التوحيد والشرك في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

التوحيد والشرك في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 964-357-214-5
الصفحات: ٢٣٢

له حق الشفاعة كأن يقول «يا رسول الله اشفع لنا» هل هو شرك أو لا؟

وليس البحث في المقام ـ كما ألمعنا إلى ذلك غير مرة ـ في كون هذا الطلب مجدياً أو لا إنّما الكلام في أنّ هذا الطلب هل هو عبادة أو لا؟

فنقول : قد ظهر الجواب مما أوضحناه في الأبحاث السابقة ، فلو اعتقدنا بأنّ من نطلب منهم الشفاعة ، لهم أن يشفعوا لمن أرادوا ومتى أرادوا وكيفما ارتأوا ، دون رجوع إلى الإذن الإلهي أو حاجة إلى ذلك ، فإنّ من المحتم أنّ هذا الطلب والاستشفاع عبادة وأنّ الطالب يكون مشركاً حائداً عن طريق التوحيد لأنّه طلب الفعل الإلهي وما هو من شئونه من غيره.

وأمّا لو استشفعنا بأحد هؤلاء الشفعاء ونحن نعتقد بأنّه محدود مخلوق لله لا يمكنه الشفاعة لأحد إلّا بإذنه فهذا الطلب لا يختلف عن طلب الأمر العادي ماهية ولا يكون خارجاً عن نطاق التوحيد.

وإن تصوّر أحد أنّ هذا العمل (أعني طلب الشفاعة من أولياء الله) يشبه ـ في ظاهره ـ عمل المشركين ، واستشفاعهم بأصنامهم ، فهو تصوّر باطل بعيد عن الحقيقة.

لأنّ التشابه الظاهري لا يكون أبداً معياراً للحكم بل المعيار الحقيقي للحكم إنّما هو : قصد الطالب ، وكيفية اعتقاده في حق الشافع ، ومن الواضح جداً أنّ المعيار هو النيات والضمائر ، لا الأشكال والظواهر ، هذا مع أنّ الفرق بين العملين واضح من وجوه :

أوّلاً : إنّه لا مرية في أنّ اعتقاد الموحد في حق أولياء الله يختلف ـ تماماً ـ عن اعتقاد المشرك في حق الأصنام.

فانّ الأصنام والأوثان كانت ـ في اعتقاد المشركين ـ آلهة صغاراً يملكون شيئاً من شئون المقام الألوهي من الشفاعة والمغفرة ، بخلاف أهل التوحيد فإنّهم

١٦١

يعتقدون بأنّ من يستشفعون بهم : عباد مكرمون لا يعصون الله وهم بأمره يعملون ، وأنّهم لا يملكون من الشفاعة شيئاً ، ولا يشفعون إلّا إذا أذن الله لهم أن يشفعوا في حق من ارتضاه.

وبالجملة فانّ تحقق الشفاعة منهم يحتاج إلى وجود أمرين :

١ ـ أن يكون الشفيع مأذوناً في الشفاعة.

٢ ـ أن يكون المشفوع له مرضياً عند الله.

فلو قال مسلم لصالح من الصالحين : (اشفع لي عند الله) فانّه لا يفعل ذلك إلّا مع التوجّه إلى كونه مشروطاً بالشرطين المذكورين.

ثانياً : إنّ المشركين كانوا يعبدون الأصنام مضافاً إلى استشفاعهم بها ، بحيث كانوا يجعلون استجابة دعوتهم وشفاعتهم عوضاً عما كانوا يقومون به من عبادة لها بخلاف أهل التوحيد فانّهم لا يعبدون غير الله طرفة عين أبداً.

وأمّا استشفاعهم بأُولئك الشفعاء فليس إلّا بمعنى الاستفادة من المقام المحمود الذي أعطاه الله سبحانه لنبيّه في المورد الذي يأذن فيه الله ، فقياس استشفاع المؤمنين بما يفعله المشركون ليس إلّا مغالطة. وقد مرّ غير مرة أنّه لو كان الملاك التشابه الظاهري للزم أن نعتبر الطواف بالكعبة المشرّفة واستلام الحجر والسعي بين الصفا والمروة موجباً للشرك وعبادة للحجر.

* * *

١٦٢

الوهابيون وطلب الشفاعة :

إنّ الوهابيين يعتبرون مطلق طلب الشفاعة شركاً وعبادة ويظنّون أنّ القرآن لم يصف الوثنيين بالشرك إلّا لطلبهم الشفاعة من أصنامهم كما يقول سبحانه :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (يونس ـ ١٨)

وعلى هذا فالشفاعة وإن كانت حقاً ثابتاً للشفعاء الحقيقيين إلّا أنّه لا يجوز طلبه منهم لأنّه عبادة لهم ، قال محمد بن عبد الوهاب :

«إن قال قائل : الصالحون ليس لهم من الأمر شيء ولكن اقصدهم وأرجو من الله شفاعتهم ، فالجواب أنّ هذا قول الكفار سواء بسواء واقرأ عليهم قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (الزمر ـ ٣)

وقوله :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (يونس ـ ١٨) (١).

وإن قال : إنّ النبي أُعطي الشفاعة وأنا أطلبه ممّن أعطاه الله ، فالجواب أنّ الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن طلبها منه فقال تعالى :

(فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (الجن ـ ١٨).

وأيضاً فإنّ الشفاعة أُعطيها غير النبيّ. فصح أنّ الملائكة يشفعون ، والافراط يشفعون ، والأولياء يشفعون ، أتقول إنّ الله أعطاهم الشفاعة فأطلبها منهم؟ فان قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكرها الله في كتابه» (٢).

__________________

(١). كشف الشبهات : ٧ ـ ٩ ، طبعة القاهرة.

(٢). كشف الشبهات : ٧ ـ ٩ ، طبعة القاهرة.

١٦٣

استدل ابن عبد الوهاب على حرمة طلب الشفاعة بآيات ثلاث :

الأُولى : قوله سبحانه :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ)

إذ قال بأنّ عبادة المشركين للأوثان كانت متحقّقة بطلب الشفاعة منهم لا بأمر آخر.

الثانية : قوله سبحانه :

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (الزمر ـ ٣).

قائلاً بأنّ عبادة المشركين للأصنام كانت متحقّقة بطلب شفاعتهم منها.

الثالثة : قوله سبحانه :

(فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (الجن ـ ١٨)

ولا بد من البحث حول هذه الآيات الثلاث التي استدل بها القائل على أنّ طلب الشفاعة ممّن له حق الشفاعة عبادة له فنقول :

أمّا الاستدلال بالآية الأُولى فالإجابة عنه بوجهين :

١ ـ ليس في قوله سبحانه (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ ...) ، أيّة دلالة على مقصودهم ، وإذا ما رأينا القرآن يصف هؤلاء بالشرك فليس ذلك لأجل استشفاعهم بالأوثان ، بل لأجل أنّهم كانوا يعبدونها لغاية أن يشفعوا لهم بالمآل.

وحيث إنّ هذه الأصنام لم تكن قادرة على تلبية حاجات الوثنيين لذلك كان عملهم وطلبهم عملاً سفيهاً لا أنّه كان شركاً.

١٦٤

فالإمعان في معنى الآية وملاحظة أنّ هؤلاء المشركين كانوا يقومون بعملين : (العبادة وطلب الشفاعة كما يدل عليه قوله : (وَيَعْبُدُونَ) ويقولون) يكشف عن أنّ علّة اتّصافهم بالشرك واستحقاقهم لهذا الوصف كانت لأجل عبادتهم لتلك الأصنام لا لاستشفاعهم بها ، كما لا يخفى.

ولو كان الاستشفاع بالأصنام عبادة لها في الحقيقة لما كان هناك مبرر للإتيان بجملة أُخرى أعني قوله : (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا) بعد قوله : (وَيَعْبُدُونَ) إذ كان حينئذ تكراراً.

إنّ عطف الجملة الثانية على الأُولى يدل على المغايرة بينهما ، إذن لا دلالة لهذه الآية على أنّ الاستشفاع بالأصنام كان عبادة فضلاً عن كون الاستشفاع بالأولياء المقرّبين عبادة لهم ، نعم قد ثبت أنّ الاستشفاع بالأصنام كان عبادة لهم بملاك آخر غير موجود في الاستشفاع بالنبيّ ، كما سيوافيك في التالي.

٢ ـ إنّ هناك فرقاً بين الاستشفاعين فالوثني يعتبر الصنم ربّاً مالكاً للشفاعة يمكنه أنّ يشفع لمن يريد وكيفما يريد. والاستشفاع بهذه العقيدة شرك ، ولأجل ذلك يقول سبحانه نقداً لهذه العقيدة.

(قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) (الزمر ـ ٤٤)

والحال أنّ المسلمين لا يعتقدون بأنّ أولياءهم يملكون هذا المقام فهم يتلون آناء الليل وأطراف النهار قوله سبحانه :

(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (البقرة ـ ٢٥٥)

ومع هذا التفاوت البيّن والفارق الواضح كيف يصح قياس هذا بذلك؟

والدليل على أنّ المشركين كانوا معتقدين بكون أصنامهم مالكة للشفاعة أمران :

١٦٥

الأوّل : تأكيد القرآن في آياته بأنّ شفاعة الشافع مشروطة بإذنه سبحانه وارتضائه :

قال سبحانه :

(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (البقرة ـ ٢٥٥)

وقال :

(ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) (يونس ـ ٣)

وقال :

(يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) (طه ـ ١٠٩)

وقال :

(لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ) (النجم ـ ٢٦)

وقال :

(وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (الأنبياء ـ ٢٨)

الثاني : تأكيد القرآن على أنّ الأصنام لا تملك الشفاعة بل هي لمن يملكها :

قال سبحانه :

(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ) (الزخرف ـ ٨٦)

وقال سبحانه :

(لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (مريم ـ ٨٧)

فالشفاعة محض حق لمالكها ، وليس هو إلّا الله ، كما تصرّح بذلك الآيات السابقة ، وأمّا المشركون فكانوا يعتقدون أنّ أصنامهم تملك هذا الحق ، ولذلك كانوا يعبدونها أوّلاً ، ويطلبون منها الشفاعة عند الله ثانياً.

نعم انّ الظاهر من قوله سبحانه :

١٦٦

(لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (مريم ـ ٨٧)

وقوله سبحانه : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ) (الزخرف ـ ٨٦)

هو : أنّ المتّخذين للعهد والشاهدين بالحق يملكون الشفاعة كما هو مقتضى الاستثناء.

لكن المراد من المالكية في هاتين الآيتين هو : المأذونية بقرينة سائر الآيات لا المالكية بمعنى التفويض وإلّا لزم الاختلاف والتعارض بين مفاد الآيات ، وما ورد في السير والتواريخ من أن المشركين كانوا يقولون عند الإحرام والطواف : (الّا شريك هو لك تملكه وما ملك) (١) يحتمل الأمرين.

وبذلك يظهر ضعف الاستدلال بالآية الثانية : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا ...) إذ حمل ابن عبد الوهاب قوله سبحانه : (ما نَعْبُدُهُمْ) على طلب الشفاعة مع أنّ الآية المتقدمة صريحة في مغايرة العبادة لطلب الشفاعة.

نعم إنّما يكون عبادة إذا اتَّخذ الشافع المدعو إلهاً أو من صغار الآلهة ـ كما تقدم ـ.

وأمّا ما اعترف به ابن عبد الوهاب (ضمن كلامه المنقول سلفاً) من أنّ الله أعطى الشفاعة لنبيّه ولكنّه تعالى نهى الناس عن طلبها منه فغريب إذ لا آية ولا سنّة تدل على النهي عن طلبها مضافاً إلى غرابة هذا النهي من الناحية العقلية إذ مثله أن يعطي للسقاء ماء وينهى الناس عن طلب السقي منه ، أو يعطي الكوثر لنبيّه وينهى الأُمّة عن طلبه.

وأمّا قوله تعالى : «فلا تدعوا مع الله احداً» وهي ثالثة الآيات التي استدلّ بها ابن عبد الوهاب فسيوافيك مفادها عن قريب حيث نبيّن ـ هناك ـ أنّ المراد من

__________________

(١). الملل والنحل : ٢ / ٢٥٥.

١٦٧

الدعوة في الآية المذكورة هو : العبادة ، فيكون معنى : (فَلا تَدْعُوا) هو : فلا تعبدوا مع الله أحداً ، فالحرام المنهي عنه عبادة غير الله ، لا مطلق دعوة غير الله ، وليس طلب الشفاعة إلّا طلب الدعاء من الغير لا عبادة الغير ، وبين الأمرين بون شاسع.

ومن ذلك يظهر ضعف دليل رابع لمحمد بن عبد الوهاب في كشف الشبهات ما حاصله :

«أنّ الطلب من الشفيع ينافي الإخلاص في التوحيد الواجب على العباد في قوله : (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (١).

إنّ دعوة الشفيع ـ بعد ثبوت الإذن له والرضا من الله ـ ليست عبادة للشفيع حتى تنافي إخلاص العبادة لله سبحانه ، بل هو طلب الدعاء منه ، وإنّما يشترط الاخلاص في العبادة ، لا في طلب الدعاء من الغير ، كما لا تنافي دعوة الله ، ولا تنفك عنها إذ الشفاعة من الشفع وطلب الشفاعة من الشفيع بمعنى أنّ المستشفع يدعو الشفيع لأن ينضمّ إليه ، ويجتمعا ويدعوا الله سبحانه ـ معاً ـ ، فدعوة المستشفع للشافع ليس إلّا دعوة الثاني إلى أن يدعو الله في حقه ليغفر ذنوبه لا أكثر ... فأيّ ضير في هذا ترى؟!

ومن العجب تفسير (طلب الشفاعة) من النبيّ وغيره بأنّه دعاء للنبي مع الله كما في أسئلة الشيخ ابن بلهيد : قاضي القضاة من علماء المدينة (٢) حيث قال :

«وما يفعل الجهاّل عند هذه الضرائح من التمسّح بها ودعائها مع الله».

__________________

(١). كشف الشبهات : ٨.

(٢). نقلت جريدة أُم القرى في عددها ٦٩ ، المؤرّخ ١٧ شوال عام ١٣٤٤ كل نص هذه الأسئلة والأجوبة.

١٦٨

ولا يخفى ما في كلامه من ضعف :

أمّا أوّلاً : فانّ هؤلاء المتوسّلين عند الضرائح لا يشركون أحداً في الدعاء (الذي هو مخ العبادة) ولا يدعون إلّا الله الواحد القهار ، وإنّما يطلبون من أوليائهم أن يضمّوا دعاءهم إلى دعاء المتوسّلين ، فيشتركوا معهم في دعاء الله لنجاح حاجتهم ، ولو لا ذلك لما كان لطلب الشفاعة معنى ، فانّ الشفاعة مأخوذة من الشفع ـ كما قلنا ـ الذي هو ضد الوتر ، فهو يطلب من وليّه أن ينضمّ إليه في الدعاء ويجتمع معه في العمل فأين ذلك من تشريك غير الله معه في الدعاء؟!.

وثانياً : انّ المسلمين لا يدعون الضرائح بل يطلبون من (صاحب) الضريح أن يشترك معهم في الدعاء لأنّه ذو مكانة مكينة عند الله ، وإن كان متوفياً ، ولكنّه حيّ يرزق عند ربّه ـ بنص الكتاب العزيز ـ وأنّه لا يرد دعاءه لقوله سبحانه في حقّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثلاً :

(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (النساء ـ ٦٤)

(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) (التوبة ـ ١٠٣)

ثمّ إنّه يظهر من ابن تيمية في بعض رسائله (١) ، وتلميذ مدرسته محمد بن عبد الوهاب في رسالة «أربع قواعد» (٢) إنّهما استدلّا على تحريم طلب الشفاعة من غير الله بقوله سبحانه :

(قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) (الزمر ـ ٤٤)

__________________

(١). رسالة «زيارة القبور والاستغاثة بالمقبور» : ١٥٦.

(٢). ص ٢٥ ، راجع كشف الارتياب : ٢٤٠ ـ ٢٤١ وكشف الشبهات لمحمد بن عبد الوهاب : ٨.

١٦٩

وكأنّ الاستدلال مبنيّ على أنّ معنى الآية هو : ولله طلب الشفاعة فقط.

ولكنّه تفسير خاطئ للآية إذ ليس معنى الآية أنّ الله وحده هو الذي يشفع وغيره لا يشفع ، لأنّه تعالى لا يشفع عند أحد ، وانّما الأنبياء والصالحون والملائكة هم الذين يشفعون لديه.

كما أنّه ليس معناها أنّه لا يجوز طلب الشفاعة إلّا منه سبحانه بل معناها أنّ الله مالك أمرها فلا يشفع عنده أحد إلّا بإذنه.

قال سبحانه : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) وقال : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى.)

ويتّضح ما قلناه إذا لاحظنا صدر الآية وهو :

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ* قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) (الزمر ـ ٤٣ و ٤٤)

فالمقطع الأخير من الآية بصدد الرد على الذين اتّخذوا الأصنام والأحجار شفعاء عند الله ، وقالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله مع أنّها ما كانت تملك شيئاً فكيف كانت تملك الشفاعة وهي لا عقل لها حتى تشفع.

يقول الزمخشري ـ في كشّافه ـ :

(مِنْ دُونِ اللهِ) أي من دون إذنه (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) أي مالكها فلا يشفع أحد إلّا بشرطين :

أن يكون المشفوع له مرتضى ، وأن يكون الشفيع مأذنوناً له وهاهنا الشرطان مفقودان جميعاً (١).

وما ذهب إليه ابن عبد الوهاب ومن قبله ابن تيمية وأتباعهما من أنّ الآية

__________________

(١). تفسير «الكشاف» : ٣ / ٣٤.

١٧٠

هذه تدل على أنّ طلب الشفاعة لا يكون إلّا من الله وحده ، دون طلبها من المخلوق وإن كان له حق الشفاعة ، لم يذكره أحد من المفسرين.

* * *

ثمّ إنّه كيف يمكن التفريق بين طلب الشفاعة من الحيّ وطلبها من الميت فيجوز الأوّل بنصّ قوله تعالى :

(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (النساء ـ ٦٤)

وبدليل طلب أولاد يعقوب من أبيهم الشفاعة وقولهم :

(يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا) (يوسف ـ ٩٧)

ووعد يعقوب ـ عليه السلام ـ إيّاهم بالاستغفار لهم ، بينما لا يكون الثاني (أي الاستشفاع بالميت) جائزاً؟

أفيمكن أن تكون الحياة والممات مؤثرتين في ماهية عمل وقد سبق أنّ الحياة أو الممات ليست (معياراً) للتوحيد والشرك وبالنتيجة لجواز الشفاعة أو عدم جوازها.

وإذا لاحظت كتب الوهابيين لرأيت أنّ الذي أوقعهم في الخطأ والالتباس هو مشابهة عمل الموحّدين في طلب الشفاعة والاستغاثة بالأموات والتوسّل بهم ، لعمل المشركين عند أصنامهم ، ومعنى ذلك أنّهم اعتمدوا على الأشكال والظواهر وغفلوا عن النيات والضمائر.

وأنت أيّها القارئ لو وقفت على ما في ثنايا هذه الفصول لرأيت أنّ الفرق بين العملين من وجوه كثيرة ، نذكر منها :

١ ـ إنّ المشركين كانوا يقولون بألوهية الأصنام بالمعنى الذي مرّ ذكره ،

١٧١

بخلاف الموحّدين.

٢ ـ إنّ الأوثان والأصنام كانت أعجز من أن تلبّي دعوتهم وهذا بخلاف الأرواح الطاهرة المقدّسة فإنّها أحياء بنصّ الكتاب العزيز ، وقادرة على ما يُطلب منها في الدعاء.

٣ ـ إنّ الأوثان والأصنام غير مأذونة لها ، بخلاف النبيّ الأكرم فإنّه مأذون بنص القرآن الكريم :

(عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (الإسراء ـ ٧٩)

والمقام المحمود ـ باتفاق المفسّرين ـ مقام الشفاعة.

١٧٢

المسائل العشر

٣

هل الاستعانة بغير الله شرك؟

إنّ الاستعانة بغير الله يمكن أن يتحقّق بصورتين :

١ ـ إنّ نستعين بعامل ـ سواء أكان طبيعياً أم غير طبيعي ـ مع الاعتقاد بأنّ عمله مستند إلى الله بمعنى أنّه قادر على أن يعين العباد ويزيل مشاكلهم بقدرته المكتسبة من الله وإذنه.

وهذا النوع من الاستعانة ـ في الحقيقة ـ لا ينفك عن الاستعانة بالله ذاته ، لأنّه ينطوي على الاعتراف بأنّه هو الذي منح تلك العوامل ذلك الأثر وأذن به وإن شاء سلبها وجرّدها منه.

فإذا استعان الزارع بعوامل طبيعية كالشمس والماء وحرث الأرض ، فقد استعان بالله ـ في الحقيقة ـ لأنّه تعالى هو الذي منح هذه العوامل : القدرة على إنماء ما أودع في بطن الأرض من بذر ومن ثمّ إنباته والوصول به إلى حد الكمال.

٢ ـ وإذا استعان بإنسان أو عامل طبيعي أو غير طبيعي مع الاعتقاد بأنّه مستقلّ في وجوده ، أو في فعله عن الله فلا شك انّ ذاك الاعتقاد يصير شركاً والاستعانة في هذه الحالة عبادة للاعتقاد بالالوهية فيه.

فإذا استعان زارع بالعوامل المذكورة وهو يعتقد بأنّها مستقلّة في تأثيرها ، أو أنّها مستقلة في وجودها ومادتها كما في فعلها وقدرتها ، فالاعتقاد شرك والطلب عبادة.

١٧٣

مع مؤلّف المنار في تفسير حصر الاستعانة :

إنّ مؤلّف المنار تصوّر أنّ حدّ التوحيد هو : أن نستعين بقدرتنا ونتعاون فيما بيننا ـ في الدرجة الأُولى ـ ثمّ نفوّض بقية الأمر إلى الله القادر على كل شيء ، ونطلب منه ـ لا من سواه ـ ويقول في ذلك :

«يجب علينا أن نقوم بما في استطاعتنا من ذلك ونبذل لإتقان أعمالنا كل ما نستطيع من حول وقوّة وأن نتعاون ، ويساعد بعضنا بعضاً ، ونفوّض الأمر فيما وراء كسبنا إلى القادر على كل شيء ونلجأ اليه وحده ، ونطلب المعونة للعمل والموصل لثمرته منه سبحانه دون سواه» (١).

إذ صحيح أنّنا يجب أن نستفيد من قدرتنا ، أو من العوامل الطبيعية المادية ولكن يجب بالضرورة أن لا نعتقد لها بأيّة أصالة وغنى واستقلال وإلّا خرجنا عن حدود التوحيد.

فإذا اعتقد أحد بأنّ هناك ـ مضافاً إلى العوامل والقوى الطبيعية ـ سلسلة من العلل غير الطبيعية التي تكون جميعها من عباد الله الأبرار الذين يمكنهم تقديم العون (٢) لمن استعان بهم تحت شروط خاصة وبإذن الله وإجازته دون أن يكون لهم أيّ استقلال لا في وجودهم ولا في أثرهم ، فأنّ هذا الفرد لو استعان بهذه القوى غير الطبيعية مع الاعتقاد المذكور ـ لا تكون استعانته عملاً صحيحاً فحسب بل تكون ـ بنحو من الأنحاء ـ استعانة بالله ذاته كما لا يكون بين هذين

__________________

(١). المنار : ١ / ٥٩.

(٢). البحث مركّز في أنّ طلب العون والحال هذه شرك أو لا؟ وأمّا أنّه هل أُعطيت لهم تلك المقدرة على العون أو لا؟ فخارج عن موضوع بحثنا ، وإنّما إثباته على عاتق الأبحاث القرآنية الأُخرى وقد نبّهنا على ذلك غير مرة.

١٧٤

النوعين من الاستعانة (الاستعانة بالعوامل الطبيعية والاستعانة بعباد الله الأبرار) أيّ فرق مطلقاً.

فإذا كانت الاستعانة بالعباد الصالحين ـ على النحو المذكور ـ شركاً لزم أن تكون الاستعانة في صورتها الأُولى هي أيضاً معدودة في دائرة الشرك ، والتفريق بين (الاستعانة بالعوامل الطبيعية) و (الاستعانة بغيرها) إذا كانتا على وزان واحد وعلى نحو الاستمداد من قدرة الله وبإذنه ومشيئته ، بكونها موافقة للتوحيد في أُولى الصورتين ، ومخالفة له في ثانية الصورتين ، لا وجه له.

من هذا البيان اتّضح هدف صنفين من الآيات وردا في مسألة الاستعانة :

الصنف الأوّل : يحصر الاستعانة بالله فقط ويعتبره الناصر والمعين الوحيد دون سواه.

والصنف الثاني : يدعونا إلى سلسلة من الأُمور المعيّنة غير الله ويعتبرها ناصرة ومعينة ، إلى جانب الله.

أقول : من البيان السابق اتّضح وجه الجمع بين هذين النوعين من الآيات وتبيّن أنّه لا تعارض بين الصنفين مطلقاً ، إلّا أنّ فريقاً نجدهم يتمسّكون بالصنف الأوّل من الآيات فيخطئون أيّ نوع من الاستعانة بغير الله ، ثمّ يضطرون إلى إخراج (الاستعانة بالقدرة الإنسانية والأسباب المادية) من عموم تلك الآيات الحاصرة للاستعانة بالله بنحو التخصيص بمعنى أنّهم يقولون :

إنّ الاستعانة لا تجوز إلّا بالله إلّا في الموارد التي أذن الله بها ، وأجاز أن يستعان فيها بغيره ، فتكون الاستعانة بالقدرة الإنسانية والعوامل الطبيعية ـ مع أنّها استعانة بغير الله ـ جائزة ومشروعة على وجه التخصيص ، وهذا ممّا لا يرتضيه الموحّد.

في حين أنّ هدف الآيات هو غير هذا تماماً ، فأنّ مجموع الآيات يدعو إلى أمر

١٧٥

واحد وهو : عدم الاستعانة بغير الله ، وأنّ الاستعانة بالعوامل الأُخرى يجب أن تكون بنحو لا يتنافى مع حصر الاستعانة بالله بل تكون بحيث تعدّ استعانة بالله لا استعانة بغيره.

وبتعبير آخر : إنّ الآيات تريد أن تقول : بأنّ المعين والناصر الوحيد والذي يستمد منه كل معين وناصر ، قدرته وتأثيره ، ليس إلّا الله سبحانه ، ولكنّه ـ مع ذلك ـ قيم هذا الكون على سلسلة من الأسباب والعلل التي تعمل بقدرته وأمره ، وعلى استمداد الفرع من الأصل ، ولذلك تكون الاستعانة بها كالاستعانة بالله ، ذلك لأنّ الاستعانة بالفرع استعانة بالأصل.

وإليك فيما يلي إشارة إلى بعض الآيات من الصنفين :

(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (آل عمران ـ ١٢٦)

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الحمد ـ ٤)

(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال ـ ١٠)

هذه الآيات نماذج من الصنف الأوّل وإليك فيما يأتي نماذج من الصنف الآخر الذي يدعونا إلى الاستعانة بغير الله من العوامل والأسباب :

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (البقرة ـ ٤٥)

(وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) (المائدة ـ ٢)

(ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) (الكهف ـ ٩٥)

(وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) (الأنفال ـ ٧٢)

ومفتاح حلّ التعارض بين هذين الصنفين من الآيات هو ما ذكرناه وملخّصه :

إنّ في الكون مؤثراً تامّاً ، ومستقلًّا واحداً غير معتمد على غيره لا في وجوده

١٧٦

ولا في فعله وهو الله سبحانه.

وأمّا العوامل الأُخر فجميعها مفتقرة ـ في وجودها وفعلها ـ إليه وهي تؤدي ما تؤدي بإذنه ومشيئته وقدرته ، ولو لم تعط تلك العوامل ما أعطيت من القدرة ولم تجر مشيئته على الاستمداد منها لما كانت لها أية قدرة على شيء.

فالمعين الحقيقي في كلّ المراحل ـ على هذا النحو تماماً ـ هو الله فلا تصحُّ الاستعانة بأحد باعتباره معيناً مستقلاً. لهذه الجهة حصرت مثل هذه الاستعانة بالله وحده ، ولكن هذا لا يمنع بتاتاً من الاستعانة بغير الله باعتباره غير مستقل (أي باعتباره معيناً بالاعتماد على القدرة الإلهية) ، ومعلوم أنّ استعانة ـ كهذه ـ لا تنافي حصر الاستعانة بالله سبحانه لسببين :

أوّلاً : لأنّ الاستعانة المخصوصة بالله هي غير الاستعانة بالعوامل الأُخرى ، فالاستعانة المخصوصة بالله هي : ما تكون باعتقاد أنّه قادر على إعانتنا بالذات ، وبدون الاعتماد على غيرها ، في حين أنّ الاستعانة بغير الله سبحانه إنّما هي على نحو آخر ، أي مع الاعتقاد بأنّ المستعان قادر على الإعانة مستنداً على القدرة الإلهية ، لا بالذات ، وبنحو الاستقلال ، فاذا كانت الاستعانة ـ على النحو الأوّل ـ خاصة بالله تعالى فإنّ ذلك لا يدل على أنّ الاستعانة بصورتها الثانية مخصوصة به أيضاً.

ثانياً : إنّ استعانة ـ كهذه ـ غير منفكّة عن الاستعانة بالله ، بل هي عين الاستعانة به تعالى ، وليس في نظر الموحّد (الذي يرى أنّ الكون كلّه من فعل الله ومستند إليه) مناص من هذا.

وممّا سبق يتبيّن لك أيّها القارئ الكريم ما في كلام ابن تيمية من الإشكال إذ يقول :

«أمّا من أقرّ بما ثبت بالكتاب والسنّة والإجماع من شفاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتوسّل به

١٧٧

ونحو ذلك ، ولكن قال : لا يدعى إلّا الله وأنّ الأُمور التي لا يقدر عليها إلّا الله فلا تطلب إلّا منه ، مثل غفران الذنوب وهداية القلوب وإنزال المطر وإنبات النبات ونحو ذلك ، فهذا مصيب في ذلك بل هذا ممّا لا نزاع فيه بين المسلمين أيضاً كما قال تعالى :

(وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) (آل عمران ـ ١٣٥)

وقال : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (القصص ـ ٥٦)

وكما قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فاطر ـ ٣)

وكما قال تعالى : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) (آل عمران ـ ١٢٦)

وقال : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) (التوبة ـ ٤٠) (١).

فقد غفل ابن تيمية عن أنّ بعض هذه الأُمور يمكن طلبها من غير الله مع الاعتقاد بعدم استقلال هذا الغير في تحقيقها ، وهذا لا ينافي طلبها من الله مع الاعتقاد باستقلاله وغناه عمّن سواه في تحقيقها.

نعم ، لا تقع هذه الاستعانة مفيدة إلّا إذا ثبتت قدرة غيره سبحانه على إنجاز الطلب ولكنّه خارج عن محط بحثنا ، فإنّ البحث مركّز على كون هذا العمل شركاً أو لا ، وأما كون المستعان قادراً فالبحث عنه خارج عن هدفنا.

وربّما يتوهّم أنّها لا تنفع أيضاً إلّا إذا ثبتت مأذونية الغير من قبله سبحانه في الإعانة ، كما يتوقف على ذلك جواز أصل طلب العون ، وإن كان غير شرك.

__________________

(١). مجموعة الرسائل الكبرى : لابن تيمية ، الرسالة الثانية عشرة : ٤٨٢.

١٧٨

ولكنه مدفوع ، بأنّ إعطاء القدرة دليل على المأذونية في أعمالها في الجملة ، إذ لا معنى لأن يعطيه الله القدرة ويمنعه عن الأعمال مطلقاً ، أو يعطيه القدرة ويمنع الغير عن طلب اعمالها.

ويكفي في الجواز ، كون الأصل في فعل العباد ، الجواز والإباحة ، دون الحظر والمنع إلّا أن ينطبق على العمل أحد العناوين المحرمة في الشرع.

وأخيراً نذكّر القارئ الكريم بأنّ مؤلف المنار حيث إنّه لم يتصوّر للاستعانة بالأرواح إلّا صورة واحدة ، لذلك اعتبرها ملازمة للشرك فقال :

«ومن هنا تعلمون : أنّ الذين يستعينون بأصحاب الأضرحة والقبور على قضاء حوائجهم وتيسير أُمورهم وشفاء أمراضهم ونماء حرثهم وزرعهم ، وهلاك أعدائهم وغير ذلك من المصالح هم عن صراط التوحيد ناكبون ، وعن ذكر الله معرضون» (١).

ولا يخفى عدم صحّته إذ الاستعانة بغير الله (كالاستعانة بالعوامل الطبيعية) على نوعين :

أحدهما : عين التوحيد ، والآخر : موجب الشرك ، أحدهما : مذكّر بالله ، والآخر : مبعد عن الله.

إنّ حد التوحيد والشرك ليس هو كون الأسباب ظاهرية أو غير ظاهرية ، إنّما هو الاستقلال وعدم الاستقلال ، هو الغنى والفقر ، هو الأصالة وعدم الاصالة.

إنّ الاستعانة بالعوامل غير المستقلّة المستندة إلى الله ، التي لا تعمل ولا تؤثر إلّا بإذنه تعالى ليس فقط غير موجبة للغفلة عن الله ، بل هو خير موجّه ، ومذكّر بالله. إذ معناها : انقطاع كلّ الأسباب وانتهاء كل العلل إليه.

__________________

(١). المنار : ١ / ٥٩.

١٧٩

ومع هذا كيف يقول صاحب المنار : «أُولئك عن ذكر الله معرضون» ولو كان هذا النوع من الاستعانة موجباً لنسيان الله والغفلة عنه للزم أن تكون الاستعانة بالأسباب المادية الطبيعية هي أيضاً موجبة للغفلة عنه.

على أنّ الأعجب من ذلك هو كلام شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت الذي نقل ـ في هذا المجال ـ نص كلمات عبده دون زيادة ونقصان ، وختم المسألة بذلك ، وأخذ بظاهر الحصر في (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) غافلاً عن حقيقة الآية وعن الآيات الأُخرى المتعرّضة لمسألة الاستعانة (١).

نقد نظر ثالث :

وهناك رأي آخر يتوسّط بين الرأيين ، وهو أنّه تجوز الاستعانة بالأسباب الطبيعية في الحوائج الحيوية ، ولا تجوز الاستعانة بالأسباب غير العادية إلّا إذا كان بصورة التوسّل والاستشفاع إلى الله سبحانه.

وهذا القول وإن كانت عليه مسحة من الحق ولمسة من الصدق إلّا أنّه ليس عينه.

فإنّ المنع عن الاستعانة بالأسباب غير العادية إذا لم يكن بكلا النحوين خاطئ فإنّه إن كان لأجل كونه مستلزماً للشرك ، فالمفروض عدمه ، إذ المستعين إنّما يستعين ، باعتقاد أنّ المستعان إنّما يعين بالقدرة المعطاة له من الله سبحانه ، ويعملها بإذنه ومشيئته. وطلب العون مع هذا الاعتقاد لا يستلزم الشرك. ومع فرضه فأيّ فرق بين الممنوع (طلب العون) والمجاز وهو التوسّل والاستشفاع؟

وإن كان المنع لأجل عدم وجود القدرة فيهم على الإعانة ، فهو مناقشة وهو

__________________

(١). راجع تفسير شلتوت : ٣٦ ـ ٣٩.

١٨٠