مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ١

جواد الكاظمي

مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ١

المؤلف:

جواد الكاظمي


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٦

قاله الشيخ في التبيان (١).

(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) ترتيل القرآن قرائته على ترسل ، وتؤدة بحيث يتبيّن الحروف وتشبع الحركات حتّى يجيء المتلوّ منه شبيها بالثغر المرتل ، وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام بيّنه تبيانا ، ولا تهذّه هذّ الثغر ، ولا تنثره نثر الرمل ولكن أقرع به القلوب القاسية ، ولا يكوننّ همّ أحدكم آخر السورة ، وعن ابن عبّاس لإن أقرء البقرة أرتلها أحبّ إليّ من أن أقرء القرآن.

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) وهو القرآن لما فيه من الأوامر والنواهي الّتي هي تكاليف شاقّة ثقيلة على المكلّفين ، وخاصّة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّه متحمّلها لنفسه ، ومحملها لأمّته فهي أثقل عليه وأبهظ له.

(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) هي النفس الناشئة بالليل الّتي تنشأ من مضجعها إلى العبادة أي تنهض وترفع من نشأت السحابة : إذا ارتفعت. ونشأ من مكان : إذا نهض ، وعن أبي عبد الله عليه‌السلام هي قيام الرجل عن فراشه لا يريد إلّا الله (٢) ، وعن عبيد قلت لعائشة : رجل قام من أوّل الليل أتقولين له : قام ناشئة من الليل؟ قالت : لا إنّما الناشئة القيام بعد النوم (٣) ، وقيل : هي العبادة الّتي تنشأ بالليل : أي تحدث ، وقيل : هي ساعات الليل كلّها لأنّها تحدث واحدة بعد اخرى ، وقيل : الساعات الأول منها من نشأت إذا ابتدءت ، وعن الحسن كلّ صلاة بعد العشاء فهي ناشئة الليل ، وعن عليّ بن الحسين عليه‌السلام أنّه كان يصلّى بين المغرب والعشاء ، ويقول : هذه ناشئة الليل (٤)

__________________

(١) انظر التبيان ج ٢ ص ٧٢١ ط إيران

(٢) انظر المجمع ج ٥ ص ٣٧٨.

(٣) انظر الكشاف ج ٣ ص ٢٨١.

(٤) انظر الكشاف ج ٣ ص ٢٨١ واللفظ فيه عن على بن الحسين ـ رضى الله عنهما ـ أنه كان يصلى بين المغرب والعشاء ويقول : أما سمعتم قول الله تعالى (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) هذه ناشئة الليل ، وانظر أيضا الدر المنثور ج ٦ ص ٢٧٨ وفيه وأخرج ابن نصر والبيهقي عن على بن الحسين قال : ناشئة الليل قيام ما بين المغرب والعشاء ، وأخرج ابن المنذر عن حسين بن على. أنه رئي يصلى ما بين المغرب والعشاء. فقيل له في ذلك فقال : إنها من الناشئة.

٢٢١

ولم يثبت فلعلّ المراد عدم اختصاص الناشئة بالساعات الأول بل هي مطلق الساعات أو القيام في مطلقها.

(هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) أي مواطأة يواطئ القلب فيها اللسان أو أشدّ موافقة لما يراد من العبادة والإخلاص والخشوع ، وقيل : أشدّ موافقة بين السرّ والعلانية لانقطاع رؤية الخلائق.

(وَأَقْوَمُ قِيلاً) وأسند مقالا وأثبت قراءة لهذه الأصوات. وقرأ الإنس وأصوب قيلا ، وقال : إنّهما واحد.

(إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) تصرّفا وتقلّبا في مهماتك فلا تفرغ كما ينبغي لعبادتك ومناجاة ربّك الّتي تقضى فراغ البال إلّا بالليل فاجعله لذلك لتفوز عن الدنيا والآخرة وقيل : إن فاتك من الليل شيء فلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) ودم على ذكره في ليلك ونهارك ، وأحرص عليه وذكر الله يتناول كلّما كان من ذكر وتسبيح وتهليل وتكبير وتمجيد وتوحيد وصلاة وتلاوة قرآن ودراسة علم ، وغير ذلك ممّا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله استغرق به ساعات ليله ونهاره كذا في الكشّاف.

وقد يستدلّ على وجوب البسملة ، وقيل : المراد به الدعاء بذكر أسمائه الحسنى كقوله تعالى (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) ففيه دلالة على جواز الدعاء في جميع الحالات وفي الصلاة للدين ووالدين ولإخوانه المؤمنين ولشخص بعينه.

(وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) انقطع إليه ، وإنّما لم يقل تبتلا لأنّ معنى تبتل بتل نفسه فجيء به على معناه مراعاة لحقّ الفواصل ، وروي محمّد بن مسلم وحمران بن أعين عن الصادق عليه‌السلام أنّ التبتّل هنا رفع اليدين في الصلاة (١) وفي رواية أبي بصير قال : هو رفع يديك إلى الله ، وتضرّعك إليه (٢)

منها : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ

__________________

(١) انظر المجمع ج ٥ ص ٣٧٩.

(٢) انظر المجمع ج ٥ ص ٣٧٩.

٢٢٢

وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١).

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) أي أقلّ منه استعار الأدنى للأقل لأنّ الأقرب إلى الشيء أقلّ بعدا منه.

(وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) بالنصب على قراءة ابن كثير والكوفيّين عطفا على أدنى ، وقرء الباقون بالجرّ عطفا على ثلثي الليل. قال أبو عبيدة : الاختيار الخفض في ثلثه ونصفه لأنّه قال (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) فكيف تقدرون على أن تقوموا نصفه وثلثه وهم لا يحصونه وقال غيره : ليس المعنى على ما قال : وإنّما المعنى علم أن لن تطيقوه يعنى قيام الليل فخفّف ذلك. قال : والاختيار النصب ، ولم يتعرّض الشيخ في مجمع البيان لترجيح أحد القولين.

(وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) وتقوم ذلك جماعة من أصحابك ، ونقل في التبيان رواية عن الحاكم أبو القاسم إبراهيم الحسكانى بإسناده عن ابن عبّاس أنّه كان عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأبا ذرّ (٢).

__________________

(١) المزمل ٢٠.

(٢) هكذا في جميع النسخ المخطوطة عندنا ، وفي المجمع ج ٥ ص ٣٨١ والذي يروى عنه في المجمع كما في ج ٢ ص ٢١٠ تفسير الآية (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) وص ٢٢٣ تفسير الآية (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) بتوسط السيد أبى الحمد مهدي بن نزار الحسنى القائني إنما هو عبيد الله ـ

٢٢٣

(وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يعلم مقادير ساعاته كما هي ، وفي تقديم الاسم مبتدا وبناء الفعل عليه يشعر بالاختصاص : أي لا يعلم مقادير ساعاتهما كما هي إلّا الله فيعلم المقدار الّذي يقومون فيه.

(عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أي علم أنّكم لا تطيقون إحصاء الوقت المقدّر ولا ضبط ساعاته ، وقيل معناه : لن تطيقوا المداومة على قيام الليل ويقع منكم التقصير فيه.

(فَتابَ عَلَيْكُمْ) وخفّف عنكم القيام المقدّر ورخّص لكم في تركه بحيث لا تبعة عليكم فيه.

__________________

ـ بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن حسكان القرشي العامري النيسابوري القاضي المحدث الحاكم يعرف بابن الحذاء ترجم له في معالم العلماء ص ٧٨ الرقم ٥٢٨ : قال له : كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفصيل حسن خصائص على بن أبى طالب في القرآن مسئلة في تصحيح رد الشمس وترغيم النواصب الشمس ، وترجمه الآيتى في علماء قاين ص ٣ وقال يروى عنه هذا السيد الجليل (سيد مهدي بن نزار) فحل عظيم من علماء الشيعة كما تشهد به كتبه والحاكم باصطلاح أهل الدراية من أحاط حفظ بجميع الأحاديث ، والحجة من يحفظ ثلاثمائة ألف حديث ، والحافظ من يزيد على مائة ألف حديث ، وحسكان كغضبان وزنا ومعنى في نسبه ونسب جماعة من النيسابوريين ، وترجمة أيضا في الذريعة ج ١٤ ص ٢٤٢ الرقم ٢٣٨١ وفيه عن رياض العلماء إن كتابه تصحيح رد الشمس كان موجودا عند الفاضل الهندي ، والعلامة المجلسي ويروى فيه عن تفسير فرات الكوفي ، وينقل عنه في البحار ، وفيه أيضا أنه كان معاصرا للشيخ الصدوق الدوريستي وترجمه الذهبي أيضا في ص ١٢٠٠ وأثنى عليه وقال شيخ : متقن ذو عناية تامة بعلم الحديث وهو من ذرية الأمير عبد الله بن عامر كريز الذي افتتح خراسان زمن عثمان وكان معمرا عالي الاسناد وقد أكثر عنه المحدث عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي ، وذكره في تاريخه لكن لم أجده ذكر له تاريخ وفاة ، وقد توفي بعد السبعين وأربعمائة ، ووصفه أولا بالحنفى ثم قال في آخره ، ووجدت له مجلسا يدل على تشيعه وخبرته بالحديث ، وهو تصحيح خبر رد الشمس لعلي ـ رضى الله ـ عنه ـ وترغيم النواصب الشمس.

فالمناسب لكون صاحب المجمع الراوي لحديث نزول (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) عن الحسكانى كونه عبيد الله بن عبد الله الذي له كتاب خصائص على بن أبى طالب في القرآن ، ولعل إبراهيم تصحيف من الناسخين وعلى أى فليس عندي الان من إبراهيم الحسكانى الحاكم المكنى بأبى القاسم ترجمة.

٢٢٤

(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) فصلّوا ما تيسّر عليكم من صلاة الليل عبّر عن الصلاة بالقراءة كما عبّر عنها بسائر أجزائها قال الشيخ في التبيان : وفي الناس من قال : هذه الآية ناسخة لما ذكره في أوّل السورة من الأمر الحتم بقيام الليل إلّا قليلا أو نصفه أو انقص منه ، وقال آخرون : إنّما نسخ ما كان فرضا إلى أن صار نفلا ثمّ قال وقد قلنا : إنّ الأمر في أوّل السورة على وجه الندب فكذلك هنا فلا وجه لتنافي الموضعين حتّى ينسخ بعضها ببعض انتهى كلامه ، وهو من الجودة بمكان ويكون علّة التخفيف ما ذكره من تعبير ضبط أوقات الليل وقوله :

(عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) استيناف لبيان حكمة أخرى مقتضية للتخفيف.

(وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي يسافرون للتجارة وتحصيل العلم أو الحجّ أو الزيارات وصلة الأرحام وكلّما كان لله تعالى من المشي والسفر في الأرض.

(وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) وهو عذر آخر فإنّ المقاتلة تمنع من الصلاة بالليل فكلّ واحد ممّا ذكر عذر للتخفيف ، ومن ثمّ رتّب الحكم وهو التخفيف عليه بقوله :

(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) من القرآن وو المراد صلّوا ما أردتم وأحببتم على ما تقدّم.

وقيل : إنّ المراد بقراءة ما تيسّر من القرآن هي القراءة نفسها استحبابا لا وجوبا فإنّ قراءة القرآن مستحبّة مطلقا خصوصا في الليل ، وقد تواتر بذلك الأخبار من طرق العامّة والخاصّة ، ويحتمل الوجوب نظرا إلى وجوبها على الكفاية لبقاء الأحكام وحفظ المعجز وأدلّة أصول الدين.

وفيه نظر. إذ قد يلغوا قيد ما تيسّر على ذلك التقدير. فتأمّل ، وعلى الاستحباب فما القدر المستحبّ. قال في مجمع البيان : اختلفوا في القدر المستحبّ (١) المراد

__________________

(١) انظر المجمع ج ٥ ص ٣٨٢.

٢٢٥

بهذه الآية ، فقال سعيد بن جبير : خمسون آية ، وقال ابن عبّاس : مائة آية ، وعن الحسن من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجّه القرآن وقال كعب : من قرأ مأة آية في ليلة كتب من القانتين ، ولا يبعد أن يكون المراد ما يصدق عليه ، وما تيسّر ، وكلّما أراد فهو حسن. فإنّ زيادة الخير خير ، وما ورد من المقدار في الأخبار يحمل على التأكيد ، وروي عن الصادق أنّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين ، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين ومن قرأ مأتي آية كتب من الخاشعين ، ومن قرأ ثلاث مائة آية كتب من الفائزين ، ومن قرأ خمسمائة آية كتب من المجتهدين ، ومن قرأ ألف آية كتب له قنطار من برّ ، والقنطار : خمسة عشر ألف مثقال من الذهب. والمثقال : أربعة وعشرون قيراطا أصغرها مثل جبل احد ، وأكبرها ما بين السماء والأرض (١) ونحو ذلك من الأخبار الواردة في ذلك ، وينبغي أن يكون القراءة من المصحف وإن كان حافظا كما دلّ عليه ما روي عن الصادق عليه‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : ليس شيء أشدّ على الشيطان من القراءة في المصحف نظرا (٢) ، وقال إسحاق بن عمّار : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ، جعلت فداك إنّي أحفظ القرآن على ظهر قلبي فأقرأه على ظهر قلبي أفضل أو أنظر في المصحف قال : اقرأه وانظر في المصحف فهو أفضل أما علمت أنّ النظر في المصحف عبادة (٣) ونحوها من الأخبار.

__________________

(١) هكذا ضبط النسخ المخطوطة عندنا ، والصحيح عن أبى جعفر ، والحديث في الكافي باب ثواب قراءة القرآن الحديث ٥ وهو في مرآت العقول ج ٢ ص ٥٣٢ وفي الوسائل الباب ١٧ من أبواب قراءة القرآن الحديث ٢ ص ٣٧٢ ط أمير بهادر.

(٢) انظر الوسائل الباب ١٩ من أبواب قراءة القرآن الحديث ٢.

(٣) رواه في الكافي باب قراءة القرآن في المصحف الحديث ٥ وهو في المرآة ج ٢ ص ٥٣٢ وفي الوسائل الباب ١٩ من أبواب قراءة القرآن الحديث ٤.

٢٢٦

(النوع الثامن)

(في أحكام متعددة تتعلق بالصلاة)

وفيه آيات :

الاولى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) (١).

(إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ) هي في الأصل مصدر حيّاك الله على الاخبار من الحيوة ثمّ استعمل للحكم والدعاء بذلك ثمّ قيل : لكلّ دعاء ، وأصلها تحيية نقلت كسرة الياء إلى ما قبلها ، وأدغمت ، وإنّما قال : بتحيّة بالباء لأنّه لم يرد المصدر ، وإنّما أراد نوعا من التحايا ، والتنوين فيها للنوعيّة ، وقد غلبت في السلام بل هو معناه المتبادر منها لأنّ المسلم إذا قال : سلام عليك فقد دعا للمخاطب من كلّ مكروه والموت من أشدّ المكاره فدخل تحت الدعاء على أنّ كلّ مكروه هو منغّص للحياة يكدّر لها فتدخل تحت الدعاء.

(فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) مقتضى الآية وجوب الردّ إمّا بالأحسن ، وهو أن يزيد عليه وهو رحمة الله. فإن قاله المسلّم راد وبركاته وهي النهاية في الأحسن لاستجماعها أقسام المطالب السالمة عن المضارّ وحصول المنافع وثباتها ، وإمّا بردّ مثله لما روي أنّ رجلا دخل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : السلام عليك. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : وعليك السلام ورحمة الله فجاءه آخر فقال : السلام عليك ورحمة الله. فقال : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. فجاءه آخر ، وقال السلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال : وعليك فقال الرجل : نقصتنى فأين ما قال الله وتلي هذه الآية. فقال : إنّك لم تترك لي فضلا فرددت

__________________

(١) النساء ٨٥.

٢٢٧

عليك مثله كذا في الكشّاف والبيضاوي (١).

ثمّ إنّ ظاهر الأمر وإن كان هو الوجوب العيني ، لأنّ الحكم متعلّق بكلّ واحد من المكلّفين لكن الإجماع منعقد على أنّه إذا سلّم على جماعة سقط الوجوب بردّ من كان داخلا في المسلّم عليهم أيّ واحد كان منهم بعد أن يكون ردّه معتبرا في الشرع.

ولعلّ الوجه في ذلك أنّه إنّما سلّم سلاما واحدا فليس له إلّا عوض واحد وحينئذ فيكون الوجوب كفاية بالنسبة إلى الجماعة المسلّم عليهم كما صرّح به جماهير من المفسّرين فيسقط بردّ البعض ، ولا ينافي ذلك وجوبه عينا في بعض الأحيان ، وعلى هذا فلو ردّ من لم يكن داخلا في المسلّم عليهم لم يسقط الوجوب عنهم لتعلّق الوجوب بهم وعدم ما يوجب سقوطه ، وكذا لو كان الرادّ غير البالغ وإن كان من جملتهم لعدم تعلّق الوجوب به فهو بمثابة العدم ، ويحتمل الاكتفاء بردّه على تقدير كونه منهم ، وفيه نظر ، ولو سلّم غير البالغ المميّز على المكلّف فالظاهر وجوب الردّ هنا على المكلّف لعموم الآية.

وقيل : لا يجب هنا لعدم كونه مكلّفا ولا أفعاله شرعيّة ، والظاهر من الآية المكلّفون ، ولو قلنا : إنّ أفعاله شرعيّة احتمل الوجوب قويّا.

وفيه نظر ومقتضى الأمر وجوب الردّ في جميع الأحوال سواء كان في الصلاة أو غيرها ، ويؤيّد ذلك الأخبار الواردة في السلام للمصلّي كصحيحة محمّد بن مسلم قال : دخلت على أبي جعفر عليه‌السلام وهو في الصلاة فقلت : السلام عليك. فقال : السلام عليك. فقلت : كيف أصبحت؟ فسكت فلمّا انصرف قلت له : أيردّ السلام وهو في الصلاة؟ فقال : نعم مثل ما قيل له (٢) ، ورواية سماعة عن الصادق عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل

__________________

(١) انظر الكشاف ج ١ ص ٤١٣ والبيضاوي ط المطبعة العثمانية ١٣٠٥ ص ١٢٠ وروى قريبا من مضمونه في المجمع ج ٢ ص ٨٥.

(٢) انظر التهذيب ج ٢ ص ٣٢٩ الرقم ١٣٤٩ وهو في الجامع ج ٢ ص ٤٢٠ الرقم ٣٨٥٧.

٢٢٨

يسلّم عليه وهو في الصلاة قال يردّ (١) ونحوها من الأخبار ، وأوجب الشافعي الردّ بالإشارة.

وقال أبو حنيفة : لا يردّ عليه وتبطل إذا ردّ ، وقال النخعي والثوري : يردّ بعد فراغه ، ونقله العامّة عن أبي ذرّ ، وهي أقوال ضعيفة مخالفة لظاهر القرآن ، وعدم صلاحيّة ما ذكروه لتخصيصه لعموم قوله تعالى (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) وفي الذكري روي البزنطي في سياق أحاديث الباقر عليه‌السلام إذا دخلت المسجد والناس يصلّون فسلّم عليهم ، وإذا سلّم عليك فاردد فإنّي أفعله وإنّ عمّار بن ياسر مرّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يصلّى فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، وردّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) وهل يكره ابتداء السلام على المصلّى قيل : نعم لأنّه ربّما شغله عن القيام بالواجب إذا ردّ أو ترك الواجب إذا لم يردّ ، وفي بعض الأخبار أنّه لا يسلّم على الرجل وهو في الصلاة ، ولا يبعد حمل الكراهة على الأقلّ ثوابا جمعا بين الأدلّة.

وقال البيضاوي : لا يردّ في الخطبة وقراءة القرآن وفي الحمام وقضاء الحاجة ، وعلى هذا علماء العامّة ، وفيه بعد ، ولعلّهم لا يرون مشروعيّة السلام في هذه المواضع فلا يجب الردّ ، وهو غير واضح الوجه بل الظاهر عموم المشروعيّة في جميع هذه المواضع حتّى يحصل المانع فيجب الردّ فيها نعم ثواب ابتداء السلام في هذه المواضع أقلّ من غيرها وهو لا ينافي وجوب الردّ بعد ظهور العموم من الآية ، ومن ثمّ قيل : يجب ردّ السّلام على الأجنبيّة مع القول بالتحريم. فتأمّل ، ولو حيّا بغير السلام كالصباح أو المساء ونحوهما لم يجب الردّ فيهما لعدم تبادر مثلها عن لفظ التحيّة ، لأنّ مثله تحيّة الجاهليّة والإسلام نسخه ، ولو قال : السلام فقط فالظاهر وجوب الردّ لكونه متعارفا في التحيّة ولظاهر قوله (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ويحتمل العدم للأصل وهو بعيد ، وحيث يردّ و

__________________

(١) رواية سماعة هي عين رواية عثمان بن عيسى الاتية سقط في التهذيب لفظ سماعة ، وسيتضح لك.

(٢) انظر الجامع ج ٢ ص ٤٢١ الرقم ٣٨٦٥ عن الذكرى.

٢٢٩

هو في الصلاة فهل يجوز الردّ بغير سلام عليكم ولو سلّم المسلّم على المصلّى به كأن يقول : عليكم السلام الأكثر على المنع منه نظرا إلى أنّه كلام ليس من القرآن فلا يجوز في الصلاة وإن جاز في غيرها ، ويؤيّده قول الصادق عليه‌السلام في رواية عثمان بن عيسى (١) وقد سأله عن الرجل يسلّم عليه في الصلاة فيقول : سلام عليكم ولا يقول : وعليكم السلام. الحديث.

والأظهر الجواز كما اختاره ابن إدريس خصوصا مع تسليم المسلّم به لعموم الآية والصحيحة السابقة ، ورواية عثمان بن عيسى ضعيفة (٢) ، وكذا لا فرق بين التعريف و

__________________

(١) انظر الجامع ج ٢ ص ٤٢١ الرقم ٣٨٦٣ عن الكافي والتهذيب ، وهو في المرآة ج ٣ ص ١٤٧ ووصفه المجلسي بالموثق ، وفي التهذيب ج ٢ ص ٣٢٨ الرقم ١٣٤٨ وهكذا في الكافي محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن عثمان بن عيسى عن سماعة عن أبى عبد الله قال : سألته عن الرجل يسلم عليه وهو في الصلاة قال ، يرد يقول : سلام عليكم ، ولا يقول : عليكم السلام فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قائما يصلى فمر به عمار بن ياسر فسلم عليه فرد عليه النبي (ص) هكذا ، وليس في التهذيب ذكر سماعة ، ولعل نسخة الكافي أصح لأن عثمان لا ينقل عن أبى عبد الله. انظر كتب الرجال في ذلك.

(٢) فان في سند الحديث سماعة وهو واقفي كما قد عرفت في ص ٦٤ من هذا الجزء وما نقله النجاشي في ص ١٤٦ ط المصطفوى موته في حيوة الامام الصادق لا يلائم ما نرى من رواية ابن أبى عمير وابن محبوب وابن سنان وابن فضال والبزنطي وصفوان ويونس عنه في الكافي والتهذيب ، ومع ذلك فان توقف أحد في توقف سماعة فلا أظن أحدا يرتاب في كون عثمان بن عيسى واقفيا بل لعله يعد من المتواترات وعليك بمراجعة رجال ابن داود ص ٤٧٦ ورجال الكشي ص ٤٩٩ ط النجف ورجال النجاشي ٢٣١ ورجال الشيخ ص ٣٥٥ و ٣٨٠ وفهرسته ص ١٤٦ والعدة الشيخ ص ٦١ والغيبة ط تبريز ١٣٢٤ ص ٤٦ وكتاب المقالات والفرق لسعد بن عبد الله الأشعري القمي ص ٩٣ وسائر كتب الرجال والتاريخ والفرق نعم لعله يستشم من رجال النجاشي والكشي رجوعه وتوبته ، والظاهر من كتب الشيخ من العدة والغيبة والفهرست والرجال بقائه على الوقف ، وكذا رجال ابن داود ليس فيه ذكر رجوعه.

ثم الحق ما اختاره المصنف من الحكم بضعف الحديث ، وأما توثيق المجلسي للحديث فإنما هو لتوهم وقع لكثير من الاعلام فظنوا أن الشيخ ـ قدس‌سره ـ ادعى الإجماع على العمل بروايات عدة ، ممن ـ

٢٣٠

التنكير ، ويجوز سلام الله وسلامي ، ولو قال : سلام عليكم بزيادة الميم اعتبر في الردّ ذلك أيضا ، وممّا ذكرنا يظهر أنّه لو ردّ بقوله : سلام عليكم لم يجب أن يقصد به القرآن للإطلاق ، ولتجويز غيره ممّا لا يتصوّر فيه القرآن كما عرفت ، وحيث يجب الردّ فالظاهر أنّه فوريّ على ما يظهر من كلامهم ، وبه تشعر الفاء فلو ترك أثم ، وبقي في ذمّته كسائر الحقوق ، ولو كان في الصلاة قيل : تبطل لتحقّق النهي المقتضي للفساد ، وفيه أنّ النهي هنا عن أمر خارج عن الصلاة فلا يؤثّر في البطلان ، ولا يبعد أن يقال : إن كان في وقت وجوب الردّ مشغولا بشيء من أذكار الصلاة الواجبة كالقراءة ونحوها بطلت لتحقّق النهي عنه وهو يقتضي الفساد ، وفيه أنّ ذلك فرع أنّ الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه الخاصّ ودون إثباته خرط القتاد.

لا يقال : سلّمنا الفوريّة ولكنّ الموالاة في الصلاة خصوصا بين أجزاء القراءة واجبة فورا أيضا فلا نسلّم وجوب تقديم الردّ.

__________________

ـ كانوا من غير الإمامية مثل سماعة وعمار وعثمان والسكوني وغيرهم ممن سردهم في العدة وليس كذلك فان من تعمق عبارة الشيخ في العدة ص ٦٠ وص ٦١ ط إيران ١٣١٧ يذعن بأنه ـ قدس‌سره ـ لا يجوز العمل بخبر غير الإمامي إلا إذا لم يكن في المسئلة خبر إمامى ، ولم يعرض عن خبره الطائفة فلا يعمل بخبر هؤلاء بنحو مطلق بل منع في موضع آخر العمل بما تفردوا به مطلقا ، انظر ص ٥٥.

ففيه : أن جميع ما يرويه هؤلاء إذا اختصوا بروايته لا يعمل به ، وإنما يعمل به إذا انضاف إلى روايتهم رواية من هو على الطريقة المستقيمة والاعتقاد الصحيح وحينئذ فيجوز العمل به ، وأما إذا انفرد فلا يجوز ذلك فيه على حال فمع ذلك كيف ينسب إلى الشيخ ادعاء الإجماع على العمل بمن سرده مثل سماعة وعثمان وغيره ويحكم لمثل هذا الحديث بالوثوق؟

ثم الواقفية والواقفة عند الإمامية فرقة من فرق الشيعة. وهم الذين وقفوا على الامام موسى الكاظم ولم يقولوا : بامامة من بعده من المعصومين ، وقالوا : إن الامام الكاظم هو المهدي المنتظر انظر البحار ج ١١ من ص ٣٠٨ إلى ص ٣١٤ وج ١٢ ص ٧٩ وغيبة الطوسي من ص ٢١ إلى ص ٥٠ وفرق الشيعة للنوبختى ص ٦٨ وكتاب المقالات والفرق لسعد بن عبد الله الأشعري وغيرها من كتب الرجال والدراية والفرق والتاريخ.

ومن عجيب الاشتباه والخطاء ما وقع للأستاذ أبي زهرة في كتاب الامام الصادق فإنه فسر ـ

٢٣١

لأنّا نقول : تقديم الردّ قد علم وجوبه من الروايات على أنّ الأصل عدم اعتبار الموالاة بحيث ينافي الردّ مع الوجوب فورا ثمّ لا يخفى أن ما اشتغل به من غير الردّ إنّما تبطل به الصلاة إذا وصل إلى حدّ يدخل تحت المبطلات كأن يكون كلاما بحرفين أو حرفا مفهما من غير الأجزاء الواجبة للصلاة أو من الواجبة ولو حرفا غير مفهم ولم يتدارك أو فعلا كثيرا أو قليلا مع عدم التدارك.

وهل يجب في الردّ الإسماع ظاهرهم نعم إلّا أنّ الدليل عليه غير واضح ، وفي صحيحة منصور على ما في الفقيه عنه عليه‌السلام قال : إذا سلّم على الرجل وهو يصلّى يردّ عليه

__________________

ـ كلمة الواقفية المذكورة في كلام صاحب القوانين في ذيله ص ٤٧٩ بأنهم الأخباريون الذين يقفون عند الاخبار ولا يتجاوزونها بالاجتهاد أى هم مقابل الأصوليين ، وقسم الإمامية في ص ٤٨٢ في أول مبحث العقل إلى فريقين فريق يقف عند النصوص المروية عن الأئمة لا يعدوها ويتوقف فيما وراءها ، وقد يسمون الواقفية لأنهم يقفون ولا يجتهدون فيما وراء الأخبار المروية عن الأئمة والفريق الثاني : الأصوليون الذين يجتهدون ويستبطون ولا يقفون عند الاخبار بل يبنون عليها ويجتهدون فيما لا نص فيه.

وقد عرفت معنى الواقفية والواقفة عند الشيعة فكان اللازم على الأستاذ أبي زهرة مراجعة كتب الشيعة حتى لا يقع في هذا الخطاء بل الظاهر أنه لم يراجع حتى كتب أهل السنة أيضا وإلا فهذه التسمية لهذه الفرقة مذكورة في كتبهم أيضا انظر مقالات الاسلاميين للأشعري ج ١ ص ١٠٠ والملل والنحل بهامش الفصل ج ٢ ص ٤ والحور العين لنشوان الحميري ص ١٦٤ تراهم يقولون : إن الفرقة التي قالت : إن موسى بن جعفر لم يمت ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلا ، وأنه القائم المنتظر تسمى الواقفة أو الواقفية لأنهم وقفوا على موسى بن جعفر ولم يجاوزوه غيره ، وتسمى أيضا الممطورة لأن رجلا منهم ناظر رجلا من القطعية فقال له : لأنتم أنتن أو أهون على من الكلاب الممطورة فلزمهم هذا اللقب.

وقد نبهناك بما لا مزيد عليه في تعليقاتنا على كنز العرفان من ص ٣٥٩ إلى ٣٦٤ ج ٢ أن الأستاذ أبا زهرة ليس له كثير اطلاع بمذاهب أهل السنة وأقوالهم وأخبارهم فمع ذلك كيف يرضى لنفسه أن يقضى في حق الشيعة وأهل مكة أعرف بشعابها فالأخطاء الصادرة منه في الكتاب إنما نشأت عن قلة باعه وعدم السعة في اطلاعه فحرى أن ينشد له البيت المعروف بالفارسية ـ

٢٣٢

خفيّا كما قال (١) ، ونحوها رواية عمّار عن الصادق عليه‌السلام قال : ردّ عليه فيما بينك وبين نفسك ولا ترفع صوتك (٢).

قال في الذكرى : وهما مشعران بعدم اشتراط إسماع المسلّم ، والأقرب اشتراط إسماعه ليحصل قضاء حقّه من السلام ، وحملها في التذكرة على التقيّة فقال : لو اتّقى ردّ فيما بينه وبين نفسه تحصيلا لثواب الردّ وتخلّصا من الضرر.

وقد يستدلّ عليه بأنّه لو لم يجب الإسماع في الصلاة لم يجب في غيرها أيضا بطريق أولى.

وفيه نظر فإنّ مقتضى الدليل الجواز إلّا أن يكون وجوب الإسماع إجماعيّا فيجب المصير إليه ، وتأوّل الأدلّة. فتأمّل ، ولو ردّ المصلّى بعد قيام مكلّف آخر به قال في الذكرى : لم يضرّ لأنّه مشروع في الجملة ، ثمّ توقّف في استحبابه كما في غير الصلاة ، ولا يبعد القول باستحبابه لعموم الأوامر إذ لا شكّ أنّه سلّم عليه مع دخوله في العموم فيخاطب بالردّ استحبابا إن لم يكن واجبا ، وزوال الوجوب الكفائي لا يقدح في بقاء الاستحباب كما في غير الصلاة. فإنّ استحباب ردّ الثاني متحقّق اتّفاقا إن لم يوصف بالوجوب معلّلا بالأوامر ، ولو اشترطنا في جواز الردّ قصد القرآن كما يظهر من الشيخ أو علّلنا جوازه في الصلاة بأنّه قرآن صورة وإن لم يقصد به كما ذكره بعض الأصحاب فلا إشكال في جواز الردّ بعد سقوط الوجوب. فتأمّل هذا.

__________________

أى مگس عرصه سيمرغ نه جولانگه تو است

عرض خود مى برى وزحمت ما مى دارى

ولا ملازمة بين كون شخص استاذا وكونه ذا وقوف وبصيرة كيف ونرى كثيرا من الاساتذة ليس له ادنى حظ من العلم والمعرفة سوى اقتناء هذا العنوان.

وما كل ممشوق القوام بثينة

ولا كل مفتون الغرام جميل

وكثير ممن يغبطه الاعلام لوفور علمه وسعة اطلاعه ينتقص حقه.

كما سامحوا عمرا بواو زيادة

وضويق بسم الله في ألف الوصل

(١) هذا اللفظ للفقيه ج ١ ص ٢٤٠ الرقم ١٠٦٥ وقريب منه ما في التهذيب ج ٢ ص ٣٣٢ الرقم ١٣٦٦ وانظر الجامع ج ٢ ص ٤٢٠ الرقم ٣٨٦٠.

(٢) انظر التهذيب ج ٢ ص ٣٣١ الرقم ١٣٦٥ والفقيه ج ١ ص ٢٤٠ الرقم ١٠٦٤ وهو الجامع ص ٤٢٠ الرقم ٣٨٦١.

٢٣٣

وربّما قيل في الآية : إنّ الردّ بالأحسن للمسلمين ، والردّ بالمثل لأهل الذمّة وهو بعيد لكونه خلاف الظاهر فإنّ ظاهر الآية اختصاصه بالمسلمين. إذ لا يحسن التحيّة للكفّار بوجه بل يجب بغضهم وعدم محبّتهم فإنّهم ممّن حارب الله ورسوله فلا يجوز مودّتهم بتحيّة ولا بغيرها ، وما أجازه بعض العامّة من البدأة بالتسليم عليهم بعيد لا وجه له ، وفي الآية وجهان آخران :

أحدهما : حمل التحيّة على السلام وغيره من أنواع البرّ وقد ذكره الشيخ الجليل عليّ بن إبراهيم في تفسيره ، ولعلّه رواه عن الأئمّة عليهم‌السلام.

وفيه بعد لعدم تصريحه بالرواية عنهم عليهم‌السلام وأيضا فالظاهر منها التحيّة العالية المتعارفة بين المسلمين بعد ما رفع ما كان متعارفا في الجاهليّة فالحمل عليه بخصوصه أولى من حمله على ذلك وعلى غيره مع أنّ الظاهر أنّه لا قائل بوجوب تعويض كلّ برّ وإحسان.

الثاني : حمل التحيّة على العطيّة وهو قول الشافعي ، وكان في القديم يوجب عوض العطيّة أو ردّها على الواهب ، ولا يخفى بعده عن الظاهر فإنّ المتبادر منها ما عرفت من التحيّة الخاصّة مع أنّ الأصل عدم وجوب ردّ العوض وإثباته بهذه الآية المجملة بعيد بل ردّها مذموم شرعا كما وقع التصريح به في الأخبار ، وعلى هذا فلا وجه للإيجاب بمثل هذا الاحتمال البعيد عن الظاهر ، وبالجملة الظاهر المتبادر من الآية السلام المتعارف بين المسلمين ، ولهذا لا خلاف في وجوب ردّه فيحمل الآية عليه وغيره لا يعلم كونه مرادا فيترك عملا بالأصل.

الثانية : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (١).

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) أي عباداتى كلّها ، والنسك في الأصل العبادة يقال : رجل ناسك : أي عابد فهو تعميم بعد تخصيص أو المراد قرباتى ، ومنه النسيكة الذبيحة

__________________

(١) الانعام ١٦٢.

٢٣٤

والمنسك الموضع الّذي يذبح فيه النسايك. فيكون فيه جمع بين الصلاة والذبح كما في قوله (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) والمراد أفعال الحجّ فيكون فيه جمع بين الصلاة والحجّ.

(وَمَحْيايَ وَمَماتِي) أي ما أتيته في حياتي من الخيرات المنجزة وما علّقته على الموت كالوصايا والتدبير أو المراد ما أنا عليه في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح أو المراد بهما الحيوة والممات أنفسهما.

(لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ) خالصة له تعالى لا أشرك به غيره.

(وَبِذلِكَ) القول والإخلاص.

(أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) فإنّ إسلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مقدّم على إسلام أمّته ، واستدلّ بالآية على وجوب النيّة في العبادات وكونها واقعة على جهة الإخلاص.

غير ملحوظ فيها الغير مطلقا : أي سواء كان الغير ظاهرا كالعبادة للأصنام أو الكواكب أو خفيّا كالرياء والسمعة ونحو ذلك.

قال بعض الأصحاب : إنّ قصد الثواب بالعبادة من الشرك ، وإنّه مناف للإخلاص الّذي هو إرادة وجه الله وحدة ، وإنّ من قصد ذلك فإنّما قصد جلب النفع إلى نفسه لا وجه الله سبحانه كما أنّ من عظم شخصا وأثنى عليه طمعا في ماله لا يعدّ مخلصا في ذلك التعظيم ، ونقل الفخر الرازي في تفسيره (١) اتّفاق المتكلّمين على أنّ من عبد الله للطمع في ثواب لم يصحّ عبادته أورده في تفسير قوله تعالى (تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) وصرّح في تفسير أوائل سورة الفاتحة أنّ من قال : أصلي للثواب إنّه فسدت صلوته ، ويؤيّده ذلك ما نقل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا ورغبة في ثوابك بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك (٢).

__________________

(١) انظر تفسيره ج ١٤ ص ١٣٥ عند تفسير الآية ٥٥ من سورة الأعراف.

(٢) أرسله في البحار ج ١٥ الجزء الثاني ص ٨٣ عن الشيخ البهائي ونقله مرسلا أيضا في ج ٩ ص ٥١١ وكذا في الوافي الجزء الثالث ص ٧٠ وأرسله أيضا ابن ميثم في شرحه على نهج البلاغة ج ٥ ص ٣٦١ ط ١٣٨٤ من منشورات مؤسسة النصر عند شرح الرقم ٢٢٣ من الحكم (إن قوما عبدوا الله إلخ) وهو في ط فيض الإسلام في ص ١١٨٢.

٢٣٥

وفيه نظر لأنّا لا نسلّم أنّ قصد الثواب مناف للإخلاص ، وقد وقع في القرآن المجيد (يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) أى رغبا في الثواب ورهبا من العذاب على أنّ قصد الثواب لا يخرج العمل عن ابتغاء وجه الله تعالى فإنّ الثواب لمّا كان عنده تعالى فمبتغيه يبتغى وجه الله ، ولا يقدح كون تلك الغاية باعثة على العبادة فإنّ الكتاب والسنة تشتمل على كلّ منهما على المرهبات والمرغبات ، وأيضا ما نقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يدلّ على عدم جواز قصد الثواب بل على أنّه عليه‌السلام لم يكن فعله لذلك ، وإنّما عبادته لكونه تعالى أهلا لها. فجاز أن يكون ذلك من خصائص مثله عليه‌السلام فلا ينافي جواز ذلك القصد في غيره ، وهو ظاهر.

ويؤيّد ذلك ما رواه الكليني بطريق حسن عن هارون بن خارجة عن الصادق عليه‌السلام ، قال العبّاد ثلاثة : قوم عبدوا الله ـ عزوجل ـ خوفا فتلك عبادة العبيد ، وقوم عبدوا الله طلبا للثواب فتلك عبادة الاجراء وقوم عبدوا الله حبّا له فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة (١) فإن حكمه عليه‌السلام بأفضليّة هذه العبادة يعطي أنّ العبادة على

__________________

(١) رواه في الكافي باب العبادة من الأصول الحديث ٥ وهو في المرآة ج ٢ ص ١٠٠ والبحار ج ١٥ الجزء الثاني ص ٨٣ وشرح الأصول للمولى محمد صالح المازندراني ج ٨ ص ٢٥١ والشافي شرح ملا خليل القزويني على أصول الكافي ج ٢ ص ١٦٥ وفي جامع أحاديث الشيعة ص ١٠٤ من أبواب المقدمات الرقم ٧٦١ وفي الوسائل الباب ٩ من أبواب مقدمة العبادات الحديث ١ ص ١٠ ط أمير بهادر ، وفي الوافي الجزء الثالث ص ٧١ ووصف الحديث العلامة بالحسن.

وقد عرفت غير مرة أن الحديث من طريق إبراهيم بن هاشم صحيح قال العلامة المجلسي في بعض النسخ : العباد ثلاثة فلا يحتاج إلى تقدير ، وفي بعضها العبادة فيحتاج إلى تقدير اما في العبادة أى ذوو العبادة أو في الأقوام ، أي عبادة قوم قلت : يؤيد النسخة الثانية ما في ذيل الرواية وهي أفضل العبادة ، واستدل العلامة في البحار والمرآة والمحدث الكاشاني والمازندراني أيضا بالحديث على صحة العبادة بكلا الوجهين الآخرين كما أفاده المصنف هنا ، ونبه القزويني بنكتة قل من تنبه لها وهي : أن المراد بالعبادة بالوجه الثالث كونها مقرونة بالخوف والرجاء معا كي لا ينافي الحديث ما ورد ـ

٢٣٦

الوجهة السابقين لها فضل أيضا فتكون صحيحة وهو المطلوب ، واستدلّ بالآية على كون الإخلاص المذكور من أحكام الإسلام الّتي تلزم كلّ مسلم ، وإنّ كلّ مسلم مأمور بذلك لقوله : وأنا أوّل المسلمين. فإنّه يدلّ على أنّ غيره أيضا مكلّف مأمور بذلك وأنّه أوّلهم ، وفيه نظر. إذ يلزم الخروج من الإسلام بالرياء ولا يبعد أن يكون المراد أنّ جميع ذلك هو مالكه ومستحقّه بحيث يجب إيقاعه له تعالى أو الأمر بالقول معتقدا أو باعتقاد ذلك أو المراد وأنا أوّل المنقادين للإسلام الشرعيّ. فتأمّل.

وقال بعض أصحابنا : في الآية إيماء في كون العبادة شكرا لنعمة التربية والإيجاد لذكر هذه الصفة عقيب ذكر العبادة إشعارا بالعليّة.

قلت : لعلّ ظاهره غير مراد. إذ هو يقتضي عدم استحقاق الثواب بالعبادة لوصول العوض إلى العبد والعبادة إنّما تقع شكرا في مقابلة النعمة الّتي أنعم بها عليه ، وهو قول مرغوب عنه فيما بيننا ، وصرّح المحقّق الطوسي في التجريد بنفيه نعم ذهب إليه جماعة من العامّة وصرّح به البيضاوي في تفسير قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) (١) الآية ، وسيجيء إن شاء الله ، ويجوز أن يكون ذكر الوصف هنا للترغيب والتحريص على إيقاع العبادة على وجه الإخلاص. فإنّ الأمر إذا كان ذا نعم عامّة كان ذكرها عند الأمر بالفعل ادعى للمأمور إلى إيقاع الفعل وأكثر حثّا على عدم الترك. فتأمّل.

نعم يمكن الاستدلال بها على وجوب معرفة الله تعالى وإنّ صحّة الصلاة وغيرها من العبادة يتوقّف عليها نظرا إلى أنّه تعالى أمر بقول ذلك ، وظاهر أنّ معرفة القول وفهمه وصدقه مع التعلّقات يتوقّف على المعرفة.

وقد يستدلّ بها على بطلان عبادة من يزعم أنّ لغيره تعالى تأثيرا ما في العالم كما تزعمه المنجّمون في الكواكب ، والحكماء في العقول ولو بعنوان المدخلية بيانه أنّه

__________________

ـ في الخوف والرجاء وما يستفاد من الايات من كون عبادة الأولياء مقرونة بالخوف مثل قوله تعالى (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً).

(١) بقرة ٢١.

٢٣٧

تعالى أمر بالإخلاص في العبادة لله الموصوف بكونه خالق العالمين على العموم ، وظاهره استقلاله في الخلق وعدم مدخليّة الغير في شيء منه فاعتقاد خلافه ينافي ذلك. فتأمّل فيه.

الثالثة : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (١).

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الوليّ قد يجيء لمعان متعدّدة ، والظاهر منها هنا هو المتولّي للأمور كلّها ، والأولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وإنّما قلنا : إنّ الظاهر هذا دون غيره نظرا إلى أنّ الحصر في المذكورين (٢) يفيد كون الوليّ بالنسبة

__________________

(١) المائدة ٥٥.

(٢) الحصر مستفاد من كلمة إنما ، وقد صرح بدلالتها على الحصر فطاحل الأدب ومهرة الفن انظر التلخيص وشروحه الباب الخامس في طرق القصر وكتب الأدب واللغة والنحو لا نطيل الكلام بسردها ، وكفاك استفادة مثل ابن عباس حبر الأمة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنما الربا في النسيئة (الرقم ٢٥٥٣ من الجامع الصغير) قصر الربا في ربا النسيئة انظر فيض القدير ج ٢ ص ٥٦٠.

وللإمام الرازي هنا تعصب مكشوف فأنكر كون إنما للحصر انظر ص ٣٠ ج ١٢ الطبعة الأخيرة مع اعترافه بدلالتها في تفسير قوله تعالى (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) وتفسير (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) على الحصر ، واستدل بقوله تعالى (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) ولا شك أن الحياة الدنيا لها أمثال أخرى وأنت خبير بأن المراد بالاية ليس حصر تنظير الحيوة بنفسها بالماء بل حصر المثل المضاف إلى الحيوة الدنيا في الماء المنزل من السماء بمعنى أن كل ما يقدر مثلا لتلك الحيوة فهو لا محالة شبيه بالماء الموصوف بكذا في سرعة الفناء والزوال فالحصر فيها حاصر ، واستدل أيضا بقوله تعالى (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ).

والجواب عنه أولا بالنقض بقوله ـ عز من قائل ـ (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) وهل ينكر دلالة النفي والإثبات على الحصر فإن أنكره فكيف يثبت الإقرار بالتوحيد من كلمة ـ

٢٣٨

إلى كلّ واحد منهم بمعنى واحد لا اختلاف فيه بينهم ، وهي الولاية الثابتة لله وللرسول وللإمام القائم مقامه ، وكون الوليّ ، في الآية السابقة بمعنى المحبّ أو الناصر لا يوجب كونه هنا أيضا بهذا المعنى ، وهو ظاهر. فإنّ في القرآن قد يكون أوّل الآية بمعنى وآخرها واردا على وجه آخر. ثمّ إنّه تعالى وصف الّذين آمنوا بقوله :

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) وقد اتّفق جميع المفسّرين أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام حين تصدّق بخاتمه في الصلاة راكعا ، وقد تواترت بذلك الأخبار من الطرفين (١) :

__________________

ـ لا إله إلا الله؟ وثانيا أن مفاد الآية حصر الحيوة الموصوفة بالدنيا وهي الحيوة المصروفة في الشهوات ورذائل الصفات في المشابهة باللهو واللعب اللذين لا يفيدان شيئا لمن اشتغل بهما ، ولذلك جعل الدنيا في العبارة صفة للحيوة حتى لا يستظهر منها مطلق الحيوة الواقعة في الدنيا وعليه فالحصر حاصر صحيح لا وقع لاعتراض الإمام الرازي.

سلمنا وأعرضنا عن ذلك لكن نقول : عدم إفادة إنما للحصر في الآيتين إنما هو لقيام قرينة صارفة عن ظاهرها وليس له إنكار ظهورها في الحصر في سائر استعمالاتها الخالية عن القرينة مع تصريح مهرة اللغة والنحاة وفصحاء الفريقين بكونها موصوفة للحصر.

ولتوضيح المقصود نرشدك إلى جملتين متداولتين في كلمات الأصوليين : إحداهما : أن الأصل في الاستعمال الحقيقة ، وثانيتهما : أن الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز ، ومورد الاولى هو الشك في المراد ومرجعه إلى أصالة الظهور وإلغاء احتمال إرادة خلاف الظاهر ، وعليه بناء العقلاء في محاوراتهم ، ومن المعلوم أن الشارع لم يخترع طريقة جديدة ، ومورد الثانية هو الشك في كيفية الإرادة ولم يتقرر بناء من العرف والعقلاء بعد العلم بالمراد أن المستعمل فيه هو المعنى الحقيقي فعندئذ نقول : بعد ثبوت كون إنما للحصر كلما شك في استعمالها في غير الحصر فنقول المراد هو الحصر لأن الأصل بمعنى بناء العقلاء هو الحقيقة ، وكلما علمنا من الخارج كما في الآيتين بنظر الإمام الرازي وفرضه عدم الحصر فنقول : قصارى ما يستدل به أنه استعمل في غير الحصر ولا دلالة للاستعمال على كونه حقيقة.

(١) انظر غاية المرام من ص ٩٠ إلى ١٠٧ الباب الثاني عشر والتاسع عشر وفيه ٣٥ حديثا من طرق الفريقين ، وفي المراجعات للمرحوم آية الله السيد شرف الدين المراجعة ٤٠ والغدير لاية الله الامينى ج ٢ من ص ٥٢ إلى ٥٣ وتعاليق إحقاق الحق لاية الله المرعشي ج ٢ ـ

٢٣٩

روي أبو إسحاق الثعلبي (١) في تفسيره بإسناده المتّصل إلى أبى ذرّ الغفاري قال : صلّيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوما من الأيّام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء ، وقال : اللهمّ أشهد أنّي سئلت في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يعطني أحد شيئا وكان عليّ عليه‌السلام راكعا فأومأ بخنصره اليمنى إليه وكان يتختّم بها فأقبل السائل حتّى أخذ الخاتم من خنصره ، وذلك بعين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلمّا فرغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من صلوته رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال : ربّ اشرح لي صدري ويسّر لي أمري وأحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزرى وأشركه في أمري. فأنزلت عليه قرآنا ناطقا سنشدّ عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما. اللهمّ وأنا محمّد نبيّك وصفيّك فاشرح لي صدري ويسّر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليّا اشدد به ظهري. قال أبو ذرّ : فو الله ما استتمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الكلمة حتّى نزل عليه جبرائيل من عند الله.

فقال يا محمّد : اقرأ قال : وما أقرأ؟ قال : اقرا : إنّما وليّكم الله ورسوله والّذين آمنوا. الآية ، وثبوت الولاية بالمعنى الثابت لله وللرسول نصّ على إمامته بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا فصل.

ولو قيل : إنّ مقتضى ذلك ثبوت الولاية حين النزول وهو غير ثابت له عليه‌السلام.

لقلنا : اللازم من الآية ثبوت الولاية له بمعنى كونه قائما مقام الرسول كما أشعر به سبب النزول فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سأل وزيرا يشدّ به أزره ، ويشركه في أمره بمنزلة

__________________

ـ من ص ٣٩٩ إلى ٤٠٨ إشارة إلى مصادر ، حديث نزول الآية في شأن على عليه‌السلام من طرق أهل السنة ، وانظر أيضا الدر المنثور ج ٢ ص ٢٩٣ و ٢٩٤ وتفسير البرهان ج ١ من ص ٤٧٩ إلى ص ٤٨٥ وتفسير نور الثقلين ج ١ من ص ٥٣٣ إلى ٥٣٧.

(١) روى الحديث في المجمع بوجه أبسط في ص ٢١٠ ج ٢ عن شيخه السيد أبى الحمد مهدي بن نزار عن الحاكم أبى القاسم الحسكانى واتصل السند إلى عبد الله بن عباس عن أبى ذر. ثم قال : وروى هذا الخبر أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره بهذا الاسناد بعينه.

٢٤٠