجوب الذات متعال عن مشابهة المخلوقات ، ويحتمل أن يكون المفعول مقدّرا وهو أنّها لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله فعلى هذا فالمقصود منه التوبيخ والتثريب لا تقييد الحكم وقصره عليه فإنّ العالم والجاهل المتمكّن من العلم سواء في التكليف نعم لو كان العلم غير مقدور له إمّا بعدم الدليل الموصل إليه أو بوجه آخر كان معذورا ، وفي ذلك دلالة على عدم التكليف بما لا يطاق كما ذهب إليه جماعة.

(النوع التاسع)

(فيما عدا اليومية من الصلاة وفي أحكام تلحق اليومية أيضا) وفيه آيات :

الاولى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خصّهم بالخطاب لأنّهم المنتفعون بإيجاب الصلاة كما تقدّم.

__________________

(١) الجمعة ٩.

٢٥٨

(إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) أي أذّن لها أذانا موافقا لدخول الوقت لأنّه الموجب للصلاة والتعليق بالأذان لكونه من لوازمه ، والمراد بها صلاة الجمعة باتّفاق المفسّرين ، ومقتضى ذلك أنّ الصلاة لو وقعت قبل دخول الوقت لم تجز لعدم تعلّق الأمر بها ، وخالف مالك هنا فجوّز فعلها قبل دخول الوقت حتّى قال بعض أصحابه : إنّ وقتها وقت صلاة العيد ، وهو ضعيف جدّا لظاهر الآية ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : صلّوا كما رأيتموني أصلّي (١) ولم يعهد منه صلى‌الله‌عليه‌وآله صلوتها إلّا بعد الزوال ، والأذان المعتبر لها عندنا إذا جلس الإمام على المنبر يوم الجمعة قال الطبرسي في مجمع البيان : وذلك لأنّه لم يكن على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نداء سواه قال السائب بن يزيد (٢) : كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مؤذّن واحد بلال ، فكان إذا جلس على المنبر أذّن على باب المسجد فإذا نزل أقام للصلاة. ثمّ كان أبو بكر وعمر كذلك حتّى إذا كان عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد مؤذّنا آخر يؤذّن على سطح دار له بالسوق يقال له : الزوراء ، وكان يؤذّن له عليها فإذا جلس عثمان على المنبر أذّن مؤذّنه الثاني فإذا نزل أقام للصلاة فكان ذلك بدعة له.

(مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) بيان لإذا ، وتفسير له ، كذا في الكشّاف ، وقد يقال : اليوم أعمّ من وقت النداء والعامّ لإبهامه لا يصير بيانا ظاهرا فالأولى أن تكون من للتبعيض ، ويحتمل كونها زائدة وكونها بمعنى في وهما أوفق بالمقصود.

(فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) فامضوا إليه مسرعين على القصد غير متثاقلين فإنّ السعي دون العدو قال ابن مسعود : لو علمت الإسراع لأسرعت حتّى يقع ردائي عن كتفي ، وقال الحسن : ما هو السعي على الأقدام ، وقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلّا وعليهم السكينة والوقار ولكن بالقلوب والنيّة والخشوع وقيل : المراد امضوا واذهبوا إلى السعي الّذي

__________________

(١) قد مر مصادر الحديث في ص ٢٠٨ من هذا الجزء.

(٢) انظر البحار ج ١٨ ص ٧١٤ والدر المنثور ج ٦ ص ٢١٥ واسد الغابة ج ٢ ص ٢٥٨ والكشاف ج ٣ ص ٢٣٠ وليس في الكشاف نسبته إلى السائب بن يزيد ، وانظر أيضا نيل الأوطار ج ٣ من ص ٢٧٨ إلى ٢٨٠ وفيه مصادر الحديث ، وألفاظه المختلفة.

٢٥٩

هو الإسراع ، ويؤيّده قراءة عبد الله بن مسعود (١) فامضوا إلى ذكر الله.

وروى ذلك عن علىّ عليه‌السلام وابن عبّاس وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام وأبي عبد الله عليه‌السلام فلا ينافي ذلك كون المستحبّ المضي على سكينة ووقار ، ولعلّ الوجه في التعبير بالسعي الّذي يفيد المبالغة في الذهاب التنبيه على الاعتناء بشأن الفعل ، وأنّه ينبغي أن يبادر إليها بلا توان ، ويؤيّده ما رواه جابر بن يزيد عن أبي جعفر (٢) قال : قلت له قول الله عزوجل (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) قال : اعملوا وعجّلوا فإنّه يوم مضيّق ، وذكر الله الصلاة نفسها.

وقيل : الخطبة ، وفي الآية دلالة على وجوب صلاة الجمعة لمكان الأمر بالسعي إليها الدالّ على الوجوب ، ويؤكّده قوله :

(وَذَرُوا الْبَيْعَ) قيل : المراد المعاملة على الإطلاق.

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي السعي إلى ذكر الله خير لكم من المعاملة فإنّ نفع الآخرة خير وأبقى من نفع الدنيا.

(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الخير والشرّ الحقيقيين أو إن كنتم من أهل العلم ، وإنّما خصّ البيع لأنّ فعله كان أكثر لما قيل : إنّهم كانوا يهبطون إلى المدينة من سائر القرى لأجل البيع والشراء ، وظاهر الآية يقتضي وجوب السعي بعد النداء على الفور لا من جهة الأمر لعدم دلالته على الفور كما حقّق في محلّه بل من جهة أنّ الأمر بترك البيع والسعي إلى الصلاة قرينة إرادة المسارعة فيكون كلّما نافاها منهيّا عنه.

وفيه نظر لأنّ البيع حقيقة في المعاوضة الخاصّة ، ويجب حمل اللفظ على

__________________

(١) انظر الروايات في قراءة فامضوا في الدر المنثور ج ٦ ص ٢١٩ وفتح القدير ج ٥ ص ٢٢٣ والمجمع ج ٥ ص ٢٨٨.

(٢) رواه في الكافي باب فضل الجمعة وليلته الحديث ١٠ وهو في المرآة ج ٣ ص ١٦٢ وفي التهذيب ج ٣ ص ٢٣٦ الرقم ٦٢٠ وهو في الوافي الجزء الخامس ص ١٦٢ وللحديث تتمة لم يذكرها المصنف.

٢٦٠