مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ١

جواد الكاظمي

مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ١

المؤلف:

جواد الكاظمي


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٦

الله أرواحهم ـ أنّ المراد به النجاسة الشرعيّة وأنّ أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير وهو الظاهر المتبادر لغة وعرفا ، ويؤيّده قوله تعالى (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) ، وقراءة نجس بالكسر التابع غالبا لرجس حتّى صار بمنزلة النصّ فيه وخصوصا عند عدم دليل على خلافه فيجب الحمل عليه ، وهو المروي عن أهل البيت عليهم‌السلام ومذهب شيعتهم الإماميّة ، ويروي عن الزيديّة (١) أيضا المنقول عن ابن عبّاس. فعلى هذا فمن باشر يد كافر وجب عليه أن يغسل يده إذا كانت يده أو يد المشرك رطبة ، وإن كانتا يابستين مسحهما بالحائط استحبابا ، وقال الحسن البصري : من صافح مشركا توضّأ : أي غسل يده ولم يفصّل.

وأمّا الفقهاء الأربعة فقد اتّفقوا على طهارة أبدانهم ، وأوّلوا الآية بأنّ المراد بنجاستهم خبث باطنهم ، وسوء اعتقادهم أو المراد نجاسة ظاهرهم نظرا إلى أنّهم لا يتطهّرون ولا يغتسلون ولا يتجنّبون النجاسات بل يلابسونها غالبا كشربهم الخمر وأكلهم لحم الخنزير ، وحينئذ فيكون المعنى أنّهم ذو نجاسة ، وعلى هذا حمل الكشّاف والبيضاوي هذه الآية وهو بعيد. إذ المتبادر منها نجاسة ذواتهم وأعيانهم مطلقا لا ملامستهم النجاسة فإنّ ذلك مجاز يحتاج الحمل عليه إلى قرينة وإخراج القرآن عن الظاهر من غير دليل لا وجه له فإنّ العمل بظاهر القرآن واجب لا يجوز العدول عنه إلّا بما هو مثله أو أقوى منه في الدلالة وظاهر كلامهما أنّه لا دليل عليه إلّا اتّفاق أهل المذاهب الأربعة على خلاف صريح القرآن وإن كان ينبغي في الشرع أن يشير إليه ، والعجب أنّ البيضاوي بعد أن حمل الآية على ملابسة النجاسة غالبا قال : وفيه دليل على أنّ ما الغالب نجاسته

__________________

(١) نقله في البحر الزخار للمهدي لدين الله أحمد بن يحيى بن المرتضى المتوفى ٨٤٠ في الفقه الزيدي ج ١ ص ١٢ عن الهادي والقاسم والناصر من علماء الزيدية ، ونقله فيه عن مالك أيضا ، وبه قال أهل الظاهر أيضا قال ابن حزم في المحلى ج ١ ص ١١٠ ، ولا عجب في الدنيا أعجب ممن يقول فيمن نص الله تعالى أنهم نجس : إنهم طاهرون ، وأعزب القرطبي حيث نقل القول بالنجاسة عن الشافعي أيضا.

١٠١

نجس. وفيه نظر لأنّا لا نسلّم ذلك. إذ عدم التطهير ، وعدم الاجتناب عن النجاسة غالبا لا يستلزم النجاسة حقيقة نعم يظنّ كونهم ذوي نجاسة ، والأصل في الأشياء الطهارة ما لم يعلم أنّها نجسة ، وبالجملة اللازم ممّا قاله أنّ إطلاق النجاسة عليهم تجوّز ، والعلاقة ملابستهم النجاسة.

والظاهر أنّه لا يلزم من تسميتهم بالنجاسة مبالغة وتجوّزا كونهم نجاسة على الحقيقة فضلا عن نجاسة غيرهم ممّا الغالب فيه ذلك بل لا يلزم صحّة إطلاقها عليه مجازا لعدم اطّراد المجاز. فتأمّل مع أنّه يلزم كون المسلم الغالب نجاسة بدنه نجسا ويجب اجتنابه ، وليس كذلك إجماعا. هذا.

وقد أطبق علماؤنا على نجاسة من عدا اليهود والنصارى من أصناف الكفّار ، وقال : أكثرهم بنجاسة هذين الصنفين (١) أيضا ، والمخالف في ذلك ابن الجنيد وابن أبي عقيل والمفيد في المسائل الغريّة لما في بعض الروايات المعتبرة من الإشعار بطهارتهم وهي محمولة على ضرب من التأويل كما يعلم من محله.

(فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) أي لا يدخلوه فالكلام على المبالغة نحو ولا تقربوا الزنا ، وقيل : المراد المنع من دخول الحرم أو المنع من الحجّ والعمرة كما كانت عادتهم من قبل لا النهي عن الدخول مطلقا ، وإليه يذهب أبو حنيفة ، ولا يخفى بعده عن ظاهر الآية ، واحتجاجهم بالخبر الدالّ عن منعهم عن الحجّ والعمرة كما سيجيء ، وهو لا يستلزم النهي عن الدخول باطل. فإنّ المنع عن الدخول مستفاد من الآية لا الخبر والخبر غير مناف لتحريم دخولهم المسجد الّذي هو صريح الآية فلا يجوز العدول عنه.

والّذي يذهب إليه أصحابنا أنّ الكفّار مطلقا ممنوعون من المسجد الحرام ، ومن كلّ مسجد ، وقد وافقنا على ذلك مالك من العامّة لكن قياسا على المسجد الحرام.

وخصّ الشافعي المنع عن الدخول بالمسجد الحرام دون غيره من المساجد لجلالة

__________________

(١) انظر تعاليقنا على كنز العرفان في مسئلة دلالة الآية على نجاسة المشرك ، والبحث عن حكم أهل الكتاب ج ١ من ص ٤٦ إلى ٥١.

١٠٢

قدره ومزيد شرفه ، وللتصريح به في الآية.

وأبو حنيفة يجوّز دخول الكافر إلى المساجد كلّها محتجّا عليه بما روى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد وفد عليه وفد من ثقيف فأنزلهم المسجد.

وأجيب بأنّه في أوّل الإسلام. ثمّ نسخ بالآية ، وقد يستفاد من الآية أنّ العلّة في المنع نجاستهم فيشمل الحكم جميع النجاسات [المساجد خ ل] لعدم ظهور الفرق بينها بل ولا بين النجاسة المتعديّة وغيرها فلا يجوز إدخالها ، وإن كانت غير متعدّية ، ويؤيّده وجوب تعظيم شعائر الله ، وبما روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله جنّبوا مساجدكم النجاسة (١) وفي الأخير نظر [قيل : وفيه نظر خ ل] لظهور اختصاص الآية بنجاسة المشرك ، ولم يثبت وجوب تعظيم الشعائر إلى هذه المرتبة ، والخبر غير معلوم الإسناد ، ومن ثمّ ذهب الأكثر إلى الجواز مع عدم التعدّي.

قلت : الظاهر أنّ وصف النجاسة هو علّة حرمة القرب من المسجد ويؤيّده أصل قلّة الحذف في الكلام ، وأنّ تعليق الحكم بالوصف المناسب يدلّ على علّتيه ، والظاهر عدم انضمام علّة العلّة في التفريع على العلّة ، والتعليل بها على أنّ الأصل عدم مدخليّة غير ما علم من التعليق والخبر مشهور جدّا معمول عليه بين الخاصّة والعامّة مع روايات أخر تعضده. فتأمّل.

وقد يستدلّ بالآية على أنّ الكفّار مخاطبون بالفروع.

(بَعْدَ عامِهِمْ هذا) هو سنة تسع من الهجرة وهي السنة الّتي بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) انظر الباب ٢٤ من أبواب أحكام المساجد من الوسائل الحديث الثاني ج ١ ص ٣٠٧ ط أمير بهادر وجامع أحاديث الشيعة ج ٢ ص ١٦٠ الرقم ١٥١٦ وأرسله في المعتبر ص ٢٤٧ ط ١٣١٨ وفي المنتهى ج ١ ص ٣٨٨ وروض الجنان ص ٢٣٨ وفيه عن الذكرى أنه لم يقف على إسناد هذا الحديث ، ومفتاح الكرامة ج ٢ ص ٢٤١ والمستند وكشف اللثام وغيرها من الكتب الفقهية. فالحديث مع إرساله منجبر بعمل الأصحاب متمسكين به. فالمناقشة فيه في غير محله فما أفاده المصنف ـ قدس‌سره ـ تام لا غبار عليه كما لا يخفى على البصير ، ولا ينبئك مثل خبير.

١٠٣

فيها أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام لأخذ سورة براءة من أبي بكر وقراءتها على أهل الموسم فقرأها ونادى ألا لا يحجّنّ بعد هذا العام مشرك.

(وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) أي فقرا واحتياجا بسبب انقطاع السوابل لمنع المشركين من التردّد إلى مكّة للتجارة ، وقد كان لكم بقدومهم كسب وإرفاق من جهة المعاش.

(فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي من عطائه أو تفضّله بوجه آخر غير تردّد المشركين ، وقد أنجز وعده بأن أرسل السماء عليهم مدارا ووفّق أهل تبالة وجرش (١) فأسلموا وامتازوا لهم. ثمّ فتح عليهم البلاد والغنائم وتوجّه إليهم الناس من أقطار الأرض.

(إِنْ شاءَ) قيّده بمشيئته ليقطع الآمال عن طلب الغنا إلّا منه. وقيل : لأنّ الغنا الموعود يكون لبعض دون بعض ، وفي عام دون عام لأغراض ومقاصد لا يعلمها إلّا الله ولهذا ختم الآية بقوله :

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بأحوالكم (حَكِيمٌ) لا يعطى ولا يمنع إلّا عن حكمة وصواب.

التاسعة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) قد تقدّم الوجه في تخصيص الخطاب بهم.

(إِنَّمَا الْخَمْرُ) الظاهر أنّ المراد به كلّ شراب مسكر ، ولا يختصّ بعصير العنب.

__________________

(١) تبالة بالفتح وجرش بضم الجيم. ثم الفتح وشين معجمه موضعان باليمن أسلم أهل تبالة وجرش من غير حرب فأقرهما رسول الله (ص) في أيدي أهلهما على ما أسلموا عليه ، وكان فتحهما في سنة عشر وهما مما يضرب المثل بخصبهما قال لبيد في معلقته المعروفة :

فالضيف والجار الجنب كأنما

هبطا تبالة مخصبا أهفامها

إنما يعني نفسه إذا نزل به الضيف صادف عنده من الخصب والفواكه والرطب ما يصادفه بتبالة إذا هبطها. انظر شرح ابن الأنباري على المعلقات ص ٥٨٩.

(٢) المائدة ٩٠.

١٠٤

روى عبد الرحمن بن الحجّاج (١) عن الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الخمر من خمسة : العصير من الكرم ، والنقيع من الزبيب ، والبتع من العسل ، والمزر من الشعير والنبيذ من التمر ورواه في الكافي بسند صحيح ، ويؤيّده ما رواه نعمان بن بشير (٢) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ من العنب خمرا ، وإنّ من التمر خمرا ، وإنّ من العسل خمرا ، وإنّ من البرّ خمرا ، وإنّ من الشعير خمرا.

قال الخطابي : وتخصيص الخمر بهذه الأشياء الخمسة ليس لأجل أنّ الخمر لا يكون إلّا منها بأعيانها ، وإنّما جرى ذكرها بخصوصها لكونها معهودة في ذلك الزمان فكلّ ما في معناها من ذرّة أو سلّت أو عصارة شجر فحكمها حكمها ، وعلى هذا أصحابنا واتّبعهم الشافعيّة ، وقال أبو حنيفة (٣) الخمر عبارة عن عصير العنب الشديد الّذي قذف بالزبدة ويردّه ما تقدّم وسمّى خمرا لأنّه يخمر العقل ويستره وتركيب الباب يفيد معنى التغطية والستر ، ومنه قولهم : خمرت الإناء وخمار المرأة ونحو ذلك.

(وَالْمَيْسِرُ) مصدر كالمرجع والموعد ، وفسّر بالقمار أيّ قسم كان منه سمّى ميسرا لاشتماله على أخذ مال الناس بيسر من غير مشقّة وتعب.

(وَالْأَنْصابُ) جمع نصب وهي الأصنام الّتي كانوا يعبدونها سمّيت بذلك لأنّها كانت تنصب للعبادة.

(وَالْأَزْلامُ) جمع زلم كصرد أو فرس ، وهي القداح الّتي كانوا تجيلونها للقمار ، وهي العشرة المعروفة بينهم أو القداح الثلاثة الّتي كانوا يجيلونها إذا قصدوا فعلا مكتوب

__________________

(١) رواه في الكافي الباب ١ من أبواب الأنبذة ص ٩٠ ج ٤ مرآت العقول ، وفيه أن الحديث حسن كالصحيح على الظاهر. إذ الظاهر الحجاج مكان الحجال ، ورواه عنه في التهذيب ج ٩ ص ١٠١ الرقم ٤٤٢ وهو في الوسائل في الباب ١ من أبواب الأشربة المحرمة.

(٢) انظر المنتقى بشرح نيل الأوطار ج ٨ ص ١٨٠ وفيه رواه الخمسة إلا النسائي وزاد أحمد وأبو داود وإنما أنهى عن كل مسكر.

(٣) انظر ج ٢ ص ٥٦٨ مجمع الانهر وبهامشه درر المنتقى كلاهما في الفقه الحنفي وانظر أيضا ج ٨ ص ١٥١ نتائج الأفكار وبهامشه شرح العناية كلاهما أيضا في الفقه الحنفي.

١٠٥

على أحدها أمرني ربّي ، وعلى الآخر نهاني ربّي ، وعلى الثالث غفل ، وسيجيء بيانهما إنشاء الله. (رِجْسٌ) قذر تعاف عنه العقول ، ونقل في التبيان من الزجاج أنّه في اللغة اسم لكلّما استقذر من عمل يقال : رجس يرجس إذا عمل عملا قبيحا ، وهو خبر عن الخمر وحده فلذا أفرد. وخبر المعطوف عليه مجذوف أو أنّه خبر عن المضاف المحذوف كأنّه قيل : إنّما تعاطي الخمر والميسر إلخ.

(رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) لأنّه مسبّب عن تسويله وتزيينه.

(فَاجْتَنِبُوهُ) الضمير للرجس أو لما ذكر أو للتعاطى.

(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بالاجتناب عمّا نهيتم عنه ، واستدلّ شيخ الطائفة ـ قدّس الله روحه ـ بهذه الآية على نجاسة الخمر من وجهين

أحدهما : كون الرجس بمعنى النجس وادّعى الإجماع على ذلك. والظاهر أنّ مراده أنّه في الآية كذلك وإلّا فمعلوم أنّه في اللغة لمطلق القذر.

وثانيهما : قوله سبحانه ، (فَاجْتَنِبُوهُ) فإنّ الأمر بالاجتناب يقتضي وجوب التباعد عنه بجميع الأنحاء في عامّة الأوقات والحالات إلّا ما خرج بالدليل وليس ذلك إلّا لنجاسته فتبطل الصلاة إذا كان على ثوب المصلّى أو بدنه ، وحالة الصلاة من جملة الحالات ، ومعلوم أنّ من صلّى وهو متلطّخ بالخمر لا يكون مجتنبا له ولا متباعدا عنه في حال صلوته ، وفي الدليل نظر لظهور أنّ الرجس بمعنى القذر كما تقدّم ، والإجماع على أنّه بمعنى النجس هنا لا يتمّ إلّا على ظاهر الآية لظهور أنّه خبر عن الجميع ، والنجاسة فيما عدا الخمر غير معلومة ، وتعيّن كونه خبرا عن الخمر ، وجعل خبر الباقي محذوفا بعيد لعدم ما يدلّ على ذلك المحذوف. إذ الرجس المذكور بمعنى النجس ، والمحذوف ليس بهذا المعنى بل بمعنى القذر إلّا أن يقال : هو يدلّ على أنّ المحذوف مثل لفظه وإن كان بمعنى آخر.

وفيه تأمّل ولأنّ الرجس في أكثر الآيات إنّما يستعمل بمعنى القذر مطلقا نحو قوله تعالى (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) الآية ، والمراد الأقذار والأفعال القبيحة المستقبحة المؤدّية إلى الإثم ومن ثمّ قال الصدوق : إنّ الله ـ عزوجل ـ

١٠٦

حرّم شربها لا الصلاة في ثوب أصابه الخمر.

وأمّا الأمر بالاجتناب فغير صريح أيضا لظهور أنّ الضمير يرجع إلى الرجس الّذي هو خبر عن الجميع أو إلى المضاف المحذوف : أي تعاطى هذه الأشياء أو إلى كلّ واحد من المذكورات ، وليس في ذلك دلالة على النجاسة بوجه بل الظاهر منه تحريم الاستعمال المترتّب على كلّ واحد واحد بخصوصه. ومن ثمّ استدلّ أكثر المفسّرين بها على تحريم الخمر والميسر ، ودلالتها على ذلك بل على تحريم سائر التصرّفات من وجوه شتّى كالمقارنة بالأصنام الّذي عبادتها الكفر المحض ، والأزلام الّتي هي من شعائر الكفّار والحصر بأنّه ليس إلّا الرجس ، وأنّه من عمل الشيطان المؤذن بأنّ ذلك شرّ محض. ثمّ الأمر بالاجتناب عن عينها ظاهرا أو جعله سببا يرجى منه الفلاح مشعر بأنّ مباشرها لا يفلح مع إمكان أن يقال : إنّ في لعلّ أيضا تأكيد وإيماء بأنّهم لمّا تقدّم منهم ذلك صاروا بعيدين عن الفلاح ، ثمّ آكد ذلك ببيان ما فيها من المفاسد الدنيويّة والدينيّة. ثمّ بعد أن قرّر ذلك قال : فهل أنتم منتهون بصيغة الاستفهام مرتّبا على ما تقدّم من أنواع الصوارف وإيذانا بأنّ الأمر في المنع والتحذير بلغ الغاية ، وأنّ الأعذار قد انقطعت ، وسيجيء الكلام في ذلك إنشاء الله تعالى ، والأخبار الدالّة على النجاسة معارضة بمثلها ممّا دلّ على الطهارة ، والجمع بينها بحمل ما يدلّ على الغسل على الاستحباب أولى من حمل ما يدلّ على العدم على التقيّة.

والحقّ أنّ المسئلة من المشكلات خصوصا بعد ملاحظة ما نقله شيخ الطائفة ، والسيّد المرتضى من الإجماع على نجاسة الخمر بل قال السيّد المرتضى : إنّه لا خلاف بين المسلمين في نجاسته إلّا ما يحكى من شذاذ لا اعتبار بقولهم هذا كلامهم ، وليس في كلام الصدوق تصريح بالطهارة فإنّه حكم بجواز الصلاة في ثوب أصابه الخمر وهو غير الطهارة لجواز العفو عنده ، وعليك بالاحتياط التامّ في هذا المقام.

العاشرة : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (١).

__________________

(١) المدثر ٤ و ٥.

١٠٧

(وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) أى من النجاسات وهذا هو المتبادر منها ، ويؤيّده أنّ الكفّار لا يتطهّرون من النجاسات فورد ذلك ردّا عليهم ، وإطلاق التطهير مقيّدا بالماء المطلق لأنّه المفهوم منه. إذ لا عرف في التطهير بغيره ، والأصل عدم النقل فاندفع استدلال السيّد المرتضى على جواز إزالة النجاسة بالمضاف نظرا إلى إطلاق التطهير ، وعدم تقييده بالماء ، وما ذكره من أنّ تطهير الثوب لا يراد به أكثر من إزالة النجاسة عنه وقد زالت بغير الماء شاهده. مدفوع بأنّا لا نسلّم أنّ المراد بالتطهير الإزالة مطلقا بل على الوجه المعتبر في الشريعة ولا يلزم من زوالها في الحسّ زوالها على ذلك الوجه فإنّ الثوب لو يبس بلله بالماء النجس أو بالبول لم يطهر إجماعا ، وإن زالت النجاسة عنه.

وبالجملة فالنجاسة حكم شرعيّ لا يزول عن المحلّ إلّا بحكم شرعيّ ، ومع الغسل بالماء يحصل الامتثال قطعا فيكون مرادا في الآية بخلاف غيره ، والمحقّق بعد أن نقل احتجاج السيّد بالآية على جواز إزالة النجاسة بالمضاف نظرا إلى إطلاق التطهير أجاب بمنع دلالتها على موضع النزاع فإنّها دالّة على وجوب التطهير. والبحث ليس فيه بل في كيفيّة الإزالة (١). ثمّ اعترض بأنّ الطهارة إزالة النجاسة كيف كان ، وأجاب بأنّ هذا أوّل المسئلة.

وأورد ثانيا بأنّ الغسل بغير الماء يزيل عين الدنس فيكون طهارة ، وأجاب أوّلا بالمنع. فإنّ النجاسة إذا مازجت المائع شاعت فيه فالباقي في الثوب منه يتعلّق به حصّة من النجاسة ، ولأنّ النجاسة ربّما سرت في الثوب فسدّت مسامه فتمنع غير الماء من الولوج حيث هي وتبقى مرتمكة في محلّها ، ثمّ سلّم زوال عين النجاسة ثانيا وقال : لكن لا نسلّم زوال نجاسة تخلّفها فإنّ المائع بملاقاة النجاسة يصير عين النجاسة فالبلّة المتخلّفة منه في الثوب بعض المنفصل النجس فيكون نجسا أو نقول : للنجاسة الرطبة أثر في تعدّى حكمها إلى المحلّ كما أنّ النجاسة عند ملاقاة المائع تتعدّى

__________________

(١) هكذا نقل صاحب المعالم عن المحقق في فقه المعالم المطبوع بتبريز ١٣٢٢ ص ١٩٠ وكذا في الحدائق ج ١ ص ٤٠٣ ط النجف ، وليس في المعتبر انظر ص ٢٠ ط تهران ١٣١٨ مسئلة طهارة محل الخبث بالماء المضاف ، ولعله منقول عن بعض أجوبته في المسائل.

١٠٨

نجاستها إليه فعند وقوع النجاسة الرطبة يعود أجزاء الثوب الملاقية لها نجسة شرعا وتلك العين المنفعلة لا تزول بالغسل. هذا.

وربما استدلّ السيّد على قوله أيضا بإطلاق الغسل في الحديث المستفيض عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يغمس يده في الإناء حتّى يغسلها (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لخولة بنت يسار حتّيه (٢) ثمّ اقرصيه. ثمّ اغسليه ، وما رواه الأصحاب عن الصادق عليه‌السلام. أنّه قال لابن أبي يعفور (٣) وقد سأله عن المنىّ يصيب الثوب : إن عرفت مكانه فاغسله ، وإن خفي عليك مكانه فاغسله كلّه ، ونحوها من الأخبار المتكثّرة (٤) بهذا الإطلاق.

واعترض المرتضى على نفسه بأنّ إطلاق الأمر بالغسل ينصرف إلى ما يغسل به في العادة ولم تقض العادة بالغسل بغير الماء ، وأجاب بالمنع باختصاص الغسل بما يسمّى الغاسل به غاسلا عادة. إذ لو كان كذلك يوجب المنع من غسل الثوب بماء الكبريت والنفط وغيرهما ممّا لم تجر العادة بالغسل به ، ولمّا جاز ذلك إجماعا علمنا عدم الاشتراط بالعادة

__________________

(١) انظر الأم للشافعي ج ١ ص ٢٤ وفيه زيادة كلمة ثلاثا ، وكذا في أكثر أحاديث البيهقي انظر ج ١ ص ٤٥ إلى ٤٨.

(٢) هكذا نقله في المعتبر ص ٢٠ حتيه ثم اقرصيه. ثم اغسليه ، وكأنه نقل بالمعنى فان اللفظ لأبي داود في قوله (ص) لخولة ج ١ ص ١٥١ الرقم ٣٦٥ : إذا طهرت فاغسليه وصلى فيه وعلى أى ففيه إطلاق الغسل وليس عندي مسند أحمد ولعل اللفظ فيه كما في المتن وفي المعتبر ، وأما لفظ حتيه ثم أقرصيه فإنما ورد في رواية أسماء بنت أبى بكر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لامرئة سألته عن دم الحيض أصاب ثوبها ، وقيده بالماء ، ولذا استدل به في المعتبر على لزوم كون الغسل بالماء ، وألفاظ هذا الحديث مختلفة مثل حتيه ثم اقرصيه بالماء. ثم انضحيه أو رشيه أو اغسليه انظر ص ٤٩ إلى ص ٥٦ ج ١ نيل الأوطار وص ٦٧ ج ١ كتاب الأم للشافعي وص ١٣ ج ١ سنن البيهقي ، وغيرها من كتب أحاديثهم وكذا ص ١٣٣ ج ١ فتح القدير ، وبهامشه شرح العناية وفيه لفظ اغسليه غير محفوظ في الحديث.

(٣) انظر التهذيب ج ١ ص ٢٥١ الرقم ٧٢٥ ورواه في الكافي باب المنى والمذي يصيبان الثوب والجسد ص ٢٨ ج ٣ مرآت العقول.

(٤) انظر أبواب النجاسات وغيرها من كتب الحديث وهي كثيرة جدا لا طائل في ذكرها ـ

١٠٩

وإنّ المراد بالغسل ما يتناوله اسمه حقيقة من غير اعتبار العادة ، ويجاب بأنّ الأخبار المطلقة محمولة على كون الغسل فيها مقيّدا بالماء إمّا لسبقه إلى الذهن عند الإطلاق كما يسبق عند إطلاق الأمر بالسقي ، وإمّا لورود أخبار عديدة مشتملة على تقييد الغسل بالماء لقول الصادق عليه‌السلام في صحيحة محمّد الحلبي (١) : فإذا وجد الماء غسّله ، ونحوها والمطلق يحمل على المقيّد ، ومقتضى الآية وجوب طهارة الثياب على الإطلاق لكنّه مقيّد بوقت الصلاة ونحوها للإجماع على أنّ طهارة الثياب غير واجبة في نفسه بل للصلاة ونحوها ممّا يشترط فيه الطهارة ، وفيها دلالة أيضا على أنّ صدق التطهير كاف في حصول الطهارة من غير احتياج إلى عصر أو ورود ماء أو عدد إلّا ما أخرجه الدليل من الإجماع ونحوه إلّا أن يقال : لا يصدق التطهير بدون ذلك ، وفيه بعد ، وتفاصيل ذلك تعلم من الفروع. وقيل إنّ المراد بتقصيرها ومخالفة العرب في تطويلهم الثياب وجرّهم ذيولها. قال الزجاج : تقصير الثياب أبعد من النجاسة فإنّه إذا جرّ على الأرض لا يؤمن أن يصيبه ما ينجسه ، وهو أوّل ما أمر به من رفض العادات المذمومة.

ويمكن فهم وجوب الطهارة منها أيضا لأنّها هي المقصودة من التقصير فإنّ الغرض منه عدم إصابة النجاسة ذيولها ، وفي رواية أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام تشمير الثياب طهورها (٢) قال الله تعالى (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) أي فشمّر ، وقيل : إنّ المراد بالثياب : النفس أي طهّر نفسك ممّا يستقذر من الأفعال ويستهجن من العادات ، وعليه جرى قول الشاعر :

__________________

(١) رواه في التهذيب ج ١ ص ٢٧١ الرقم ٧٩٩ والاستبصار ج ١ ص ١٨٧ الرقم ٦٥٥ والفقيه ج ١ ص ٤٠ الرقم ١٥٥ وهو في الوسائل في الباب ٤٥ من أبواب النجاسات الحديث الأول ص ٢٠٣ ج ١ ط أمير بهادر.

(٢) انظر الروايات في أن معنى التطهير تشمير الثياب في البرهان ج ٤ ص ٣٩٩ و ٤٠٠ والكافي الباب ١٤ من كتاب الزي والتجمل وهو في مرآت العقول ج ٤ ص ١٠٥ و ١٠٦ وفي المرآة رواية أبي بصير عن الصادق (ع) عن أمير المؤمنين أن تشمير الثياب طهور لها ، وقد قال الله ، وثيابك فطهر : أى فشمر ، وهو في الوسائل الباب ٢٢ من أبواب أحكام الملابس الحديث التاسع ص ٢٨٢ ج ١ ط أمير بهادر.

١١٠

فشككت بالرمح الأصمّ ثيابه (١)

وقيل معناه : طهّر ثيابك من أن تلبسها ما على معصية أو غدرة كما قال :

وإنّى بحمد الله لا ثوب فاجر

لبست ولا من غدرة أتقنّع

قال الزجاج معناه لا يكون غادرا فإنّه يقال للغادر : دنس الثياب فكأنّه قال : وعملك فأصلحه ، ويؤيّده قول السدّى : إنّ الرجل إذا كان صالحا قيل : إنّه طاهر الثياب ، وإن كان فاجرا قيل : إنّه خبيث الثياب. وقيل معناه : لا يكون لباسك من حرام. وقيل : معناه أزواجك فطهّرهنّ عن الكفر والمعاصي حتّى يصرن مؤمنات

__________________

(١) تمام البيت ليس الكريم على القنا بمحرم.

وهو لعنترة العبسي المكنى بأبى المفلس وأبى الفوارس قال ابن الأنباري في شرحه على المعلقات ص ٢٩٣ عن ابن السكيت ، عنترة بن معاوية بن شداد بن قراد ، وعن أحمد بن عبيد عنترة بن شداد بن معاوية بن قراد. وقال البغدادي في ص ٨٩ ج ١ من الخزانة في شرح الشاهد الثاني عشر من شرح الكافية هو عنترة بن شداد بن عمرو بن قراد ، ونقل عن الكلبي أنه عنترة بن عمرو بن شداد ، ونقل عن بعض أن شداد عمه فنسب إليه ، ومثله في الشعر والشعراء لابن قتيبة ص ٧٥ ، وفي الإعلام ج ٥ ص ٢٦٩ هو عنترة بن شداد بن عمرو بن معاوية بن قراد.

كان عنترة من أشهر فرسان العرب في الجاهلية ومن شعراء الطبقة الاولى من أهل نجد امه حبشية اسمها زبيبة. نقل الآلوسي في بلوغ الارب ج ٣ ص ١١٦ أنه لما أنشد بين يدي رسول الله (ص) أبياته التي يقول فيها :

بكرت تخوفني المنون كأننى

أصبحت عن غرض المنون بمعزل

إلى آخر الأبيات قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما وصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة.

والبيت الذي استشهد به المصنف من معلقته المشهورة ، ومعنى المعلقة : أن العرب كانت في الجاهلية يقول الرجل منهم الشعر في أقصى الأرض فلا يعبأ به ، ولا ينشده أحد حتى يأتي مكة في موسم الحج فيعرضه على أبدية قريش فان استحسنوه روى ، وكان فخرا لقائله وعلق على ركن من أركان الكعبة حتى ينظر إليه ، وكانت المعلقات تسمى المذهبات أيضا ، وذلك أنها اختيرت من سائر الشعر فكتبت في القباطي (جمع قبطية بالكسر والضم وهي ثياب إلى الرقة ـ

١١١

صالحات ، والعرب تكنّى بالثياب عن النساء ، ولا يخفى بعد جميع ذلك عن ظاهر الآية ويمكن حملها على التنظيف الّذي هو الطهارة لغة ، ويكون الأمر واردا بها فإنّ النظافة مطلوبة للشارع بإزالة الوسخ ونحوه ، وعلى هذا فاستفادة وجوب الطهارة الشرعيّة

__________________

ـ والدقة والبياض تنسب إلى قبط مصر تتخذ من الكتان) بماء الذهب وعلقت على الكعبة وقيل : بل كان الملك إذا استجيدت قصيدة يقول : علقوا لنا هذه لتكون في خزانته ، وأنكر بعض قصة التعليق على الكعبة مثل أبى جعفر النحاس المتوفى ٣٣٨ وبعض الباحثين المحدثين والمستشرقين ، واعتقدوا أن هذه القصائد إنما جمعت في العصر العباسي جمعها حماد الراوية ، وقال لهم : إنها هي المشهورات فسميت القصائد المشهورة ، وظنوا أن أول من ذكر خبر تعليقتها على الكعبة أنه الكلبي المتوفى ٢٠٤ وممن قال بالتعليق ابن عبد ربه في العقد وابن رشيق في العمدة ، وابن خلدون في مقدمته ، وأيده جرجي زيدان في تاريخ آداب اللغة العربية ج ١ ص ٩٠ ، والأسماء التي وردت بها تلك القصائد فيما لدينا من كتب الأدب والبيان واللغة إلى آخر القرن الثالث هي : السبع الطوال والسموط والسبعيات ، وأنكر بعض صحة نسبة هذه القصائد إلى قائليها ، ورجحوا كونها مسخولة وضعها مثل حماد الراوية ، وخلف الأحمر انظر تفصيل ما تلوناك في تاريخ آداب اللغة العربية ، وفي المفصل في تاريخ الأدب العربي ص ٨٤ ، وتاريخ آداب العرب للرافعى ج ٣ ص ١٨٤ وخزانة الأدب للبغدادى ، والمزهر ج ٢ ص ٨١ ومقدمة ابن خلدون ص ٥٨١ ومقدمة عبد السلام محمد هارون على شرح ابن الأنباري على المعلقات ، وغيرها من الكتب.

ثم إن البيت أنشده في المجمع ج ٥ ص ٣٨٥ وكنز العرفان ج ١ ص ٥٤ وفتح القدير للشوكانى ج ٥ ص ٣١٥ وتفسير الخازن ج ٤ ص ٣٢٧ وتفسير الرازي ج ٣٠ ص ١٩٢ وجمهرة اللغة ج ١ ص ٩٨ العمود الثاني واللسان ص ٤٥٢ ج ١٠ ط بيروت لغة (ش ك ك) والصحاح [ش ك ك] ومقاييس اللغة ج ٣ ص ١٧٣ وج ٥ ص ١٨٦ لغة (ك ع ب) ورواه هنا : فطعنت بالرمح الطويل كعوبه. فيخرج عن الاستشهاد ، ويروى البيت ، وشككت مكان فشككت بمعنى طعنت ، والثياب بمعنى النفس ، وقال ابن الأنباري : بمعنى القلب.

ومعنى المصرع الثاني أنه لم يمنعه أن يقتل بالقناة كرمه ، وقيل : منيته القتل ليس يموت على فراشه.

١١٢

منها بعيدة إلّا أن يقال : ظاهر الأمر الوجوب ، فمقتضى الآية وجوب النظافة مطلقا خرج منه غير الطهارة الشرعيّة لعدم وجوبها إجماعا فيبقى الوجوب مخصوصا بها. فتأمّل.

(الرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (١) ، أى خصّ الرجز بوجوب الهجر ويكون الحصر إضافيّا ويحتمل أن يكون التقديم لا للحصر بل لوجه آخر ، والرجز إمّا الصنم والمراد الثبات على هجره فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان بريئا منه لم يزل ولا يزال أو المراد كسره وإهانته مهما أمكن ، ويجوز أن يكون الخطاب عامّا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولجميع أمّته ، واكتفى بذكره كما يكتفى في الأوامر بالرؤساء عن جميع الرعيّة : أي لا تعبدوا الأصنام بل لا تعظّموها واهجروها وإمّا العذاب والمراد وجوب الاجتناب عن موجبه وما يؤدّى إليه كالشرك وعبادة الأصنام وغيرها من المآثم والمعاصي. وقيل : إنّه بالضمّ الصنم ، وبالكسر العذاب. قال في القاموس : الرجز بالكسر والضمّ القذر ، وعبادة الأوثان والعذاب أو الشرك ، وعلى الأوّل يكون مناسبا لقوله : وثيابك فطهّر : أي طهّرها للصلاة واجتنب عبادة الأوثان ويناسبه قوله : وربّك فكبّر بناء على أنّ المراد بها تكبير الصلاة كما سيجيء. وقيل : معناه جانب الفعل القبيح والخلق الذميم. وقيل : معناه اخرج حبّ الدنيا من قلبك لأنّه رأس كلّ خطيئة كما ورد في الحديث (٢).

__________________

(١) قرء عاصم في رواية حفص عنه والرجز في هذه الآية بالضم ، وفي سائر القرآن بكسر الراء ، وقرأ الباقون من السبعة وعاصم في رواية أبي بكر بالكسر ، وقرأ أبو جعفر ويعقوب وسهل وابن محيصن والحسن ومجاهد وعكرمة بالضم ، والظاهر أنهما بمعنى واحد كالذكر والذكر.

(٢) حديث حب الدنيا رأس كل خطيئة أخرجه السيوطي في الجامع الصغير بالرقم ٣٦٦٢ ص ٣٦٨ ج ٣ فيض القدير عن البيهقي في شعب الايمان عن الحسن مرسلا ، وجعل عليه رمز الضعف ، وعن البيهقي نفسه أنه لا أصل للحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقيل : إنه من كلام الحكماء ، وعن ابن تيمية أنه من قول : جندب البجلي ، وعن ابن أبى الدنيا أنه من كلام مالك بن دينار ، وعن أبى نعيم في ترجمة سفيان أنه من كلام عيسى ، وعن الديلمي أنه من كلام على عليه‌السلام.

١١٣

الحادي عشر : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١).

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) إذ ظرف وضع لزمان نسبة ماضية وقع فيه اخرى ولذلك وجب إضافته إلى الجمل ، ومحلّها النصب أبدا بالظرفيّة ، وأمّا قوله (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ) ونحوه فعلى تأويل اذكر الحادث إذا كان كذا فحذف الحادث ، وأقيم الظرف مقامه ، وعامله هنا قال ، أو اذكر على التأويل المذكور متعلّق الظرف محذوف أي واذكر والمخاطب نبيّنا ـ صلوات الله عليه وآله ـ ويكون الظرف بمعنى الوقت فقط ، ويحتمل انتصابه بقال ، وسيجيء. والابتلاء الاختبار والامتحان ، والمراد هنا الأمر والتكليف عبّر عن تكليفه إيّاه بالبلوى تشبيها لأمره تعالى بأمر المخلوقين ، وبناء على العرف بيننا فإنّ كثيرا منّا قد يأمر ليعرف ما يكون من المأمور حينئذ وإلّا فكيف يجوز حقيقة الابتلاء عليه تعالى مع أنّه عالم بجميع المعلومات الّتي لا نهاية لها على سبيل التفصيل من الأزل إلى الأبد.

وقيل : إنّه مجاز عن تمكينه العبد من اختيار أحد الأمرين ما يريد الله وما يشتهيه هو كأنّه يمتحنه ما يكون منه حتّى يجازيه ، وأكثر المفسّرين على الأوّل يعنى أنّه أمره.

(بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) أي أدّاهنّ كملا وقام بهنّ حقّ القيام لقوله (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) وقد فسّرت الكلمات بتفسيرات عديدة :

فقيل : هي ما ذكره من الإمامة ، وتطهير البيت ورفع قواعده والإسلام قبل ذلك وقوله (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ).

وقيل : هي مناسك الحجّ كالطواف والسعي والإحرام والتعريف وغيرهنّ.

وقيل : ابتلاه بالكواكب والقمر والشمس والختان وذبح الولد والنار والهجرة.

__________________

(١) البقرة ١٢٤.

١١٤

وقيل : هي الخصال الثلاثون المحمودة المذكورة : عشر منها في برأيه (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) ، وعشر في الأحزاب (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) وعشر في كلّ من المؤمنين ، وسئل سائل إلى قوله (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ).

وقيل : غير ذلك إلّا أنّ المشهور أنّها السنن الحنيفيّة العشرة (١) الّتي كانت في شريعته فرضا ، وهي في شريعة نبيّنا ـ صلوات الله عليه وآله ـ سنّة. خمس في الرأس : وهي المضمضة والاستنشاق والفرق وقصّ الشارب والسواك ، وخمس في البدن : وهي الختان وحلق العانة وتقليم الأظفار ونتف الإبطين والاستنجاء بالماء ، وعلى هذا ففي الآية دلالة على استحباب ذلك ، ولا ينافيه كونها في شريعة من قبلنا وشريعة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ناسخة لها لأنّ المراد نسخ المجموع من حيث هو مجموع ، ولا ينافيه ثبوت بعض الأحكام والطبرسي في مجمع البيان بعد أن ذكر الحنيفيّة العشرة قال : فهذه الحنيفيّة الظاهرة الّتي جاء بها إبراهيم ـ صلوات الله عليه ـ فلم تنسخ ولا تنسخ إلى يوم القيمة وهو قوله تعالى (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) ذكره علىّ بن إبراهيم في تفسيره ، وحينئذ فتكون من شريعة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولعلّ المراد بالختان ما وقع قبل البلوغ فإنّه بعده من الواجبات لا من السنن. فتأمّل :

(قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) إن جعلت العامل في ـ إذ ـ مضمرا كان هذا استينافا كأنّه قيل : فما ذا قال له ربّه حين أتمّهنّ. فأجيب بذلك ، ويحتمل أن يكون بيانا لقوله ابتلى كما أشرنا أنّ ذلك أحد الأقوال في الكلمات ، وإن جعلت عامل ـ إذ ـ قال كان المجموع جملة معطوفة على ما قبلها.

والإمام المقتدى به في أفعاله وأقواله وله الرئاسة العامّة في الأمور الدينيّة والدنيويّة ، وفي الكشّاف هو اسم لمن يؤتمّ به كالإزار اسم لما يؤتزر به يعني يأتمّون بك في دينهم.

(قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) عطف على الكاف في جاعلك يعنى وبعض ذرّيّتي وهو من

__________________

(١) انظر تعليقنا على كنز العرفان ج ١ ص ٥٥ في وهن هذا التفسير.

١١٥

عطف التلقين كأنّك تلقّن المخاطب العطف ، والكلام في تقدير واجعل بعض ذرّيّتي ، وهذا العطف على نوعين :

أحدهما : ما يصحّ أن يقع ما في كلامك بعينه في كلام مخاطبك كما تقول : وزيدا في جواب من قال : ساكرمك بعطف زيد على الكاف في ساكرمك. والمراد وتكرم زيدا.

والثاني : ما لا يصحّ وقوعه بعينه فيه كما تقول : وغلامي في جواب من قال : أكرمت زيدا على أنّه ضمير المتكلّم ، والمراد وأكرم غلامي ، والآية الكريمة من قبيل الثاني ، والتقدير الّذي يذكره النحاة فيه إنّما هو لربط الكلام ، وتوضيح المرام لا لأنّ المقدّر هو المعطوف فإنّهم لا يتحاشون عن إطلاق المعطوف على كلمة ، وإن كان الكلام لا يستقيم إلّا بتقدير اخرى ، ومن ثمّ قالوا في قوله تعالى (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) إنّ زوجك معطوف على المستكن في أسكن ، والمعنى ولتسكن زوجك ، ومثل ذلك في كلامهم كثير.

فإن قلت : كيف يصحّ العطف على الضمير المجرور أعنى الكاف في جاعلك من دون إعادة الجارّ؟

قلنا : لمّا كانت الإضافة اللفظيّة في تقدير الانفصال صحّ العطف المذكور.

«والذرّيّة» بمعنى النسل مأخوذة إمّا من الذرء أو الذرّ أو الذر وأو الذرى فهي فعيلة أو فعليّة قلبت راؤها الثالثة ياء كما في التقضي أو فعولة أو فعيلة وقلبت همزتها ياء.

(قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) إجابة إلى ملتمسه وأنّه يعطى الإمامة بعض ذرّيّته وتنبيه على أنّه قد يكون من ذرّيّته ظلمة فلا يصلحون أن ينالوا عهده ، وإنّما قلنا : إنّ في ذلك إجابة لملتمسه لأنّه لو لم يرد أن يجعل أحدا منهم إماما للناس كان يجب أن يقول في الجواب : لا ينال عهدي ذرّيّتك كذا قال الشيخ في التبيان ، والمراد بالعهد هنا الإمامة ، وهو الظاهر من سياق الكلام ، وهو المرويّ عن الصادق والباقر عليهما‌السلام(١)

__________________

(١) انظر المجمع ج ١ ص ٢٠٢ وتفسير البرهان ج ١ من ص ١٤٧ إلى ١٥١.

١١٦

ويظهر من كلامي الكشّاف والبيضاوي : أي لا يصل عهدي إلى كلّ الذرّيّة مطلقا ، وإنما يصل إلى من هو بريء من ظلم نفسه ، ومعلوم أنّ فاعل المعاصي ظالم لنفسه كما قال سبحانه (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) فلا يستحقّ الإمامة. قال الشيخ في التبيان : واستدلّ أصحابنا بهذه الآية على أنّ الإمام لا يكون إلّا معصوما من القبائح لأنّ الله تعالى نفى أن ينال عهده الّذي هو الإمامة ظالم ، ومن ليس بمعصوم وهو ظالم إمّا لنفسه أو لغيره.

فإن قيل : إنّما نفى أن يناله ظالم في حال كونه كذلك فأمّا إذا تاب وأناب فلا يسمّى ظالما فلا يمتنع أن يناله.

قلنا : إذا تاب لا يخرج من أن تكون الآية كانت تتناوله [متناولة له خ ل] في حال كونه ظالما فإذا نفى أن يناله فقد حكم عليه بأنّه لا ينالها ، ولم يقيّد بأنّه لا ينالها في هذه الحال دون غيرها ، فيجب أن تحمل الآية على عموم الأوقات في ذلك ولا ينالها وإن تاب فيما بعد. انتهى كلامه وهو جيّد في الغاية.

ويمكن الاستدلال علي ذلك من وجه آخر فيقال : إنّ فاعل المعصية وقتا ما يصدق عليه أنّه ظالم في الجملة أمّا على تقدير كون المشتقّ حقيقة لمن اتّصف بالمشتقّ منه وقتا ما فظاهر ، وأمّا على تقدير اشتراط الصدق حقيقة بكون المبدأ قائما به فلأنّ ذلك ليس بمراد قطعا. إذ لا يتوهّم في المباشر الظلم في وقت أن ينال العهد في ذلك الوقت فتعيّن الأوّل ويتمّ المطلوب ، وقد نفى الله تعالى العهد عمّن صدق عليه أنّه ظالم في الجملة ويلزم منه عدم جواز من اتّصف بفسق من الفسوق وقتا ما إماما. فلا بدّ في النبيّ ، والإمام القائم مقامه من كونهم معصومين من أوّل عمرهم إلى آخره من الكبائر كما هو مذهب أصحابنا ، وقد أجرى الله الحقّ على لسان البيضاوي حيث قال في تفسيرها : إنّها تدلّ على عصمة الأنبياء من الكبائر قبل البعثة ، وإنّ الفاسق لا يصلح للإمامة.

١١٧

قلت : ما ذكره من عصمة الأنبياء من الكبائر قبل البعثة حقّ لقيام الأدلّة القطعيّة عليه ، أمّا دلالة الآية على ذلك فغير واضحة لظهور أنّ المراد بالعهد فيها الإمامة كما عرفت فإنّ إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد كان نبيّا ، وأراد الله بذلك أن يجمع لإبراهيم عليه‌السلام النبوّة والإمامة قال الشيخ في التبيان : واستدلّ أصحابنا أيضا بها على أنّ منزلة الإمامة منفصلة من النبوّة لأنّ الله تعالى خاطب إبراهيم عليه‌السلام فقال له : إنّه سيجعله إماما جزاء له على إتمامه ما ابتلاه الله به من الكلمات ، ولو كان إماما في الحال لما كان للكلام معنى فدلّ ذلك على أنّ منزلة الإمامة منفصلة من النبوّة ، وإنّما أراد الله أن يجمعهما لإبراهيم عليه‌السلام. انتهى ، وهو ظاهر فيما قلناه ، وأمّا دلالتها على أنّ الفاسق لا يصلح للإمامة فحقّ لما عرفت ، ولكنّه خلاف مذهب الأشاعرة بل خلاف معتقده أيضا فإنّه يعتقد وقوع الكبائر منهم عليهم‌السلام مثل ما وقع من آدم وسمّى عاصيا في قوله (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) وقوله (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) ونحو ذلك كما يعرف من كلامه بل يجزم بوقوع الكفر ممّن يعتقد إمامته كالشيخين لسبق كفرهما ، وتخصيص الآية بالنبوّة بعيد. إذ الظاهر أنّ المراد بها الإمامة كما عرفت ، ولصاحب الكشّاف هنا كلام جيّد هذا لفظه (١). وقالوا : في هذا دليل على أنّ الفاسق لا يصلح للإمامة ، وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته ، ولا تجب طاعته ، ولا يقبل خبره ، ولا يقدّم للصلاة وكان أبو حنيفة يفتي سرّا بوجوب نصرة زيد بن علىّ وحمل المال إليه. والخروج على اللصّ المتغلّب المسمّى بالإمام والخليفة كالدوانيقي وأشباهه. وقالت له امرأة : أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ، ومحمّد ابني عبد الله بن الحسن حتّى قتل : فقال : ليتني مكان ابنك ، وكان يقول في المنصور وأشباهه : لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على عدّ آجره لما فعلت ، وعن ابن عيينة لا يكون الظالم إماما قطّ ، وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة

__________________

(١) وللمصنف كلام لطيف متعلق بهذا الموضع عند تفسير (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) فانتظر.

١١٨

والإمام إنّما هو لكفّ الظلمة فإذا نصب من كان ظالما في نفسه فقد جاء المثل السائر : من استرعى الذئب فقد ظلم نفسه. انتهى ، ومنه يظهر اشتراط العدالة في القاضي والشاهد والراوي ، وإمام الجماعة ، وهو خلاف ما هو المعهود من مذهب الحنفيّة (١) فتأمّل فيه.

__________________

(١) وأنكر أبو بكر الرازي الجصاص الحنفي في كتابه أحكام القرآن ج ١ ص ٨٠ إلى ٨٢ جواز إمامة الفاسق ونفوذ حكمه عند أبي حنيفة ، وتأول النسبة على تقدير عدم تعمد الكذب بأن رأيه ورأى سائر العراقيين أن القاضي إذا كان عدلا في نفسه فولى القضاء من قبل إمام جائر يكون أحكامه نافذة وقضاياه صحيحة والصلاة خلفه جائزة ، ولا اعتبار بمن ولاه لأن الذي ولاه إنما هو بمنزلة سائر أعوانه ، وليس شرط أعوان القاضي أن يكونوا عدولا ثم صحح هذا الرأي واستدل له لقبول التابعين القضاء من قبل بنى أمية بما هو مشروح في الكتاب. فراجع.

١١٩

كتاب الصلاة

(وهو يتنوع أنواعا)

الأوّل : في البحث عنها بقول مطلق وفيه آيات :

الاولى : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (١).

(إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) لعلّ وجه تخصيص الحكم بهم التحريص والترغيب لهم في حفظها وحفظ أوقاتها حالتي الأمن والخوف ، وإيماء بأنّ ذلك من مقتضى الإيمان وإشعار أهله فلا يجوز أن تفوتهم ، ويمكن أن يكون الوجه ما تقدّم من أنّهم المتهيّئون لذلك الممتثلون له وإلّا فهي واجبة على الكافر أيضا على ما مرّ غير مرّة.

(كِتاباً مَوْقُوتاً) فرضا محدودا لأوقات لا يجوز إخراجها عن أوقاتها المعيّنة لها في شيء من الأحوال ، ويحتمل أن يراد بالكتاب المكتوب : أى المفروض كقوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) أى فرض والموقوت المحدود بأوقات معيّنة لا يجوز التقديم عليها ولا التأخير عنها ، والمراد أنّ الصلاة مفروضة محدودة بأوقات منجّمة يجب إيقاعها في تلك الأوقات ، ولا يجوز إخراجها عنها في شيء من الحالات ولو في شدّة الخوف ، وفي الآية دلالة على وجوب الصلاة في جميع الأحوال إلّا ما أخرجه الدليل كحال الحيض ونحوه ، وعلى جميع المكلّفين خائفين أو آمنين محاربين أولا كما هو معلوم من أوّلها وعلى هذا علماؤنا أجمع ، وأكثر الشافعيّة ، ويؤيّده ما روى عن ابن عبّاس أنّه قال عقيب تفسير هذه الآية (٢) : لم يعذر الله في ترك ذكره أحدا إلّا المغلوب على عقله وقد روى في أخبارنا هذا المعنى أيضا ، ولم يوجبها أبو حنيفة على المحارب حال المسايفة

__________________

(١) النساء ١٠٣.

(٢) انظر الطبري ج ٥ ص ٢٦٠.

١٢٠