مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ١

جواد الكاظمي

مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ١

المؤلف:

جواد الكاظمي


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٦

(النوع الثاني)

في دلائل الصلوات الخمس وأوقاتها. وفيه آيات :

الاولى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (١) :

(أَقِمِ الصَّلاةَ) إقامة الصلاة تعديل أركانها وحفظها من أن يقع فيها زيغ من إقام العود إذا قوّمه وعدّله ، وقيل : المواظبة عليها من قامت السوق إذا لم يتعطّل عن البيع وقيل : التشمير لأدائها من غير فتور ولا توان من قام بالأمر وأقامه إذا جدّ فيه وتجلّد ضدّ قعد عن الأمر وتقاعد ، وقيل : المراد أدائها وفعلها عبّر عنه بالإقامة لاشتمالها على القيام.

(لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) لزوالها ، إذ الدلوك الزوال كما قاله الجوهري وجماعة من اللغويّين مأخوذ عن الدلك لأنّ الناظر إليها يدلك عينيه لدفع شعاعها ، ويؤيّده ما روى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : آتانى جبرئيل لدلوك الشمس حين زالت فصلّى بي الظهر (٢) وقيل : لغروبها وعليه جماعة ، وبه ورد قول الشاعر (٣) :

__________________

(١) الاسراء ٧٨ و ٧٩.

(٢) انظر تفسير الطبري ج ١٥ ص ١٣٧ وفتح القدير ج ٣ ص ٢٤٥ والكشاف ج ٢ ص ٢٤٢.

(٣) الرجز استشهد به الطبري ج ١٥ ص ١٣٦ والشوكانى في فتح القدير ج ٣ ص ٢٤١ وابن العربي في أحكام القرآن ص ١٢٠٧ وأبو عبيدة في مجاز القرآن ج ١ ص ٣٨٧ وكنز العرفان ج ١ ص ٦٧ والتبيان ج ٢ ص ٢١٤ والمجمع ج ٣ ص ٤٣٣ وتفسير أبى الفتوح ج ٧ ص ٢٦٦ ـ

١٤١

هذا مقام قدمي رياح

غدوة حتّى دلكت براح.

وبراح اسم للشمس ، واللام للتوقيت مثلها في قوله لثلاث خلون.

(إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) أى ظهور ظلامه يقال : غسقت القرحة إذا انفجرت فظهر ما فيها ، وقال ابن عبّاس وقتادة هو بدو الليل ، وفي الصحاح الغاسق الليل إذا غاب الشفق وقيل : غسق الليل شدّة ظلمته ، وفي الكشّاف الغسق : الظلمة ، وهو وقت صلاة العشاء وفي أخبارنا ما يدلّ على أنّه انتصاف الليل كما سيجيء ثمّ إنّا لو حملنا الدلوك على الزوال كان في الآية دلالة على وجوب الصلوات الخمس بأوقاتها : أربع منها ما يعلم ممّا ذكر بناء على أنّ المراد بغسق الليل ظلمته الشديدة الحاصلة عند نصف الليل. فيكون وقت الظهرين إلى الغروب ، ووقت العشائين إلى نصف الليل أو ثلثه على الخلاف وقوله :

(وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) إشارة إلى صلاة الصبح ، ويبقى تحديد الأوقات على الوجه المذكور معلوما من الأخبار ، ويؤيّد ذلك ما في صحيحة زرارة قال : سألت أبا جعفر

__________________

ـ وابن دريد في الجمهرة ج ١ ص ٢١٨ العود الأول والصحاح واللسان (ب ر ح) والرازي ج ١٢ ص ٢٦.

وروى دبب وذيب وغدوة وبكرة ووقف وللشمس حتى دلكت براح ، ونقل في اللسان عن ابن الأثير رواية كسر الباء في براح وفتحها عن أبى عبيد ، والأزهري والهروي والزمخشري فعلى الفتح يقال : إن براح بكسر الحاء وضمها اسم للشمس معرفة سميت بذلك لانتشارها ، وعلى الكسر يقال : معناه بالراحة : أى مالت الشمس للزوال حتى صار الناظر يحتاج إذا تبصرها أن يكسر الشعاع عن بصره براحته وعليه فلا دليل في الرجز على كون معنى الدلوك الغروب بل حتى مع رواية فتح الباء أيضا ، وقد صرح عدة من الصحابة وهم أهل اللغة : وكثير من التابعين على كون معنى الدلوك الزوال أو قالوا : معناه الميل فجاز أن يراد به الميل للزوال أو الميل للغروب ، ومع كون المراد الميل للزوال ينتظم صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، وسيصرح المصنف أيضا بأن الشعر غير صريح ، وترى حكاية قول الصحابة في التفاسير التي سردناها في أحكام القرآن للجصاص ج ٣ ص ٢٥٣ وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٤ والدر المنثور ج ٤ ص ١٩٥ وغيرها.

١٤٢

عليه‌السلام (١) عمّا فرض الله ـ عزوجل ـ من الصلاة. فقال : خمس صلوات في الليل والنهار فقلت : فهل سمّاهنّ وبيّنهنّ في كتابه؟ قال : نعم قال الله تبارك وتعالى لنبيّه (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) ودلوكها زوالها ، وفيما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل أربع صلوات سمّاهن الله وبيّنهنّ وغسق الليل هو انتصافه. ثمّ قال (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) فهذه الخامسة ، وما في رواية عبيد بن زرارة (٢). عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ. اللَّيْلِ) فقال : إنّ الله افترض أربع صلوات أوّل وقتها زوال الشمس إلى انتصاف الليل. منها صلوتان أوّل وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروب الشمس إلّا أنّ هذه قبل هذه ، ومنها صلوتان أوّل وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلّا أنّ هذه قبل هذه ، ونحوها من الأخبار ، وإن حملنا الدلوك على الغروب كان في الآية دلالة على وجوب ثلاث صلوات بأوقاتها : العشائين وصلاة الفجر ، ويكون وجوب الظهرين بأوقاتهما مستفادا من خارج الآية ، ولعلّ الأوّل أولى لاشتهار الدلوك في الزوال وعدم ظهور كونه للغروب ، والشعر غير صريح في كونه بمعناه بل يحتمل إرادة الزوال منه ، وما عرفت من الرواية عن الصادقين عليهما‌السلام أنّ الدلوك بمعنى الزوال وكفى بقولهما دلالة ، ولأنّ حمل كلام الله على ما هو أكثر فائدة وأشمل حكما أولى فليحمل عليه. وقيل : إنّ المراد بالصلاة هنا صلاة المغرب لكون الزوال بمعنى الغروب ، والغسق بمعنى الظلمة وفيه ما تقدّم وقال الحسن : لدلوك الشمس : أى لزوالها صلاة الظهر والعصر إلى غسق الليل

__________________

(١) انظر العياشي ج ٢ ص ٣٠٨ الرقم ١٣٦ والبحار ج ١٨ ص ٤١ والبرهان ج ٢ ص ٤٣٧ وقد مر الحديث بوجه أبسط عن الفقيه في ص ١٢٢ بمصادره واختلاف ألفاظه.

(٢) انظر التهذيب ج ٢ ص ٢٥ الرقم ٧٢ والاستبصار ج ١ ص ٢٦١ الرقم ٩٣٨ والعياشي ج ٢ ص ٣١٠ الرقم ١٤٣ والبحار ج ١٨ ص ٤٢ والبرهان ج ٢ ص ٤٣٧ وجامع أحاديث الشيعة ج ٢ ص ٤٦ الرقم ٣٤٧ والوسائل الباب ٤ من أبواب مواقيت الصلاة ج ٢ وليس في الاستبصار الشطر الأخير من الحديث ، ومنها صلوتان أول وقتهما من غروب الشمس. إلخ

١٤٣

صلاة المغرب والعشاء الآخرة كأنّه يقول : من ذلك الوقت إلى هذا الوقت على ما بيّن لك من حال الصلوات الأربع ثمّ صلاة الفجر فأفردت بالذكر ، وقال الشيخ في التبيان واستدلّ قوم بهذه الآية على أنّ وقت الاولى موسّع إلى آخر النهار لأنّه أوجب إقامة الصلاة من وقت دلوك الشمس إلى وقت غسق الليل ، وذلك يقتضي أنّ ما بينهما وقت. ثمّ قال : وهذا ليس بشيء لأنّ من قال : إنّ الدلوك هو الغروب لا دلالة فيها إذ هو يقول : إنّه يجب إقامة المغرب من عند الغروب إلى وقت اختلاط الظلام الّذي هو غروب الشفق ، وما بين ذلك وقت للمغرب ، ومن قال : الدلوك هو الزوال يمكنه أن يقول : المراد بالآية البيان لوجوب الصلوات الخمس على ما ذكره الحسن لا بيان وقت صلاة واحدة فلا دلالة له في الآية انتهى كلامه ، ولعلّ المستدلّ حاول إبطال مذهب الفقهاء حيث جعل بعضهم الوقت مختصّا بالآخر في جميع الصلوات ، ومن فعلها في أوّله فهو مقدّم لها وبعضهم جعل الوقت مختصّا بالأوّل ، وكان ردّ الشيخ الاستدلال على التوسعة بناء على ما ذهب إليه من اختصاص الوقت بالأوّل كما صرّح به في التهذيب ، وجعل الآخر وقتا للمعذور وأنّ الردّ على القائل بأنّ مجموع الوقت مشترك بين الفرضين من غير اختصاص لأحدهما بأوّله أو آخره كما هو قول ابن بابويه أو أنّ مراده أنّ الاستدلال على ذلك بحيث يحصل إلزام الخصم غير معلوم من الآية صريحا.

ويمكن أن يقال : الآية اقتضت كون وقت الصلوات الأربع من الدلوك بمعنى الزوال إلى غسق الليل فإنّ ـ إلى ـ لانتهاء الغاية إلّا أنّ الظهر والعصر اشتركا في الوقت من الزوال إلى الغروب ، والمغرب والعشاء الآخرة اشتركا في الوقت من المغرب إلى الغسق بمعنى نصف الليل ، وأفرد صلاة الفجر بالذكر في قوله : وقرآن الفجر فالآية بمعونة الرواية دلّت على التوسعة بالمعنى المذكور كما هو مذهب السيّد ويؤيّد دلالة الآية على ذلك الروايتان المتقدّمتان فإنّهما دلّتا على ذلك مع اعتبار سندهما ، وإلى هذا يذهب السيّد المرتضى في أوقات الصلاة ناقلا له عن الأصحاب من غير تعيين ، وهو الظاهر من كلام ابن بابويه.

وفيه نظر فإنّ الكلام في استفادة التوسعة من الآية نفسها على أنّ الرواية لم

١٤٤

تدلّ على التوسعة بالمعنى الّذي ذكروه : أي التوسعة الاولى.

لا يقال : ضرورة الترتيب اقتضت اختصاص أوّل الوقت بمقدار فعل الصلاة بالأولى وآخره بذلك المقدار بالأخيرة كما يدلّ عليه قوله في الرواية : إلّا أنّ هذه قبل هذه فاستفيد الاختصاص منها.

ويؤيّدها مرسلة داود بن فرقد (١) عن الصادق عليه‌السلام إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر حتّى يمضى مقدار ما يصلّى المصلّي أربع ركعات فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت الظهر والعصر حتّى يبقى من الشمس مقدار ما يصلّى أربع ركعات فإذا بقي مقدار ذلك فقد خرج وقت الظهر وبقي وقت العصر.

لأنّا نقول : لا نسلّم دلالة الآية على ذلك بل هي مجملة فيه مع إمكان المناقشة في الاحتمال نظرا إلى عدم معلوميّة آخر الوقت فيها ليلزم الاختصاص المذكور سلّمنا الاحتمال لكن بعد ورود الرواية السابقة بذلك يتعيّن حملها عليها ، ورواية داود مرسلة لا تعارضها. فتأمّل فيه.

ولعلّ التعبير بقرآن الفجر في صلاة الصبح نظرا إلى وجوب القراءة فيها فهي من باب تسمية الكلّ باسم جزئه كما سمّيت ركوعا وسجودا قال الزجاج : إنّ في قوله : وقرآن الفجر فايدة عظيمة هي أنّها تدلّ على أنّ الصلاة لا تكون إلّا بقراءة لأنّ قوله : أقم الصلاة ، وأقم قرآن الفجر قد أمر فيه أن يقيم الصلاة بالقراءة حتّى سمّيت الصلاة قرآنا ولا تكون صلاة إلّا بقرآن وقد يقال : إن فسّر قرآن الفجر بصلاة الصبح لم يكن فيها دلالة على وجوب القراءة. إذ يجوز أن يكون الإطلاق تجوّزا بناء على كون القراءة مندوبة فيها فإنّ مثل ذلك كاف في صحّة الإطلاق ولهذا سمّيت الصلاة قنوتا كما صرّح به في الكشّاف ، وليس بجزء واجب في جميع الصلوات ، وخصوصا الحنفيّة فإنّهم لا يرونه مشروعا إلّا في الوتر وقد يقال : وجوبه في بعض الصلوات كاف في صحّة الإطلاق. فتأمّل.

__________________

(١) رواه في التهذيب ج ٢ ص ٢٥ الرقم ٧٠ والاستبصار ج ١ ص ٢٦١ الرقم ٩٣٦ وهو في جامع أحاديث الشيعة ص ٤٧ ج ٢ الرقم ٣٥٦ وفي الوسائل الباب ٤ من أبواب مواقيت الصلاة الحديث ٧ وآخر الحديث ، حتى تغيب الشمس.

١٤٥

وإن فسّرت بقراءة صلاة الفجر كان فيها دلالة على الوجوب نظرا إلى تعلّق الأمر بإقامتها وحينئذ فيكون إثبات القول بوجوب القراءة في باقي الصلوات لعدم القائل بالفصل. ثمّ إنّه أشار إلى بيان فضيلة صلاة الفجر بقوله :

(إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) تشهده ملائكة الليل والنهار فإنّهم يجتمعون في صلاة الصبح ينزّل هؤلاء ويصعّد هؤلاء ، ولا يخفى أنّ ذلك في آخر ديوان الليل وأوّل ديوان النهار ، ويتحقّق ذلك إذا فعلت في أوّل وقتها. فيكون فيه إشارة إلى الحثّ على فعلها في أوّل الوقت ، وبه يبطل قول من يذهب إلى أنّ وقتها ليس إلّا الآخر كالحنفيّة وهو قولهم في جميع الصلوات الواجبة فعندهم أنّ من فعل الصلاة في أوّل وقتها فهو مقدّم لها ويكون نفلا مجزية عن الفرض مستدلّين على ذلك بأنّ المكلّف مخيّر قبل وقت الضيق بين الفعل والترك والتخيير ينافي الوجوب بخلاف وقت الضيق فإنّه يتعيّن فيه الفعل مضيّقا ، ولا يخفى أنّه خروج عن النصّ بالهوى مع أنّ دليلهم أو هي من بيت العنكبوت. وقد بسطنا الكلام معهم في أصول الفقه.

وقيل : إنّ المراد بكونه مشهودا أنّه من حقّه أن يشهده الجمّ الغفير للصلاة جماعة ، وربّما قيل : وجوه آخر.

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ) التهجّد ترك الهجود : أى النوم للصلاة من هجد يهجد هجودا فهو هاجد إذا نام ، وقال ابن الأعرابيّ هو من الأضداد (١) لأنّه يقال : هجد الرجل إذا نام وهجد أيضا إذا صلّى من الليل ، وقال المبرّد : التهجّد عند أهل اللغة السهر للصلاة أو لذكر الله فإذا سهر للصلاة قيل : تهجّد ، وإذا أراد النوم قال : هجدت

__________________

(١) وكذا سرده ابن الأنباري في الأضداد وانظر الرقم ٢٠ ص ٥٠ من كتابه قال إنه للنوم والسهر ثم مثل للاول قول الشاعر :

سرى ليلا خيالا من سليمى

فارقنى وأصحابي هجود

اى ينام ، ومثل للثاني قول الشاعر :

ألا هلك امرء ظلت عليه

بشط عنيزة بقر هجود

اى نسوة كالبقر في حسن اعينهن سواهر.

١٤٦

وحاصله على ما ذكره بعضهم أنّ الهجود في الأصل هو النوم بالليل ولكنّ ـ تاء ـ التفعّل فيه لأجل التجنّب ومنه تأثّم وتجرّح إذا ألقى الإثم والجرح عن نفسه فكان التهجّد يدفع الهجود عن نفسه.

قيل : ومعنى ومن الليل وعليك ببعض الليل فتهجّد به.

وقيل : معناه وأقم الصلاة في بعض الليل فتهجّد به ، والضمير المجرور للقرآن (نافِلَةً لَكَ) أي فريضة زائدة لك على الصلوات الخمس المفروضة فإن النفل بمعنى الزيادة فيكون من خواصّه عليه‌السلام أو فضيلة لك لاختصاص وجوبها بك.

وقيل : إنّ المراد بالنافلة معناها وقد كانت صلاة الليل واجبة عليه ونسخ وجوبها بهذه الآية ، وفيه أنّ ظاهر الأمر الوجوب فيكون بين قوله : فتهجّد ، وبين قوله نافلة لك تعارض ، وبأنّ النافلة لا تنافي الوجوب فلا يتمّ النسخ فالمراد بها إمّا فريضة زائدة لك على ما تقدّم أو فضيلة مختصّة بك لاختصاص وجوبها به صلى‌الله‌عليه‌وآله ولو قطع النظر عن الوجوب لأمكن أن يوجّه اختصاصها به صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ طاعة العباد كفّارة لذنوبهم أمّا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فطاعاته مؤثّرة في زيادة الدرجات وكثرة الثواب. فكأنّه قيل : إلّا أن يقال : قوله نافلة قرينة صارفة للوجوب إلى الندب.

وقيل : إنّ معناه فضيلة لك فإنّ كلّ طاعة يأتي بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سوى المكتوبة فإنّ تأثيرها لا يكون في كفّارة الذنوب لأنّه قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، وإنّما يكون مؤثّرة في زيادة الدرجات وكثرة الثواب ولا كذلك حال الأمّة فكأنّه قيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ هذه الطاعات زوائد ونوافل في حقّك لا في حقّ غيرك لأنّ غيرك يحتاج إليها في تكفير السيّئات.

وقيل : معناه نافلة لك ولغيرك وإنّما اختصّه بالخطاب لما في ذلك من دعا الغير للاقتداء به والحثّ على الاستنان بسنّته.

(عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) انتصابه على الظرف بإضمار فعله : أى فيقيمك مقاما أو بتضمين يبعثك معناه ، ويجوز على الحال بمعنى يبعثك ذا مقام محمود يحمده القائم فيه ، وكلّ من عرفه ، وهو مطلق في كلّ مقام يتضمّن كرامته ، والمشهور

١٤٧

أنّه مقام الشفاعة بل قال في التبيان : قد أجمع المفسّرون على أنّ المقام المحمود هو مقام الشفاعة ، وهو المقام الّذي يشفع فيه للناس.

ويؤيّده ما رواه العامّة عن أبي هريرة : أنّه قال : هو المقام الّذي أشفع فيه لأمّتي (١) ولإشعاره بأنّ الناس يحمدونه لقيامه فيه ، وظاهر أنّ الحمد إنّما يكون بإذاء الإنعام ، ولا إنعام للنبيّ على أمّته في الآخرة إلّا إنعام الشفاعة. إذ لا إنعام أجلّ منها لأنّ السعي في تخليص الغير من العقاب أهمّ من السعي في إيصال الثواب إليه.

الثانية : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) (٢).

(أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) غدوة وعشيّة يعنى صلاة الفجر والمغرب في قول ابن عبّاس وجماعة ، وقال الزجاج : الغداة والظهر والعصر ، وبه قال : جماعة نظرا إلى أنّ ما بعد الزوال عشيّة فيشمل الصلوتين ، واحتمل الشيخ في التبيان أن يراد بهما صلاة الفجر والعصر لأنّ طرف الشيء من الشيء ، وصلاة المغرب ليست من النهار فلا تكون داخلة في أحد طرفيه قلت : إلى هذا يذهب أبو حنيفة ، وبه استدلّ على أنّ التنوير بالفجر أفضل وتأخير العصر أفضل لأنّ الأمّة أجمعت على نفس الطرفين ، وهما وقت طلوع الشمس وغروبها لا يصلح لإقامة الصلاة فكلّ وقت يكون أقرب إلى الطرفين يكون أولى بإقامة الصلاة فيه حملا للمجاز على ما هو أقرب إلى الحقيقة ما أمكن ، وقد يقال : هذا لا يتمشى في صلاة الفجر لأنّ الطرف الأوّل للنهار في الشرع هو طلوع الصبح الصادق لا طلوع الشمس ، وظاهر أنّ التنوير مبعّد للصلاة عنه لا مقرّب. فتأمّل. وانتصابه على الظرفية.

__________________

(١) انظر فتح القدير للشوكانى ج ٣ ص ٢٤٦ أخرجه عن أحمد والترمذي وابن جرير وابن أبى حاتم والبيهقي.

(٢) هود ١١٥.

١٤٨

(وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) ساعات منه قريبة من آخر النهار من أزلفه إذا قرّبه جمع زلفة كركب جمع ركبة ، واحتمل الشيخ في التبيان أن يكون جمع زليف مثل قريب وقرب فإن أريد بطرفي النهار صلاة الفجر والمغرب كان المراد بزلف الليل صلاة العشاء الآخرة وهو قول ابن عبّاس وجماعة فتكون الآية مشتملة على ثلاث صلوات بأوقاتها ، وهذا القول مرويّ في الصحيح عن زرارة قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام (١) عمّا فرض الله من الصلوات فقال : خمس. إلى أن قال : وقال تعالى : في ذلك (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) وطرفاه المغرب والغداة ، وزلفا من الليل هي صلاة العشاء الآخرة. الحديث ، وعلى هذا يكون ترك الطهر والعصر في الآية لأحد أمرين : إمّا لظهور هما في أنّهما صلاة النهار فكأنّه قال : أقم الصلاة طرفي النهار مع المعروفة من صلاة النهار ، وإمّا لأنّهما مذكوران على التبع للتطرف الأخير لأنّهما بعد الزوال ، وهما أقرب إليه ، وقد قال تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) ودلوك الشمس زوالها ، وإن أريد بطرفي النهار الغدوة والعشيّة : أي صلاة الصبح والعصر ، وزلفا من الليل صلاة المغرب والعشاء كان في الآية دلالة على وجوب أربع صلوات بأوقاتها. ويكون ترك الظهر في الآية لما تقدّم من الوجهين.

وإن أريد بطرفي النهار صلاة الصبح والظهر والعصر ، وبزلفا من الليل صلاة المغرب والعشاء الآخرة كما هو قول الزجاج وجماعة كان في الآية دلالة على وجوب الصلوات الخمس بأوقاتها.

ويحتمل وجه آخر وهو أن يراد بالنهار ما بين الفجر الثاني وذهاب الشفق الغربيّ لإطلاق النهار على مثله عرفا ، وأنّ المراد بطرفي النهار نصف النهار. فصلاة الفجر في النصف الأوّل ، وباقي الصلوات الفرائض في النصف الثاني فيكون فيه دلالة على وجوب الصلوات الخمس لكن الدلالة على استمرار وقت العشائين إلى نصف الليل أو ثلثه يكون من خارج ، ويكون قوله : وزلفا من الليل : أى قربا من الليل بمعنى

__________________

(١) قد مر في ص ١٢٢ من هذا الجزء

١٤٩

طاعات يتقرّب بها في بعض الليل إشارة إلى نافلة الليل المشهورة ، وحينئذ فيكون زلفا معطوفة على الصلاة : أي أقم الصلاة الواجبة ، وأقم زلفا من الليل على معنى وأقم صلاة تتقرّب بها إلى الله ، ويمكن الاستدلال بالآية على كلّ من الوجوه على اتّساع وقت صلاة الظهرين بنحو ما تقدّم. فتأمّل.

(إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) أي تكفّرنّها ، والمراد أنّ الصلوات الخمس تكفّر ما بينها من الذنوب لأنّه عرّف الحسنات بالألف واللام ، وقد تقدّم ذكر الصلاة فيكون هو المراد ونقله في التبيان عن ابن عبّاس وأكثر المفسّرين ، والمعنى أنّ الصلاة تذهب بالمعصية على وجه التكفير إذا كانت المعصية صغيرة ، ويؤيّده ما في الحديث أنّ الصلاة إلى الصلاة كفّارة ما بينهما (١) ما اجتنب الكبائر ، وفي رواية أبي حمزة الثمالي (٢) عن أحدهما عليهما‌السلام في حديث طويل عن علىّ عليه‌السلام قال : سمعت حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : أرجى آية في كتاب الله وأقم الصلاة طرفي النهار إلى آخرها ، والّذي بعثني بالحقّ بشيرا ونذيرا أنّ أحدكم ليقوم في وضوءه فتساقط من جوارحه الذنوب ، فإذا استقبل الله بوجهه وقلبه لم ينفتل وعليه من ذنوبه شيء كما ولدته امّه. فإن أصاب شيئا بين الصلوتين كان له مثل ذلك حتّى عدّ الصلوات الخمس. ثمّ قال : يا علىّ إنّما منزلة الصلوات الخمس لأمّتي كنهر جار على باب أحدكم فما يظنّ أحدكم لو كان في جسده درن. ثمّ اغتسل في ذلك النهر خمس مرّات أكان يبقى في جسده درن؟ ، فكذلك والله الصلوات الخمس لأمّتي.

وقيل : إنّ المراد بالحسنات التوبة فإنّها تذهب السيّئات : أي تسقط عقابها. إذ لا خلاف في أنّ العقاب يسقط عند التوبة كما قال الشيخ في التبيان والطبرسي في مجمع البيان.

__________________

(١) انظر أبواب فضل الصلاة وانتظار الصلاة ، وتفسير هذه الآية من كتب الشيعة وأهل السنة ترى الأحاديث بهذا المضمون كثيرة.

(٢) انظر العياشي ج ٢ ص ١٦١ والبرهان ج ٢ ص ٢٣٩.

١٥٠

وقيل : إنّ الدوام على فعل الحسنات يدعو إلى ترك السيّئات بالخاصّة فكأنّها تذهب بها.

(ذلِكَ) إشارة إلى قوله : فاستقم وما بعده.

(ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) عظة للمتّعظين حيث علموا أن ذكرهم الله سبب لذكر الله إيّاهم.

وقيل : إنّه إشارة إلى القرآن وكفى به عظة لمن اتّعظ ، وقال الشيخ في التبيان يعني ما ذكره من قوله (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) فيه تذكار لمن تذكّر به وتفكّر.

الثالثة : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) (١).

(فَسُبْحانَ اللهِ) خبر في معنى الأمر بتنزيه الله تعالى عمّا يليق به والثناء عليه في هذه الأوقات الّتي يظهر فيها قدرته وتتجدّد فيها نعمته.

(حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الإمساء الدخول في المساء ، والإصباح الدخول في الصباح. وآثار القدرة فيها ظاهرة. فإنّ المساء وقت زوال النور الكامل المنتشر في جميع الآفاق في زمان يسير ، والصباح وقت انتشار النور في زمان يسير أيضا.

(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هو المستحقّ بحمد أهلها لانعامه عليهم أي على أهل السموات والأرض أن يحمدوه فكأنّها جملة معترضة كما قال في الكشّاف.

(وَعَشِيًّا) معطوف على حين تمسون : أى وفي العشاء وترك لفظ الحين فيه لعدم مجيء الفعل منه.

(وَحِينَ تُظْهِرُونَ) أى تدخلون في الظهيرة وهي نصف النهار ويحتمل أن يكون وله الحمد متعلّق بما بعده ، ويكون قوله : وعشيّا معطوفا على السموات والأرض بنزع الخافض : أى وله الحمد في السموات والأرض وفي العشيّ والظهيرة فيكون التسبيح متعلّقا بالمساء والصباح ، والحمد بالعشيّ والظهيرة لأنّ تجدّد النعمة في هذين

__________________

(١) الروم ١٦ و ١٧.

١٥١

الوقتين أكثر كما أنّ ظهور القدرة والعظمة في الوقتين الأوّلين أظهر ففي الآية دلالة على رجحان تسبيحه في هذه الأوقات ، وعلى هذا فيمكن الاستدلال بها على وجوب التسبيح في ركوع الصلاة وسجودها بالاستدلال المشهور. إذ الظاهر أنّ المراد بالتسبيح الذكر المخصوص غير الصلاة ، وحينئذ فيثبت الوجوب فيهما والاستحباب فيما عداهما ويؤيّده ما روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من سرّه أن يكال له بالقفيز الأوفى (١) فليقل : سبحان الله حين تمسون. الآية ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من قال : حين يصبح فسبحان الله حين تمسون (٢) إلى قوله : وكذلك تخرجون أدرك ما فاته في ليلته ، ومن قاله حين يمسي أدرك ما فاته في يومه.

وقيل : إنّ المراد بالتسبيح الصلاة. وإنّ الآية مشتملة على ذكر الصلوات الخمس بأوقاتها ، ويؤيّده ما روى عن ابن عبّاس إنّه سئل هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال : نعم ، وقرء هذه الآية (٣) فالتسبيح حين تمسون صلاة المغرب والعشاء الآخرة ، وحين تصبحون صلاة الفجر ، وعشيّا صلاة العصر ، وحين تظهرون صلاة الظهر ، ورجّح الطبرسي في مجمع البيان هذا القول. ثمّ قال : وإنّما خصّ صلاة الليل باسم التسبيح وصلاة النهار باسم الحمد لأنّ الإنسان في النهار متقلّب في أحوال توجب الحمد لله عليها ، وفي الليل على أحوال توجب تنزيه الله تعالى من الأسواء فيها فلذلك صار الحمد بالنهار أخصّ فسمّيت به صلاة النهار والتسبيح بالليل أخصّ فسمّيت به صلاة

__________________

(١) انظر قلائد الدرر ج ١ ص ١٠٤ نقلا عن جوامع الجامع والكشاف ج ٢ ص ٥٠٥ تفسير الآية.

(٢) انظر الدر المنثور ج ٥ ص ١٥٤ أخرجه عن أبى داود والطبراني وابن السني وابن مردويه عن ابن عباس عن النبي ، ورواه في قلائد الدرر ج ١ ص ١٠٤ عن غوالي اللآلي وأخرجه أيضا في الكشاف ج ٢ ص ٥٠٥ تفسير الآية.

(٣) انظر الدر المنثور ج ٥ ص ١٥٤ وكذا فتح القدير للشوكانى ج ٤ ص ٢١٤ عن عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر والفريابى وابن أبى حاتم والحاكم وصححه عن أبى رزين قال : جاء نافع بن الأزرق إلى ابن عباس فقال : هل تجد الصلوات الخمس في القرآن إلخ.

١٥٢

الليل ، والكلام في عطف عشيّا على السموات والأرض بما عرفت سابقا لكن ثبوت الصلاة على الوجه المذكور في السموات غير معلوم أولا أن يقال : باشتراك الصلاة فيهما ، وفيه نظر لاقتضائه عطف عشيّا وحين تظهرون على السموات ، وهو غير مناسب مع أنّ ثبوت الصلاة على الوجه المذكور في السموات غير معلوم. فالأولى جعل التسبيح وحدة كناية عن الصلاة ، ويكون جملة وله الحمد اعتراضيّة ، وعشيّا معطوف على حين تمسون كما أشرنا سابقا.

لا يقال : يمكن أن يحتجّ بهذه الآية على اختصاص الوجوب في الصلوات بأوّل الوقت على التضييق كما أشرنا سابقا إليه لتقييد الوجوب بالحينيّة المختصّة بحال الدخول في المساء والصباح.

لأنّا نقول : الحينيّة إشارة إلى أوّل الوقت والتوسعة تعلم من غيرها من الآيات والأخبار.

الرابعة : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) (١).

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) من كفرهم بتوحيد الله تعالى وجحدهم لنبوّتك وأذاهم إيّاك بكلام يسمعونك إيّاه ويثقل عليك ، وقد زعم الكلبيّ ومقاتل أنّها منسوخة بآية القتال قال في التبيان : وليس بذاك لأنّ كلاهما معمولا بها في موضعها.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) وصلّ ملتبسا بحمد ربّك : أى وأنت حامد له على هدايته وتوفيقه.

(قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) إشارة إلى صلاة الفجر.

(وَقَبْلَ غُرُوبِها) إشارة إلى العصر وحدها ، ويحتمل أن يراد به الظهر والعصر لأنّهما في النصف الأخير من النهار.

__________________

(١) طه ١٣٠.

١٥٣

(وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ) وهي ساعاته واحدها إني بالكسر والقصر.

(فَسَبِّحْ) وهو إشارة إلى صلاة المغرب والعشاء الآخرة ويحتمل إرادة صلاة العتمة فقط كما في الكشّاف ، ويحتمل دخول صلاة الليل المشهورة فيه بحمل الأمر على الرجحان المطلق وإنّما قدّم الزمان على الفعل لاختصاصه بمزيد الفضل بالنسبة إلى صلاة الليل فناسبه زيادة الاهتمام بشأنها فإنّ الليل وقت السكون والراحة وهدو الأصوات فكان القلب فيه أجمع والنفس فيه أميل إلى الاستراحة فكانت العبادة فيه أحمز ، ولذلك قال تعالى (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) (١).

(وَأَطْرافَ النَّهارِ) يحتمل أن يكون إشارة إلى صلاة الظهر فإنّها نهاية النصف الأوّل من النهار ، وبداية النصف الأخير وجمعه باعتبار طرفي النصفين. فإنّهما أربعة أوقات أو لأنّ النهار جنس فكأنّه قال : أطراف كلّ نهار ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى صلوتي الصبح والمغرب ، وقيل الصبح والعصر لكونهما في الطرفين حقيقة كرّرهما إرادة الاختصاص بمزيد الفضل وللاعتناء بشأنهما كقوله (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) ومجيئه بلفظ الجمع لأمن الالتباس كقوله (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى التطوّع في أثناء النهار.

(لَعَلَّكَ تَرْضى) متعلّق بسبّح : أى سبّح في هذه الأوقات لكي ترضى بما يعطيك الله من الثواب على ذلك ، ومن ضمّ التاء أراد لكي تفعل معك من الثواب بما ترضى معه وقيل : لكي ترضى بالشفاعة ، والمعاني متقاربة لأنّه إذا أرضى الله تعالى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد رضي.

وقد يستدلّ بظاهر الآية على توسعة وقت الفجر والظهرين وعدم اختصاصها بأوّل الوقت كما ذهب إليه الشيخ في بعض كتبه حيث حكم بأنّ وقت صلاة الفجر إلى الأسفار والتنوير ، وفي الظهرين إلى أن يصير ظلّ كلّ شيء مثله ونحوه لأنّه تعالى حكم بامتداد الصبح إلى طلوع الشمس وبامتداد الظهرين إلى الغروب وهو المراد من التوسعة ،

__________________

(١) المزمل ٦.

١٥٤

ولعلّ مراد الشيخ وقت الفضيلة وهو لا ينافي الإجزاء إلى طلوع الشمس أو الغروب ، ويحتمل أن يراد من التسبيح فيها ما هو المتبادر منه : أي التنزيه ، والمراد نزّه الله تعالى عن الشرك وسائر ما ينسبون إليه من النقائص حامدا له على ما سرّك بالهدي في هذه الأوقات معترفا بأنّه المولى للنعم كلّها ، وعلى هذا فتسقط الدلالة على ما ذكر.

الخامسة : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) (١).

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي نزّهه عمّا لا يليق به وعن الوصف بما يوجب التشبيه حامدا له على ما أنعم عليك فالمراد به التسبيح حقيقة.

ويحتمل أن يراد به الصلاة في الأوقات المخصوصة سمّاها تسبيحا لأنّ الصلاة تشتمل على التسبيح على ما تقدّم.

(قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) : أي صلاة الفجر.

(وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) : أي صلاة العصر ، وقيل الظهر والعصر.

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) : أي المغرب والعشاء وتأخير الفعل لمزيد الاختصاص كما تقدّم ، ويؤيّد الأوّل ما روي عن أبى عبد الله عليه‌السلام (٢) أنّه سئل عن قول الله تعالى (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ). فقال تقول حين تصبح وحين تمسى عشر مرّات لا إله إلّا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت ، وهو على كلّ شيء قدير.

(وَأَدْبارَ السُّجُودِ) قيل : المراد به النوافل بعد المكتوبات ، وعن عليّ عليه‌السلام الركعتان بعد المغرب (٣) وروي العامّة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) أنّه قال : من صلّى بعد

__________________

(١) ق ٣٩ و ٤٠.

(٢) انظر المجمع ج ٥ ص ١٥٠ والبحار ج ١٨ ب ٤٨٩ وقلائد الدرر ج ١ ص ١٠٨.

(٣) المجمع ج ٥ ص ١٥٠.

(٤) انظر نيل الأوطار ج ٣ ص ٥٩ أخرجه عن الديلمي في مسند الفردوس ، وكذا في فيض القدير ج ٦ ص ١٦٧ وقريب منه الرقم ٨٨٠٢ من الجامع الصغير عن جامع عبد الرزاق.

١٥٥

المغرب قبل أن يتكلّم كتبت صلوته في علّيّين ، ومثلها موجودة في طرقنا أيضا (١) ، والمراد قبل أن يتكلّم بكلام أجنبيّ لا بمثل التعقيب ، وبذلك فسر الرواية الصحيحة ويكون المراد بالسجود الصلاة فإنّه يعبّر به عنها.

وقيل : المراد به التسبيح في أعقاب الصلوات من أدبرت الصلاة إذا انقضت فهو مصدر وقع موقع الظرف : أي وقت انقضاء السجود كقولهم : أتيتك خفوق النجم : أي وقته ، وقرء بفتح الهمزة جمع دبر ، ويقرب من هذه الآية ما في سورة الطور.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) (٢).

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) من أيّ مقام قمت أو من منامك أو حين تقوم إلى الصلاة المفروضة فتقول : سبحانك اللهمّ وبحمدك أو حين تقوم من مجلسك فقل : سبحانك اللهمّ وبحمدك لا إله إلّا أنت فاغفر لي وتب عليّ ، وقد روي مرفوعا (٣) أنّه كفّارة المجلس ، وروي عن عليّ عليه‌السلام من أحبّ أن يكتال بالمكيال الأوفى فليكن آخر كلامه من مجلسه سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله ربّ العالمين (٤).

وقيل : المراد اذكر الله بلسانك حين تقوم إلى الصلاة إلى أن تدخل في الصلاة.

وقيل : المراد وصلّ بأمر ربّك حين تقوم من مقامك أو المراد صلاة الركعتين قبل صلاة الفجر.

__________________

(١) انظر الوسائل الباب ٢٩ من أبواب التعقيب الحديث ٢ ص ٤٠٨ ط أمير بهادر ، وفيه التصريح بكون الصلاة بعد التعقيب وقبل التكلم.

(٢) الطور ٤٩ و ٥٠.

(٣) انظر المجمع ج ٥ ص ١٧٠ وقلائد الدرر ج ١ ص ١٠٩ وزبدة البيان ص ٦١ وكنز العرفان ج ١ ص ٧٨ والدر المنثور ج ٦ ص ١٢٠.

(٤) انظر البحار ج ١٨ ص ٣٥ وقلائد الدرر ج ١ ص ١٠٩ ورواه في المجمع ج ٤ ص ٤٦٣ عن النبي (ص) مع تفاوت يسير في اللفظ.

١٥٦

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) قيل : المراد صلاة الليل ، وروي زرارة وحمران ومحمّد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهم‌السلام في هذه الآية (١) قالا : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقوم في الليل ثلاث مرّات فينظر في آفاق السماء فيقرأ خمس آيات من آل عمران. وهي : إنّ في خلق السموات والأرض : إلى قوله : إنّك لا تخلف الميعاد. ثمّ يفتتح صلاة الليل. الحديث.

وقيل : المراد صلاة المغرب والعشاء الآخرة.

(وَإِدْبارَ النُّجُومِ) يعنى الركعتين قبل صلاة الفجر ، وهو المروي عنهما عليهما‌السلام أيضا ، وذلك حين تدبر النجوم يعنى تغيب بضوء الصبح ، وقيل : يعنى صلاة الفجر المفروضة ، والإدبار بالكسر غروبها ، وهو في الحقيقة تلاشى نورها في ضوء الصبح ، وبالفتح أعقابها والمعنيان متقاربان ، وقيل : المعنى لا تغفل عن ذكر ربّك صباحا ومساء بل نزّهه في جميع أحوالك ليلا ونهارا فإنّه لا يغفل عنك وعن حفظك.

__________________

(١) انظر المجمع ج ٥ ص ١٧٠ والبحار ج ١٨ ص ٣٥ وقلائد الدرر ج ١ ص ١١٠.

١٥٧

(النوع الثالث)

(في القبلة)

وفيها آيات :

الاولى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (١).

(قَدْ نَرى) قد يعلم (تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) أي تردّده في جهة السماء تطلّعاً للوحي فقد روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى مدّة مقامه بمكّة إلى بيت المقدس ثلاث عشر سنة وبعد مهاجرته إلى المدينة ستّة أشهر [سبعة أشهر خ ل] على ما رواه علىّ بن إبراهيم (٢) فإنّه يتوقّع من الله تعالى أن يحوّل قبلته من بيت المقدس إلى الكعبة لأنّها كانت قبلة أبيه إبراهيم عليه‌السلام وقبلة آبائه ، وأقدم القبلتين وادعى لمتابعة العرب إلى ملّته فإنّهم كانوا يحبّون الكعبة ويعظّمونها غاية التعظيم ولمخالفة اليهود فإنّهم كانوا يقولون يخالفنا محمّد عليهم‌السلام في ديننا ويتّبع قبلتنا ، وإنّما لم يسئل الله تعالى ذلك لأنّه لا يجوز للأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ أن يسألوا الله تعالى شيئا من غير أن يؤذن لهم فيه. إذ قد لا يكون مصلحة فلا يجابون إلى ذلك فيكون فتنة لقومهم.

وقيل : إنّه استأذن جبرائيل في أن يدعو الله فأخبره بأنّ الله تعالى قد أذن له في الدعاء وكان يقلّب وجهه في السماء ينتظر مجيء جبرائيل للإجابة.

__________________

(١) البقرة ١٤٤.

(٢) انظر البرهان ج ١ ص ١٥٨ والمجمع ج ١ ص ٢٢٣ ومستدرك الوسائل ج ١ ص ١٩٧ وتفسير على بن إبراهيم المطبوع بايران في سنة ١٣١٥ ص ٣٣.

١٥٨

(فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً) فلنمكّننّك من استقبالها من قولك : ولّيته كذا إذا صيّرته واليا له متمكّنا منه أو فلنجعلنّك تلي جهتها.

(تَرْضاها) أى تريدها وتحبّها وتشوّق إليها لأغراضك الصحيحة الّتي وقعت في نفسك ووافقت في ذلك مشيّة الله وحكمته.

(فَوَلِّ وَجْهَكَ) أي اصرف وجهك أو حوّل نفسك لأنّ وجه الشيء نفسه ، ويؤيّده أنّ الواجب على الشخص أن يستقبل القبلة بجملته لا بوجهه فقط ، وإنّما خصّ الوجه بالذكر لأنّه أشرف الأعضاء وبه يتميّز الأشخاص.

(شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) نحو المسجد الحرام وتلقاؤه قال الشاعر :

وقد أظلّكم من شطر ثغركم

هول له ظلم يغشاكم قطعا (١)

أي من نحوه ، وقيل : الشطر في الأصل. لما انفصل عن الشيء من شطر إذا انفصل ودار مشطور : أي منفصلة عن الدور. ثمّ استعمل بجانبه ، وإن لم ينفصل كالقطر.

وقيل : الشطر النصف ، ولمّا كانت الكعبة واقعة من المسجد الحرام في النصف من جميع الجوانب اختير هذه العبارة ليعرف أنّ الواجب هو التوجّه إلى بقعة الكعبة وردّ بالفرق بين النصف والمنتصف والمكلّف مأمور بالثاني دون الأوّل. والحرام المحرّم فيه القتال والممنوع عن الظلمة أن يتعرّضوا فيه. ثمّ أشار إلى وجوب ذلك على كلّ مكلّف في كلّ مكان بقوله :

(وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) أي أين ما كنتم في الأرض في برّ أو بحر سهل أو جبل. فإنّ الواجب عليكم التوجّه إلى نحو المسجد ، ولم يوجب التوجّه إلى

__________________

(١) البيت أنشده في المجمع ج ١ ص ٢٢٦ والتبيان ج ١ ص ١٧١ وشرحه القزويني في ج ٢ ص ٩١ من شرح شواهد المجمع بالرقم ٣٦٤ فقال : قوله أظلكم : أي أقبل عليكم ، ودنا منكم كأنه ألقى عليكم ظله. الثغر بالفتح : موضع المخافة من فروج البلدان. والهول : المخافة من الأمر لا يدرى ما هجم عليه فيه قوله : له ظلم : أى مظلم لما فيه من الشدائد. الاستشهاد به من حيث إن الشطر فيه بمعنى النحو : أى نحو ثغركم وتلقائه : انتهى.

١٥٩

الكعبة لأنّ هذا الحكم بالنسبة إلى البعيد ، وذلك لأنّ الآية الكريمة نزلت في المدينة.

ولا ريب أنّ استقبال العين من البعيد حرج عظيم ، ولأنّ أهل قبا استداروا إلى الكعبة في أثناء صلاة الصبح قبل ظهور الضياء الكامل ، ومن المعلوم أنّ مقابلة العين من المدينة إلى مكّة حيث إنّها تحتاج إلى النظر الدقيق لم يتأت لهم حينئذ. ثمّ لم ينكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وسمّى مسجدهم بذي القبلتين ، ولأنّ استقبال عين الكعبة إن كان واجبا ولا سبيل إليه إلّا بالدلائل الهندسيّة فإنّها هي المفيدة لليقين وغيرها من الأمارات لا يفيد إلّا الظنّ والقادر على اليقين لا يجوز له الاكتفاء بالظنّ ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب لزم أن يكون تعلّم تلك الدلائل واجبا ولم يذهب إليه أحد.

وممّا ذكرنا يظهر بطلان ما ذهب إليه الشافعي في أحد قوليه من أنّ الواجب على المصلّى أن يستقبل عين الكعبة قريبا كان أو بعيدا مستدلّا عليه بظاهر الآية ، وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هذه القبلة مشيرا به إلى العين ، ولأنّ كون الكعبة قبلة أمر معلوم وغيره مشكوك فيه والأخذ بالمعلوم أحوط.

والجواب منع كون ظاهر الآية دالّا على ما ذكره بل هو في الدلالة على الجهة أقرب لأنّ الشطر الجانب كما تقدّم ، وقد اكتفى به ، والحديث محمول على القريب ، ولا ريب فيه وكون الجهة مشكوكا فيها بعد ما ذكر في محلّ المنع. قال في الكشّاف وذكر المسجد الحرام دون الكعبة دليل على أنّ الواجب مراعاة الجهة دون العين واعترضه صاحب الكشف [الكشّاف خ ل] (١) بأنّ هذا القول على مراعاة العين أدلّ

__________________

(١) اختلف نسخ الكتاب ، وفي بعضها الكشف وفي بعضها الكشاف ، ولعمر بن عبد الرحمن القزويني المتوفى سنة ٧٤٥ حاشية على الكشاف سماها الكشف و؟؟ اليقين؟؟ المتوفى ٨٠٥ أيضا حاشية على الكشاف سماها الكشاف على الكشاف [انظر كشف الظنون ط عالم ج ٢ ص ٣١٢ و ٣١٣] وليس عندنا من نسختي الكتابين حتى يبين لنا أن المصنف من أيهما أخذ الاعتراض المذكور.

١٦٠