التوحيد والشرك في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

التوحيد والشرك في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 964-357-214-5
الصفحات: ٢٣٢

في الصغرى خارج عن موضوع بحثنا فأنّ البحث إنّما هو على فرض قدرتهم.

وإن كان المنع ، لأجل كون الأصل في فعل المكلف ، هو المنع حتى يثبت الجواز ، فهو محجوج بأصالة الإباحة ما لم يمنع عنه دليل قاطع.

وعدم ورود تلك الاستعانة في الأدعية وغيرها على فرض صحته لا يدل على المنع.

ولو كان المنع لأجل أن قوله سبحانه : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) شامل لهذه الاستعانة التي لا تنفك عن الاستعانة به سبحانه كما أوضحناه ، فلا يمكن تخصيصه بالتوسّل والاستشفاع لأنّ لسانه آبٍ عن التخصيص وغير قابل له.

١٨١

المسائل العشر

٤

هل دعوة الصالحين عبادة لهم؟

تبيّن من البحوث السابقة أنّ (طلب الحاجة من غير الله) مع الاعتقاد بأنّه لا يملك شيئاً من شئون المقام الألوهي ، ولم يفوّض إليه شيء ، بل لو قام بشيء لا يقوم به إلّا بإذن الله سبحانه ، لا يكون شركاً.

وبقي في هذا المجال مطلب آخر وهو : أنّ القرآن الكريم نهى ـ في موارد متعدّدة ـ عن دعوة غير الله سبحانه غير أنّ الوهابية استنتجت من هذه الآيات مساوقة الدعوة للعبادة.

وإليك فيما يأتي الآيات المتضمّنة ، بل المصرّحة بهذا المطلب :

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (الجن ـ ١٨)

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) (الرعد ـ ١٤)

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) (الأعراف ـ ١٩٧)

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) (الأعراف ـ ١٩٤)

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) (فاطر ـ ١٣)

١٨٢

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) (الإسراء ـ ٥٦)

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) (الإسراء ـ ٥٧)

(وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) (يونس ـ ١٠٦)

(إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) (فاطر ـ ١٤)

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) (الأحقاف ـ ٥)

فقد جعل دعاء الغير ـ في هذه الآيات ـ مساوياً مع دعاء الله ويستنتج من ذلك أنّ دعاء الغير عبادة له ، ومن هذه الآيات يستنتج الوهابيون كون دعوة الأولياء والصالحين ـ بعد وفاتهم ـ عبادة للمدعو.

وملخّص كلامهم أنّ من قال متوسلاً : يا محمّد ، فنداؤه ودعوته بنفسها عبادة للمدعو.

يقول الصنعاني في هذا الصدد :

«وقد سمّى الله الدعاء : عبادة بقوله : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) ومن هتف باسم نبيّ أو صالح بشيء ، أو قال : اشفع لي إلى الله في حاجتي ، أو أستشفع بك إلى الله في حاجتي أو نحو ذلك ، أو قال : اقض ديني أو اشف مريضي أو نحو ذلك ، فقد دعا ذلك النبيّ والصالح ، والدعاء عبادة بل مخها فيكون قد عبد غير الله ، وصار مشركاً ، إذ لا يتم التوحيد إلّا بتوحيده تعالى في الإلهية باعتقاد أن لا خالق ولا رازق غيره ، وفي العبادة بعدم عبّادة غيره ولو ببعض العبادات وعبّاد الأصنام إنّما أشركوا لعدم توحيد الله في العبادة» (١).

* * *

__________________

(١). تنزيه الاعتقاد للصنعاني كما في كشف الارتياب : ٢٧٢ ـ ٢٧٤. والآية ٦٠ من سورة غافر.

١٨٣

ولكن لا مرية في أنّ لفظة الدعاء تعني في لغة العرب : النداء لطلب الحاجة فلا يتحقّق مفهوم الدعوة إلّا بطلب الحاجة ، ولو استعملت في مورد في مطلق النداء ولم يكن معه طلب حاجة فإنّما هو لأجل أنّ المنادي يطلب توجّه المنادي إلى نفسه ، بينما تعني لفظة «العبادة» معنى آخر (وهو الخضوع النابع من الاعتقاد بالألوهيّة والربوبية على ما مرّ تفصيله) ، ولا يمكن اعتبار اللفظتين مترادفتين ، ومشتركتين في المفاد والمعنى بأن يكون معنى الدعاء هو العبادة ، لأسباب عديدة هي :

أوّلاً ـ إنّ القرآن استعمل لفظة الدعوة والدعاء في موارد لا يمكن أن يكون المراد فيها العبادة مطلقاً مثل :

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) (نوح ـ ٥)

فهل يمكن أن نقول : إنّ مراد نوح ـ عليه السلام ـ هو أنّه عبد قومه ليلاً ونهاراً؟!!

وأيضاً مثل قوله تعالى حاكياً عن الشيطان قوله :

(وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) (إبراهيم ـ ٢٢)

فهل يحتمل أن يكون مقصود الشيطان هو أنّه عبد اتباعه ، في حين أنّ العبادة ـ لو صحت وافترضت ـ فإنّما تكون من جانب أتباعه له لا من جانبه تجاه أتباعه.

ومثل هاتين الآيتين ما يأتي من الآيات :

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) (غافر ـ ٤١)

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ) (الأعراف ـ ١٩٣)

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) (الأعراف ـ ١٩٨)

١٨٤

(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المؤمنون ـ ٧٣)

(فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) (آل عمران ـ ٦١)

ففي هذه الآيات وأمثالها استعملت لفظة الدعاء والدعوة في غير معنى العبادة ولهذا لا يمكن أن نعتبرهما مترادفتين. ولذلك فلو دعى أحد وليّاً أو نبياً أو رجلاً صالحاً ، فأنّ عمله ذلك لا يكون عبادة له ، لأنّ الدعاء أعمّ من العبادة وغيرها (١).

ثانياً ـ إنّ المقصود من الدعاء في مجموع الآيات (المذكورة في مطلع البحث هذا) ليس هو مطلق النداء ، بل نداء خاص يمكن أن يكون ـ مآلاً ـ مرادفاً للفظ العبادة.

لأنّ مجموع هذه الآيات وردت حول الوثنيين الذين كانوا يتصورون بأنّ أصنامهم آلهة صغار قد فوّض إليها بعض شئون المقام الألوهي ، ويعتقدون في شأنها بنوع من الاستقلال في التصرف والفعل.

ومعلوم أنّ الخضوع والتذلّل أو أيّ نوع من القول والعمل أمام شيء باعتقاد أنّه إله كبير أو إله صغير لكونه ربّاً أو مالكاً لبعض الشئون الإلهية ، يكون عبادة.

لا شكّ أنّ خضوع الوثنيين ودعاءهم واستغاثتهم أمام أوثانهم كانت بوصف أنّ هذه الأصنام آلهة أو أرباب أو مالكة لحقّ الشفاعة ، وباعتقاد أنّها آلهة

__________________

(١). النسبة بين الدعاء والعبادة عموم وخصوص من وجه : ففي هذه الموارد يصدق الدعاء ولا تصدق العبادة ، وأمّا في العبادة الفعلية المجرّدة عن الذكر كالركوع والسجود ، فتصدق العبادة لأنّها تقترن مع الاعتقاد بألوهية المسجود له ولا يصدق الدعاء لخلوّه عن الذكر اللفظي.

ويصدق كلا المفهومين : «الدعاء والعبادة» في أذكار الصلاة لأنّها دعوة بالقول ناشئة عن الاعتقاد بألوهية المدعو.

١٨٥

مستقلّة في التصرّف في أُمور الدنيا والآخرة. ومن البديهي أنّ أيّة دعوة لهذه الموجودات وغيرها مع هذه الشروط ، عبادة لا محالة.

وتدل طائفة من الآيات :

على أن دعوة الوثنيين كانت مصحوبة بالاعتقاد بألوهية الأصنام أو مالكيتها لمقام الشفاعة والمغفرة وإليك بعضها :

(فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) (هود ـ ١٠١)

ففي هذه الآية يتّضح جلياً بأنّهم كانوا يعبدونها متصوّرين ومعتقدين بأنّها تغنيهم من شيء كما يمكن للإله الحقيقي أن يفعل ذلك.

(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ) (الزخرف ـ ٨٦)

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) (فاطر ـ ١٣)

(فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) (الإسراء ـ ٥٦)

فالآيات المذكورة (في مطلع هذا الفصل) لا ترتبط بموضوع بحثنا مطلقاً ، إذ الموضوع هو الدعوة دون الاعتقاد بألوهية ، ولا مالكية لشيء ولا استغناءه ، واستقلاله في التصرف في أُمور الدنيا والآخرة ، بل لأجل أنّ المدعو عبد من عباد الله المكرمين. وإنّه ذو مقام معنوي استحق به منزلة النبوة أو الإمامة ، ولأنّه وعد المتوسّلون به بقبول أدعيتهم ، وإنجاح طلباتهم فيما إذا قصدوا الله عن طريقه. كما ورد في حق النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (النساء ـ ٦٤)

ثالثاً ـ يمكن أن يقال : إنّ المراد من الدعاء في هذه الآيات هو القسم الخاص منه ، أعني ما كان ملازماً للعبادة لا بمعنى أنّ الدعاء مستعمل في مفهوم

١٨٦

العبادة ابتداءً ، بل بمعنى أنّها مستعملة في معناها الحقيقي ، غير أنّها لمّا كانت في موارد الآيات مقرونة باعتقاد الدعاة بألوهيتهم يكون المنهي عنه ذلك القسم من الدعوة لا مطلقاً ، وتكون عقيدة الدعاة في حق المدعوين قرينة متصلة على أنّ المقصود ذلك القسم المعيّن لا جميع أقسامها ، ومن المعلوم أنّ الدعاء مع هذه العقيدة يكون مصداقاً للعبادة.

والدليل على أنّ المراد من الدعوة في هذه الآيات هو القسم الملازم للعبادة أنّه ربما وردت في إحدى الآيتين ذاتي مضمون واحد لفظة الدعوة ، ووردت في الآية الأُخرى لفظة الدعاء مثل قوله :

(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) (المائدة ـ ٧٦)

بينما يقول في الآية الأُخرى وهي :

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) (الأنعام ـ ٧١)

ويقول أيضاً في الآية ١٣ من سورة فاطر :

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)

ففي هذه الآية وما قبلها استعملت لفظة (تَدْعُونَ) و (نَدْعُوا) في حين استعملت في الآية الأُولى لفظة (تَعْبُدُونَ).

ونظير ما سبق قوله سبحانه :

(إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) (العنكبوت ـ ١٧)

هذا وقد ترد كلتا اللفظتين في آية واحدة وتستعملان في معنى واحد :

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) (الأنعام ـ ٥٦)

وقوله سبحانه :

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي

١٨٧

سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (غافر ـ ٦٠)

والآية وما تقدّمها ظاهرتان في أنّ المراد من الدعوة هو العبادة لا مطلق النداء وطلب الحاجة ، وليس ذاك بمعنى استعمال الدعاء ابتداءً في معنى العبادة حتى يكون الاستعمال مجازياً بل إنّما استعملت في معناها الحقيقي ، أعني : الدعاء ، ولكن لمّا كان الدعاء مقروناً باعتقاد الداعي بألوهية المدعو صار المراد منه ـ بالمآل ـ العبادة ، وقد تقدمت تلك النكتة آنفاً.

ويؤيد ما ذكرناه ما ورد في دعاء سيد الساجدين زين العابدين ـ عليه السلام ـ مشيراً إلى مفاد الآية المتقدمة حيث يقول :

«وسمّيتَ دعاءك عبادة ، وتركه استكباراً وتوعّدت على تركه دخول جهنم داخرين» (١).

وإنّا لنطلب من القارئ الكريم أن يراجع بنفسه مادة الدعوة في المعجم المفهرس فسيرى ورود مضمون واحد تارة بلفظ العبادة وأُخرى بلفظ الدعاء والدعوة.

وهذا هو أوضح دليل على أنّ المقصود من الدعوة في الآيات المذكورة (في مطلع هذا الفصل) هو العبادة وليس مطلق النداء.

هذا والقارئ الكريم إذا درس مجموع الآيات التي ورد فيها لفظ الدعوة وأُريد منه القسم الملازم للعبادة لرأى أنّ الآيات إمّا وردت حول خالق الكون الذي يعترف جميع الموحدين بألوهيته وربوبيته ومالكيته. أو وردت في مورد الأوثان التي كانت عبدتها يتصوّرون ألوهيتها وأنّها مالكة لمقام الشفاعة ، وفي هذه الحالة فإنّ الاستدلال بهذه الآيات في مورد بحثنا الذي هو الدعاء مجرّداً عن تلك العقيدة لمن أعجب العجب!

__________________

(١). الصحيفة السجادية : الدعاء ٤٩.

١٨٨

سؤال وجواب :

إلى هنا تبيّن أنّ دعوة العباد الصالحين بأيّ شكل كان ، سواء أكان لأجل التوسّل والاستشفاع أم لأجل طلب الحاجة وإنجازها ليست عبادة ولا تشملها الآيات الناهية عن الدعوة بتاتاً غير أنّه يطرح هنا سؤال وهو : أنّه إذا كان غيره سبحانه لا يملك من قطمير ولا يملك كشف الضر والتحويل ، فما فائدة هذه الدعوة إذ قال سبحانه :

(فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) (الإسراء ـ ٥٦)

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) (فاطر ـ ١٣)

والجواب : أنّ عبدة الأصنام كانوا معتقدين بانّهم يملكون فوق القطمير ويملكون كشف الضر فجاءت الآيات رادة عليهم.

وأمّا توسّل عباد الله بالنبي فليس مبنياً على انّه يملك كشف الضر ويقدر عليه من عند نفسه ، بل يكفي كونه مأذوناً في الدعاء وطلب العون من الله بالنسبة إلى عباده المتوسلين به أو قادراً على انجاز الأمر باذنه سبحانه.

ملخّص البحث :

إنّ هذه الآيات راجعة إلى أصنام العرب الخشبية والمعدنية والحجرية ويتّضح ذلك من سياق الآيات. هذا أوّلاً ، وثانياً أنّ الهدف من نفي المالكية عن غير الله ليس هو مطلقها بل المراد المالكية المناسبة لمقامه سبحانه ، أعني : المالكية المستقلّة ، ونفي هذه المالكية عن غيره سبحانه لا يدل على انتفاء ما يستند إليه سبحانه ، عنهم ، ويؤيد ذلك أنّه سبحانه يقول :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر ـ ١٥)

والمراد من الفقر هنا هو الفقر الذاتي ولا ينافي القدرة المكتسبة والفعّالة بإذنه

١٨٩

سبحانه.

والدليل على أنّ العرب كانوا يعتقدون في أصنامهم القدرة المستقلّة قوله سبحانه :

(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) (المائدة ـ ٧٦)

وقوله سبحانه :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ) (النحل ـ ٧٣).

وعلى ذلك فلو قال سبحانه لا يملكون عن الله كشف الضر ولا تحويلاً ، فالمقصود هو نفي تلك المالكية لا الأعم منها ومن المكتسبة.

١٩٠

المسائل العشر

٥

هل تعظيم أولياء الله وتخليد ذكرياتهم شرك؟

ينزعج الوهابيون ـ بشدة ـ من تعظيم أولياء الله وتخليد ذكرياتهم ، وإحياء مناسبات مواليدهم أو وفياتهم ، ويعتبرون اجتماع الناس في المجالس المعقودة لهذا الشأن شركاً وضلالاً ففي هذا الصدد يكتب محمد حامد الفقي ، رئيس جماعة أنصار السنّة المحمدية في هوامشه على كتاب فتح المجيد :

«الذكريات التي ملأت البلاد باسم الأولياء هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم» (١).

إنّ هؤلاء لم يعيّنوا حدّاً للتوحيد والشرك ، وللعبادة على الأخص ولذلك رموا كل عمل بالشرك حتى أنّهم تصوّروا أنّ كل نوع من التعظيم عبادةً وشركاً.

ولأجل ذلك جعل الكاتب «العبادة» إلى جانب التعظيم وتصوّر أنّ للّفظتين معنى واحداً ، وممّا لا شك فيه أنّ القرآن يعظّم فريقاً من الأنبياء والأولياء بعبارات صريحة كما يقول في شأن زكريا ويحيى ـ عليهما السلام ـ :

(إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) (الأنبياء ـ ٩٠).

__________________

(١). فتح المجيد : ١٥٤ ، ثمّ نقل عن كتاب قرّة العيون ما يشابه هذا المضمون.

١٩١

فلو أنّ أحداً أقام مجلساً عند قبر من عناهم الله وسمّاهم في هذه الآية ، وقرأ في ذلك المجلس هذه الآية المادحة ، معظّماً بذلك شأنهم ، فهل اتّبع غير القرآن؟!.

كما ويقول في شأن أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) (الدهر ـ ٨).

فهل ترى لو اجتمع جماعة في يوم ميلاد علي بن أبي طالب ـ وهو أحد الآل ـ وقالوا : إنّ علياً كان يطعم الطعام للمسكين واليتيم والأسير ، كانوا مشركين؟!

أو ترى لما ذا يكون مشركاً لو أنّ أحداً تلا الآيات المادحة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حفلة عامة في يوم مولده الشريف كالآيات التالية :

(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم ـ ٤).

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) (الأحزاب : ٤٥ و ٤٦).

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (التوبة ـ ١٢٨).

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب ـ ٥٦).

فلو تلا أحد هذه الآيات المثنية على النبي ، أو قرأ ترجمتها بلغة أُخرى ، أو سكب هذا المديح الإلهي القرآني في قالب الشعر وأنشد ذلك في مجلس كان مشركاً؟!

إنّ عدم وجود هذه الاحتفالات في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس دليلاً على كونها شركاً ، وأقصى ما يمكن أن يقال إنّها بدعة لا شركاً ولا عبادة للإنسان الصالح ، بل

١٩٢

لا تعدّ بدعة ، إذ لو نسب إقامة الاحتفالات التكريمية أو مجالس العزاء في الذكريات ، إلى الشارع المقدس وادّعى بأنّ الله أمر بذلك يلزم أن نتفحص عن مدى صحة هذه النسبة وصدق هذا الادّعاء ، لا أن نصف إقامة هذه المجالس بأنّها : شرك.

وأمّا لو أقامها من جانب نفسه من دون أن يسندها إلى أمره سبحانه فلا تكون بدعة بتاتاً.

إنّ الآيات القرآنية تدل على جواز هذه الاحتفالات بعناوين خاصة نشير إليها :

أ ـ إقامة ذكرى النبيّ تعزيزاً له :

كيف لا ، وهذا القرآن الكريم يثني على أُولئك الذين أكرموا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعظّموا شأنه وبَجّلوه ، إذ يقول :

(فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف ـ ١٥٧).

إنّ الأوصاف التي وردت في هذه الآية والتي استوجبت الثناء الإلهي هي :

١ ـ آمنوا به.

٢ ـ وعزّروه.

٣ ـ ونصروه.

٤ ـ واتّبعوا النّور الَّذي أُنزل معه.

فهل يحتمل أحد أن تختص هذه الجمل الثلاث :

«آمنوا به. ونصروه. واتبعوا» بزمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ الجواب : لا.

فإنّ الآية لا تعني الحاضرين في زمن النبي ـ خاصة ـ فعندئذ من القطعي أن

١٩٣

لا تختص جملة «عزّروه» بزمان النبي ، أضف إلى ذلك أنّ القائد العظيم يجب أن يكون موضعاً للتكريم والاحترام والتعظيم في كل العهود والأزمنة.

فهل إقامة المجالس لإحياء ذكريات : المبعث أو المولد النبوي ، وإنشاء الخطب والمحاضرات والقصائد والمدائح إلّا مصداق جلي لقوله تعالى : (وَعَزَّرُوهُ) والتي تعني : أكرموه وعظّموه.

عجباً كيف يعظّم الوهابيون أُمراءهم بالاحترام الذي يفوق ما يفعله غيرهم تجاه أولياء الله فلا يكون ذلك شركاً ، وأمّا إذا أتى أحد بشيء يسير من ذلك في حقّهم عدّ شركاً؟!!

إنّ المنع عن تعظيم الأنبياء والأولياء وتكريمهم ـ حيّاً وميتاً ـ يصوّر الإسلام في نظر الأعداء ديناً جامداً لا مكان فيه للعواطف الإنسانية ، كما يصور تلك الشريعة السمحاء المطابقة للفطرة الإنسانية ديناً يفقد الجاذبية المطلوبة القادرة على اجتذاب أهل الملل الأُخرى واكتسابهم.

ما ذا يقول ـ الذين يخالفون إقامة مجالس العزاء للشهداء في سبيل الله ـ في قصة يعقوب ـ عليه السلام ـ؟ وما ذا يقولون فيه وهو يبكي على ابنه أسفاً وحزناً في فراق ولده يوسف ، ليله ونهاره ، ويسأل كل من لقيه عن ابنه المفقود حتى فقد بصره ، كما يقول سبحانه :

(وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) (يوسف ـ ٨٤).

فلما ذا يكون إظهار مثل هذه العلاقة في حال حياة الولد جائزاً ومشروعاً ومطابقاً لأُصول التوحيد بينما إذا كان في حال مماته عدّ شركاً؟!

فاذا اتّبع أحد طريق يعقوب فبكى على فراق أولياء الله وأحبّائه يوم استشهادهم فلما ذا لا يعدّ عمله اقتداءً بيعقوب ـ عليه السلام ـ.

لا ريب في أنّ مودة ذوي القربى هي إحدى الفرائض الإسلامية التي دعا

١٩٤

إليها بأوضح تصريح فلو أراد أحد أن يقوم بهذه الفريضة الدينية بعد أربعة عشر قرناً فكيف يمكنه ، وما هو الطريق إلى ذلك؟ هل هو إلّا أن يفرح في أفراحهم ، ويحزن في أحزانهم؟

فاذا أقام أحد ـ لإظهار مسرّته ـ مجلساً يذكر فيه حياتهم ، وتضحياتهم أو يبيّن مصائبهم فهل فعل إلّا إظهار المودة ، المندوبة إليها في القرآن الكريم ..؟!

وإذا زار أحد ـ لإظهار مودة أكثر ـ مقابر أقرباء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقام مثل هذه المجالس عند تلكم القبور فإنّه لم يفعل ـ في نظر العقلاء ـ إلّا إظهار المودة.

ب ـ إقامة الذكرى ترفيع لذكر النبي.

إنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ الله سبحانه مَنَّ على رسوله بشرح صدره ووضع الوزر عنه وإعلاء اسمه الذي عبّر عن كل ذلك بقوله :

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ* الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ* وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ ..) (الانشراح : ١ ـ ٤).

فالله سبحانه رفع اسمه وأعلاه وجعله مشهوراً معروفاً في العالم إجلالاً له.

فهذه الاحتفالات التي يقصد منها تخليد ذكرى النبي لا تتعدى رفع ذِكر رسول الله وإعلاء اسمه ، وإلفات نظر العالم إلى مقامه ومكانته السامية ، فإذا كان القرآن أُسوة ، فلما ذا لا نقتدي بالقرآن ولما ذا لا نرفع ذكره ، واسمه؟

ج ـ نزول المائدة السماوية واتّخاذه عيداً.

إن المسيح ـ عليه السلام ـ سأل ربه سبحانه بأن ينزل عليه مائدة إذ قال سبحانه حاكياً :

(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (المائدة ـ ١١٤).

١٩٥

فالمسيح ـ عليه السلام ـ اتّخذ نزول المائدة السماوية والبركة الإلهية عيداً ، لأنّه سبحانه أكرمه وأكرم تلاميذه بهذه المائدة ، فاذا كانت المائدة السماوية سبباً لاتّخاذ يوم نزولها «عيداً» فلما ذا لا يجوز أن نتّخذ يوم «البعثة النبوية» الذي هو يوم البركة ، ويوم نزول المائدة المعنوية عيداً؟

هل يستطيع أن يدّعي أحدٌ أنّ وجود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما جاء به من شريعة عظيمة خالدة أقل بركةً من المائدة المادية التي نزلت على المسيح ـ عليه السلام ـ وتلاميذه؟!

وفي الختام نقول : إنّ من راجع الكتاب والسنّة يقف على أنّ حُبّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصل من أُصول الدين ، وللحب مظاهر ، فكما أنّ من مظاهره الاتّباع ، فهكذا تكريمه مطلقاً من غير فرق بين ميلاده وغيره من مظاهره ، لكن الظروف دفعتنا إلى اختيار يوم ميلاده لإظهار حبنا وودّنا له من غير أن ننسب خصوصية ذلك اليوم إلى الدين ، وإنّما المنسوب إليه هو الدعوة إلى نفس الحب والودّ ، فما كان له أصل في الدين لا يعدّ تجسيده في يوم خاص ، بدعة.

فإذا أمر الإسلام بالتدريب العسكري ، فنحن نخصّ العمل بذلك الأصل بيوم أو يومين في الأسبوع ، فلا يعدّ التخصيص ـ بعد وجود الأصل في الشريعة ـ بدعة.

أو إذا أمر الشارع بتعليم الأولاد معالم الدين وكتابه المنزل وإذا خصّصنا ـ خضوعاً لظروف وحوافز خاصة ـ يوماً خاصاً في كل أسبوع ، فلا يعدّ الاجتماع في ذلك اليوم للتعلّم بدعة.

وما أكثر الأمثال والنظائر للمسألة.

على أنّه يظهر من الروايات أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يهتم بيوم ميلاده وقد جئنا بتفصيله في كتابنا «البدعة» فلاحظ.

١٩٦

المسائل العشر

٦

هل التبرّك بآثار النبي والأولياء شرك؟

لقد جرت سنّة السلف الصالح على التبرّك بآثار النبي وآله ، سنّة قطعية لا يشك فيها كل من له إلمام بتاريخ المسلمين ، [ولهذا ألّف الشيخ محمد طاهر المكّي كتاباً في ذلك وأسماه «تبرّك الصحابة بآثار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» نقل فيه شواهد تاريخية قطعية على تبرّكهم وتبرّك التابعين بآثاره قاطبة ، وقد طبع هذا الكتاب عام ١٣٨٥ ه‍ ، ثمّ أُعيد طبعه عام ١٣٩٤ ه‍] ، بيد إنّ الوهابيين أنكروا ذلك أشدّ الإنكار وعَدّوه شركاً ، وإن كان بدافع محبة النبي وآله ، ومودّتهم.

غير أنّ المتبرّك إذا اعتمد في عمله على عمل يعقوب حيث وضع قميص يوسف على عينيه ، فارتدّ بصيراً هل يصح لنا رميه بالشرك ، إذ أيّ فرق بين التبرّك بآثار النبي وآثار سائر الأولياء وتبرّك يعقوب بقميص يوسف. قال سبحانه :

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) (يوسف ـ ٩٦).

فنحن نرى أنّ يعقوب ـ عليه السلام ـ يتبرّك بقميص يوسف ، وقد ذكر القرآن ذلك ، كما ذكر أنّه ارتدّ بصيراً بهذا التبرّك.

فلو كان هذا العمل مستلزماً للشرك ، ولما ارتكبه ذلك النبي العظيم ، ولما ذكره القرآن الكريم ولما كان مؤثراً.

١٩٧

فأيّ فرق بين القميص المنسوج من القطن ، والضريح المصنوع من الحديد؟!

وكيف يكون العمل الأوّل غير مزاحم للتوحيد ويكون مؤثراً في ردِّ البصر ، ويكون تقبيل الضريح النبوي الطاهر شركاً وخروجاً عن جادة التوحيد؟!.

فلما ذا هذا التفريق الذي يقوم به الوهابيون؟! هذا وبما أنّ بحثنا في هذا الكتاب يقتصر على دراسة هذه الأُمور التي يستنكرها الوهابيون ، في ضوء القرآن الكريم فانّنا نكتفي بهذا القدر من الكلام ، وإلّا ففي السنّة والتاريخ شواهد كثيرة على وقوع هذا التبرّك ، إذ كان الصحابة والتابعون يتبرّكون بآثار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعض الأولياء.

هذا ولقد وردت في الصحاح وغيرها من كتب الحديث والسير أخبار وروايات تكشف عن تبرّك الصحابة والتابعين بآثار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نذكر بعضها هنا على سبيل المثال لا الحصر :

ففي صحيح البخاري باب غزوة الطائف عن أبي موسى قال : كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة ومعه بلال ، فأتى النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعرابيٌّ فقال : ألا تنجز لي ما وعدتني؟ فقال له : «أبشر» ، فقال : قد أكثرتَ عليَّ من أبشر ، فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان فقال : «ردَّ البشرى ، فاقبلا أنتما» ، قالا : قبلنا ، ثمّ دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه ومجَّ فيه ثمّ قال : «اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا» ، فأخذا القدح ففعلا ، فنادت أُم سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأُمكما ، فأفضلا لها منه طائفة .. (١)

وفي صحيح البخاري في كتاب اللباس باب القبة الحمراء من أدم ، عن ابن

__________________

(١). صحيح البخاري : ٥ / ١٥٧.

١٩٨

أبي جحيفة عن أبيه قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في قبة حمراء من أدم ورأيت بلالاً أخذ وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والناس يبتدرون الوضوء فمن أصاب منه شيئاً تمسَّح به ، ومن لم يُصِب منه شيئاً أخذ من بلل يد صاحبه (١).

ففي صحيح مسلم في كتاب الفضائل باب قرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الناس وتبرّكهم به ؛ عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا صلّى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء فما يؤتى بإناء إلّا غمس يده فيها فربّما جاءه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها (٢).

وفي صحيح البخاري في كتاب الأدب ، باب حسن الخلق والسخاء ، عن سهل بن سعد قال : جاءت امرأة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببُردة فقال سهل للقوم : أتدرون ما البردة؟ فقال القوم : هي شملة ، فقال سهل : هي شملة منسوجة فيها حاشيتها فقالت : يا رسول الله أكسوك هذه؟ فأخذها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محتاجاً إليها فرآها عليه رجل من الصحابة فقال : يا رسول الله ما أحسن هذه فاكسنيها ، فقال : «نعم» ، فلمّا قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لامه أصحابه ، قالوا : ما أحسنت حين رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذها محتاجاً إليها ثمّ سألته إيّاها وقد عرفت أنّه لا يُسأل شيئاً فيمنعه ، فقال : رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلّي أُكفنُ فيها (٣).

__________________

(١). صحيح البخاري : ٧ / ١٥٤.

(٢). صحيح مسلم : ٧ / ٧٩.

(٣). صحيح البخاري : ٨ / ١٤.

١٩٩

المسائل العشر

٧

البناء على القبور

إنّ البناء على قبور الأنبياء والأولياء ممّا جرت عليها اتباع الأنبياء والشرائع السماوية قبل الإسلام ، وبعده.

فقد كانوا يشيّدون الأبنية والأضرحة على قبور الأنبياء والأولياء ، ولا زال كثيرها قائماً إلى الآن في العراق وفلسطين والشام.

غير أنّ الوهابيين زعموا أنّ ذلك من الشرك أو من البدعة ، فأجمعوا أمرهم على هدم هذه الأبنية والأضرحة.

يقول ابن القيم في كتابه «زاد المعاد في هدى خير العباد» : يجب هدم المشاهد التي بنيت على القبور ولا يجوز إبقاؤها ، بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً (١).

وعلى هذه السنّة السيئة جرى الوهابيون ؛ فإنّهم بعد أن استولوا على الحجاز استفتوا علماء المدينة عن تلك الأضرحة والقبور ، ذاكرين في استفتائهم الحكم والجواب الذي يجب أن يجيب به علماء المدينة فطرح ابن بلهيد ـ يومذاك ـ سؤالاً قال فيه :

__________________

(١). زاد المعاد : ٦٦١.

٢٠٠