التوحيد والشرك في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

التوحيد والشرك في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 964-357-214-5
الصفحات: ٢٣٢

«ما قول علماء المدينة المنورة زادهم الله فهماً وعلماً في البناء على القبور واتّخذاها مساجد ؛ هل هو جائز أو لا؟ واذا كان غير جائز بل ممنوع منهيّ عنه نهياً شديداً (١) فهل يجب هدمها ومنع الصلاة عندها؟» (٢).

وبما أنّ البحث هنا مركّز على دراسة هذه المسائل في ضوء القرآن الكريم ، فإنّنا نطرح هذه المسألة على الكتاب الإلهي العزيز لنرى ما هو الجواب الصحيح فيها.

وإليك ما نستفيده في هذا المجال من القرآن الكريم :

١ ـ يظهر من بعض الآيات أنّ أهل الشرائع السماوية كانوا يبنون المساجد على قبور أوليائهم أو عندها ولأجل ذلك لما كشف أمر أصحاب الكهف تنازع الواقفون على آثارهم فمنهم من قال وهم المشركون :

(ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ)

وقال الآخرون وهم المسلمون :

(لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (الكهف ـ ٢١).

قال الزمخشري في تفسير قوله : (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) : أي ابنوا على باب كهفهم لئلّا يتطرق إليهم الناس ضناً بتربتهم ومحافظة عليها كما حفظت تربة رسول الله بالحظيرة.

وقال في تفسير قوله : (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) : أي قال المسلمون وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم : لنتّخذن على باب الكهف مسجداً ، يصلّي فيه المسلمون ويتبرّكون بمكانهم (٣).

__________________

(١). أنظر إلى الجواب الذي يمليه المستفتي على علماء الدين الذين عليهم أن يفتوا وفقه!!!

(٢). جريدة أُم القرى العدد : ١٧ من أعلام : ١٤.

(٣). الكشاف : ٢ / ٢٥٤.

٢٠١

وقال في تفسير الجلالين : فقالوا ـ أي الكفّار ـ : ابنوا عليهم ـ أي حولهم ـ بنياناً يسترهم ، ربّهم أعلم بهم (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) : أمر الفتية وهم المؤمنون : (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ) ـ حولهم ـ (مَسْجِداً) يصلى فيه) (١).

وعلى الجملة فقد اتفق المفسّرون على أن القائل ببناء المسجد على قبورهم كان هم المسلمون ولم ينقل القرآن هذه الكلمة منهم إلّا لنقتدي بهم ونتّخذهم في ذلك أُسوة.

ولو كان بناء المسجد على قبورهم أو قبور سائر الأولياء أمراً محرّماً لتعرّض عند نقل قولهم بالرد والنقد لئلّا يضل الجاهل.

وأمّا ما روي عن النبيّ من قوله : لعن الله اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد (٢) فالمراد منه هو السجود على قبور الأنبياء واتّخاذها قبلة في الصلاة وغيرها والمسلمون بريئون عن ذلك ، وقد أوضحه القسطلاني في كتابه إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري.

إنّ قبور الأنبياء المنتشرة حول بيت المقدس كقبر داود ـ عليه السلام ـ في القدس وقبور إبراهيم ، وبنيه إسحاق ويعقوب ويوسف الذي نقله موسى من مصر إلى بيت المقدس في بلد الخليل ، كلّها مبنية مشيّدة قد بني عليها بالحجارة العادية العظيمة من قبل الإسلام ، وبقي ذلك بعد الفتح الإسلامي الى اليوم.

غير أنّ ابن تيمية اعتذر عن ذلك في كتابه : «الصراط المستقيم» بأنّ البناء الذي كان على قبر إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ كان موجوداً في زمن الفتوح ، وزمن الصحابة إلّا أنّ باب ذلك البناء كان مسدوداً إلى سنة ٤٠٠ ه‍.

ولكن هذا الكلام لا يفيده أبداً ولا يضرنا ؛ فانّ «عمر» لما فتح بيت المقدس

__________________

(١). تفسير الجلالين : ٢ / ٣.

(٢). صحيح البخاري : ٢ / ١١١ ، كتاب الجنائز.

٢٠٢

رأى ذلك البناء ومع ذلك لم يهدمه. وسواء أصح قول ابن تيمية أنّه كان مسدوداً إلى عام ٤٠٠ أم لم يصح يدل على عدم حرمة البناء على القبور ، وقد مضت على هذا البناء الأعصار والدهور ، وتوالت عليها القرون ، ودول الإسلام ، ولم يسمع عن أحد من العلماء والصلحاء وأهل الدين وغيرهم قبل الوهابية أنّه أنكر ذلك وأمر بهدمه أو حرّمه ، أو فاه في ذلك ببنت شفة على كثرة ما يرد من الزوار والمتردّدين من جميع أقطار المعمورة.

هذا مضافاً إلى أنّه قد دفن النبي في حجرة بيته ودفن فيها صاحباه ولا فرق بين البناء السابق واللاحق ، ولم يقل أحد بالفرق بين البناء السابق واللاحق كمالا يخفى.

وفي تاريخ بناء الحرم النبوي ما يفيدك في هذا المجال ، جداً ، فلاحظ.

الوهابية ورواية ابن الهيّاج :

هذا وفي الختام نشير إلى ما اتّخذه الوهابيون ذريعة لهدم القبور وهو ما رواه مسلم في صحيحه إذ قال : حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب ، قال يحيى : أخبرنا ، وقال الآخران : حدّثنا وكيع عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي وائل ، عن أبي الهيّاج الأسدي قال : قال لي عليّ بن أبي طالب : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا تدع تمثالاً إلّا طمسته ، ولا قبراً مشرفاً إلّا سوّيته» (١).

فقد استدل الوهابيون بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ولا قبراً مشرفاً إلّا سوَّيته» على لزوم هدم

__________________

(١). صحيح مسلم : ٣ / ٦١ كتاب الجنائز ؛ وسنن الترمذي : ٢ / ٢٥٦ ، باب ما جاء في تسوية القبر ؛ سنن النسائي : ٤ / ٨٨ ، باب تسوية القبر.

٢٠٣

القبور وتسويتها بالأرض.

بيد أنّ الاستدلال بالحديث المذكور يتوقف على أمرين :

١ ـ أن يكون السند صحيحاً ورواته موثوق بهم.

٢ ـ دلالة الحديث على المراد.

ولكن الحديث مخدوش من جانبين :

أمّا السند ففيه أشخاص لا يصح الاحتجاج بأحاديثهم وهم عبارة عن :

١ ـ وكيع.

٢ ـ سفيان الثوري.

٣ ـ حبيب بن أبي ثابت.

٤ ـ الوائل الأسدي.

وأما وكيع فقد قال الإمام أحمد بن حنبل عنه أنّه «أخطأ في خمسمائة حديث» (١).

كما نقل عن محمد بن المروزي أنّه (أي وكيع) كان يحدّث بالمعنى ولم يكن من أهل اللسان أي لم يرو الأحاديث بنصوصها وألفاظها كما أنّه لم يكن عارفاً باللغة العربية (٢).

وأمّا سفيان الثوري فقد نقل عن ابن مبارك أنّه قال : حدّث سفيانُ بحديث فجئته وهو يدلّسه فلمّا رآني استحيا (٣).

وقد نقل في ترجمة يحيى بن القطان عنه أنّه قال كان سفيان يحاول أن يوثق لي

__________________

(١). تهذيب التهذيب : ١١ / ١٢٥.

(٢). المصدر نفسه : ١١ / ١٣٠.

(٣). المصدر نفسه : ٤ / ١١٥.

٢٠٤

شخصاً غير ثقة فلم يستطع (١).

وأمّا حبيب بن أبي ثابت فقد نقل عن أبي حبان أنّه : كان مدلساً (٢).

كما نقل عن عطا أنّه قال عنه : لا يتابع عليه وليست محفوظة (٣).

وأما وائل فيقال عنه أنّه كان مبغضاً لعلي ـ عليه السلام ـ.

هذا حال السند.

وأمّا الأمر الثاني (أعني دلالة الحديث) فلا بدّ من الدقة في اللفظتين الواردتين فيه وهما «مشرفاً» و «سوَّيته».

أمّا المشرف فالمراد منه هو المكان العالي المطلّ على غيره (٤).

وقد جاء في القاموس : الشرف ـ محرّكةً ـ : العلوّ ، ومن البعير سنامه (٥).

وأمّا التسوية فيراد منها تسوية المعوج يقال سوّى الشيء : جعله سوياً ، ويقال : سويت المعوج فما استوى : صنعه مستوياً.

وجاء في القرآن الكريم :

(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) (الأعلى ـ ٢)

وعلى ذلك فمن القريب أن يكون معنى سوّيته تسوية القبر بتسطيح سنامها لا هدم القبر من أساسه. وهذا هو مذهب جماعة منهم الشافعي ؛ حيث جاء في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة : «ويندب ارتفاع التراب فوق القبر بقدر

__________________

(١). تهذيب التهذيب : ١١ / ٢١٨.

(٢). المصدر نفسه : ٣ / ١٧٩.

(٣). الشرح الحديدي.

(٤). المنجد «مادة شرف».

(٥). القاموس «مادة شرف».

٢٠٥

شبر» (١) وجاء أيضاً : ويجعل كسنام البعير ، وقال الشافعي : جعل التراب مستوياً أفضل من تسنيمه (٢).

فهذا الحديث يؤيد مذهب الشافعي وعليه الشيعة الإمامية أيضاً.

ومن الجدير بالانتباه أنّ مسلم صاحب الصحيح أورد هذا الحديث تحت عنوان «باب الأمر بتسوية القبر» لا تحت عنوان «الأمر بتخريب القبور وهدمها» (٣).

ويؤيد ذلك أنّ مسلم نقل في صحيحه ما يؤيد ما استظهرناه من الحديث المذكور من المعنى. قال ـ بعد ذكر جملة من الرواة ـ : قال ثمامة بن شُفيّ : كنّا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودِسَ فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوي ثمّ قال : سمعت رسول الله يأمر بتسويتها.

ولا شك أنّ المراد من التسوية ليس جعلها والأرض سواء ، لأنّ ذلك خلاف السنّة القطعية التي تقضي بأن يرتفع القبر عن الأرض بشبر واحد ، فيكون المراد أن يسطح سنامها ، ولهذا جاء في عبارة النووي عند تفسير الحديث المذكور في صحيح مسلم «ولا يُسَنَّم بل يُرفَع نحو شبر ويسطَّح» (٤).

ولم ننفرد نحن بهذا التفسير للحديث بل ذهب إليه ابن حجر القسطلاني في كتابه «إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري» (٥) إذ قال ـ بعد أن ذكر أنّ السنّة هي تسطيح القبر وأنّه لا ينبغي ترك التسطيح مخالفة للشيعة ـ : «لأنّه لم يُرِدْ تسويتَه

__________________

(١). الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ٤٢٠.

(٢). المصدر نفسه : ١ / ٤٢٠.

(٣). صحيح مسلم : ٣ / ٦١ ، كتاب الجنائز.

(٤). شرح صحيح مسلم للنووي ٧ / ٣٦.

(٥). إرشاد الساري : ٢ / ٤٦٨.

٢٠٦

بالأرض وإنّما أراد تسطيحه جمعاً بين الأخبار».

وأخيراً لم يرد في حديثه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل قال : «ولا قبراً إلّا سويته ولا بناءً مبنياً على القبر ولا قبّة إلّا سويتها» ، فإذن المراد ليس إلّا ما ذكرناه من عدم جعل نفس القبر مسنّماً ، وأمّا البناء فوق القبر فليس بمقصود وليس هناك ما يدل من الحديث على عدم جواز البناء على القبور ، بل السيرة العملية للمسلمين على خلافه كما عرفت.

وحتى لو فرضنا أنّ المراد من التسوية هو تخريب القباب والأبنية المقامة على القبور ، فمن المحتمل جدّاً أن يكون المراد هو قبور المشركين المقدّسين ـ آنذاك ـ من قبل الوثنيين وأهل الشرك ، إذ كانت تلك القبور بعد ظهور الإسلام متروكة على حالها ، ويؤيد هذا أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث عليّاً ـ عليه السلام ـ لمحو الصور وهدم التماثيل الموجودة في أطراف المدينة أو غيرها ، وليست هذه التماثيل والصور ، إلّا الأصنام والأوثان التي كانت تعبد حتى بعد ظهور الإسلام.

وعلى هذا فأيّ ارتباط لهذا الحديث بقبور الأنبياء والأولياء والصالحين؟

٢ ـ قال الله الكريم :

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ* رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) (النور : ٣٦ ـ ٣٧).

الاستدلال بهذه الآيات على جواز البناء على القبور يتوقف على أمرين :

١ ـ ما هو المراد من هذه البيوت؟

٢ ـ ما المراد من رفعها؟

أمّا الأمر الأوّل فقد روي عن ابن عباس أنّ المراد بها هي المساجد ؛ تكرّمُ وينهى عن اللغو فيها ، ويذكر فيها اسمه.

٢٠٧

غير أنّه يجب علينا ـ في المقام ـ التأمّل في هذا التفسير ، حيث إنّ الظاهر أنّ تفسير ابن عباس للبيوت بالمساجد بيان لأحد المصاديق ، لا المصداق المنحصر ، وكم لهذا التفسير من نظير ، في غير هذا المقام.

بل يمكن أن يقال : إنّ «البيوت» غير المساجد ، لأنّ المساجد يستحبّ أن تكون عمارتها مكشوفة غير مسقّفة ، وأفضل الأربعة «المسجد الحرام» ونراه بالحسّ والعيان قد بني مكشوفاً ، والبيت لا يُطلق حقيقة على المكان المكشوف ، بل هو عبارة عن المكان الذي يكون له سقف وظهر ، قال تعالى :

(لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) (الزخرف ـ ٣٣).

وقال :

(وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) (البقرة ـ ١٨٩).

وهذا واضح بملاحظة العرف أيضاً ، فإنّه يطلق على بيوت الأعراب وعلى خيامهم الموجودة في البادية ولا يطلق على نفس البادية لكونها مكشوفة بخلاف الخيام فإنّها مسقفة ، ولأجل ما ذكرناه لا تكاد تجد في القرآن الكريم موضعاً أُطلق فيه البيت على المسجد ، بخلاف الكعبة فإنّها حيث كانت مسقّفة أُطلق عليها البيت في مواضع شتى.

قال سبحانه :

(طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) (البقرة ـ ١٢٥).

وقال سبحانه :

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) (المائدة ـ ٩٧).

وقال سبحانه :

(ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج ـ ٣٣).

٢٠٨

وعلى ذلك فالمراد بها غير المساجد بل البيوت المشرّفة التي أذن الله أن تُرفع ، ويُذكر فيها اسمه ، وبيوت الأنبياء والأولياء من أوضح مصاديقها لِما خَصَّ الله هذه البيوت وأهاليها بمزيد الشرف ، والكرامة فقد قال الله عن البيت النبوي وأهله :

(إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب ـ ٣٣).

وهذا البيت نظير بيت إبراهيم حيث قالت الملائكة في شأنه لامرأة إبراهيم :

(أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) (هود ـ ٧٣).

ولأجل ذلك نرى العلّامة السيوطي بعد نقل قول ابن عباس نقل عن مجاهد قوله : إنّ المراد ؛ هي بيوت النبي.

وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة أنّه قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية ، فقام إليه رجل فقال : أيّ بيوت هذه يا رسول الله؟ قال : بيوت الأنبياء ، فقام إليه أبو بكر فقال : يا رسول الله هذا البيت منها؟ (يعني بيت عليّ وفاطمة) قال : نعم من أفاضلها (١).

هذا عن الأمر الأوّل.

وأمّا المراد من الرفع (هو الأمر الثاني) فهو يحتمل أحد معنيين :

أ) : أذن الله أن ترفع تلك البيوت بالبناء والعمارة للعبادة التي وردت في نفس الآية من ذكر اسمه تعالى فيها ، والتسبيح فيها بالغدوّ والآصال.

ويدل على ذلك قوله سبحانه :

__________________

(١). الدر المنثور في التفسير بالمأثور : ٥ / ٥٠ في تفسير الآية.

٢٠٩

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) (البقرة ـ ١٢٧).

فالظاهر هو أنّ المراد من «الرفع» في كلا المقامين واحد ، وهو بناؤها وعمارتها ـ البيوت ـ وإعلاؤها.

ب) : إنّ المراد من الرفع هو تعظيمها وتوقيرها.

فلو كان المراد هو الأوّل لكان نصّاً صريحاً في المطلوب (وهو البناء على القبور التي في بيوتهم).

ولو كان المراد الثاني كان نصّاً في توقيره وتعظيمه وتكريمه ، ومن المعلوم أنّ عمارة البيت وصونه عن الخراب بتعميره وتجديد بنائه ، وفرشه بالسجاجيد والإسراج فيه وتزيينه بغير ما نهى الله عنه ، والدفاع عن قصد تخريبه وهدمه ، توقيراً وتعظيماً له كما يكون ستر الكعبة المعظّمة بالأستار الثمينة تعظيماً لها عرفاً.

كل ذلك تكريماً للنبي وتعظيماً له حتى تتحقّق ـ بها أيضاً ـ الغايات التي ذكرتها الآية ، (من ذكر اسم الله والتسبيح له بالغدوّ والآصال).

٣ ـ البناء على القبور تعظيم للشعائر ، وقد قال الله تعالى :

(وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج ـ ٣٢).

والشعائر جمع شعيرة بمعنى العلامة ، وليس المراد منه علائم وجوده سبحانه لأنّ العالَم برمّته علائم وجوده بل علائم دينه ، ولأجل ذلك فسّره المفسّرون بمعالم الدين ، والله يصف «الصفا والمروة» بأنّهما من شعائر الله إذ يقول :

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) (البقرة ـ ١٥٨).

ويقول :

(وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) (الحج ـ ٣٦).

ويقول :

٢١٠

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) (المائدة ـ ٢).

وليس المراد إلّا كونها علامات دينه ..

فإذا وجب تعظيم شعائر الله بتصريح القرآن معلّلاً بأنّها من تقوى القلوب جاز تعظيم الأنبياء والأولياء باعتبارهم أعظم آية لدين الله وأعظم تعظيم وأفضل تكريم. فهم الذين بلّغوا دين الله إلى البشرية فيكون حفظ قبورهم وأضرحتهم وآثارهم عن الاندراس والاندثار خير تكريم وتعظيم لهم.

وإن شئت قلت : إنّ تعظيم كل شيء بحسبه ، فتعظيم الكعبة يكون بسترها بالأستار ، وتعظيم البُدن الذي هو من شعائر الله بالمواظبة على إبلاغها إلى محلّها وترك الركوب عليها وتعليفها ، وتعظيم الأنبياء والأولياء في حياتهم بنحو وبعد وفاتهم بنحو آخر.

فكل ما يعدّ تعظيماً وتكريماً يجوز بنص هذه الآية من غير شك ولا شبهة.

وورود الآية في مشاعر الحج وشعائره لا يكون دليلاً على اختصاصها بها فإنّ قوله تعالى (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) ضابطة كلية ومبدأ هام ، ينطبق على مصاديقه وأفراده وجزئياته الكثيرة.

٢١١

المسائل العشر

٨

زيارة القبور

اتّفق المسلمون على جواز زيارة القبور ، ويظهر وجه ذلك لمن راجع الكتب الفقهية والحديثية ، ولا نطيل المقام بذكر الأحاديث المتضافرة الواردة في هذا المجال.

ويكفي في ذلك ما أفتى به أئمة المذاهب الأربعة حيث جاء في كتاب «الفقه على المذاهب الأربعة» ما يلي :

«زيارة القبور مندوبة للاتّعاظ وتذكّر الآخرة ، وتتأكد يوم الجمعة ويوماً قبلها ويوماً بعدها.

وينبغي للزائر الانشغال بالدعاء والتضرّع والاعتبار بالموتى ، وقراءة القرآن للميت فإنّ ذلك ينفع الميت على الأصح ـ إلى أن قال : ـ ولا فرق في الزيارة بين كون المقابر قريبة أو بعيدة ، بل يندب السفر لزيارة الموتى خصوصاً مقابر الصالحين ، وأمّا زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهي من أعظم القرَب» (١).

ومن أراد الوقوف على الروايات الواردة في هذا المورد فليراجع كتب الحديث من الصحاح والسنن.

__________________

(١). الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ٤٢٤ ـ ٤٢٥ ، آخر كتاب الصلاة.

٢١٢

ومن جملة هذه الروايات قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«قد كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور فقد أُذن لمحمد في زيارة قبر أُمّه فزوروها فإنّها تذكّر بالآخرة».

رواه الخمسة إلّا البخاري واللفظ للترمذي.

ولا تنحصر الروايات الواردة في هذا المجال بهذا بل هناك روايات متضافرة جمعها العلّامة السمهودي في كتابه «وفاء الوفا» (١).

غير أنّنا نريد هنا أن نستدل لجواز هذا العمل بنفس الكتاب العزيز فنقول :

إنّ الله سبحانه نهى نبيّه عن الوقوف على قبور المشركين والصلاة عليهم إذ قال :

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) (التوبة ـ ٨٤).

فالآية الكريمة تنهى عن الوقوف على قبر المنافق والمشرك والصلاة عليه كما تدل عن طريق المفهوم ؛ على أنّ القيام عند قبور المؤمنين والدعاء لهم ، والصلاة عليهم كان من سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس المراد بالقيام هو خصوص القيام عند الدفن حتى لا يشمل القيام للزيارة لعدم الدليل على التقييد واللفظ مطلق.

ولأنّ المعنى بحكم واو العطف : لا تقم على قبره أبداً يعني في جميع الأزمان فيشمل ما بعد الدفن أيضاً ، كما إذا قيل : ما جاءني زيد قط ولا عمرو ، أو قيل : لا تطعم زيداً أبداً ولا تسقه وهذا واضح.

ولعلّه لما ذكرنا فسّره في «الجلالين» بقوله «لدفن» أو «لزيارة».

ليس المراد من الصلاة خصوص صلاة الميت ، إذ لو أُريد ذلك لم يكن وجه لقوله «أبداً» ضرورة أنّ الصلاة على الميت تجب مرة واحدة ، ولا تتكرر حتى يقول

__________________

(١). وفاء الوفا : ٢ / ٣٩٠٣ ـ ٣٩٠٤.

٢١٣

أبداً ، وليس المراد إفادة الاستغراق الافرادي وبيان شمول الحكم لجميع أفراد المنافقين ، لسبق الدلالة على ذلك بقوله «على أحد منهم» ولأنّ ظاهر لفظ «أبداً» هو بيان استمرار الحكم في الأزمان ، لا الاستغراق في الافراد. قال تعالى :

(وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً ..) (الأحزاب ـ ٥٣)

يعني ولو بعد عشر سنين أو عشرين سنة ، إلى آخر الأبد ؛ فدلّ على أنّ المراد بالصلاة ، مطلق طلب الرحمة الذي يكرر في مدة العمر لا خصوص صلاة الميت ، نعم هي أيضاً داخلة في عموم الآية وهو واضح.

فإذا كان ذلك من سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدلالة القرآن فكيف يكون بدعة؟ بل يكون حينئذ سنّة ، وقال تعالى :

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب ـ ٢١).

وقال :

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (آل عمران ـ ٣١).

فإذا استحبت زيارة قبر المؤمن ـ أعني القيام عند قبره ـ لسيرة النبي فكيف بقبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبور الأئمة عليهم‌السلام وهم أركان الدين ورؤساء المؤمنين وأكملهم وأفضلهم وسادتهم أجمعين.

وفي الختام نشير إلى ما تمسَّكَ به الوهابيون لمنع شدّ الرحال إلى زيارة القبور فقد استدلّوا بما رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :

«لا تُشد الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجد النبي ، والمسجد الأقصى».

فقد قال عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب : «وتسنُّ زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّه لا يُشد الرحل إلّا لزيارة المسجد ، والصلاة فيه ، وإذا قصد مع ذلك الزيارة

٢١٤

فلا بأس» (١).

والحق أنّ الحديث الذي تمسّك به الوهابيون لا يدل على حرمة شدّ الرحل إلى زيارة القبور ، والأماكن والمشاهد المشرفة ، وذلك لأنّ الاستثناء الوارد في الحديث مفرَّغ قد حذف فيه المستثنى منه ، فكما يمكن أن يكون تقدير المستثنى منه : «لا تشد الرحال إلى مكان من الأمكنة» يمكن أن يكون تقديره : «لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد».

ولكن المتعيّن هو الثاني لكون الاستثناء متصلاً وهو يقتضي تقدير «المسجد» بعنوان المستثنى منه ، لا غيره.

إنَّ الضرورة قاضية بجواز شدّ الرحال إلى طلب التجارة ، وإلى طلب العلم ، وإلى الجهاد ، وزيارة العلماء والصلحاء ، وإلى التداوي والنزهة ، وأنّ المسلمين في مواسم الحج يشدّون الرحال إلى عرفة والمزدلفة ومنى ، وإلى أماكن كثيرة ، ومع ذلك فكيف يمكن أن يُقال : إنّ المراد هو «لا تُشَدُّ الرحال الى مكان من الأمكنة إلّا إلى هذه الثلاث»؟!.

والحاصل أنّه لا يشك من عنده أدنى معرفة باللغة والتراكيب العربية في أنّ المراد بقوله «لا تُشدُّ الرحال» أي لا ينبغي أن يسافر المرء إلى مسجدٍ غير هذه المساجد لا أنّه لا يسافر إلى مكان مطلقاً.

هذا مضمون الحديث ومعناه ومع ذلك لا يُفهم من هذا الحديث وأشباهه حرمة السفر إلى باقي المساجد ، بل هي ظاهرة في أفضلية هذه المساجد على ما عداها بحيث بلغ فضلها أن تستحق شد الرحال والسفر إليها للصلاة فيها.

وأمّا سائر المساجد فليس لها هذا الشأن ، لأنّ المترقّب من الثواب حاصل

__________________

(١). الرسالة الثانية من الرسائل الموسومة ب «الهدية السنية».

٢١٥

من التوجّه إلى كلّ مسجد ، فإنّ سائر المساجد إمّا مسجد الجامع ، أو مسجد السوق أو مسجد المحلّة فلكل واحد من هذه المساجد نظير في بلد المرء فلا ينبغي أن يشد إليها الرحال في البلاد الأُخرى ما دامت تتساوى في الفضيلة ، نعم ما يترتب على الصلاة في هذه المساجد الثلاثة لا يترتب على الصلاة في سائر المساجد ولذلك يستحب شدّ الرحال إليها.

فتلخّص أوّلاً أنّ معنى الحديث هو عدم شدّ الرحال إلى مسجد من المساجد لا إلى مكان من الأمكنة ولا إلى قبر.

هذا أوّلاً ونقول ثانياً : إنّ النهي عن شد الرحال إلى سائر المساجد دون الثلاثة ليس نهياً إلزامياً ، بل هو للإرشاد إلى عدم ترتّب ثواب وافر على التوجه إلى سائر المساجد.

ويدل على ذلك أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يشد الرحال إلى غير المساجد المذكورة في الحديث كما في صحيح البخاري :

ففي باب إتيان مسجد قبا راكباً وماشياً عن ابن عمر قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأتي قباء راكباً وماشياً (١).

وفي باب من أتى مسجد قباء كل سبت ؛ عن ابن عمر قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأتي مسجد قباء كلَّ سبت ماشياً وراكباً وكان عبد الله (بن عمر) يفعله (٢).

وفي باب مسجد قباء عن ابن عمر أنّه كان يحدّث أنّ رسول الله يزوره راكباً وماشياً (٣).

__________________

(١). صحيح البخاري : ٢ / ٦١.

(٢). المصدر نفسه : ٢ / ٦١.

(٣). المصدر نفسه : ٢ / ٦١.

٢١٦

فهذا هو الإمام البخاري يروي لنا أنّ النبي كان يشدّ الرحال إلى مسجد «قباء» في كل سبت ؛ أو ليس هذا دليلاً على جواز شدّ الرحال إلى غير هذه الثلاثة من المساجد والأماكن.

وبما أنّه ربّما تترتب على زيارة سائر المساجد مصالح خاصّة وانّ مثلها موجودة في محل الراحل ، يكون الرحيل إليها أيضاً أمراً مستحسناً بالعرض.

أو ليس صحيح البخاري أجمع وأصح كتاب عند أهل السنة؟ وأين قول العلّامة السيوطي في حقّه :

فما من صحيح كالبخاري جامعاً

ولا مسند يلفى كمسند أحمد

فلما ذا تركوه وراءهم ظهرياً وآمنوا ببعضه دون بعض.

٢١٧

المسائل العشر

٩

الصلاة عند القبور

يقول ابن تيمية في رسالة «زيارة القبور» : «لم يذكر أحد من أئمة السلف أنّ الصلاة عند القبور وفي مشاهدها مستحبة ، ولا أنّ الصلاة والدعاء أفضل منها في غيرها ، بل اتفقوا كلّهم على أنّ الصلاة في المساجد والبيوت أفضل منها عند قبور الأنبياء» (١).

هذا كلام ابن تيمية ومن حذا حذوه من الوهابية ؛ فنقول :

إنّ ما دلَّ على جواز الصلاة والدعاء في كل مكان يدل بإطلاقه على جواز الصلاة ، والدعاء عند قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبور سائر الأنبياء والصالحين أيضاً ، ولا يشك في الجواز من له أدنى إلمام بالكتاب والسنّة ، وإنّما الكلام هو في رجحانها عند قبورهم فنقول في هذا المجال :

إنّ إقامة الصلاة عند تلك القبور لأجل التبرّك بمن دفن فيها وهذه الأمكنة مشرفة بهم وقد تحقّق شرف المكان بالمكين ، وليست الصلاة ـ في الحقيقة ـ إلّا لله تعالى لا للقبر ولا لصاحبه ، كما أنّ الصلاة في المسجد هي لله أيضاً ، وإنّما تكتسب الفضيلة بإقامتها هنا لشرف المكان ، لا أنّها عبادة للمسجد ، فالمسلمون يصلّون عند قبور من تشرفت بمن دفن فيها لتنالهم بركة أصحابها الذين جعلهم الله

__________________

(١). زيارة القبور : ١٥٩ ـ ١٦٠.

٢١٨

مباركين ، كما يصلّون عند المقام الذي هو «حَجَر» شُرّف بملامسة قدمي إبراهيم الخليل لها.

قال سبحانه :

(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ...) (البقرة ـ ١٢٥).

فليس لاتخاذ المصلّى عند ذلك المقام الشريف سبب إلّا التبرّك بقيام إبراهيم ـ عليه السلام ـ عليه ، وهم يدعون الله عند القبور لشرفها بمن دُفِن فيها فيكون دعاؤهم عندها أرجى للإجابة وأقرب للاستجابة ، كالدعاء في المسجد أو الكعبة أو أحد الأمكنة ، أو الأزمنة التي شرفها الله تعالى.

والحاصل أنّه يكفي في جواز الصلاة الإطلاقات والعمومات الدالّة على أنّ الأرض جُعِلت لأُمة محمد مسجداً وطهوراً.

وأما الرجحان فللتبرّك بالمكان المدفون فيه النبي أو الولي ذي الجاه عند الله ، كالتبرّك بمقام إبراهيم.

أفلا يكون المكان الذي بورك بضمّه لجسد النبي الطاهر ، مباركاً ، مستحقاً لأن تستحب عنده الصلاة وتندب عبادة الله فيه.

والعجب أنّ ابن القيم جاء في كتابه «زاد المعاد» بما يخالف عقيدته ، وعقيدة أُستاذه ابن تيمية إذ قال :

«إنّ عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة ، والغربة والتسليم إلى ذبح الولد آلت إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما ، ومواطئ أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين ، ومتعبدات لهم إلى يوم القيامة وهذه سنته تعالى فيمن يريد رفعه من خلقه» (١).

__________________

(١). زاد المعاد في هَدْي خير العباد ، طبعة البابي الحلبي ، مصر ، مراجعة طه عبد الرءوف طه عام ١٣٩٠ ه‍ ـ ١٩٧٠ م.

٢١٩

فإذا كانت آثار إسماعيل وهاجر لأجل ما مَسَّها من الأذى مستحقة لجعلهما مناسك ومتعَبّدات ، فآثار أفضل المرسلين ، الذي قال : «ما أُوذي نبيّ قط كما أُوذيت» لا تستحق أن يُعبد اللهُ فيها ، وتكون عبادة الله عندها ، والتبرّك بها شركاً وكفراً؟؟

كيف وقد كانت السيدة عائشة ساكنة في الحجرة التي دُفِن فيها النبي ، وبقيت ساكنة فيها بعد دفنه ودفن صاحبيه ، وكانت تصلّي فيها ، وهل كان عملها هذا عبادة لصاحب القبر يا ترى؟!

٢٢٠