التوحيد والشرك في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

التوحيد والشرك في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 964-357-214-5
الصفحات: ٢٣٢

والآخرة كلّها ، والمتصرّف فيها فلو نودي موجود آخر بهذا الوصف تماماً أو بعضاً فالنداء عبادة له وشرك فيها والمنادي مشرك بلا كلام.

وعلى ذلك فلو خضع واحد منّا أمام موجود زاعماً بأنّه مستقل في ذاته أو فعله لصار الخضوع عبادة ، بل لو طلب فعل الله سبحانه من غيره كان هذا الطلب نفسه عبادة وشركاً ، فانّ الطلب في هاتيك الموارد لا ينفك عن الخضوع ، فالذي يجب التركيز عليه هو أن نعرف ما هو فعل الله سبحانه ، ونميزه عن فعل غيره حتى لا نقع في ورطة الشرك عند طلب شيء من الأنبياء والأولياء وغيرهم من الناس فنقول :

إنّ من أقسام الشرك هو أن نطلب فعل الله من غيره ، والمعلوم أنّ فعل الله ليس هو مطلق الخلق والتدبير والرزق سواء أكان عن استقلال أم بإذن الله ، لأنّه سبحانه نسبها إلى غيره في القرآن ، بل هو القيام بالفعل مستقلاً من دونه استعانة بغيره ، فلو خضع أحد أمام آخر بما أنّه مستقل في فعله سواء أكان الفعل فعلاً عادياً كالمشي والتكلّم ، أم غير عادي كالمعجزات التي كان يقوم بها سيدنا المسيح ـ عليه السلام ـ (١) مثلاً ، يعد الخضوع عبادة للمخضوع له.

توضيحه : أنّ الله سبحانه غني في فعله ، كما أنّه غني في ذاته عما سواه فهو يخلق ويرزق ويحيي ويميت من دون أن يستعين بأحد (٢) أو يستعين في خلقه بمادة

__________________

(١). كما في الآية ٤٩ من آل عمران : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ)

(٢). نعم قد سبق منّا عند البحث عن التوحيد في الربوبية أنّ كون الله سبحانه لا يستعين ـ في فعله ـ بأحد لا يلازم أن يقوم بنفسه بكل الأُمور ، وبأنّ تكوّن ذاته مصدراً للخلق والرزق والإحياء والإماتة من دون أن يتسبّب في كل ذلك بالأسباب ، بل معناه أن يكون في فعله ـ سواء في أفعاله المباشرية أو التسبيبية ـ مستغنياً عن غيره ، وإن كانت أفعاله جارية عبر نظام الأسباب والعلل. فراجع كتابنا مفاهيم القرآن الجزء الأوّل ـ الفصل الثامن.

٨١

قديمة غير مخلوقة له ، بل الله سبحانه يخلق الجميع بنفسه من دون استعانة بأحد أو بشيء ، فهو يخلق المادة ويصوّرها كيف شاء. فلو اعتقدنا أنّ أحداً مستغن في فعله العادي ، وغير العادي عمّن سواه ، وأنّه يقوم بما يريد من دون استعانة أو استمداد من أحد حتى الله سبحانه فقد أشركناه مع الله واتخذناه ندّاً له تعالى.

وصفوة القول هي : إنّ ملاك البحث في هذا التعريف هو : «استقلال الفاعل» في فعله وعدم استقلاله ، والتوحيد بهذا المعنى ممّا يشترك فيه العالم والجاهل.

نعم ما يدركه المتألّه المثالي من التفاصيل في مورد الاستقلال في المعبود وعدمه في العابد على ضوء الأدلّة العقلية والكتاب العزيز ممّا يدركه غيره أيضاً بفطرته التي خلق عليها ، وعقليته التي نما عليها ، فلا يلزم من اختصاص فهم التفاصيل بهذه الطبقة (أي المتألّهين البصيرين) حرمان عرب الجاهلية من فهم معاني العبادة ومشتقاتها الواردة في القرآن ومحاوراتهم العرفية ، فالعبادة بهذا المعنى (أي باعتقاد كون المعبود مستقلاً) يشترك فيه العالم والجاهل ، والكامل وغير الكامل ، غير أنّ كل فرد من الناس يفهمه على قدر ما أُعطي من الفهم والدرك كما قال سبحانه :

(فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) (الرعد ـ ١٧)

غير أنّ الدارج في ألسن المتكلّمين هو «التفويض» فليشرح مقاصدهم.

٢ ـ ما ذا يراد من التفويض؟

اتفقت كلمة الموحدين على أنّ الاعتقاد بالتفويض موجب للشرك ، وأنّ الخضوع النابع من ذاك الاعتقاد يعد عبادة للمخضوع له ، والتفويض يتصوّر في أمرين :

٨٢

١ ـ تفويض الله تدبير العالم إلى خيار عباده من الملائكة والأنبياء والأولياء. ويسمّى بالتفويض التكويني.

٢ ـ تفويض الشئون الإلهية إلى عباده كالتقنين والتشريع ، والمغفرة والشفاعة مما يعد من شئونه سبحانه. ويسمّى بالتفويض التشريعي.

أمّا القسم الأوّل :

فلا شك أنّه موجب للشرك ، فلو اعتقد أحد بأنّ الله فوّض أُمور العالم وتدبيرها من الخلق والرزق والإماتة ونزول الثلج والمطر وغيرها من حوادث العالم إلى ملائكته أو صالحي عباده ، فقد جعلهم أنداداً له سبحانه ، إذ لا يعني من التفويض ، إلّا كونهم مستقلّين في أفعالهم ، منقطعين عنه سبحانه فيما يفعلون وما يريدون.

وبالجملة : فتفويض التدبير الى العباد قسم من استقلال العبد في فعله وعمله عمّن سواه ، سواء أكان ذاك الاستقلال في الأفعال الراجعة إلى نفسه كمشيه وتكلّمه أم في الأفعال الراجعة إلى تدبير العالم والحوادث الواقعة فيه. غير أنّه لما كان زعم الاستقلال في أفعال العباد العادية بحثاً فلسفياً بحتاً لم يتوجه إليه مشركو الجاهلية ، لذلك خصّوا البحث بالاعتقاد باستقلالهم في تدبير العالم.

وان أصبح الأوّل أيضاً مثار بحث ونقاش في العهود الإسلامية الأُولى ، بحيث قسّم الباحثين إلى جبري وتفويضي.

والخلاصة : انّ الأمر دائر بين كون العبد ذا فعل بالاستقلال والانقطاع عن الله سبحانه ، أو كونه ذا شأن بأمره تعالى وإذنه ومشيئته ، وليس التفويض أمراً ثالثاً ، بل هو داخل في القسم الأوّل.

وأمّا الاعتقاد بأنّ القدّيسين من الملائكة والجن ، أو النبيّ والولي مدبّرون

٨٣

للعالم بإذنه ومشيئته ، وأمره وقدرته من دون أن يكونوا مستقلّين فيما يفعلون ، أو مفوّضين فيما يصدرون فلا يكون ذاك موجباً للشرك بل أمره دائر ـ حينئذ ـ بين كونه صحيحاً مطابقاً للواقع كما في الملائكة أو غلطاً مخالفاً للواقع كما في النبي والولي ، فانّ الأنبياء والأولياء غير واقعين في سلسلة العلل والأسباب ، بل هم كسائر الناس يستفيدون من النظام الطبيعي بحيث يختل عيشهم وحياتهم عند اختلال تلك النظم ، ومعلوم أنّه ليس كل مخالف للواقع يعتبر شركاً إذ عند ذاك يحتل الولي مكان العلّة الطبيعية والنظم المادية ، وليس الاعتقاد بوجود هذا النوع من العلل والأسباب مكان النظم المادية للظاهرة شركاً.

هذا ومن الجدير بالذكر أنّ مشركي عهد الرسالة كانوا يعتقدون لآلهتهم نوعاً من الاستقلال في الفعل. وكانوا يتوجهون إليها على هذا الأساس وقد مرّ أنّ عمر بن لحي عند ما سافر من مكة إلى الشام ورأى أُناساً يعبدون الأصنام فسألهم عن سبب عبادتهم لها فقالوا له :

«هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا» (١).

وقد كان ثمّة فريق من الحكماء يعتقدون بأن لكل نوع من الأنواع «ربّ نوع» فوض إليه تدبير نوعه ، وسلّمت إليه إدارة الكون التي هي من شأن الله ومن فعله تعالى. كما أنّ عرب الجاهلية الذين عبدوا الملائكة الكواكب ـ سياراتها وثوابتها ـ إنّما كانوا يعبدونها لأنّ أمر الكون وأمر تدبيره قد فوض إليها ـ كما في زعمهم ـ وأنّ الله عزل عن مقام التدبير عزلاً تامّاً ، فهي مالكة التدبير دون الله ، وبيدها هي دونه ناصية التصرف ، ولهذا كان يعتبر أي خضوع يجسد هذا الاحساس عبادة. وسيوافيك عقائد عرب الجاهلية حول معبوداتهم.

__________________

(١). سيرة ابن هشام : ١ / ٧٩ ، وقد مرّ مفصّل هذه القصة ، وما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديبية حول الاستمطار بالنوء الذي كان سائداً لدى الجاهليّين ، والذي نقلناه لك من السيرة الحلبية : ٣ / ٢٩ ، في المقدمة رقم ٢ من هذا الكتاب فراجع ص : ٢٧ ـ ٢٨.

٨٤

القسم الثاني من التفويض :

إذا اعتقدنا بأنّ الله سبحانه فوّض إلى أحد مخلوقيه بعض شئونه كالتقنين والتشريع ، والشفاعة والمغفرة فقد أشركناه مع الله ، وجعلناه نداً له سبحانه ، كما يقول القرآن الكريم :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) (البقرة ـ ١٦٥).

ولا ريب أنّ الموجود لا يقدر أن يكون نداً لله سبحانه إلّا إذا كان قائماً بفعل أو شأن من أفعال الله وشئونه سبحانه «مستقلّا» لا ما إذا قام به بإذن الله وأمره ، إذ لا يكون عند ذاك نداً لله ، بل يكون عبداً مطيعاً له ، مؤتمراً بأمره ، منفذاً لمشيئته تعالى.

هذا وقد كان أخف ألوان الشرك وأنواعه بين اليهود والنصارى وعرب الجاهلية اعتقاد فريق منهم بأنّ الله فوّض حق التقنين والتشريع الى الرهبان والأحبار كما يقول القرآن الكريم : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (التوبة ـ ٣١) وأنّ الله فوّض حق الشفاعة والمغفرة التي هي حقوق مختصة بالله إلى أصنامهم ومعبوداتهم ، وأنّ هذه الأصنام والمعبودات مستقلّة في التصرف في هذه الشئون ولأجل ذلك كانوا يعبدونها ، لأجل أنّها شفعاؤهم عند الله ، وبأيديها أمر الشفاعة ، كما يقول سبحانه :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (يونس ـ ١٨).

ولذلك أصرّت الآيات القرآنية على القول بأنّه لا يشفع أحد إلّا بإذن الله ، فلو كان المشركون يعتقدون بأنّ معبوداتهم تشفع لهم بإذن الله لما كان لهذا الإصرار

٨٥

على مسألة متّفق عليها بين المشركين ، أي مبرر ، على أنّ ذلك الفريق من عرب الجاهلية الذين كانوا يعبدون الأصنام ، إنّما كانوا يعبدونها لكونها تملك شفاعتهم لا أنّها خالقة أو مدبرة للكون ، وعلى أساس هذا التصوّر الباطل كانوا يعبدونها وكانوا يظنون أنّ عبادتهم لها توجب التقرّب إلى الله إذ قالوا :

(ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (الزمر ـ ٣).

٣ ـ لا ملازمة بين توزيع الالوهية ونفي الإله الأعلى :

إنّ توزيع الالوهية على صغار الآلهة المتخيلة أمر باطل عقلاً ونقلاً ، ولا نطيل الكلام بسوق براهينه العقلية وما تدل عليه من الآيات.

ثمّ إنّ توزيع شئون الالوهية ـ كما في زعم عرب الجاهلية ـ ما كان يلازم نفي الإله الأعلى القاهر ، بل كان الجاهليون يعتقدون بالإله الأعلى رغم عبادتهم للأصنام واعتقاد توزيع الالوهية عليها.

لكن الأُستاذ المودودي (١) أبطل فكرة توزيع الالوهية معلّلاً بأنّ : هذا التوزيع لا يجتمع مع الاعتقاد بإله أعلى حيث قال :

«إنّ أهل الجاهلية ما كانوا يعتقدون في آلهتهم أنّ الالوهية قد توزّعت فيما بينهم فليس فوقهم إله قاهر بل كان لديهم تصوّر واضح لإله كانوا يعبّرون عنه بكلمة الله في لغتهم» (٢).

وفي هذا الكلام نظر ، فإنّ الجمع بين قوله : «إنّ الالوهية توزّعت فيما بينهم» وقوله : «فليس فوقهم إله قاهر» يوهم بأنّ القول بتوزيع الالوهية يلازم القول بنفي الإله القاهر الذي هو فوق الكل ، ولكنّه ليس كذلك ، فإنّ الصابئة الذين ورد

__________________

(١). راجع بحار الأنوار : ٢٥ / ٣٢٠ ـ ٣٥٠.

(٢). كتاب المصطلحات الأربعة : ١٩.

٨٦

ذكرهم في القرآن أثبتوا للشمس الألوهية والتدبير مع القول بوجود إله قاهر حيث قالوا :

«إنّ الشمس ملك من الملائك ولها نفس وعقل ومنها نور الكواكب وضياء العالم ، وتكوّن الموجودات السفلية فتستحق التعظيم والسجود والتبخير والدعاء» (١).

وأي الوهية أكبر من تكوين الموجودات السفلية التي ينسبها الله سبحانه في القرآن إلى ذاته.

ومن الصابئة من يقول :

«إنّ القمر ملك من الملائك ، يستحق العبادة وإليه تدبير هذا العالم السفلي والأُمور الجزئية ، ومنه نضج الأشياء المتكوّنة وإيصالها إلى كمالها» (٢).

وليس لأحد أن يفسّر قولهم بأنّ الشمس والقمر كانا ـ في عقيدتهم ـ يحتلّان محل العلل الطبيعية ، وانّهما كانا يقومان بنفس الدور لا أكثر ، فانّ المفروض أنّهم جعلوهما من الملائكة وأثبتوا لهما العقل والنفس والتدبير القائم على التفكير ، وهذا يناسب الالوهية ، وكونهما إلهين ، لا كونهما عللاً طبيعية ، إذ لو كان عللاً طبيعية لما عبدوهما بتلك العبادة. فإذن لا مانع من أن يعتقد المشرك ـ في حين اعتقاده بتوزيع شئون الالوهية بين صغار الآلهة ـ بوجود إله قاهر وهو الذي وزّع الالوهية.

فالعربي الجاهلي كان يعتقد بتفويض المغفرة والشفاعة إلى أصحاب الأصنام والأوثان مع اعتقاده بوجود إله آخر قاهر وأعلى. والمغفرة والشفاعة من شئون الالوهية ، والدليل على أنّهم كانوا يعتقدون بالتفويض ، هو إصرار القرآن على القول بأنّه لا شفاعة إلّا بإذن الله سبحانه :

(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (البقرة ـ ٢٥٥).

__________________

(١). الملل والنحل للشهرستاني : ص ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

(٢). الملل والنحل للشهرستاني : ص ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

٨٧

وأنّ الله هو الذي يغفر الذنوب : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) (آل عمران ـ ١٣٥).

وأظنّ ـ ولعلّه ظنّ مصيب ـ أنّ للأُستاذ وراء هذا الكلام (توزيع الالوهية ينافي الاعتقاد بإله آخر) قصداً وهدفاً آخر ، وهو إثبات أنّ الإله في القرآن إنّما هو بمعنى المعبود تبعاً لشيخ منهجه «ابن تيمية» فتوصيف الأصنام بالالوهية إنّما هو بملاك المعبودية ، لا بملاك أنّهم صغار الآلهة ، والله سبحانه كبيرها.

والأُستاذ وتلاميذ مدرسته نزهوا المشركين عن قولهم بألوهية الأصنام ، وإنّما كانوا يعبدونها من دون أن يتّخذوها آلهة صغاراً في مقابل إله قاهر.

أضف إلى ذلك أنّهم شوّهوا بذلك سمعة جمهرة من المسلمين حيث فسّروا الآيات الناهية عن اتخاذ الآلهة ، بالنهي عن عبادتها ، لأنّ الإله عندهم بمعنى المعبود ، ثمّ طبّقوا هذه الآيات على توسّل المسلمين وزيارتهم لقبور أوليائهم.

فتفسير الآيات الناهية عن اتّخاذ الآلهة ، باتخاذ المعبود خبط ، وعلى فرض الصحة فإنّ تطبيقها على توسّلات المسلمين وزيارتهم قبور أوليائهم خبط آخر.

٤ ـ خلاصة القول :

خلاصة القول في المقام أنّ أيّ عمل ينبع من هذا الاعتقاد (أي الاعتقاد بأنّه إله العالم أو ربّه أو غنيّ في فعله وأنّه مصدر للأفعال الإلهية) ويكون كاشفاً عن هذا النوع من التسليم المطلق يعد عبادة ، ويعتبر صاحبه مشركاً إذا فعل ذلك لغير الله.

ويقابل ذلك : القول والفعل والخضوع غير النابع من هذا الاعتقاد.

فخضوع أحد أمام موجود وتكريمه ـ مبالغاً في ذلك ـ دون أن ينبع من الاعتقاد بألوهيته لا يكون شركاً ولا عبادة لهذا الموجود ، وإن كان من الممكن أن

٨٨

يكون حراماً ، مثل سجود العاشق للمعشوقة أو المرأة لزوجها ، فإنّها وإن كانت حراماً في الشريعة الاسلامية ، لكنّها ليست عبادة. فكون شيء حراماً ، غير القول بأنّه عبادة ، فإنّ حرمة السجود أمام بشر من غير اعتقاد بألوهيته وربوبيته إنّما هي لوجه آخر.

من هذا البيان يتّضح جواب سؤال يطرح نفسه في هذا المقام وهو : إذا كان الاعتقاد بالالوهية أو الربوبية أو التفويض ، شرطاً في تحقق العبادة فيلزم أن يكون السجود لأحد دون ضمّ هذه النية جائزاً؟

ويجاب على هذا : بأنّ السجود حيث إنّه وسيلة عامة للعبادة ، وحيث إنّ بها يعبد الله عند جميع الأقوام والملل والشعوب وصار بحيث لا يراد منه إلّا العبادة ، لذلك لم يسمح الإسلام بأن يستفاد من هذه الوسيلة العالمية حتى في الموارد التي لا تكون عبادة. وهذا التحريم إنّما هو من خصائص الإسلام إذ لم يكن حراماً قبله ، وإلّا لما سجد يعقوب وأبناؤه ليوسف ـ عليه السلام ـ إذ يقول : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) (يوسف ـ ١٠٠).

قال الجصاص : «قد كان السجود جائزاً في شريعة آدم ـ عليه السلام ـ ، للمخلوقين ويشبه أن يكون قد كان باقياً إلى زمان يوسف ـ عليه السلام ـ فكان فيما بينهم لمن يستحق ضرباً من التعظيم ويراد إكرامه وتبجيله ، بمنزلة المصافحة والمعانقة فيما بيننا وبمنزلة تقبيل اليد ، قد روي عن النبي ـ عليه السلام ـ في إباحة تقبيل اليد أخبار ، وقد روي الكراهة ، إلّا أنّ السجود لغير الله على وجه التكرمة والتحية منسوخ بما روت عائشة وجابر وأنس أنّ النبيّ قال : ما ينبغي لبشر أن يسجد لبشر ، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقّه عليها» (١).

* * *

__________________

(١). أحكام القرآن : ١ / ٣٢.

٨٩

إلى هنا استطعنا ـ بشكل واضح ـ أن نتعرف على حقيقة «العبادة» و «الشرك» ويلزم أن نستنتج من هذا البحث فنقول : إذا خضع أحد أمام آخرين وتواضع لهم ، لا باعتقاد أنّهم «آلهة» أو «أرباب» أو «مصادر للأفعال والشئون الإلهية» بل لأنّ المخضوع لهم إنّما يستوجبون التعظيم ، لأنّهم (عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (الأنبياء : ٢٦ ـ ٢٧) فانّ هذا الخضوع والتعظيم والتواضع والكريم لن يكون عبادة قطعاً ، فقد مدح الله فريقاً من عباده بصفات تستحق التعظيم عند ما قال :

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (آل عمران ـ ٣٣).

وفي موضع آخر من القرآن صرّح الله تعالى باصطفاء إبراهيم لمقام الامامة إذ يقول تعالى :

(قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) (البقرة ـ ١٢٤).

وكل هذه الأوصاف العظيمة التي مدح الله بها : نوحاً وإبراهيم وداود وسليمان وموسى وعيسى ومحمّداً ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ أُمور توجب نفوذهم في القلوب والأفئدة ، وتستوجب محبتهم واحترامهم حتى أنّ مودة بعض الأولياء فرضت علينا بنص القرآن (١).

فاذا احترم أحد هؤلاء ، في حياتهم أو بعد وفاتهم ، لا لشيء إلّا لأنّهم عباد الله المكرمون ، وأولياؤه المقربون وعظمهم دون أن يعتقد بأنّهم «آلهة» أو «أرباب» أو «مصادر للشئون الالهية» لا يعدّ فعله عبادة ـ مطلقاً ـ ولا هو مشركاً ، أبداً.

وعلى هذا لا يكون تقبيل يد النبي أو الإمام أو المعلّم ، أو الوالدين ، أو تقبيل

__________________

(١). (قل لا أسئلكم عليه أجراً إلّا المودّة في القربى) الشورى الآية : ٢٣.

٩٠

القرآن أو الكتب الدينية ، أو أضرحة الأولياء وما يتعلق بهم من آثار ، إلّا تعظيماً وتكريماً ، لا عبادة.

٥ ـ نحن ومؤلّف المنار :

وفي ختام هذا البحث يجدر بنا أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى طائفة من التعاريف للعبادة ، ونذكر بعض ما فيها من الضعف :

١ ـ قال في المنار :

«العبادة ضرب من الخضوع ، بالغ حدّ النهاية ، ناشئ عن استشعار القلب عظمة المعبود لا يعرف منشؤها ، واعتقاده بسلطة لا يدرك كنهها وماهيتها» (١).

وهذا التعريف لا يخلو عن قصور ، إذ بعض مصاديق العبادة ، لا تكون خضوعاً شديداً ، ولا يكون بالغاً حدّ النهاية كبعض الصلوات الفاقدة للخشوع ، ثمّ ربما يكون خضوع العاشق أمام معشوقته والجندي أمام آمره ، أشدّ خضوعاً ممّا يفعله كثير من المؤمنين بالله تجاه ربّهم في مقام الدعاء والصلاة والعبادة ومع ذلك لا يقال لخضوعهما بأنّه عبادة ، في حين يكون خضوع المؤمنين تجاه ربهم عبادة وإن كان أخف من الخضوع الأوّل.

نعم لقد ذكر هذا المؤلف نفسه ـ في ثنايا كلامه ـ ما يمكن أن يكون معرفاً صحيحاً للعبادة ومتفقاً ـ في محتواه ـ مع ما قلناه حيث قال :

«للعبادة صور كثيرة في كل دين من الأديان شرعت لتذكير الإنسان بذلك الشعور بالسلطان الإلهي الأعلى الذي هو روح العبادة ، وسرّها» (٢).

__________________

(١). المنار : ١ / ٥٧.

(٢). المنار : ١ / ٥٧.

٩١

إنّ عبارة : «الشعور بالسلطان الإلهي» حاكية عن أنّ الفرد العابد حيث إنّه يعتقد بألوهية المعبود ، لذلك يكون عمله عبادة وما لم يتوفر مثل هذا الاعتقاد في عمله لا يتصف بالعبادة.

٢ ـ وقد جاء شيخ الأزهر الأسبق الشيخ محمود شلتوت بتعريف يتحد مع ما ذكره المنار معنى ويختلف معه لفظاً فقال :

«العبادة خضوع لا يحد لعظمة لاتحد» (١).

فالتعريفان متحدان نقداً وإشكالاً فليلاحظ وإن كان تفسير المنار يختص بإشكال آخر حيث إنّه يقول : «العبادة ناشئة عن استشعار القلب عظمة لا يعرف منشؤها» في حين أنّ العابد يعلم أنّ علّة العظمة هي : السلطة الإلهية ، التي هي ألوهية المعبود والإحساس بالحاجة الشديدة إليه ، وأنّ بيده مصير العابد ، وغير ذلك من الدوافع ، فكيف لا يعرف منشؤها؟ (٢).

٣ ـ وأكثر التعاريف عرضة للإشكال هو تعريف ابن تيمية إذ قال :

«العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنية والظاهرية كالصلاة ، والزكاة والصيام ، والحج ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة وبرّ الوالدين ، وصلة الأرحام» (٣).

وهذا الكاتب لم يفرّق ـ في الحقيقة ـ بين العبادة ، وبين التقرّب ، وتصوّر أنّ كل عمل يوجب القربى إلى الله فهو عبادة له تعالى أيضاً ، في حين أنّ الأمر ليس كذلك ، فهناك أُمور توجب رضا الله ، وتستوجب ثوابه قد تكون عبادة كالصوم والصلاة والحج ، وقد تكون موجبة للقربى إليه دون أن تعدّ عبادة كالإحسان إلى

__________________

(١). تفسير القرآن الكريم : ٣٧.

(٢). آلاء الرحمن : ٥٩.

(٣). مجلة البحوث الإسلامية العدد : ٢ / ١٨٧ ، نقلاً عن كتاب «العبودية» : ٣٨.

٩٢

الوالدين وإعطاء الزكاة والخمس ، فكل هذه الأُمور (الأخيرة) توجب القربى الى الله في حين لا تكون عبادة ، وإن سمّيت في مصطلح أهل الحديث عبادة فيراد منها كونها نظير العبادة في ترتّب الثواب عليها.

وبعبارة أُخرى : أنّ الإتيان بهذه الإعمال يعد طاعة لله ، ولكن ليس كل طاعة عبادة.

وإن شئت قلت : إنّ هناك أُموراً عبادية ، وأُموراً قربية ، وكل عبادة مقرّب ، وليس كل مقرّب عبادة ، فدعوة الفقير إلى الطعام والعطف على اليتيم ـ مثلاً ـ توجب القرب ولكنّها ليست عبادة بمعنى أن يكون الآتي بها عابداً بعمله لله تعالى.

لقد وقفت ـ أخي العزيز ـ على معنى «العبادة» ومفهومها وحقيقتها في ضوء الكتاب والسنّة ، ولم يبق لك أي إبهام في معناها ولا أي غموض في حقيقتها ، والآن يجب عليك ـ بعد التعرف على الضابطة الصحيحة في العبادة ـ أن تقيس الكثير من الأعمال الرائجة بين المسلمين من عصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى زماننا هذا لترى هل هي تزاحم التوحيد ، وتضاهي الشرك ، أو أنّها عكس ذلك توافق التوحيد ، وليست من الشرك في شيء أبداً؟

ولهذا نجري مَعَك في هذا السبيل (أي عرض هذه الأعمال على الضابطة التي حقّقناها في مسألة العبادة) جنباً الى جنب فنقول :

إنّ الأعمال التي ينكرها الوهابيون على المسلمين هي عبارة عن :

١) : التوسّل بالأنبياء والأولياء في قضاء الحوائج ، وتحقيق المطالب :

فهل هذا شرك أم لا؟.

يجب عليك أخي القارئ أن تجيب على هذا السؤال بعد عرضه على

٩٣

الضابطة التي مرَّت في تحديد معنى العبادة ومفهومها ، فهل المسلم المتوسّل بالأنبياء والأولياء يعتقد فيهم «ألوهية» أو «ربوبية» ولو بأدنى مراتبها وقد عرفت معنى الألوهية والربوبية بجميع مراتبهما ودرجاتهما ، أو أنّه يعتقد بأنّهم عباد مكرَّمون عند الله تعالى تُستجاب دعوتهم ، ويُجابُ طلبُهم بنص القرآن الكريم.

فلو توسّل المتوسّل بالأنبياء والأولياء بالصورة الأُولى كان عمله شركاً ، يخرجه عن ربقة الإسلام.

ولو توسّل بالعنوان الثاني لم يفعل ما يزاحم التوحيد ويضاهي الشرك أبداً.

وأمّا أنّ توسّله بهم مفيد أم لا ، محلّل أو محرّم من جهة أُخرى غير الشرك فالبحث فيهما خارج عن نطاق البحث الحاضر الذي يتركز الكلام فيه على تمييز التوحيد عن الشرك ، وبيان ما هو شرك وما هو ليس بشرك.

٢) : طلب الشفاعة من الصالحين الذين ثبتت شفاعتهم بنص القرآن الكريم والسنّة الصحيحة :

فانّ طلب الشفاعة منهم إن كان بما أنّهم مالكون للشفاعة وأنّها حق مختص بهم ، وإنّ أمر الشفاعة بيدهم ، أو أنّه قد فوّض إليهم ذلك المقام ، فلا شك أنّ ذلك شرك وانحراف عن جادة التوحيد ، واعتراف بألوهية الشفيع (المستَشْفَع) وربوبيته ، ودعوة الصالحين للشفاعة بهذا المعنى والقيد شرك لا محالة.

وأمّا إذا طلب الشفاعة من الصالحين بما أنّهم عباد مأمورون من جانب الله سبحانه للشفاعة في من يأذن لهم الله بالشفاعة له ، ولا يشفعون لمن لم يأذن الله بالشفاعة له ، وانّ الشفاعة بالتالي حق مختص بالله بيد أنّه تعالى ، يجري فيضه على عباده عن طريق أوليائه الصالحين المكرمين.

فالطلب بهذا المعنى وبهذه الصورة لا يزاحم التوحيد ، ولا يضاهي الشرك ،

٩٤

فهو طلب شيء من شخص مع الاعتراف بعبوديته المحضة ومأموريَّته الخاصة.

وأمّا أنّه طلب مفيد أم لا ، أو أنّه محلل أو محرم من جهة أُخرى غير جهة الشرك والتوحيد فهو أمر خارج عن إطار هذا البحث الذي يتركز ـ كما أسلفنا ـ على بيان التوحيد والشرك في العبادة.

٣) : التعظيم أمام أولياء الله وقبورهم وتخليد ذكرياتهم :

فهل هذا العمل يوافق ملاك التوحيد أو يوافق ملاك الشرك؟

الجواب هو أنّ هذا العمل قد يكون توحيداً من وجه ، وقد يكون شركاً من وجه آخر.

فإن كان التعظيم والتكريم ـ بأيّ صورة كان ـ قد صدر عن الأشخاص تجاه أُولئك الأولياء بما أنّ هؤلاء الأولياء عباد أبرار وقفوا حياتهم على الدعوة إلى الله ، وضحّوا بأنفسهم وأهليهم وأموالهم في سبيل الله ، وبذلوا في هداية البشرية كل غال ورخيص ، فأنّ مثل هذا التعظيم يوافق مواصفات التوحيد ، لأنّه تكريم عبد من عباد الله لما أسداه من خدمة في سبيل الله ، مع الاعتراف بأنّه عبد لا يملك شيئاً إلّا ما ملكه الله ، ولا يقدر على عمل إلّا بما أقدره اللهُ عليه.

إنّ مثل هذا التعظيم يوافق أصل التوحيد بمراتبه المختلفة دون أي شك.

وأمّا إذا وقع التعظيم والتكريم للولي معتقداً بأنّه ـ حيّاً كان أو ميتاً ـ مالك لواقعية الألوهية أو درجة منها ، أو أنّه واجد لمعنى الربوبية أو مرتبة منها ، فانّه ـ ولا شك ـ شرك وخروج عن جادة التوحيد.

وأمّا أنّه مفيد أو لا ، أو أنّه حلال أو حرام من جهة أُخرى غير جهة الشرك والتوحيد فخارج عن نطاق هذا البحث المهتم ببيان ما هو شرك وما هو ليس بشرك.

٩٥

٤) : الاستعانة بالأولياء :

فهل هو يوافق التوحيد أم يوافق الشرك؟ إنّ الإجابة على ذلك تتضح بعد عرض الاستعانة هذه على الميزان الذي أعطاه القرآن لنا ، فلو استعان أحدٌ بولىٍّ ـ حيّاً كان أو ميتاً ـ على شيء موافق لما جرت عليه العادة أو مخالف للعادة كقلب العصا ثعباناً ، والميت حيّاً ، باعتقاد أنّ المستعان إلهٌ ، أو رب ، أو مفوّض إليه بعض مراتب التدبير والربوبية فذلك شرك دون جدال.

وأمّا إذا طلب منه كل ذلك أو بعضه بما أنّه عبد لا يقدر على شيء إلّا بما أقدره الله عليه ، وأعطاه ، وأنّه لا يفعل ما يفعل إلّا بإذن الله تعالى ، وإرادته ، فالاستعانة به وطلب العون منه حينئذ من صلب التوحيد ، من غير فرق بين أن يكون الولي المستعان به حيّاً أو ميتاً ، وأن يكون العمل المطلوب منه عملاً عادياً أو خارقاً للعادة.

وأمّا أن المستعان قادر على الإعانة أو لا ، أو أنّ هذه الإعانة مجدية أم لا ، وأنّ هذه الاستعانة محلّلة أو محرّمة ، من جهات أُخرى أم لا؟ فكل ذلك خارج عن إطار هذا البحث.

٥) : طلب الشفاء والإشفاء من أولياء الله :

هل ذلك يوافق أصل التوحيد أو لا؟ فلو طلب أحد الشفاء من ولي من أولياء الله معتقداً بأنّ الشفاء بيد الله سبحانه فهو الشافي حقيقةً غير أنّه شاء أن يجري فيضه ويوصله إلى عباده عن طريق الأسباب الطبيعية وغير الطبيعية فهذا الطلب يوافق التوحيد ويتلاءَم معه ، ولا ينافيه ، لأنّه يرى أنّ المسئول لا يفعل إلّا بأمر الله ولا يصدر إِلّا عن إِرادته.

٩٦

وأمّا إذا اعتقد ـ وهو يطلب منه الإشفاء ـ بأنّه مستقل في الإشفاء وانّه يملك الاشفاء أو أنّه مفوض إليه ذلك ، كان عمله ذلك شركاً ، وخروجاً عن إطار التوحيد.

وأمّا أنّ الاستشفاء بأولياء الله مفيد أو لا ، أو أنّهم قادرون على الاشفاء أم لا ، وأنّ مثل هذا العمل جائز أو غير جائز من جهة غير جهة التوحيد والشرك ، فخارج عن مهمة ونطاق هذا البحث الذي يهدف معرفة ما هو شرك في طبيعته وما هو ليس بشرك.

هذا وقد أتينا بهذه الأمثلة لتكون نموذجاً يقتديه القارئ الكريم في دراسة بقية الأُمور التي ينكرها الوهابيون مما لم نذكره ، هنا اختصاراً.

* * *

وبما أنّ للوهابية أخطاءً واشتباهات في معنى الألوهية والربوبية ، وكذا أخطاء في تحديد معايير التوحيد والشرك فإنّنا نردف هذا البحث بمعالجة ما تصوروه ـ خطأ ـ معياراً للتوحيد والشرك ، ممّا ورد في كتب الكثير من مفكّريهم وكُتّابهم.

وقبل أن نستوفي البحث حول هذه المسائل والأُمور نذكر في ختام هذا البحث عقائد الوثنيّين في العهد الجاهلي وكيفية دعوتهم للأصنام ، لأنّ الوقوف على هذا خير عون لمعرفة الكثير من الآيات التي اتخذت ذريعة لوصف كثير من التوسّلات والدعوات بالشرك اغتراراً بظواهرها من دون تأمل في القرائن الحافة بها.

وإليك هذه الخاتمة.

٩٧

٦ ـ عقائد العرب الجاهليين والوثنيين :

إنّ الوثنيين في ذاك العصر كانوا ينقسمون إلى أصحاب الهياكل والأشخاص والحرنانية والدهرية ، وإليك توضيح عقائد بعض هذه الطوائف :

أ ـ أصحاب الهياكل :

وكانوا يقولون : إنّ الإنسان ليس في مستوى عبادة الله والاتصال المباشر به بل لا بد له من واسطة ، فيتوجه إليه ويتقرّب به ، وحيث إنّ الأرواح لم تكن في متناول أيديهم فزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات السبع ، وكانوا يتقرّبون إلى هذه الهياكل تقرّباً إلى الروحانيات ، ويتقرّبون إلى الروحانيات تقرّباً إلى البارئ تعالى لاعتقادهم بأنّ الهياكل أبدان الروحانيات.

وكانوا يقومون بمراسيم خاصة لدى عبادة هذه الهياكل فيعملون الخواتيم على صورها وهيئتها وصنعتها ، ويلبسون اللباس الخاص به في ساعات مخصوصة من اليوم ويبخرون ببخوره الخاص ويعبدون كل واحد من تلك السيارات في وقت معين ثمّ يسألون حاجتهم منها ، ويسمّونها : «أرباباً» «آلهة» والله هو ربّ الأرباب وإله الآلهة (١).

ب ـ أصحاب الأشخاص :

وكان هؤلاء يشتركون مع الفريق السابق ـ في بعض العقائد ـ إلّا أنّهم كانوا يعبدون أشكال السيارات بدل السيارات نفسها ، لأنّ لها طلوعاً وأُفولاً ، وظهوراً بالليل وخفاءً بالنهار ، ولهذا صنعوا لها صوراً ثابتة على مثالها ويقولون : نعكف

__________________

(١). الشهرستاني : الملل والنحل : ٢ / ٢٤٤.

٩٨

عليها ونتوسل بها إلى الهياكل فنتقرّب إلى الروحانيات ونتقرّب بالروحانيات إلى الله سبحانه وتعالى فنعبدهم (لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (١).

ج ـ عقائد العرب الجاهلية :

قليل من العرب من كان يتديّن بالدهرية فقالوا بالطبيعة المحيية ، والدهر المفني وكانت الحياة ـ في نظرهم ـ تتألّف من الطبائع والعناصر المحسوسة في العالم السفلي ، فيقصرون الحياة والموت على تركّبها وتحلّلها ، فالجامع هو الطبع والمهلك هو الدهر ولكن أغلبهم كانوا يقرّون بالخالق وحدوث الخلق ، وينكرون البعث والإعادة وإرسال الرسل من جانب الله (٢).

ومنهم من كان يعبد الملائكة والجن ويعتبرونها بناتاً لله سبحانه. وصنف منهم كانوا من الصابئة الذين يعبدون الكواكب.

ومنهم من كان ينكر الخالق ، وحدوث الخلق والبعث وإرسال الرسل ، ولكن كلا الفريقين كانوا يعبدون الأصنام ويعتبرونها مالكة لمقام الشفاعة عند الله.

ومن العرب من كان يتدين باليهودية أو بالنصرانية. وكانت المدينة محطّ الأُولى ، ونجران محط الثانية.

وأمّا الطوائف المسيحية الثلاث التي كانت تختلف فيما بينها في السيد المسيح وروح القدس والأب ، فكانت عبارة عن : الملكانية والنسطورية واليعقوبية.

وكانت هذه الطوائف رغم اختلافاتها تشترك في عبادة المسيح الذي لم يكن غير رسول.

__________________

(١ و ٢). الملل والنحل : ٢ / ٢٤٤.

٩٩

وفي الآيات المتعرّضة لذكر احتجاج إبراهيم ، إشارة إلى عقائد عبدة الكواكب والأجرام السماوية.

كما أنّه وردت في بيان عقائد المسيحيين آيات.

والآيات التي شجب فيها القرآن ، الوثنية ـ بشدة وعنف ـ ترتبط بعرب الجاهلية الذين كانوا يعتنقون عقائد مختلفة إذ كان أكثرهم يعبد الأصنام باعتقاد أنّها الشفعاء وأنّها آلهة صغار ، ومن هذه الآيات ـ على سبيل المثال ـ :

(وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) (الأنبياء ـ ٣٦).

(أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ) (الأنبياء ـ ٤٣).

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام ـ ١٠٠).

(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (النجم ـ ١٩ ـ ٢٠).

إلى من تشير هذه الآيات؟

إنّ الهدف الأساس في هذه الآيات ونظائرها هو : النهي عن دعوة الفرق الوثنية ، التي كانت تتخذ الأصنام شريكة لله في بعض لتدبير أو مالكة للشفاعة على الأقل فكان ما يقومون به من خضوع واستغاثة واستشفاع بهذه الأصنام باعتبار أنّها آلهة صغار ، فوض إليها جوانب من تدبير الكون وشئون الدنيا والآخرة.

فأيّ ارتباط لهذه الآيات بالاستغاثة بالأرواح الطاهرة مع أنّ المستغيث بها لا يتجاوز عن الاعتقاد بكونها عباد الله الصالحين.

١٠٠