التوحيد والشرك في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

التوحيد والشرك في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 964-357-214-5
الصفحات: ٢٣٢

أنّ يتصوّر أنّ المقصود بالسجود لآدم هو جعله «قبلة» لا السجود له سجوداً حقيقياً.

ولكن كلا التصورين باطلان.

أمّا الأوّل فلأنّ تفسير السجود في الآية بالخضوع خلاف الظاهر ، والمتفاهم العرفي إذ المتبادر من هذه الكلمة ـ في اللغة والعرف ـ هو الهيئة السجودية المتعارفة لا الخضوع ، كما أنّ التصوّر الثاني هو أيضاً باطل ، لأنّه تأويل بلا مصدر ولا دليل.

هذا مضافاً إلى أنّ آدم ـ عليه السلام ـ لو كان قبلة للملائكة لما كان ثمة مجال لاعتراض الشيطان إذ قال :

(أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) (الإسراء ـ ٦١).

لأنّه لا يلزم ـ أبداً ـ أن تكون القبلة أفضل من الساجد ليكون أي مجال لاعتراضه ، بل اللازم هو : كون المسجود له أفضل من الساجد في حين أنّ آدم لم يكن أفضل في نظر الشيطان ، وهذا ممّا يدل على أنّ السجود كان لآدم لا أن يكون آدم قبلة.

يقول الجصاص : ومن الناس من يقول : إنّ السجود كان لله وآدم بمنزلة القبلة لهم وليس هذا بشيء لأنّه يوجب أن لا يكون في ذلك حظ التفضيل والتكرمة ، وظاهر ذلك يقتضي أن يكون آدم مفضّلاً مكرّماً ، ويدل على أنّ الأمر بالسجود قد كان أراد به تكرمة آدم ـ عليه السلام ـ وتفضيله ، قول إبليس فيما حكى الله عنه :

(أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً* قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ) (الإسراء ـ ٦١ ـ ٦٢).

فأخبر إبليس أنّ امتناعه من السجود لأجل ما كان من تفضيل الله وتكرمته بأمره إيّاه بالسجود له ولو كان الأمر بالسجود له على أنّه نصب قبلة للساجدين

٤١

من غير تكرمة له ولا فضيلة لما كان لآدم في ذلك حظ ولا فضيلة تُحسَد كالكعبة المنصوبة للقبلة (١).

وعلى هذا فمفهوم الآية هو أنّ الملائكة سجدوا لآدم بأمر الله سجوداً واقعياً ، وأنّ آدم أصبح مسجوداً للملائكة بأمر الله ، وهنا أظهر الملائكة من أنفسهم غاية الخضوع أمام آدم ، ولكنّهم ـ مع ذلك ـ لم يكونوا ليعبدوه.

وأمّا ربّما يتصوّر من أنّ سجود الملائكة لما كان بأمره سبحانه صح سجودهم له ، إنّما الكلام في الخضوع الذي لم يرد به أمر ، فسيوافيك الجواب عن هذا الاحتمال الذي يردّده كثير من الوهابيين في المقام.

٢ ـ إنّ القرآن يصرّح بأنّ أبوي يوسف وإخوته سجدوا له حيث قال :

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) (يوسف ـ ١٠٠).

ورؤياه التي يشير إليها القرآن في هذه الآية هو ما جاء في مطلع السورة :

(إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (يوسف ـ ٤).

وقد تحقّقت هذه الرؤيا بعد سنوات طويلة في سجود إخوة يوسف وأبويه له ، وعبّر القرآن ـ في كل هذه الموارد ـ بلفظ السجود ليوسف.

ومن هذا البيان يستفاد ـ جلياً ـ أنّ مجرد السجود لأحد بما هو مع قطع النظر عن الضمائم والدوافع ليس عبادة ، والسجود كما نعلم هو غاية الخضوع والتذلّل.

ثمّ إنّ بعض من يفسّر العبادة بمطلق الخضوع يجيب عن الاستدلال بهذه الآيات بأنّ السجود لآدم أو ليوسف ، حيث كان بأمر الله سبحانه فبذلك خرج عن كونه شركاً. وسنرجع إلى هذا البحث تحت عنوان «هل الأمر الإلهي يجعل

__________________

(١). أحكام القرآن : ١ / ٣٠٢.

٤٢

الشرك غير شرك؟» فلاحظ.

٣ ـ يأمر الله تعالى بالخضوع أمام الوالدين وخفض الجناح لهم ، الذي هو كناية عن الخضوع الشديد يقول :

(وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) (الإسراء ـ ٢٤).

ومع ذلك لا يكون هذا الخفض : عبادة.

٤ ـ إنّ جميع المسلمين يطوفون ـ في مناسك الحج ـ بالبيت الذي لا يكون إلّا حجراً وطيناً ، ويسعون بين الصفا والمروة وقد أمر القرآن الكريم بذلك حيث قال :

(وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج ـ ٢٩).

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (البقرة ـ ١٥٨)

فهل ترى يكون الطواف بالتراب والحجر والجبل عبادة لهذه الأشياء؟

ولو كان مطلق الخضوع عبادة لزم أن تكون جميع هذه الأعمال ضرباً من الشرك المجاز المسموح به ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

إنّ المسلمين كلّهم يستلمون الحجر الأسود ـ في الحج ـ واستلام الحجر الأسود من مستحبات الحج ، وهذا العمل يشبه من حيث الصورة (لا من حيث الواقعية) أعمال المشركين تجاه أصنامهم في حين أنّ هذا العمل يعدّ في صورة شركاً ، وفي أُخرى لا يعد شركاً بل يكون معدوداً من أعمال الموحدين المؤمنين وهذا يؤيد ما ذكرناه آنفاً من أنّ الملاك هو النيات والضمائر لا الصور والظواهر وإلّا فهذه الأعمال بصورها الظاهرية لا تفترق عن أعمال الوثنيين.

٥ ـ إنّ القرآن الكريم يأمر بأن نتخذ من مقام إبراهيم مصلّى عند ما يقول :

(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) (البقرة ـ ١٢٥).

ولا ريب في أنّ الصلاة إنّما هي لله ، ولكن إقامتها في مقام إبراهيم الذي يرى

٤٣

فيه أثر قدميه أيضاً نوع من التكريم لذلك النبي العظيم ولا يتصف هذا العمل بصفة العبادة مطلقاً.

٦ ـ إنّ شعار المسلم الواقعي هو التذلّل للمؤمن والتعزّز على الكافر كما يقول سبحانه :

(فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) (المائدة ـ ٥٤).

إنّ مجموع هذه الآيات من جانب ومناسك الحج وأعماله من جانب آخر تدل على أن مطلق الخضوع والتذلّل ، أو التكريم والاحترام ليس عبادة ، وإذا ما رأينا أئمة اللغة فسّروا العبادة بأنّها الخضوع والتذلّل كان هذا من التفسير بالمعنى الأوسع ، أي أنهم أطلقوا اللفظة وأرادوا بها المعنى الأعم ، في حين أنّ العبادة ليست إلّا نوعاً خاصاً من الخضوع سنذكره عمّا قريب.

ومن هذا البيان يمكن أيضاً أن نستنتج أنّ تكريم أحد واحترامه ليست ـ بالمرة ـ عبادة ، لأنّه في غير هذه الصورة يلزم أن نعتبر جميع البشر حتى الأنبياء مشركين ، لأنّهم أيضاً كانوا يحترمون من يجب احترامه.

وقد أشار المرحوم الشيخ جعفر كاشف الغطاء (وهو أول من أدرك ـ في عصره ـ عقائد الوهابية وأخضعها للتحليل) أشار إلى ما ذكرنا إذ قال :

«لا ريب أنّه لا يراد بالعبادة التي لا تكون إلّا لله ، ومن أتى بها لغير الله فقد كفر ، مطلق الخضوع والانقياد كما يظهر من كلام أهل اللغة ، وإلّا لَزم كفر العبيد والاجراء وجميع الخدّام للأُمراء ، بل كفر الأنبياء في خضوعهم للآباء» (١).

__________________

(١). راجع منهج الرشاد : ٢٤ (ط ١٣٤٣ ه‍) تأليف الشيخ الأكبر المرحوم الشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفى عام (١٢٢٨ ه‍). وقد ألّف المرحوم هذا الكتاب في معرض الإجابة على رسالة من أحد أُمراء السعودية الذين كانوا من مروّجي الوهابية منذ أول يوم إلى زماننا هذا.

٤٤

٨ ـ تميز المعنى الحقيقي عن المجازيّ :

نعم ربما تستعمل لفظة العبادة وما يشتق منها في موارد في العرف واللغة ولكن استعمال لفظ في معنى ليس دليلاً على كونه مصداقاً حقيقيّاً لمعنى اللفظ ، بل قد يكون من باب تشبيه المورد بالمعنى الحقيقي لوجود مناسبة بينهما وإليك هذه الموارد :

١ ـ العاشق الولهان الذي يظهر غاية الخضوع أمام معشوقته ، ويفقد تجاه طلباتها عنان الصبر ومع ذلك لا يسمّى مثل هذا الخضوع «عبادة» وإن قيل في حقه مجازاً إنّه (يعبد المرأة).

٢ ـ الأشخاص الذين يأسرهم الهوى فيفلت من أيديهم ـ تحت نداءات النفس الأمّارة ـ زمام الاختيار لا يمكن اعتبارهم عبدة واقعيين للهوى ، ولا عدّهم مشركين ، كمن يعبد الوثن ولو قيل في شأنه إنّه (يعبد هواه) فإن ذلك نوع من التشبيه وضرب من التجوز.

فها هو القرآن يسمّي الهوى إلهاً ويلازم ذلك كون الخضوع للهوى : عبادة له لكن مجازاً إذ يقول :

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) (الفرقان ـ ٤٣)

فكما أنّ إطلاق اسم الإله على الهوى نوع من التجوّز فكذا إطلاق العبادة على متابعة الهوى هو أيضاً ضرب من المجاز.

٣ ـ هناك فريق من الناس يضحّون بكل شيء في سبيل الحصول على جاه ومنصب حتى ليقول الناس في حقّهم إنّهم يعبدون الجاه والمنصب ، ولكنّهم في نفس الوقت لا يُعدّون عبدة حقيقيين للجاه ، ولا يصيرون بذلك مشركين.

٤٥

٤ ـ إنّ المتوغلين في العنصرية ـ كبني إسرائيل ـ وفي الأنانية ، الذين لا يهمّهم إلّا المأكل والمشرب رغم أنّهم يطلق عليهم بأنّهم عباد العنصر والنفس والشيطان ، ولكن الوجدان يقضي بأنّ عملهم لا يكون عبادة ... وانّ إتباع الشيطان شيء وعبادته شيء آخر.

وإذا ما رأينا القرآن يسمّي طاعة الشيطان «عبادة» فذلك ضرب من التشبيه ، والهدف منه هو بيان قوة النفرة وشدة الاستنكار لهذا العمل ، إذ يقول :

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (يس : ٦٠ ـ ٦١).

ومثل هذه الآية ، الآيتان التاليتان :

١ ـ (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) (مريم ـ ٤٤).

٢ ـ (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) (المؤمنون ـ ٤٧)

لا شك في أنّ بني اسرائيل ما كانوا يعبدون فرعون وملأه غير أنّ استذلالهم لما بلغ إلى حد شديد صح أن يطلق عليه عنوان العبادة على نحو المجاز.

والقرآن وإن أطلق على هذه الموارد عنوان العبادة لكن لا بمعنى أنّه جعلهم في عداد المشركين. فلا يمكن التصديق بأنّ كل خضوع وطاعة وكل تكريم واحترام «عبادة» وعند ذاك يستكشف أنّ استعمالها في هاتيك الموارد بعناية خاصة ، وعلاقة مجازية.

وبعبارة أُخرى أنّ عُبّاد الهوى والنفس والجاه و... وإن كانوا يعتبرون مذنبين ، تنتظرهم أشد العقوبات إلّا أنّه لا يكونون في عداد المشركين في العبادة الذين لهم أحكام خاصة في الفقه الإسلامي.

٤٦

كيف لا ، ونحن نقرأ في الحديث الشريف :

«من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان الناطق يؤدي عن الله عزوجل فقد عبد الله وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان» (١).

فالناس يستمعون اليوم إلى وسائل الإعلام ويصغون إلى أحاديث المتحدّثين والمذيعين من الراديو والتلفزيون ، وأكثر أُولئك المتحدّثين ينطقون عن غير الله ، فهل يمكن لنا أن نصف كل من يستمع إلى تلك الأحاديث بأنهم عبدة لأُولئك المتحدثين؟!

بل الصحيح هو أن نعتبر استعمال لفظ العبادة في مثل هذه الموارد نوعاً من التجوّز ، لأجل وجود المناسبة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي.

فلطالما يتردّد في لسان العرف بأنّ فلاناً (عبد البطن) أو (عبد الشهوة) فهل يكون هؤلاء ـ حقاً ـ عبدة البطن والشهوة ، أو لأنّ الخضوع المطلق تجاه نداءات الشهوات النفسانية حيث كان شبيهاً بالخضوع المطلق الذي يمثله الموحدون أمام خالق الكون ، أطلق عنوان العبادة على هذه الموارد.

٩ ـ هل الأمر الإلهي يجعل الشرك غير شرك؟

ربما يقال : إنّ سجود الملائكة لآدم ، واستلام الحجر الأسود ، وما شابههما من الأعمال لما كان بأمر الله ، لا يكون شركاً ، ولا يعد فاعلها مشركاً (٢).

وبعبارة أُخرى أنّ حقيقية العبادة وإن كانت الخضوع والاحترام ، ولكن لمّا كانت تلك الأعمال مأتيّاً بها بأمره سبحانه تعد عبادة للآمر لا لسواه.

__________________

(١). الكليني : الكافي : الجزء ٧ / ٤٣٤. سفينة البحار ج ٢ مادة «عبد».

(٢). القائل هو الشيخ عبد العزيز إمام المسجد النبوي في محاورته مع بعض الأفاضل.

٤٧

ولكن القائل ومن تبعه يغفلون عن نقطة مهمة جداً وهي :

إنّ تعلّق الحكم بموضوع لا يغيّر ـ بتاتاً ـ حقيقة ذلك الموضوع ، ولا يوجب تعلّق الأمر الإلهي به تبدّل ماهيته.

إنّ العقل السليم يقضي بأن سبّ أحد وشتمه إهانة له ـ طبعاً ـ وذلك شيء تقتضيه طبيعة السباب والفحش والشتم ، فإذا أوجب الله سب أحد وشتمه ـ فرضاً ـ فأنّ أمر الله لا يغير ماهية السبب والشتم ـ أبداً ـ.

كما أنّ الضيافة وإقراء الضيف بطبيعتهما تكريم للوافد ، واحترام للضيف ، فإذا حرمت ضيافة شخص لم تتبدّل ماهية العمل ، أعني الضيافة التي كانت بطبيعتها احتراماً ، لتصير إهانة في صورة تحريمها ، بل تبقى ماهية الضيافة على ما كانت عليه ولو تعلّق بها تحريم فإذا عدّت أعمال ـ كالسجود واستلام الحجر الأسود وما شابههما ـ عبادة ذاتاً فإنّ الأمر الإلهي لا يغير ماهيتها ، فلا تخرج من حال كونها عبادة لآدم أو يوسف أو الحجر ، وما يقوله القائل من أنّها عبادة ذاتاً وطبيعةً ، ولكن حيث تعلّق بها الأمر الإلهي خرجت عن الشرك ، يستلزم أن تكون هذه الأعمال من الشرك المجاز ، وتخصيصاً في حكمه وهو لا يقبل التخصيص.

والخلاصة أنّ المسألة تدور مدار إمّا أن نعتبر هذه الأعمال خارجة ـ بطبيعتها عن مفهوم الشرك ، أو أن نقول إنّها من مصاديق الشرك في العبادة ولكنّها شرك أذن الله به وأجازه!!!

والقول الثاني على درجة من البطلان بحيث لا يمكن أن يحتمله أحد فضلاً عن الذهاب إليه ، وسيوافيك أنّ بعض الأعمال يمكن أن تكون باعتبارٍ تعظيماً وتواضعاً ، وباعتبارٍ آخر شركاً ، فلو كانت الملائكة ـ مثلاً ـ تسجد لآدم باعتقاد أنّه إله كان عملهم شركاً قطعاً وإن أمر الله به ـ على وجه الافتراض ـ وأمّا إذا كانت تسجد بغير هذا الاعتقاد لم يكن فعلها شركاً حتى لو لم يأمر به المولى جلّ شأنه.

٤٨

لقد كان الشيخ عبد العزيز إمام المسجد النبوي يحاول توجيه صحة وشرعية هذه الاحترامات بورود الأمر الإلهي بشأنها ، ويستشهد بما قاله عمر بن الخطاب حول الحجر الأسود إذ قال ـ ما مضمونه ـ : «إنّي أعلم أنّك حجر لا تنفع ولا تضر ولو لا أنّي رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقبّلك لما قبّلتك» (١).

ولكنّه كان غافلاً عن : إنّ مفاد كلامه هو أن تكون هذه الأفعال من الشرك المجاز في هذه الحالة ، وبالتالي أن يأمر الله بالفحشاء ولو مرّة واحدة.

ونلفت نظر الشيخ إلى الآية الكريمة :

(قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)؟ (الأعراف ـ ٢٨).

فلو كانت ماهية السجود لآدم ـ عليه السلام ـ واستلام الحجر الأسود عبادة لآدم والحجر وشركاً ، لما كان الله سبحانه ، يأمر بها ـ أبداً ـ.

١٠ ـ معنى الألوهية والربُوبية :

وأمّا الألوهية فلا نظن أنّ القارئ الكريم يحتاج في فهم معنى : «إله» إلى التعريف ، فإنّ لفظي : «إله» و «الله» من باب واحد فما هو المتفاهم من الثاني أي «الله» هو المتفاهم من الأوّل أي «إله». وإن كانا يختلفان في المفهوم اختلاف الكلّي والفرد.

غير أنّ لفظ الجلالة علم لفرد من ذاك الكلّي ولمصداق منه ، دون ال «إله» فهو باق على كلّيته وإن لم يوجد عند الموحّدين مصداق له بل انحصر فيه. فكما أنّه لا يحتاج في الوقوف على معنى لفظ الجلالة إلى التعريف فلفظة «إله» مثله

__________________

(١). صحيح البخاري : ٣ / ١٤٩ ، كتاب الحج ، طبعة عثمان خليفة.

٤٩

أيضاً ، إذ ليس ثمة من فارق بين اللفظتين إلّا فارق الجزئية والكلّية ، فهما على وجه كزيد وإنسان ، بل أولى منهما لاختلاف الأخيرين (زيد وإنسان) في مادة اللفظ بخلاف «إله» و «الله» فهما متحدان في تلك الجهة ، وليس لفظ الجلالة إلّا نفس إله حذفت همزته وأُضيفت إليه «الألف واللام» فقط ، وذلك لا يخرجه عن الاتحاد ، لفظاً ومعنى.

وإن شئت قلت : إنّ هاهنا اسماً عاماً وهو «إله» ويجمع على «آلهة» واسماً خاصاً وهو «الله» ولا يجمع أبداً. ويرادفه في الفارسية «خدا» وفي التركية «تاري» وفي الانگليزية «گاد». غير أنّ الاسم العام والخاص في اللغة الفارسية واحد وهو «خدا» ويعلم المراد منه بالقرينة ، غير أنّ «خداوند» لا يطلق إلّا على الاسم الخاص. وأمّا «گاد» في اللغة الانجليزية فكلّما أُريد منه الاسم العام كتب على صورة «god» وأمّا إذا أُريد الاسم الخاص فيأتي على صورة «God» وبذلك يشخّص المراد منه.

ولعل اختصاص هذا الاسم (الله) بخالق الكون كان بهذا النحو : وهو أنّ العرب عند ما كانت في محاوراتها تريد أن تتحدث عن الخالق كانت تشير إليه ب «الإله» أي الخالق ، والألف واللام المضافتان إلى هذه الكلمة كانتا لأجل الإشارة الذهنية (أي الإشارة إلى المعهود الذهني) ، يعني ذاك الإله الذي تعهده في ذهنك وهو ما يسمّى في النحو بلام العهد ، ثمّ أصبحت كلمة «الإله» مختصة في محاورات العرب بخالق الكون ومع مرور الزمن انمحت الهمزة الكائنة بين اللامين وسقطت من الألسن وتطوّرت الكلمة من «الإله» إلى «الله» التي ظهرت في صورة كلمة جديدة واسم خاص بخالق الكون تعالى وعلماً له سبحانه (١).

وإلى ما ذكرنا يشير العلامة الزمخشري في «كشّافه» :

__________________

(١). في هذا الصدد نظريات أُخرى أيضاً راجع لمعرفتها تاج العروس : ٩ / مادة «إله».

٥٠

[«الله» أصله : «الإله» ، قال الشاعر :

معاذ الإله أن تكون كظبية

ولا دمية ولا عقيلة ربرب (١)

ونظيره : الناس أصله : الاناس ، فحذفت الهمزة ، وعوض عنها حرف التعريف ،

ولذلك قيل في النداء : تالله ، بالقطع ، كما يقال : يا إله ، والإله من أسماء الأجناس كرجل وفرس] (٢).

وينقل العلامة الطبرسي في «تفسيره» عن سيبويه أنّ «الله» أصله «إله» على وزن فعال فحذفت فاء فعله ، وهي الهمزة ، وجعلت الألف واللام عوضاً لازماً عنها ، بدلالة استجازتهم قطع هذه الهمزة الداخلة على لام التعريف في القسم والنداء في قوله : يا الله اغفر لي ، ولو كانت غير عوض لم تثبت الهمزة في الوصل كما لم تثبت في غير هذا الاسم (٣).

وقال الراغب في «مفرداته» : «الله أصله إله فحذفت همزته وأدخل عليه الألف واللام ، فخصّ بالباري ولتخصّصه به قال تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (٤).

وعلى ذلك فلا نحتاج في تفسير «إله» إلى شيء وراء تصوّر أنّ هذا اللفظ كلّي ، لما وضع عليه لفظ الجلالة. وبما أنّ هذا اللفظ من أوضح المفاهيم ، وأظهرها فلا نحتاج في انفهام اللفظ الموضوع الكلّي إلى شيء أبداً. نعم أنّ لفظ الجلالة وإن كان علماً للذات المستجمعة صفات الكمال ، أو الخالق للأشياء ، إلّا أنّ كون الذات مستجمعة لصفات الكمال ، أو خالقاً للأشياء ، ليس من مقوّمات معنى الإله ، بل من الخصوصيات الفردية التي بها يمتاز الفرد عمّن سواه من

__________________

(١). استعاذ الشاعر بالله من تشبيه حبيبته بالظبية أو الدمية ، والربرب هو السرب من الوحش.

(٢). الكشاف : ١ / ٣٠ ، تفسير البسملة.

(٣). مجمع البيان : ١ / ١٩ ، طبعة صيدا.

(٤). مفردات الراغب : ٣١ ، مادة إله.

٥١

الأفراد ، وأمّا الجامع بينه وبين سائر الأفراد ، أو التي ربما تفرض (لا المحقّقة) فهو أمر سواه سنشير إليه.

ويؤيد وحدة مفهومهما ، بالذات ، مضافاً إلى ما ذكرناه من وحدة مادتهما : أنّه ربما يستعمل لفظ الجلالة مكان الإله (١) أي على وجه الكلّية والوصفية ، دون العلمية فيصح وضع أحدهما مكان الآخر ، كما في قوله سبحانه :

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) (الأنعام ـ ٣).

فإنّ وزان هذه الآية وزان قوله سبحانه :

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (الزخرف ـ ٨٤).

(وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) (النساء ـ ١٧١).

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الحشر : ٢٣ ـ ٢٤).

ولا يخفى أنّ لفظة الجلالة في هذه الموارد وما يشابهها يراد منه ما يرادف الإله على وجه الكلية ، (أي ما معناه أنّه هو الإله الذي يتصف بكذا وكذا).

ويقرب من الآية الأُولى قوله سبحانه :

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (الإسراء ـ ١١٠)

__________________

(١). استعمالاً مجازياً مثل قول القائل : هذا حاتم قومه ويونس أبنائه.

٥٢

فإنّ جعل لفظ الجلالة في عداد سائر الأسماء والأمر بدعوة أيّ منها ، ربما يشعر بخلوّه عن معنى العلمية ، وتضمّنه معنى الوصفية الموجودة في لفظ : «الإله» وغيره ، ومثله قوله سبحانه :

(هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (الحشر ـ ٢٤)

فلا يبعد في هاتين الآيتين أن يكون لفظ الجلالة ملحوظاً على وجه الكلّية لا العلمية الجزئية ، كما هو الظاهر لمن أمعن فيها.

نعم ، ربما يقال من أنّ لفظ الجلالة من إله بمعنى عبد ، أو من إله بمعنى تحيّر ، لأجل أنّ العبد إذا تفكّر فيه تحيّر ، أو من إله معنى فزع لأنّ الخلق يفزعون إليه في حوائجهم ، أو من إله بمعنى سكن لأنّ الخلق يسكنون إلى ذكره.

أو أنّه متّخذ من لاه بمعنى احتجب لأنّه تعالى المحتجب عن الأوهام ، أو غير ذلك ممّا ذكروه (١) ولكن ذلك مجرد احتمالات غير مدعمة بالدليل ، وعلى فرض صحتها ، أو صحة بعضها فلا تدل على أكثر من ملاحظة تلك المناسبات يوم وضع وأُطلق لفظ الجلالة أو لفظ الإله عليه سبحانه ، وأمّا بقاء تلك المناسبات إلى زمان نزول القرآن ، وأنّ استعمال القرآن لهما كان برعاية هذه المناسبات فأمر لا دليل عليه مطلقاً.

والظاهر أنّ هذه المعاني من لوازم معنى الإله وآثاره ، فإنّ من اتّخذ أحداً إلهاً لنفسه فإنّه يعبده قهراً ، ويفزع إليه عند الشدائد ، ويسكن قلبه عند ذكره ، إلى غير ذلك من اللوازم والآثار التي تستلزمها صفة الألوهية ، ولو لاحظ القارئ الكريم الآيات التي ورد فيها لفظ الإله ، وما احتفّ بها من القرائن لوجد أنّه لا يتبادر من الإله غير ما يتبادر من لفظ الجلالة ، سوى كون الأوّل كلّياً والثاني جزئياً.

__________________

(١). راجع مجمع البيان : ٩ / ١٩.

٥٣

هل الإله بمعنى المعبود؟

نعم يظهر من كثير من المفسّرين بأنّ إله بمعنى عبد ، ويستشهدون بقراءة شاذة في قوله سبحانه :

(لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) (الأعراف ـ ١٢٧).

حيث قرئ والاهتك ، أي عبادتك.

ولعل منشأ هذا التصوّر هو كون الإله الحقيقي ، أو الآلهة المصطنعة موضعاً للعبادة ـ دائماً ـ لدى جميع الأُمم والشعوب ، ولأجل ذلك فسّرت لفظة «الإله» بالمعبود ، وإلّا فإنّ المعبودية هي لازم الإله وليست معناه البدئي.

والذي يدل ـ بوضوح ـ على أنّ الإله ليس بمعنى المعبود هو : كلمة الإخلاص : «لا إله إلّا الله» إذ لو كان المقصود من الإله «المعبود» لكانت هذه الجملة كذباً صريحاً ، لأنّ من البديهي وجود آلاف المعبودات في هذه الدنيا ، غير الله ، ومع ذلك فكيف يمكن نفي أي معبود سوى الله؟

ولأجل ذلك اضطر القائل بأنّ الإله بمعنى المعبود أن يقدّر كلمة «بحق» بعد إله لتكون الجملة هكذا : «لا إله [بحق] إلّا الله» ليتخلّص من هذا الإشكال ، ولكن لا يخفى أنّ تقدير كلمة «بحق» هنا خلاف الظاهر ، وانّ هدف كلمة الإخلاص هو نفي أي إله في الكون سوى الله ، وانّه ليس لهذا المفهوم (أي الإله) مصداق بتاتاً سواه سبحانه ، وهذا لا يجتمع مع القول بأنّ «الإله» بمعنى «المعبود» ، لوجود المعبودات الأُخرى في العالم وإن كانت مصطنعة.

وأمّا جمعه على الآلهة فليس على أساس انّه بمعنى المعبود ، بل لأجل اعتقاد العرب بأنّ هاهنا آلهة غير الله سبحانه ، قال تعالى :

(أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) (الأنبياء ـ ٤٣).

٥٤

وإن شئت ان تفرغ ما نفهمه من لفظ الإله في قالب التعريف فارجع إلى الأُمور التي تعد عند الناس من شئون الربوبية ولوازمها فالقائم بتلك الشئون ـ كلّها أو بعضها ـ هو : الإله ، فالخلق والتدبير والإحياء والإماتة والتقنين والتشريع والمغفرة والشفاعة بالاستقلال كلّها من شئون الربوبية ، فالقائم بهذه الشئون حقيقة أو تصوّراً : إله ، واقعاً أو عند المتصوّر.

وهنا آيات تدل بوضوح على أنّ الإله ليس بمعنى المعبود ، بل بمعنى المتصرّف المدبّر أو من بيده أزمّة الأُمور ، أو ما يقرب من ذلك ممّا يعد فعلاً له تعالى. وإليك بعض هذه الآيات :

١ ـ (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (الأنبياء ـ ٢٢).

فانّ البرهان على نفي تعدّد الآلهة لا يتم إلّا إذا جعلنا «الإله» في الآية بمعنى المتصرّف المدبّر أو من بيده أزمّة الأُمور أو ما يقرب من هذين. ولو جعلنا الإله بمعنى المعبود لانتقض البرهان ، لبداهة تعدّد المعبودين في هذا العالم ، مع عدم الفساد في النظام الكوني ، وقد كانت الحجاز يوم نزول هذه الآية مزدحمة الآلهة ، ومركزها مع كون العالم منتظماً ، غير فاسد.

وعندئذ يجب على من يجعل «الإله» بمعنى المعبود أن يقيّده بلفظ (بالحق) أي لو كان فيهما معبودات ـ بالحق ـ لفسدتا ولمّا كان المعبود بالحق مدبراً ومتصرّفاً لزم من تعدّده فساد النظام وهذا كلّه تكلّف لا مبرر له.

٢ ـ (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) (المؤمنون ـ ٩١).

ويتم هذا البرهان أيضاً لو فسّرنا الإله بما ذكرنا من انّه كلّي ما يطلق عليه لفظ الجلالة. وان شئت قلت : إنّه كناية عن الخالق أو المدبّر المتصرّف ، أو من

٥٥

يقوم بأفعاله وشئونه. والمناسب في هذا المقام هو الخالق. ويلزم من تعدّده ما رتّب عليه في الآية من ذهاب كل إله بما خلق واعتلاء بعضهم على بعض.

ولو جعلناه بمعنى المعبود لانتقض البرهان ، ولا يلزم من تعدّده أي اختلال في الكون. وأدل دليل على ذلك هو المشاهدة. فانّ في العالم آلهة متعددة ، وقد كان في أطراف الكعبة المشرّفة ثلاثمائة وستون إلهاً ولم يقع أي فساد واختلال في الكون.

فيلزم على من يفسّر (إله) بالمعبود ارتكاب التكلّف بما ذكرناه في الآية المتقدّمة.

٣ ـ (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) (الإسراء ـ ٤٢).

فانّ ابتغاء السبيل إلى ذي العرش من لوازم تعدّد الخالق أو المدبّر المتصرّف أو من بيده أزمّة أُمور الكون أو غير ذلك ممّا يرسمه في ذهننا معنى الألوهية ، وأمّا تعدّد المعبود فلا يلازم ذلك إلّا بالتكلف الذي أشرنا إليه فيما سبق.

٤ ـ (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ* لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها) (الأنبياء ـ ٩٨ و ٩٩).

والآية تستدل من ورود الأصنام والأوثان في النار على كونها غير آلهة إذ لو كانت آلهة ما وردت النار.

والاستدلال إنّما يتم لو فسّرنا الآلهة بما أشرنا إليه فانّ خالق العالم أو مدبّره والمتصرف فيه أو من فوّض إليه أفعال الله أجلّ من أن يحكم عليه بالنار وأن يكون حصب جهنّم.

وهذا بخلاف ما إذا جعلناه بمعنى المعبود فلا يتم البرهان ، لأنّ المفروض أنّها

٥٦

كانت معبودات وقد جعلت حصب جهنّم. ولو أمعنت في الآيات التي وردت فيها لفظ الإله والآلهة لقدرت على استظهار ما اخترناه. وإليك مورداً منها في قوله تعالى :

(فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) (الحج ـ ٣٤).

فلو فسّر الإله في الآية بالمعبود لزم الكذب ، إذ المفروض تعدّد المعبود في المجتمع البشري ، ولأجل هذا ربما يقيّد الإله هنا بلفظ «الحق» أي المعبود الحق إله واحد. ولو فسّرناه بالمعنى البسيط الذي له آثار في الكون من التدبير والتصرف وإيصال النفع ، ودفع الضر على نحو الاستقلال لصحّ حصر الإله ـ بهذا المعنى ـ في واحد بلا حاجة إلى تقدير كلمة بيانية محذوفة إذ من المعلوم أنّه لا إله في الحياة البشرية والمجتمع البشري يتصف بهذه الصفات التي ذكرناها.

ولا نريد أن نقول : إنّ لفظ الإله بمعنى الخالق المدبر المحيي المميت الشفيع الغافر ، إذ لا يتبادر من لفظ الإله إلّا المعنى البسيط. بل هذه الصفات عناوين تشير إلى المعنى وضع له لفظ الإله. ومعلوم أنّ كون هذه الصفات عناوين مشيرة إلى ذلك المعنى البسيط ، غير كونها معنى موضوعاً للّفظ المذكور كما أنّ كونه تعالى ذات سلطة على العالم كلّه أو بعضه سلطة مستقلة غير معتمدة على غيره ، وصف مشير إلى المعنى البسيط الذي نتلقاه من لفظ الإله ، لا أنّه نفس معناه.

إلى هنا ـ أيّها القارئ الكريم ـ قد وقفت على معنى الإله ، والألوهية ، وأنّه ليس الإله بمعنى المعبود ، بل المراد منه هو المراد من لفظة «الله» لا غير ، إلّا أنّ أحدهما عَلَمُ ، والآخر كُلّي.

يبقى أن نقف على معنى الرب والربوبية التي يكثر ورودها في كلمات الوهابيين فنقول :

٥٧

معنى الربّ والربوبية :

«الرب ، المالك ، الخالق ، الصاحب. والرب المصلح للشيء يقال : ربَّ فلان ضيعته إذا قام على إصلاحها ، والرب : المصلح للشيء ، والله جل ثناؤه الرب ، لأنّه مصلح أحوال خلقه. والراب ، الذي يقوم على أمر الربيب» (١).

ويكتب الفيروزآبادي قائلاً :

«رب كل شيء : مالكه ومستحقه وصاحبه ...

ربّ الأمر : أصلحه» (٢).

وجاء في المنجد :

«الرب : المالك ، المصلح ، السيد» (٣).

وما يشابه هذا المعنى في كتب اللغة والقواميس الأُخرى.

هل للرب معان مختلفة؟

إنّ وظيفة كتب اللغة والقواميس هي ضبط موارد استعمال اللفظة ، سواء أكان المستعمل فيه هو الذي وضع عليه اللفظة أم لا ، وأمّا تعيين الأوضاع وتمييز الحقائق عن المجازات فخارج عما ترتئيه كتب اللغة.

وهذا هو نقص ملحوظ ومشهود بوضوح في كتب اللغة ومعاجمها ، إذ ما

__________________

(١). مقاييس اللغة : ٢ / ٣٨١.

(٢). قاموس اللغة ، مادة «رب».

(٣). المنجد ، مادة «رب».

٥٨

أكثر ما يجد الإنسان عدّة معاني متباينة ومتمايزة للفظة واحدة حتى أنّه ليتصور ـ في أوّل وهلة ـ أنّ الواضع العربي جعل هذه اللفظة على عشرة معان في عشرة أوضاع ؛ ولكن بعد التحقيق والدراسة يتبيّن أنّه ليس لهذه اللفظة سوى معنى واحد لا غير وأمّا بقية المعاني المذكورة فهي من شعب المعنى الأصلي.

ومن الصدف أنّ لفظة رب تعاني من هذا المصير حتى أنّ كاتباً كالمودودي تصوّر أنّ لهذه اللفظة خمسة معان ـ في الأصل ـ وذكر لكل معنى من المعاني الخمسة شواهد من القرآن الكريم.

ولا شك في أنّ لفظة رب استعملت في الكتاب العزيز واللغة في الموارد التالية التي لا تكون إلّا صورة موسعة ومصاديق متعدّدة لمعنى واحد لا أكثر.

وإليك هذه الموارد والمصاديق :

١ ـ التربية ، مثل رب الولد ، رباه.

٢ ـ الإصلاح والرعاية مثل رب الضيعة.

٣ ـ الحكومة والسياسة مثل فلان قد رب قومه أي ساسهم وجعلهم ينقادون له.

٤ ـ المالك كما جاء في الخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربّ غنم أم ربّ إبل.

٥ ـ الصاحب مثل قوله : رب الدار أو كما يقول القرآن الكريم :

(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) (قريش ـ ٣).

لا ريب أنّ هذه اللفظة قد استعملت في هذه الموارد ومايشابهها ولكن جميعها يرجع إلى معنى واحد أصيل ، وما هذه المعاني سوى مصاديق وصور مختلفة لذلك المعنى الأصيل ، وسوى تطبيقات متنوعة لذلك المفهوم الحقيقي الواحد ؛ أعني : من فوّض إليه أمر الشيء المربى من حيث الإصلاح والتدبير والتربية.

٥٩

فإذا قيل لصاحب المزرعة إنّه ربها ، فلأجل أنّ إصلاح أُمور المزرعة مرتبطة به وفي قبضته.

وإذا أطلقنا على سائس القوم ، صفة الرب ، فلأنّ أُمور أُولئك القوم مفوّض إليه فهو قائدهم ، ومالك تدبيرهم ومنظم شئونهم.

وإذا أطلقنا على صاحب الدار ومالكه اسم الرب ، فلأنّه فوّض إليه أمر تلك الدار وإدارتها والتصرّف فيها كما يشاء.

فعلى هذا يكون المربي والمصلح والرئيس والمالك والصاحب ومايشابهها مصاديق وصور لمعنى واحد أصيل يوجد في كل هذه المعاني المذكورة ، وينبغي أن لا نعتبرها معاني متمايزة ومختلفة للفظة الرب بل المعنى الحقيقي والأصيل للّفظة هو : من بيده أمر التدبير والإدارة والتصرّف ، وهو مفهوم كلّي ومتحقّق في جميع المصاديق والموارد الخمسة المذكورة (أعني : التربية والإصلاح والحاكمية والمالكية والصاحبية).

فإذا أُطلق يوسف الصدّيق ـ عليه السلام ـ لفظ الرب على عزيز مصر ، حيث قال :

(إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) (يوسف ـ ٢٣).

فلأجل أنّ يوسف تربى في بيت عزيز مصر وكان العزيز متكفّلاً لتربيته وقائماً بشئونه.

ولو وصف يوسف عزيز مصر بكونه رباً لمصاحبه في السجن فقال :

(أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) (يوسف ـ ٤١).

فلأنّ عزيز مصر كان سيد مصر وزعيمها ومدبّر أُمورها ومتصرّفاً في شئونها ومالكاً لزمامها.

وإذا وصف القرآن اليهود والنصارى بأنّهم اتّخذوا أحبارهم أرباباً إذ يقول :

٦٠