التوحيد والشرك في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

التوحيد والشرك في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 964-357-214-5
الصفحات: ٢٣٢

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (التوبة ـ ٣١).

فلأجل أنّهم أعطوهم زمام التشريع واعتبروهم أصحاب سلطة وقدرة فيما يختص بالله.

وإذا وصف الله نفسه بأنّه «رب (الْبَيْتِ) فلأنّ إليه أُمور هذا البيت ماديّها ومعنويّها ، ولا حق لأحد في التصرف فيه سواه.

وإذا وصف القرآن «الله» بأنّه :

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (الصافات ـ ٥).

وأنّه :

(رَبُّ الشِّعْرى) (النجم ـ ٤٩).

وما شابه ذلك ، فلأجل أنّه تعالى مدبّرها ومديرها والمتصرّف فيها ومصلح شئونها والقائم عليها.

وبهذا البيان نكون قد كشفنا القناع عن المعنى الحقيقي للرب ؛ الذي ورد في مواضع عديدة من الكتاب العزيز.

* * *

إنّ الشائع بين الوهابيين تقسيم التوحيد إلى :

١ ـ التوحيد في الربوبية.

٢ ـ التوحيد في الألوهية.

قائلين : إنّ التوحيد في الربوبية بمعنى الاعتقاد بخالق واحد لهذا الكون كان موضع اتفاق جميع مشركي عهد الرسالة.

٦١

وأمّا التوحيد في الألوهية فهو التوحيد في العبادة الذي يُعنى منه أن لا يعبد سوى الله ، وقد انصبّ جهد الرسول الكريم على هذا الأمر.

والحق أنّ اتفاق جميع مشركي عهد الرسالة في مسألة التوحيد الخالقي ليس موضع شك ، ولكن تسمية التوحيد الخالقي بالتوحيد الربوبي خطأ واشتباه.

وذلك لأنّ معنى «الربوبية» ليس هو الخالقية كما توهم هذا الفريق ، بل هو ـ كما أوضحنا وبينّا سلفاً ـ ما يفيد التدبير وإدارة العالم ، وتصريف شئونه ولم يكن هذا ـ كما بينّا ـ موضع اتفاق بين جميع المشركين والوثنيين في عهد الرسالة كما ادّعى هذا الفريق.

نعم كان فريق من مثقفي الجاهليين يعتقدون بعدم وجود مدبر سوى الله ولكن كانت تقابلهم جماعات كبيرة ممّن يعتقدون بتعدّد المدبر والتدبير ، وهي قضية تستفاد من الآيات القرآنية مضافاً إلى المصادر المتقدّمة.

هنا نلفت نظر الوهابيين الذين يسمّون التوحيد في الخالقية بالتوحيد في الربوبية إلى الآيات التالية ليتضح لهم أنّ الدعوة الى التوحيد في الربوبية لا تعني الدعوة الى التوحيد في الخالقية بل هي دعوة الى «التوحيد في المدبِّرية» والتصرّف ، وقد كان بين المشركين في ذلك العصر من كان يعاني انحرافاً وشذوذاً من التوحيد الربوبي ، ويعتقد بتعدّد المدبر رغم كونه معتقداً بوحدة الخالق.

ولا يمكن ـ أبداً ـ أن نفسّر الرب في هذه الآيات بالخالق والموجد. وإليك بعض هذه الآيات :

أ ـ (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ) (الأنبياء ـ ٥٦).

فلو كان المقصود من الرب هنا هو الخالق والموجد لكانت جملة (الَّذِي فَطَرَهُنَّ) زائدة بدليل أنّنا لو وضعنا لفظة الخالق مكان الرب في الآية للمسنا عدم الاحتياج ـ حينئذ ـ إلى الجملة المذكورة (أعني : الذي فطرهنَّ) بخلاف ما إذا فسّر

٦٢

الرب بالمدبر والمتصرّف ، ففي هذه الصورة تكون الجملة الأخيرة مطلوبة ، لأنّها تكون ـ حينئذ ـ علّة للجملة الأُولى ، فتعني هكذا : أنّ خالق الكون هو المتصرّف فيه وهو المالك لتدبيره والقائم بإدارته.

ب ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) (البقرة ـ ٢١).

فانّ لفظة الرب في هذه الآية ليست بمعنى «الخالق» وذلك على غرار ما قلناه في الآية المتقدّمة المشابهة لما نحن فيه ، إذ لو كان الرب بمعنى الخالق لما كان لذكر جملة (الَّذِي خَلَقَكُمْ) وجه ، بخلاف ما إذا قلنا بأن الرب يعني المدبّر فتكون جملة (الَّذِي خَلَقَكُمْ) علّة للتوحيد في الربوبية ، إذ يكون المعنى حينئذ هو : أنّ الذي خلقكم هو مدبّركم.

ج ـ (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) (الأنعام ـ ١٦٤).

وهذه الآية حاكية عن أنّ مشركي عصر الرسالة كانوا على خلاف مع الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مسألة الربوبية على نحو من الأنحاء وأنّ النبي الأعظم كان مكلّفاً بأن يفنِّد رأيهم ويبطل عقيدتهم ولا يتخذ غير الله رباً على خلاف ما كانوا عليه. ومن المحتم أنّ خلاف النبي مع المشركين لم يكن حول مسألة «التوحيد في الخالقية» بدليل أنّ الآيات السابقة تشهد في غير إبهام بأنّهم كانوا يعترفون بأنّه لا خالق سوى الله تعالى ، ولذلك فلا مناص من الإذعان بأنّ الخلاف المذكور كان في غير مسألة الخالقية وليست هي إلّا مسألة تدبير الكون ، بعضه أو كلّه.

د ـ (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) (الأعراف ـ ١٧٢).

فقد أخذ الله في هذه الآية ـ من جميع البشر ـ الإقرار بالتوحيد الربوبي وكانت علّة ذلك هي ما ذكره من أنّه سيحتج على عباده بهذا الميثاق يوم القيامة كما يقول :

٦٣

(أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) (الأعراف ـ ١٧٣).

إذا تبيّن هذا فنقول : إنّ نزول هذه الآية في بيئة مشركة دليل ـ ولا شك ـ على وجود فريق معتد به في تلك البيئة كانوا يخالفون هذا الميثاق ، فإذا كانت الربوبية بمعنى الخالقية استلزم ذلك أن يكون في تلك البيئة من يخالفون النبي في الخالقية ، ولكن الفرض هو عدم وجود أي اختلاف في مسألة «توحيد الخالقية» في عصر الرسالة فلم يكن المشركون في ذلك العصر مخالفين في هذه المسألة ليعتبروا مخالفين للميثاق المذكور ؛ فلا محيص ـ حينئذ ـ من أنّ الخلاف كان ـ آنذاك ـ في مسألة تدبير العالم وإدارة الكون.

وبهذا التقرير يكون معنى الرب في الآية المبحوثة هنا هو المدبّر.

ه ـ (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ) (غافر ـ ٢٨).

تتعلّق هذه الآية بمؤمن آل فرعون الذي كان يدافع عن النبي موسى ـ عليه السلام ـ وراء قناع النصيحة والصداقة لآل فرعون ويسعى تحت ستار الموافقة معهم أن يدفع الخطر عن ذلك النبي العظيم. وأمّا دلالتها على كون الرب بمعنى المدبّر فواضحة ، لأنّ فرعون ما كان يدّعي الخالقية للسماء والأرض ولا الشركة مع الله سبحانه في خلق العالم وإيجاده ، وهذه حقيقة يدل عليها تاريخ الفراعنة أيضاً. وفي هذه الصورة يجب أن يكون المراد من دعوة النبي موسى بقوله : ربّي الله ، هو حصر «التدبير» في الله سبحانه لا مسألة الخلق. ولو كانت تتعلّق بمسألة الخلق والإيجاد لما كان بينه وبين فرعون أي خلاف ونزاع ، إذ المفروض اعتراف فرعون بخالقية الله ـ كما أسلفنا ـ ، هذا مضافاً إلى أنّ الله تعالى يقول في الآية السابقة لهذه الآية :

و ـ (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) (غافر ـ ٢٦)

٦٤

فإنّ التوحيد في الخالقية لم يكن موضع خلاف لتكون دعوة موسى لبني اسرائيل سبباً لأي تبدّل وتبديل.

ومن هذا البيان يتضح المراد من قول فرعون :

(أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (النازعات ـ ٢٤).

ز ـ (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) (الكهف ـ ١٤).

إنّ الفتية الذين فرّوا من ذلك الجو الخانق الذي أوجده طواغيت ذلك الزمان كانوا جماعة يسكنون في مجتمع يعتقد بألوهية غير الله ، ولكن ألوهية غير الله ـ في ذلك المجتمع ـ لم تكن في صورة تعدّد الخالق ، خاصة وأنّ واقعة أهل الكهف حدثت بعد ميلاد السيد المسيح حيث كانت عقول البشرية وأفكارها قد تقدّمت في المسائل التوحيدية بشكل ملحوظ وحظت من الرقي بمقدار معتد به ولم يكن يعقل ـ في ظل هذا الرقي الفكري ـ وجود مجتمع منكر لخالقية الله ، أو مشرك فيها فلا بد أن يقال إنّ شركهم يرجع الى أمر آخر وهو الاعتقاد بتعدّد المدبّر.

ح ـ إنّ البرهان الواضح على أنّ مقام الربوبية هو مقام المدبّرية وليس الخالقية كما يتوهم ، هو الآية المتكرّرة في سورة الرحمن :

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.)

فقد وردت هذه الآية في السورة المذكورة ٣١ مرة وجاءت لفظة ربّ جنباً إلى جنب مع لفظة الآلاء التي تعني النعم ، وغير خفي أنّ قضية النعمة مع التذكير بمقام ربوبية الله لحياة البشر وحفظها من الفناء أنسب وأكثر انسجاماً ، إذ ذكر النعم (التي هي من شعب التربية الإلهية التي يوليها سبحانه للبشر) يناسب موضوع التربية والتدبير الذي تندرج فيه إدامة النعم وإدامة الإفاضة.

ط ـ لقد اقترنت مسألة الشكر مع لفظة الرب في خمسة موارد في القرآن

٦٥

الكريم ، والشكر إنّما يكون في مقابل النعمة التي هي سبب بقاء الحياة الإنسانية ودوامها وحفظها من الفناء وصيانتها من الفساد ، وليست حقيقة تدبير الإنسان إلّا إدامة حياته وحفظها من الفساد والفناء.

وإليك هذه الموارد :

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم ـ ٧).

(وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) (النمل ـ ١٩).

(قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) (النمل ـ ٤٠).

(قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) (الأحقاف ـ ١٥).

(كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) (سبأ ـ ١٥).

ي ـ وممّا يدل على ما قلناه قوله سبحانه :

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) (نوح : ١٠ ـ ١٢).

ومثله في سورة هود الآية ٥٢.

وهكذا : يلاحظ القارئ الكريم كيف جعلت إدارة الكون وتدبير شئونه تفسيراً للرب : فهو الذي يرسل المطر ، وهو الذي يمدد بالأموال والبنين ، وهو الذي يجعل الجنات ، وهو الذي يجعل الأنهار ، وكل هذه الأُمور جوانب وصور من التدبير.

٦٦

نتيجة هذا البحث :

من هذا البحث الموسّع يمكن أن نستنتج أمرين :

١ ـ أنّ ربوبية الله عبارة عن مدبّريته تعالى للعالم لا عن خالقيته.

٢ ـ دلّت الآيات المذكورة في هذا البحث على أنّ مسألة «التوحيد في التدبير» لم تكن موضع اتفاق بخلاف مسألة «التوحيد في الخالقية» وأنّه كان في التاريخ ثمّة فريق يعتقد بمدبّرية غير الله للكون كلّه أو بعضه ، وكانوا يخضعون أمامها باعتقاد أنّها أرباب.

وبما أنّ الربوبية في التشريع غير الربوبية في التكوين فيمكن أن يكون بعض الفرق موحداً في الثاني ، ومشركاً في القسم الأوّل فاليهود والنصارى تورّطوا في «الشرك الربوبي» التشريعي لأنّهم أعطوا زمام التقنين والتشريع إلى الأحبار والرهبان وجعلوهم أرباباً من هذه الجهة ، فكأنّه فوّض أمر التشريع إليهم!!! ، ومن المعلوم أنّ التقنين والتشريع من أفعاله سبحانه خاصة.

فها هو القرآن يقول عنهم :

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (التوبة ـ ٣١).

(وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (آل عمران ـ ٦٤).

في حين أنّ الشرك في الربوبية لدى فريق آخر ما كان ينحصر بهذه الدائرة بل تمثل في اسناد تدبير بعض جوانب الكون ، وشئون العالم إلى الملائكة والجن والأرواح المقدسة أو الأجرام السماوية ، وإن لم نعثر ـ إلى الآن ـ على من يعزي تدبير «كل» جوانب الكون إلى غير الله ، ولكن مسألة الشرك في الربوبية تمثلت في الأغلب في تسليم «بعض» الأُمور الكونية إلى بعض خيار العباد والمخلوقات.

إنّ الآيات الدالّة على هذه النتيجة ـ في الحقيقة ـ أكثر من أن يمكن سردها

٦٧

هنا ، لهذا نكتفي بما ذكرنا من الآيات تاركين للقارئ الباحث التفتيش عنها في القرآن الكريم.

إذا وقفت ـ أيها القارئ الكريم ـ على هذه المقدمات العشر يكون قد آن الأوان لأن نركّز البحث على تحديد معنى العبادة وحقيقتها الذي هو المهم في المقام ، إذ بتحديد معنى العبادة وحقيقتها ، نعلم معنى التوحيد والشرك ، ونميّز الموحّد عن المشرك في هذا المجال (أي مجال العبادة) ، ويكون ذلك ضابطة ثابتة لتشخيص كثير من الأعمال التي جرت سيرة المسلمين على القيام بها في حياتهم منذ عصر الرسالة ، وإلى هذا اليوم ، ونعرف كيف أنّها لا تمت إلى الشرك بصلة أبداً.

٦٨

الفصل الثاني

تحديد حقيقة العبادة ..

٦٩
٧٠

العبادة : هي الخضوع عن اعتقاد بألوهية المعبود وربوبيته واستقلاله في فعله

لفظ العبادة من المفاهيم الواضحة كالماء والأرض ، فهو مع وضوح مفهومه يصعب التعبير عنه بالكلمات رغم حضور هذا المفهوم في الأذهان. والعبادة كما هي واضحة مفهوماً ، فهي واضحة ـ كذلك ـ مصداقاً بحيث يسهل تمييز مصاديقها عن مصاديق التعظيم والتكريم وغيرهما من المفاهيم. فتقبيل العاشق الولهان دار معشوقته ، واحتضان ثيابها شوقاً ، أو تقبيل تراب قبرها بعد الموت ، لا يدعى عبادة للمعشوقة.

كما أنّ ذهاب الناس إلى زيارة من يعنيهم من الشخصيات ، والوفود إلى مقابرهم لزيارتها والوقوف أمامها احتراماً ، وإجراء مراسم وطقوس خاصة لديها لا يعد عبادة ـ أبداً ـ وإن كانت هذه الأفعال تبلغ ـ في بعض الأحايين ـ من حيث شدة الخضوع إلى درجة كبيرة. إنّ الضمائر اليقظة هي وحدها تقدر على أن تكون الحكم العدل ـ في مثل هذا البحث ـ لتمييز الاحترام والتعظيم عن العبادة ، دون حاجة إلى تكلّف ، ولكن إذا تقرر أن نعرّف العبادة بتعريف موضوعي أمكننا أن نعرّفها بثلاثة تعاريف :

٧١

١ ـ تعاريف ثلاثة للعبادة :

التعريف الأوّل :

العبادة : هي الخضوع اللفظي أو العملي الناشئ عن الاعتقاد ب «ألوهية» المخضوع له وسيوافيك معنى «الألوهية».

وآيات كثيرة تدل على هذا التفسير ، فمن ملاحظة هذه الآيات يتضح لنا أمران :

الأوّل : أنّ عرب الجاهلية الذين نزل القرآن في أوساطهم وبيئاتهم كانوا يعتقدون بألوهية معبوداتهم.

الثاني : أنّ العبادة عبارة عن القول أو العمل الناشئين من الاعتقاد بألوهية المعبود ، وانّه ما لم ينشأ الفعل أو القول من هذا الاعتقاد لا يكون الخضوع أو التعظيم والتكريم عبادة.

فهنا دعويان :

الأُولى : أنّ عرب الجاهلية بل الوثنيين كلّهم وعبدة الشمس والكواكب والجن ، كانوا يعتقدون بألوهية معبوداتهم ، ويتخذونهم آلهة صغيرة وفوقهم «الإله الكبير» الذي نسمّيه «الله» سبحانه.

الثانية : أنّ الظاهر من الآيات هو أنّ العبادة عبارة عن الخضوع المحكي بالقول والعمل الناشئين من الاعتقاد بالألوهيّة ، ألوهية صغيرة أو كبيرة.

أمّا الدعوى الأُولى فتدل عليها آيات كثيرة نشير إلى بعضها :

يقول سبحانه :

(الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الحجر ـ ٩٦).

٧٢

(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) (الفرقان ـ ٦٨).

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) (مريم ـ ٨١).

(أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) (الأنعام ـ ١٩).

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) (الأنعام ـ ٧٤).

فهذه الآيات تشهد على أنّ دعوة المشركين كانت مصحوبة بالاعتقاد بألوهية أصنامهم ، وقد فسّر الشرك في بعض الآيات «باتخاذ الإله» مع الله وذلك عند ما يقول سبحانه :

(وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ* الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الحجر : ٩٤ ـ ٩٦).

ولذلك يفسّر القرآن حقيقة الشرك ب «اعتقادهم بألوهية معبوداتهم» إذ قال سبحانه :

(أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الطور ـ ٤٣).

ففي هذه الآية جعل اعتقادهم بألوهية غير الله هو الملاك للشرك ، والمراد هنا «الشرك في العبادة».

وبمراجعة هذه الآيات ونظائرها التي تعرضت لموضوع الشرك وبالأخص لموضوع شرك الوثنيين تتجلّى هذه الحقيقة ـ بوضوح تام ـ أنّ عبادتهم كانت مصحوبة مع الاعتقاد بألوهيتها ، بل يمكن استظهار أنّ شركهم كان لأجل اعتقادهم بألوهية معبوداتهم ، ولأجل ذاك الاعتقاد كانوا يعبدونهم ويقدمون لهم النذور والقرابين وغيرهما من التقاليد والسنن العبادية. وبما أنّ كلمة التوحيد تهدم عقيدتهم بألوهية غيره سبحانه ، كانوا يستكبرون عند سماعه كما قال سبحانه :

(إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) (الصافات ـ ٣٥).

أي يرفضون هذا الكلام ، لأنّهم يعتقدون بألوهية معبوداتهم ويعبدونها لأجل

٧٣

أنّها آلهة ـ حسب تصوّرهم ـ.

ولأجل تلك العقيدة السخيفة كانوا إذا دعي الله وحده كفروا به ، لأنّهم لا يحصرون الألوهية به وإذا أشرك به آمنوا ، لانطباقه على فكرتهم كما قال سبحانه :

(ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) (غافر ـ ١٢).

إلى هنا ظهرت الدعوى الأُولى بوضوح وجلاء.

وأمّا الدعوى الثانية فتدل عليها الآيات التي تأمر بعبادة الله ، وتنهى عن عبادة غيره ، مدللاً ذلك بأنّه لا إله إلّا الله إذ يقول :

(يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) (الأعراف ـ ٥٩).

ومعنى ذلك أنّ الّذي يستحق العبادة هو من كان إلهاً ، وليس هو إلّا الله ، وعندئذ فكيف تعبدون ما ليس بإله ، وكيف تتركون عبادة الله وهو الإله الذي يجب أنّ يعبد دون سواه؟

وقد ورد مضمون هذه الآية في ١٠ موارد أو أكثر في القرآن الكريم ، ويمكن للقارئ الكريم أن يراجع ـ لذلك ـ الآيات التالية :

الأعراف : ٦٥ ، ٧٣ ، ٨٥ ، هود : ٥٠ ، ٦١ ، ٨٤ ، الأنبياء : ٢٥ ، المؤمنون : ٢٣ ، ٣٢ ، طه : ١٤.

فهذه التعابير (التي هي من قبيل تعليق الحكم عن الوصف) تفيد أنّ العبادة هي ذلك الخضوع والتذلّل النابعين من الاعتقاد بألوهية المعبود ، إذ نلاحظ ـ بجلاء ـ كيف استنكر القرآن على المشركين عبادة غير الله بأنّ هذه المعبودات ليست آلهة ، وانّ العبادة من شئون : الألوهية ، فإذا وجد هذا الوصف (أي وصف الألوهية) في الطرف جاز عبادته واتخاذه معبوداً. وحيث إنّ هذا الوصف لا يوجد إلّا في الله سبحانه لذلك تجب عبادته دون سواه.

٧٤

سؤال وجواب :

أمّا السؤال فهو أنّه لا شك أنّ الدعوى الأُولى ثابتة فالمشركون كانوا معتقدين بألوهية الاوثان ، وما أورد من الآيات قد أثبتت ذلك بوضوح ، غير أنّ الدعوى الثانية غير ثابتة ، وقصارى ما يستفاد من هذه الآيات هو أنّ عبادتهم كانت ناشئة من الاعتقاد بألوهيتها وهذا لا يدل على دخول مفهوم الألوهية في مفهوم العبادة كما هو المدعى ـ أو دخول كون النشوء عن ذلك الاعتقاد ، في مفهومها.

وعلى الجملة فهذه الآيات لا تدل على أكثر من أنّ عبادتهم للأوثان كانت مصحوبة بهذا الاعتقاد أو ناشئة عنه.

وأمّا كون العبادة موضوعة للخضوع الناشئ عن الاعتقاد بالألوهيّة بحيث يكون النشوء عن تلك العقيدة جزءاً لمعنى العبادة فلا يستفاد من الآيات.

وأمّا الجواب فنقول : إنّما يرد الإشكال لو قلنا بأنّ «الاعتقاد بالألوهيّة» داخل في «مفهوم العبادة» وضعاً حتى يقال إنّ هذه الآيات لا تعطي أزيد من أنّ العبادة من شئون الألوهية ، وهذا غير القول باندراج مفهوم الالوهية في مفهوم العبادة ، انّما المراد انّ العبادة ليست مطلقة الخضوع والتذلل بل أضيق وأخص منهما ، وهذا أمر يعرفه كل إنسان بوجدانه وفطرته ، غير أنّنا نشير إلى هذه الخصوصية ونميز هذا الضيق بأنّه خضوع «ناشئ عن الاعتقاد بالألوهيّة أو الربوبية» كما سيوافيك في التعريف الثاني ، لا أنّ هذه الجملة (ناشئ عن الاعتقاد بالألوهيّة والربوبية) داخلة بتفصيلها في مفهوم العبادة ، ومعناها.

وبعبارة اخرى ، أنّ الإنسان قد لا يقدر على تعريف شيء بنوعه وفصله ، أو حدّه ورسمه حتى يحدّه تحديداً عقلياً لا خدشة فيه ، ولكنّه يجد في نفسه ما هو

٧٥

بمنزلة الجنس والفصل فيضعهما مكان الجنس والفصل الواقعيين ، والأمر فيما نحن فيه كذلك إذ نجد أنّ التعظيم والخضوع والتذلّل وما أشبههما أمر مشترك بين العبادة وغيرها فيتصوّره بمنزلة الجنس لها ، ويجد أنّ العبادة تتميز بخصوصية عن غيرها ، ولكنّه لا يقدر على بيان تلك الخصوصية بلفظ بسيط فيتوسل بوضع جملة مكانه وهي ما ذكرناها : «ناشئ عن الاعتقاد بالألوهيّة» ويضعها مكان الفصل.

وبعبارة ثالثة : أنّ الانسان يجد أنّ «العبادة» ليست مطلق التعظيم ونهاية التذلّل بل هي من خصائص من بيده شئون الإنسان كلّها ، أو شأناً من شئونه ممّا به قوام حياته عاجلاً أو آجلاً من الموت والحياة ، والخلق والرزق ، والسعادة والشقاء والمغفرة والشفاعة فيدير شئونه ويخطط مصيره حسب ما يليق به.

غير أنّ هذه الجمل ليست بتفصيلها داخلة في «مفهوم» العبادة. ولكنّه يشار إلى تلك الخصوصية الكامنة والضيق الموجود فيها ، بهذه الجمل والتفاصيل وحاشا أن تؤخذ هاتيك الجمل فيها بطولها.

وعلى ذلك فيصح أن يقال : العبادة قسم خاص من التواضع والخضوع لفظياً أو عملياً ، (يؤتى به لتعظيم ما يعتقده العابد بألوهيته) وما وقع بين الهلالين وإن كان خارجاً عن مفهوم العبادة إلّا أنّه يبين ما هو المقصود من القسم الخاص من الخضوع في أوّل العبارة.

ولذلك نظائر في العرف والعادة مثلاً :

١ ـ يعرف القوس بأنّه «قطعة من الدائرة» ولا شك أنّه من باب زيادة الحد على المحدود ، إذ لا يعتبر في صدق القوس كونه قطعة من الدائرة بل هو يصدق وإن لم يكن قطعة منها (أي من الدائرة) ، (أي القوس) عبارة عن سطح يحيط به خيط مستدير ينتهي طرفاه بنقطتين ، من غير اعتبار كونه بعضاً من الدائرة.

إلّا أنّ أخذ هذا القيد (أعني : كونه بعض الدائرة) من باب بيان الخصوصية

٧٦

الموجودة فيها بحيث لو انضم إليه قوس آخر لتحقّقت الدائرة.

٢ ـ انّ اللغويين يفسّرون الصهيل بأنّه صوت الفرس ، والزقزقة بأنّه صوت العصفور ، فليس الفرس والعصفور داخلين في مفهومهما البسيطين وإنّما جيء بقيد الفرس والعصفور ، للإشارة إلى تعيين صوت خاص.

* * *

إلى هنا اتضح أنّ الحق في التعريف هو أن يقال : العبادة هي الخضوع النابع عن الاعتقاد بألوهية المعبود وإلى ذلك يشير آية الله الحجة المرحوم الشيخ محمد جواد البلاغي ، في تفسيره المسمّى ب «آلاء الرحمن» في معرض تفسيره وتحليله لحقيقة العبادة :

«العبادة ما يرونه مشعراً بالخضوع لمن يتخذه الخاضع إلهاً ليوفيه بذلك ما يراه له من حق الامتياز بالألوهيّة» (١).

لقد صب العلّامة البلاغي ما يدركه فطرياً للعبادة في قالب الألفاظ والبيان والآيات المذكورة تؤيد صحة هذا التعريف واستقامته.

التعريف الثاني :

العبادة : هي الخضوع أمام من يعتقد بأنّه يملك شأناً من شئون وجوده وحياته وآجله وعاجله.

وتوضيح ذلك : أنّ العبودية من شئون المملوكية ومن مقتضياتها ، فعند ما يحس العابد في نفسه بنوع من المملوكية ، ويحس في الطرف الآخر بالمالكية يفرّغ إحساسه هذا ـ في الخارج ـ في ألفاظ وأعمال خاصة ، وتصير الألفاظ والأعمال

__________________

(١). آلاء الرحمن : ٥٧ ، طبعة صيدا ، وقد طبع من هذا التفسير جزءان فقط.

٧٧

تجسيداً لهذا الإحساس ، ويكون كل عمل أو لفظ مظهر لهذا الإحساس العميق عبادة. ولا شك أنّ المقصود بالمالكية ليس مطلق المالكية فالاعتقاد بالمالكية القانونية والاعتبارية لا يكون ـ أبداً ـ موجباً لصيرورة الخضوع عبادة ، إذ أنّ البشر في عصور : «العبوديات الفردية» بالأمس ، وكذا في عصر : «العبودية الجماعية» الراهن لا يعد امتثاله لأوامر أسياده عبادة ... فلا بد أن يكون المقصود من المملوكية ـ هنا ـ هي القائمة على أساس الخلق والتكوين وانّ شأناً من شئون حياته في قبضته.

وإليك بيان مناشئ أنواع المالكيات الحقيقية.

١ ـ قد يوصف بالمالكية لكونه خالقاً ، ولذلك يكون الله سبحانه مالكاً حقيقياً للبشر لأنّه خالقه ، وموجده من العدم ، ولهذا نجد القرآن الكريم يعتبر جميع الموجودات الشاعرة ـ مثلاً ـ عبيد الله ، ويصفه تعالى بأنّه مالكها الحقيقي وذلك لأنّه خلقها إذ يقول :

(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) (مريم ـ ٩٣)

ولأجل ذلك أيضاً نجده يأمرهم بعبادة نفسه معلّلاً بأنّه هو ربّهم الذي خلقهم دون سواه إذ يقول :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (البقرة ـ ٢١)

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ) (الأنعام ـ ١٠٢)

٢ ـ وقد يوصف بالمالكية لكونه رازقاً ومحيياً ومميتاً ، ولذلك يحس كل بشر سليم الفطرة بمملوكيته لله تعالى لأنّه مالك حياته ومماته ورزقه ، ولهذا يلفت القرآن نظر البشر إلى مالكية الله لرزق الإنسان وأنّه تعالى هو الذي يميته وهو الذي يحييه

٧٨

ليلفته من خلال ذلك إلى أنّ الله هو الذي يستحق العبادة فحسب. إذ يقول :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (الروم ـ ٤٠)

(هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) (الروم ـ ٢٨)

(هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ) (يونس ـ ٥٦)

٣ ـ وقد يوصف بها لكون الشفاعة والمغفرة بيده وحيث إنّ الله تعالى هو المالك للشفاعة المطلقة :

(قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) (الزمر ـ ٤٤)

ولمغفرة الذنوب : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) (آل عمران ـ ١٣٥)

بحيث لا يملك أن يشفع أحد لأحد من العباد إلّا بإذنه لذلك يشعر الإنسان العادي في قرارة ضميره بأنّ الله سبحانه مالك مصيره من حيث السعادة الأُخروية ، وإذا أحسّ إنسان بمملوكية كهذه ومالكية مثل تلك ثمّ جسّد هذا الإحساس في قالب اللفظ أو العمل فإنّه يكون بذلك عابداً له دون ريب.

وإلى ذلك يرجع ما ربّما يفسّر العبادة بأنّها الخضوع أمام من يعتقد بربوبيته فمن كان خضوعه العملي أو القولي أمام أحد نابعاً من الاعتقاد بربوبية ذلك الطرف كان بذلك عابداً له.

فالمقصود من لفظة «الرب» في التعريف هو المالك لشئون الشيء المتكفّل لتدبيره وتربيته.

وعلى ذلك تكون لفظة العبودية في مقابل الربوبية ، أي مالكية تربية الشيء وتدبيره ، ومصيره عاجلاً وآجلاً.

ويدل على ذلك أنّ قسماً من الآيات تعلّل الأمر بحصر العبادة في الله وحده بأنّه الرب لا غير ، وإليك بعض هذه الآيات :

٧٩

(وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) (المائدة ـ ٧٢)

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء ـ ٩٢)

(إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (آل عمران ـ ٥١)

وقد ورد مضمون هذه الآيات ، (أعني : جعل العبادة دائرة مدار الربوبية) في آيات أُخرى هي :

يونس : ٣ ، الحجر : ٩٩ ، مريم : ٣٦ ، ٦٥ ، الزخرف : ٦٤.

وعلى كل حال فانّ أوضح دليل على هذا التفسير للفظ العبادة هو الآيات التي سبق ذكرها.

التعريف الثالث :

ويمكننا أن نصب إدراكنا للعبادة في قالب ثالث فنقول :

إنّ العبادة هي الخضوع ممّن يرى نفسه غير مستقل في وجوده وفعله ، أمام من يكون مستقلاً. وقد وصف الله سبحانه وتعالى نفسه ـ في غير موضع من كتابه ـ بالقيّوم فقال عزوجل :

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (البقرة ـ ٢٥٥)

ومثله في آل عمران ـ ٢.

وقال سبحانه : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) (طه ـ ١١١).

ولا يراد منه سوى كونه قائماً بنفسه ، وليست فيه أيّة شائبة من الفقر والحاجة إلى الغير بل كل ما سواه قائم به.

وبعبارة أُخرى : العبادة نداء الله تعالى وسؤاله والقيام بالخضوع وإنزال حاجات الدنيا والآخرة على أنّه الفاعل المختار والمالك الحقيقي لأُمور الدنيا

٨٠