التوحيد والشرك في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

التوحيد والشرك في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 964-357-214-5
الصفحات: ٢٣٢

ـ مثلاً ـ عبادة لغير الله حتى يكون نفس العمل شركاً ، والفاعل مشركاً فيخرج عن ربقة الإسلام ، وجادة التوحيد ، أو أنّه تكريم وتبجيل لأهداف مقدسة لا يمت إلى العبادة ـ فضلاً عن عبادة غير الله ـ بصلة؟

وهذا الأصل هو الذي عزمنا في هذه الرسالة على بيانه وتوضيحه فانّ كثيراً من الوهابيين جعلوا «الشرك في العبادة» ذريعة لتكفير كثير من المسلمين ، وجعلهم في سلك المشركين في العبادة ، ولأجل أن يتجلّى هذا الموضوع بأفضل نحو نقول :

إنّ الأصل الذي يجب أن نتوصل إليه قبل كل شيء ، هو تحديد مفهوم العبادة في ضوء القرآن الكريم والسنّة المطهرة حتى يكون معياراً ثابتاً في تشخيص العبادة عن غيرها ، إذ لو لا هذا لم يثمر البحث ، ولم يتم الجدال والنقاش.

فهذا هو الأصل اللازم الذي غفل عنه مؤلّفو الوهابية ، فأخذوا يصفون كثيراً من أعمال المسلمين بالشرك في العبادة من دون أن يحدّدوا قبل ذلك ضابطة قرآنية ثابتة وواضحة ؛ غير أنّنا قبل أنّ نتوصل ، الى تحديد مثل هذه الضابطة نقدّم أُموراً هي :

٢١
٢٢

الفصل الأوّل

عشر مقدمات ضرورية ..

٢٣
٢٤

١ ـ نبذ الشرك أساس دعوة الأنبياء :

الأمر الذي كان يشكّل أساس دعوة الأنبياء في جميع عهود الرسالة السماوية هو : دعوة البشر إلى عبادة (الله الواحد) والاجتناب عن عبادة غيره.

فالتوحيد في العبادة وتحطيم أغلال الشرك والوثنية كان من أهم التعاليم السماوية التي تحتل مكان الصدارة في رسالات الأنبياء عليهم‌السلام حتى كأنّ الأنبياء والرسل لم يبعثوا ـ أجمع ـ إلّا لِهدف واحد هو تثبيت دعائم التوحيد ومحاربة الشرك.

لقد ذكر القرآن هذه الحقيقة ـ بجلاء ـ إذ قال :

(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل ـ ٣٦).

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء ـ ٢٥).

ثمّ في موضع آخر يصف القرآن الكريم التوحيد في العبادة بأنّه الأصل المشترك بين جميع الشرائع السماوية إذ يقول :

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ

٢٥

وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) (آل عمران ـ ٦٤).

وإذا أردت أن تعرف كيف بيّن القرآن الكريم (الشرك) في العبادة أو جميع أقسامه وصور المشرك في فقده ما يعتمد عليه في حياته فتدبّر في الآية التالية إذ يقول تعالى :

(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ)!! (الحج ـ ٣١).

ولا يستطيع أيّ تشبيه على ترسيم بطلان الشرك وضياع المشرك وخيبته وحيرته بأوضح مما رسمته هذه الآية الكريمة.

٢ ـ منشأ الشرك والوثنية :

من العسير جداً إبداء الرأي في جذور الوثنية ومنشأ هذا الانحراف العقيدي ونموّه بين البشر ، خاصة أنّ موضوع الوثنية لم يكن عند قوم أو قومين ، ولا في شكل أو شكلين ، ولا في منطقة أو منطقتين ليتيسّر للباحث إبداء نظر قطعي فيه وفي نشوئه.

فالوثنية عند «عرب الجاهلية» مثلاً تختلف عمّا عليها عند «البراهمة» وهي عند «البوذيين» تختلف عمّا هي عليها عند «الهندوس» فاعتقادات هذه الطوائف والشعوب مختلفة في موضوع الشرك بحيث يعسر تصوّر قدر مشترك بينها (١).

أمّا العرب البائدة مثل عاد وثمود أُمم هود وصالح ، ومثل سكنة مدين

__________________

(١). شرحت دوائر المعارف ، وبخاصة دائرة معارف البستاني معتقدات هذه الشعوب الآسيوية التي تعيش في رقعة كبيرة في آسيا.

٢٦

وسبأ : أُمم شعيب وسليمان ، فكانوا بين وثنيين وعبدة الشمس (١) وقد ذكرت عقائدهم وطريقة تفكيرهم في القرآن الكريم.

وقد كان عرب الجاهلية من أولاد إسماعيل موحّدين ردحاً من الزمن ، يتبعون تعاليم النبي إبراهيم وولده إسماعيل ـ عليهما السلام ـ ولكن ـ على مر الزمان وعلى أثر الارتباط بالشعوب والأُمم الوثنية ـ حلّت الوثنية محل التوحيد في المجتمع العربي الجاهلي تدريجيّاً (٢).

هذا حال الأُمة العربية العائشة في تلكم النواحي. وأمّا الأُمّة العائشة في مكة وضواحيها المقاربة لعصر الرسول فقد نقل المؤرخون أنّ أوّل من أدخل الوثنية في مكة ونواحيها وروّجها فيها هو : «عمرو بن لحي».

فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أُناساً يعبدون الأوثان ، وعند ما سألهم عمّا يفعلون قائلاً :

ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدونها؟!

قالوا : هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا!

فقال لهم : أفلا تعطونني منها فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه؟

وهكذا استحسن طريقتهم واستصحب معه إلى مكة صنماً كبيراً باسم «هبل» ووضعه على سطح الكعبة المشرّفة ، ودعا الناس إلى عبادتها (٣)!.

ثمّ إنّه لما أصابَ المسلمين مطرٌ في الحديبية لم يبل أسفل نعالهم أي ليلاً ، فنادى منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أن صَلّوا في رحالكم ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صبيحة ليلة الحديبية لما

__________________

(١). قال سبحانه : (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) (النمل ـ ٢٤).

(٢). وهذا يعطي أنّ الوثنية تمتدّ جذورها في المجتمع العربي الجاهلي إلى زمن بعيد وإن كان دخولها إلى مكة وضواحيها ليس بذاك البعد حسب ما ينقله ابن هشام وغيره من أهل السيرة والتاريخ.

(٣). سيرة ابن هشام : ١ / ٧٩.

٢٧

صلّى بهم : «أتدرونَ ما قال ربّكم»؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : قال اللهُ عزوجل :

صَبَّح من عبادي مؤمنٌ بي وكافر ، فأمّا من قال : مُطرْنا برحمةِ الله وفضله فهو مؤمن بالله وكافر بالكواكب ، ومن قال : مُطرنا بنجم كذا وفي رواية بنوء كذا وكذا فهو مؤمن بالكواكب وكافر بي» (١).

وهذان النصّان التاريخيان يثبتان في نفس الوقت بأنّ العرب الجاهليين بعضهم أو كلهم كانوا مشركين في الربوبية ، ومعتقدين بأنّ الأمطار بيد الأصنام فكانوا يستمطرونها ، ويزعمون بأنّها تمطرهم. فاجعل هذا على ذكر منك لأهميته في الأبحاث القادمة.

هذا ويرى بعض الباحثين أنّ «الوثنية» نشأت من تعظيم الشخصيات وتكريمهم وتخليدهم ؛ فعند ما كان يموت أحد الشخصيات كانوا ينحتون له تمثالاً لإحياء ذكراه وتخليد مثاله في أفئدتهم ، ولكن مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال كانت تتحول هذه التماثيل ـ عند تلك الأقوام ـ إلى معبودات ، وإن لم تقترن ساعة صنعها بمثل هذا الاعتقاد.

وأحياناً كان رئيس عائلة يحظى باحترام وتعظيم كبيرين ـ في حياته ـ حتى إذا مات نحتوا له تمثالاً على صورته وعكفوا على عبادته.

وفي اليونان والروم القديمتين كان رب العائلة ورئيسها يعبد من قبل أهله فإذا توفّي عبدوا تمثاله.

وتوجد اليوم في متاحف العالم أصنام وتماثيل لرجال الدين وللشخصيات البارزة الذين كانوا ـ ذات يوم ـ أو كانت أصنامهم تعبد كما يعبد الإله.

__________________

(١). السيرة الحلبية : ٣ / ٢٩.

٢٨

ومن محاورة النبي إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع كبير قومه : «نمرود» يستفاد بوضوح أنّ نمرود كان موضع العبادة من جانب قومه.

كما يتبين بأنّ فرعون زمان موسى ـ عليه السلام ـ رغم أنّه كان بنفسه معبوداً عند قومه كان يعبد أصناماً ، خاصة ، لعلّها كانت أشكالاً لشخصيات سابقة من أسلاف فرعون ، حيث يخبرنا القرآن الكريم قائلاً :

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) (الأعراف ـ ١٢٧).

خلاصة النظر أنّ هذه الأصنام والتماثيل كانت تنحت وتصنع بادئ الأمر لتخليد ذكرى رجال دين وزعماء وشخصيات كبار ، ولكن مع مرور الزمن وانقراض أجيال وحلول أجيال أُخرى مكانها كان هذا الهدف ينحرف عن مجراه الأصلي ، وتتحول تلك التماثيل إلى معبودات ، وتلك الأصنام إلى آلهة مزعومة.

٣ ـ حصر التوحيد في العبادة بالله تعالى :

والمقصود بهذا التوحيد هو أن نفرد خالق الكون بالعبادة ونرفض عبادة غيره مما يكون مخلوقاً له تعالى. وهذا في مقابل الشرك في العبادة الذي يعني أن يعبد الإنسان ـ رغم اعتقاده بوحدانية خالق هذا الكون ـ مخلوقاً ، أو مخلوقات ، لسبب من الأسباب.

وهذا هو ما تسميه الوهابية بالتوحيد في الألوهية ، كما تسمّي التوحيد الذاتي بالتوحيد في الربوبية ، وكلا الاصطلاحين خطأ لما ستعرف من معنى الألوهية وأنَّ معناها ليس المعبودية ، بل (الإله ، والله) متساويان من حيث المبدأ أو المفهوم ، غير

٢٩

أنّ الأوّل كلّي والثاني علم لواحد من مصاديق ذاك الكلي.

وأمّا الربوبية فهي بمعنى التدبير والتصرف في الكون ، لا «الخالقية» وإن كان التدبير من حيث الأدلة الفلسفية لا ينفك عن الخالقية.

والأولى بل المتعيّن أن نعبّر عن التوحيد الذاتي بالتوحيد في الألوهية ، وأنّه ليس هناك إله إلّا الله ، لا أنّ هناك إله أعلى وهو الله سبحانه ، وآلهة صغار يملكون بعض شئونه سبحانه ، من الشفاعة والمغفرة وغيرهما مما هو من أفعاله سبحانه كما كان عليه عرب الجاهلية.

كما أنّ المتعين أن نعبّر عن «التوحيد في الخلق» بالتوحيد في الخالقية لا التوحيد في الربوبية ـ لما عرفنا من أنّ الرب ليس بمعنى الخالق وإن كان لا ينفك عنه في الصعيد الخارجي حسب البرهان العقلي.

كما أنّ المتعين أن نعبّر عن التوحيد في العبادة بهذا اللفظ نفسه لا بالتوحيد الألوهي لما عرفت من أنّ الإله ليس بمعنى المعبود.

والحاصل أنّه ليس المطروح في هذه المرحلة من الشرك هو : تعدد الإلهة ولا الاعتقاد بأنّ للكون أجمع خالقاً غير الله الواحد الذي خلق الكون بما فيه من الآلهة المزعومة ولكن مع هذا الاعتراف ربما تترك عبادة الإله الواحد ، ويعبد غيره.

وتختلف دوافع «عبادة المخلوق أو المخلوقات» عند الأُمم والشعوب ، فربما كانت علّة بسيطة ، وأحياناً كان يتّخذ الدافع صبغة فلسفية. وفيما يلي نستعرض أهم دوافع الشرك.

٣٠

٤ ـ دوافع الشرك في العبادة :

نشير ـ من بين الدوافع الكثيرة ـ إلى ثلاثة :

أ) الاعتقاد بتعدّد الخالق.

كان الوثنيون ومن شاكلهم من القائلين بالتثليث ، بحكم اعتقادهم بالثنوية والتثليث مضطرين إلى عبادة أكثر من إله.

ففي البوذية تجلّى الإله الأزلي الأبدي في ثلاثة آلهة ، أو ثلاثة مظاهر بالأسماء التالية :

١ ـ براهما ـ أي الإله الموجد.

٢ ـ فيشنو ـ أي الإله الحافظ المبقي.

٣ ـ سيفا ـ أي الإله المفني.

وفي النصرانية ظهر بالأسماء التالية :

١ ـ الأب.

٢ ـ الابن.

٣ ـ روح القدس.

وفي الدين الزرادشتي اعتقد ـ إلى جانب «اهورا مزدا» بإلهين آخرين هما :

١ ـ يزدان.

٢ ـ اهريمن (١).

__________________

(١). وعلى هذا التفسير يصير المجوس من الثنوية بلحاظ ، ومن أهل التثليث بلحاظ آخر فتدبّر.

٣١

وإن كانت عقيدة الزرادشتيّين ـ الواقعة في شأن هذين الإلهين الأخيرين تكتنفها حالة من الإبهام والغموض.

وعلى كل حال فإنّ الاعتقاد بتعدّد الذات الإلهية كان أحد الدوافع وراء عبادة غير الله ، والسبب للشرك في العبادة ، وقد أبطل القرآن الكريم بالبراهين العديدة الواضحة أساس مثل هذا الاعتقاد.

ب) تصوّر ابتعاد الخالق عن المخلوق :

وقد كان الدافع الثاني لعبادة الله هو تصوّر ابتعاد الله عن المخلوق ، بمعنى أنّهم كانوا يظنّون أنّ الله بعيد عن المخلوقين لا يسمعهم ولا تبلغه أدعيتهم وطلباتهم.

ولذلك اختاروا وسائل ظنّوا أنّها تتكفّل إيصال أدعيتهم إليه ، وكأنّ المقام الربوبي كالمقامات البشرية لا يمكن الوصول إليها إلّا عن طريق الوسائط ، ومن أجل هذا راحوا يعبدون القدّيسين والملائكة والجن والأرواح لتوصل دعواتهم إلى المقام الربوبي.

ولقد أبطل القرآن الكريم هذه التصورات ببيانات متنوعة ومتعدّدة يقول فيها : بأنّ الله أقرب من كل قريب.

وأنّه تعالى يسمع سرهم ونجواهم وعلانيتهم.

وأنّه تعالى محيط بما يسرّون ويعلنون.

ولذلك فلا حاجة إلى اتّخاذ تلك الآلهة المصطنعة ، ولا حاجة إلى عبادتها ، إذ لو كان الهدف من عبادتها هو توسّطهم لإيصال مطالبهم إلى الله فالله يعلم بها جميعاً وهو الذي لا يعزب عنه شيء.

٣٢

وجاء كل هذا في الآيات التالية :

(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ق ـ ١٦).

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) (١) (الزمر ـ ٣٦).

(ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (٢) (غافر ـ ٦٠).

(قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ) (آل عمران ـ ٢٩).

(ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) (المجادلة ـ ٧).

وبهذه الآيات وغيرها يُبطل القرآن هذا الدافع للوثنية والشرك ....

ج) تفويض التدبير إلى صغار الآلهة :

يجد كل إنسان في قرارة نفسه الخضوع للقدرة العليا ، ويستصغر نفسه في قبالها ، ومثل هذا الإحساس الفطري وإن لم يظهر على اللسان والجوارح الأُخرى لكنّه يكمن في قرارة الضمير في صورة نوع من الإحساس بالخضوع هذا من جانب. ومن جانب آخر اعتاد الإنسان على التعامل مع الموجودات المحسوسة فيريد صب كل أمر في قالب المحسوس ....

وعلى هذا الأساس يريد المشرك أن يصب القوى الغيبية في صورة الأجسام المشاهدة ، والأشكال المنظورة ، أضف إلى ذلك أنّه لقصور فكره ، أو لتصوّر أنّ كل حادثة في هذا الكون أُنيطت إلى قوة قاهرة هي أيضاً مخلوقة لله كإله البحر ، وإله الحرب ، وإله السلام ، وكأنّ حكومة الكون مثل حكومات الأرض يفوّض فيها كل جانب من جوانب الحياة إلى واحد. وتكون هذه القدرة مختارة فيما تريد ، وفعّالة لما

__________________

(١ و ٢). نعم ليست صراحة الآيتين في ما نرتئيه ، مثل الآية المتقدمة فلاحظ.

٣٣

تشاء!!!

من أجل هذا عبد سكنة شواطئ البحار (إله البحر) لكي يجود عليهم بنعم البحر ويدفع عنهم آفاته وغوائله كالطوفان ؛ فيما عبد سكنة الصحاري (إله البر) ليفيض عليهم بمنافعها ، ويدفع عنهم مضارها ، كالزلزال وما شابه ذلك من آفات الأرض ، وغوائل الصحراء.

ولكن حيث إنّهم ما كانوا متمكّنين من رؤية هذه الآلهة التي توهّموها واخترعوها ، افترضوا لها صوراً خيالية ، وأشكالاً وهمية ، ونحتوا على غرارها تماثيل وأصناماً ، وراحوا يعبدون هذه الأصنام المصنوعة بدلاً عن عبادة القوى الغيبية نفسها التي تمثلها هذه الأصنام ـ كما في زعمهم ـ.

لهذا السبب كان بين عرب الجاهلية فريق يعبد الملائكة ، وفريق آخر يعبد الجن ، وثالث يعبد الكواكب الثابتة كالشعرى ، رابع يعبد الكواكب السيارة ، وكان الهدف من عبادتها ـ جميعاً ـ هو جلب خيرها ونفعها ، واجتناب ضررها وشرورها.

ولقد كانوا يتمتعون ـ في صنع التماثيل والأصنام ـ من سعة نظر خاصة ، فهم لم يلزموا أنفسهم بأن يصنعوا ما ينطبق على الصور الواقعية لتلك الأشياء ولذلك كانوا يصنعون لكل واحد من الآلهة الموهومة أصناماً لا تشبه صورها الواقعية أبداً كإله الحرب ، وإله السلام ، وإله الحب ، ولكن في كل هذا كان الدافع الوحيد هو صب الأُمور الغيبية في قالب المحسوسات ، وحيث إنّ هذه الأرباب والآلهة (الصغار) لم تكن بذاتها في متناول الإحساس ، وكان للكواكب طلوع وأُفول ، وكان التوجّه إليها لا يخلو ـ لذلك ـ من مشقة فتوجهوا صوب تماثيلها ، وصاروا إلى عبادتها.

ولقد انتقد القرآن وشجب بشدة فكرة تفويض القدرة وأمر تدبير الكون إلى الآلهة الصغار المدعاة المخلوقة لله ، ووصف الله في مواضع عديدة ، بأنّه المدبر

٣٤

الوحيد لأُمور الكون حيث يقول :

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) (يونس ـ ٣) (١).

لقد جعل القرآن الكريم ـ في آيات كثيرة ـ الخلق والإحياء والإماتة وتسيير الكواكب والأفلاك وتنظيم الشمس والقمر والأرزاق ، أفعالاً مختصة بالله تعالى (٢) وشجب بعنف وشدة كل فكرة تقضي بإشراك أية قدرة مع الله ، وكل فكرة تقول : بتفويض تدبير الأُمور الكونية إلى مخلوقاته.

إنّ الآيات القرآنية الواردة في هذا الشأن من الكثرة بحيث يعسر نقل عشرها هنا ، ولكن للاطّلاع نذكر ونورد بعض هذه الآيات :

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (الأعراف ـ ٥٤).

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ* فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (يونس ـ ٣١ ـ ٣٢).

* * *

__________________

(١). راجع الرعد الآية (٢) والسجدة الآية (٥).

(٢). اختصاص هذا النوع من الأُمور بالله لا يمنع من توسيط الأسباب التي تعمل هي أيضاً بأمر الله ومشيئته وتكون قدرتها في طول القدرة الإلهية ، وواضح أنّ الاعتقاد بتلك الأُمور بما هي أسباب لا يعني تفويض أمر الكون إليها. فراجع كتاب مفاهيم القرآن الجزء الأوّل ـ الفصل الثامن ؛ التوحيد في الربوبية والتدبير.

٣٥

إلى هنا بيّنا ثلاثة دوافع للإشراك بالله في العبادة ولن ندّعي ـ مطلقاً ـ بأن لا يكون ثمة دافع آخر للشرك غير ما ذكرناه ، ولكن الدوافع التي ينتقدها القرآن الكريم كانت أساس نشوء الشرك وانتشاره في العالم.

إنّ المسلم المعتقد بإله الكون ، الإله الواحد ، الإله الحاضر في كل مكان ، القريب إلى عباده ، الإله الذي بيده الخلق المدبّر للكون بنفسه الذي لم يعط أمره ولم يفوّضه إلى أحد.

إنّ المسلم مع هذا الاعتقاد ، لا يمكن أن يتّخذ معبوداً سوى الله ، بل لا تكفي عبادته وحده ، إنّما يجب عليه أن يحارب عقائد الشرك والوثنية ، وأن لا يرضى بتجاوز أحد عن دائرة التوحيد لحظة واحدة.

* * *

وحول الدافع الثالث نذكّر بنكتة مهمة وهي : أنّه قد يمكن أنّ يعتقد أحد بأن أمر الكون كلّه لله ، ولم يسلّم هذا النوع من الأُمور إلى غيره ، ولكن يعتقد بأنّ الأُمور المعنوية التي ترتبط بأعمال العباد كالشفاعة والمغفرة الّتي هي من الأُمور المختصة بالله قد أعطاها ومنحها للأفراد ، وهذا هو أحد دوافع عبادة غير الله ، ولقد جعل القرآن الكريم : الشفاعة ـ بصراحة تامة ـ محض حق الله فلا يمكن لأحد أن يشفع بدون إذنه إذ يقول :

(قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) (الزمر ـ ٤٤).

كما جعل الغفران والمغفرة لذنوب عباده حقاً مختصاً به سبحانه لا يشاركه فيه أحد غيره ، ومن زعم أنّ المغفرة بيد غيره سبحانه فقد أشرك. قال تعالى :

٣٦

(فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) (آل عمران ـ ١٣٥).

ولقد كان فريق من وثنيي عصر الرسالة يعبدون الأصنام التي كانوا يتصورون أنّها من ذوي النفوذ عند الله ، أنّها أُنيطت بهم أُمور الشفاعة والمغفرة.

وسوف نتحدث في البحوث القادمة حول هذا النوع من الشرك الذي هو أضعف أنواعه. وإذا تبيّنت هذه الدوافع واتّضحت لنا كيفية انتقاد القرآن الكريم لها يلزم أن نلتفت إلى ما يذكره أغلب كتّاب الوهابيين ومؤلّفيهم في كتبهم.

٥ ـ تفسير التوحيد الألوهي والرُّبوبي :

لم يزل مؤلّفوا الوهابية يعترفون بنوعين من التوحيد ويسمّون النوع الأوّل من التوحيد ب «التوحيد الربوبي» ويسمّون النوع الآخر ب «التوحيد الألوهي» ثمّ يذكرون أنّ التوحيد الربوبي ، والاعتقاد بوحدانية الخالق لا يكفي بمجرده في التوحيد الذي بعث الأنبياء والرسول الأعظم خاصة من أجل إقراره ونشره في المجتمع الإنساني ، بل يجب ـ علاوة على التوحيد الربوبي ـ أن يفرد الله بالعبادة ولا يشرك به أحد ، لأنّ مشركي العرب مع أنّهم كانوا يوحّدون خالق الكون ويعتقدون بأنّه واحد لا أكثر فأنّ القرآن كان يعتبرهم مشركين إذ يقول :

(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف ـ ١٠٦) (١).

__________________

(١). «فتح المجيد» تأليف الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب المتوفى عام (١٢٨٥ ه‍) : ص ١٢ و ٢٠ وهذا يدرّس الآن في المناهج الدراسية عندهم ، ويؤكدون على هذين النوعين من التوحيد ثمّ يتهمون المسلمين بأنّهم موحّدون ربوبياً لا ألوهياً.

وقد عرفت في ما مضى أنّ تسمية التوحيد في الخالقية بالتوحيد الربوبي ، وتسمية التوحيد في العبادة بالتوحيد الألوهي خطأ من حيث اللغة ومصطلح القرآن.

٣٧

ولا كلام في هذا المطلب وليس من المسلمين أحد يتحلّى بالواقعية ينكر عدم كفاية التوحيد الربوبي وحده ، بل للتوحيد ـ كما أسلفنا ـ مراحل أربع وإن اقتصر الوهابيون على مرحلتين منها ونسوا أو تناسوا المرحلتين الأُخريين.

غير أنّ الجدير بالذكر هو : أنّه لا يختلف أحد مع هؤلاء في هذه المسألة الكلية ، فالجميع متّفقون على وجوب الاجتناب عن عبادة غير الله ، ولكن المهم هو أنّ الوهابيين يتصوّرون أنّ تعظيم الأنبياء ، وأولياء الله ـ مثلاً ـ عبادة ، في حين أنّ بين التعظيم والعبادة ـ في نظر الآخرين ـ بوناً شاسعاً وفرقاً كبيراً جداً.

وبعبارة أُخرى : ليس بين المسلمين خلاف في هذا الأصل الكلّي ، وهو عدم جواز عبادة غير الله أبداً ، وإنّما الخلاف هو في نظر الفرقة الوهابية إلى بعض الأعمال ـ كالزيارة مثلاً عند بعضهم ـ حيث اعتبرتها عبادة ، في حين لا تكون هذه الأعمال عبادة ـ في نظر الآخرين ـ.

وبصيغة علمية لا بد أن نقول : ليس الخلاف في الكلّي وإنّما الخلاف هو في تعيين المصداق.

ولأجل حل هذه المشكلة لا بد ـ أوّلاً ـ من التعرّف على المفهوم الواقعي للعبادة لنميّز في ضوء ذلك : العبادة عن غيرها.

وهكذا أيضاً يمكن الوقوف على حقيقة الحال في غير موضوع الزيارة من الأُمور التي يعدها الوهابيون من العبادة كالتوسل بأولياء الله ، وطلب الحاجة منهم في حين يخالفهم المسلمون في ذلك ، فيجوّزون هذه التوسلات ، ويعتبرونها نوعاً من الأخذ والتمسك بالأسباب ، الذي ورد في الشرع الشريف.

٣٨

٦ ـ هل العبادة هي مطلق الخضوع أو التكريم؟

لأئمة اللغة العربية في المعاجم تعاريف متقاربة للفظة العبادة ، فهم يفسّرون العبادة بأنّها «الخضوع والتذلّل» وإليك فيما يلي نص أقوالهم :

١ ـ يقول ابن منظور في «لسان العرب» : «أصل العبودية : الخضوع والتذلّل».

٢ ـ ويقول الراغب في «المفردات» :

«العبودية : إظهار التذلّل ، والعبادة أبلغ منها ، لأنّها غاية التذلّل ، ولا يستحق إلّا من له غاية الإفضال ، وهو الله تعالى ، ولهذا قال : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ.)

٣ ـ وفي «القاموس المحيط» للفيروزآبادي : «العبادة : الطاعة».

٤ ـ وقال ابن فارس في «المقاييس» :

«العبد له أصلان كأنهما متضادان ، والأوّل من ذينك الأصلين يدلّ على لين وذل ، والآخر على شدّة وغلظ». ثمّ أتى بموارد المعنى الأوّل وقال : من الباب الأول : البعير المعبد أي المهنوء بالقطران ، وهذا أيضاً يدل على ما قلناه لأنّ ذلك يذلّه ويخفض منه.

والمعبد : الذلول ، يوصف به البعير أيضاً.

ومن الباب الثاني : الطريق المعبّد ، وهو المسلوك المذلّل.

٣٩

٧ ـ ليس مطلق الخضوع عبادة :

بيد أنّ العبادة وإن فسّروها بالطاعة والخضوع والتذلّل أو إظهار نهاية التذلّل ، لكن جميع هذه التعاريف ما هي إلّا نوع من التعريف بالمعنى الأعم ، لأنّ الطاعة والخضوع وإظهار التذلّل ليست ـ على وجه الإطلاق ـ عبادة ، لأنّ خضوع الولد أمام والده ، والتلميذ أمام أُستاذه ، والجندي أمام قائده لا يعدّ عبادة مطلقاً مهما بالغوا في الخضوع والتذلّل ، وتدلّ الآيات ـ بوضوح ـ على أنّ غاية الخضوع والتذلّل ، فضلاً عن كون مطلق الخضوع ، ليست عبادة ، ودونك تلك الآيات :

١ ـ سجود الملائكة لآدم الذي هو من أعلى مظاهر الخضوع حيث قال سبحانه :

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) (البقرة ـ ٣٤)

فالآية تدل على أنّ آدم وقع مسجوداً للملائكة ، ولم يحسب سجودهم له شركاً وعبادة لغير الله ، ولم تعد الملائكة بذلك العمل مشركة ، ولم يجعلوا بعملهم ندّاً لله وشريكاً في المعبودية ، بل كان عملهم تعظيماً لآدم وتكريماً لشأنه.

وهذا هو نفسه خير دليل على أنّه ليس كل تعظيم أمام غير الله عبادة له ، وأنّ جملة : (اسْجُدُوا لِآدَمَ) وإن كانت متّحدة مع جملة : (اسْجُدُوا لِلَّهِ) إلّا أنّ الأول لا يعدّ أمراً بعبادة غيره سبحانه ويعد الثاني أمراً بعبادة الله (١).

ويمكن أن يتصوّر ـ في هذا المقام ـ أنّ معنى السجود لآدم ـ في هذه الآية ـ هو الخضوع له لا السجود بمعناه الحقيقي والمتعارف ، ومعلوم أنّ مطلق الخضوع ليس عبادة بل «غاية الخضوع» التي هي السجود ، هي التي تكون عبادة. أو يمكن

__________________

(١). وهذا يدل على أنّ الاعتبار إنّما هو بالنيات والضمائر لا بالصور والظواهر.

٤٠