التوحيد والشرك في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

التوحيد والشرك في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 964-357-214-5
الصفحات: ٢٣٢

كلام آخر للمودودي :

يصف المودودي عقائد الجاهليين ويقول :

«كانت عقيدتهم الحقيقية في شأن سائر الآلهة أنّ لهم شيئاً من التدخّل والنفوذ في ألوهية ذلك الإله الأعلى وأنّ كلمتهم تتلقّى بالقبول ، وأنّه يمكن أن تتحقق أمانينا بواسطتهم ، ونستدر النفع ، ونتجنّب المضار باستشفاعهم» (١).

يلاحظ عليه : أنّ ما صوّر به عقيدة الجاهلية في شأن سائر الآلهة «بأنّ لهم شيئاً من التدخل والنفوذ في ألوهية الإله الأعلى» يحتاج إلى التوضيح ، فإنّ تدخل الغير في شئونه سبحانه على قسمين :

الأوّل : بصورة كونهم مستقلين في أفعالهم وأعمالهم ، وهذا يوجب الشرك وكون المتدخل إلهاً ، والتوجّه إليه عبادة.

الثاني : التدخل والنفوذ بإذنه سبحانه ، وأمره فلا نسلم بطلانه ، وليس الاعتقاد به شركاً ، والطلب عبادة كيف والقرآن يصرّح بأنّ الملائكة تدبّر الأُمور الكونية ، إذ يقول : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (النازعات ـ ٥).

وأنّهم هم الذين يقبضون الأرواح ويهلكون الأُمم العاصية ، إذ يقول عن لسان الملائكة :

(إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ ... فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا) (هود ـ ٧٠ و ٨٢).

فإنّنا نلاحظ ـ بجلاء ـ أنّ الله هو الجاعل ، ولكن المباشر للإهلاك هم : الملائكة ، إذن فلا مناص من تبديل كلمة التدخّل والنفوذ في كلامه بكلمة «التفويض» وغيرها ممّا ينطوي على التصرف في معزل عن أمر الله وإذنه وإرادته.

وأمّا ما نقل عنهم من أنّهم كانوا يعتقدون في حق آلهتهم «بأنّه يمكن أن

__________________

(١). المصطلحات الأربعة : ١٩.

١٢١

تتحقّق أمانيهم بواسطتها ، ويستدر النفع ، ويتجنّب المضار باستشفاعهم» لا يخلو من قصور (١).

فإن أراد «أنّ النفع الأُخروي والتجنب عن الضرر الأُخروي لا يجوز سؤاله من غير الله سبحانه ، ويكون عند ذلك مثل الوثنيين الجاهليين» فقد صرّح القرآن بخلافه ، إذ لا شك انّ دعاء الرسول لمؤدّي الزكاة موجب للسكن لهم ، ورافع للاضطراب عنهم ، اذ قال سبحانه : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) (التوبة ـ ١٠٣).

كما أن استغفار الرسول موجب لغفران الذنوب لقوله سبحانه :

(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (النساء ـ ٦٤).

كما كان دعاء يعقوب موجباً لغفران ذنوب أبنائه لقولهم : (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا.)

فأجابهم يعقوب ـ عليه السلام ـ إذ قال : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) (يوسف ـ ٩٨).

وهو كاشف عن جدوى استغفاره ، إذ لو لا ذلك لما وعدهم به ، وعندئذ يجوز أن يطلب من الرسول الدعاء والاستغفار وهو طلب النفع الأُخروي.

وأي نفع ـ ترى ـ أولى من النفع الأُخروي ، وأي دفع ضرر أهم من دفع

__________________

(١). أضف إلى ذلك : أنّ عرب الجاهلية وإن كان يتجنّب المضار باستشفاعهم ، إلّا أنّ عملهم هذا كان مبنياً على القول بألوهيتهم ولأجل ذلك عُدَّ عملهم شركاً ، وكم فرق بين طلب دفع المضار بالاستشفاع بما أنّ الشفيع عبد مكرّم يشفع بإذنه سبحانه ، أو أنّه إله يُعبد ويستقل في فعله وعلى ذلك لا فرق بين الضرر الدنيوي والأُخروي ، في جوازه على الأوّل ، وعدمه على الثاني مطلقاً ، وكان على الأُستاذ تركيز البحث على اعتقاد السائل في حقّ من يطلب منه جلب النفع ودفع الضرر في أنّه هل يعتقد بألوهية المسئول واستقلاله في الجلب والدفع ، أو يعتقد بعبوديته وإنّه لا يجلب ولا يدفع إلّا بإذنه؟ يجب أن يركّز على هذا لا على الفرق بين الضرر الدنيوي والأُخروي.

١٢٢

عذاب الله بدعاء النبي؟ ولو طلب أحدٌ من الرسول دعاءه واستغفاره لجلب هذا النفع لا يكون مشركاً ولا عابداً للنبي.

فهل ـ بعد هذه النماذج الواضحة ـ يتصوّر أن يكون الاعتقاد بتأثير النبي والولي في دفع الضرر وجلب النفع الأُخرويين وطلبهما منه موجباً للشرك ، والقرآن يصرّح به بأعلى صوته وعلى رءوس الأشهاد.

وإن أراد من النفع والضرر ـ في كلامه ـ النفع والضرر الدنيويين وإنّ طلبهما موجب للشرك فقد اعترف القرآن بوقوعه فضلاً عن إمكانه أيضاً.

فقوم موسى ـ عليه السلام ـ استسقوه وهم في التيه فطلبوا منه النفع الدنيوي فلم يردعهم موسى ـ عليه السلام ـ بل استسقى لهم من الله وسقاهم في الحال.

ويشير القرآن الكريم إلى هذا إذ يقول :

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) (البقرة ـ ٦٠).

كما انّهم طلبوا منه إنزال النعم السماوية فلم يزجرهم عن هذا الطلب ، بل دعا لهم.

وقد طلب آل فرعون منه أن يرفع عنهم الرجز (أي العذاب الدنيوي المذكور قبل الآية) وقالوا :

(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (الأعراف ـ ١٣٤).

فكل ذلك يدل على أنّ استدرار النفع وطَلب دفع الضرر الدنيوي من الغير بإذن الله جائز هو أيضاً ، إذ لو لا ذلك لكان على النبي أن يردعهم ويزجرهم في كل هذه الموارد ، وللزم أن يلفت نظرهم إلى الله ، ليسألوه تعالى هو مباشرة لا أن يسألوه ويطلبوا منه ذلك ، وهو خلق من خلق الله ، وعبد من عبيده.

ولا شك انّ لموسى مدخلية في جلب النفع الدنيوي ، وكذا في دفع الضرر أيضاً.

١٢٣

فيجب على الأُستاذ أن يقيّد كلامه في منع استدرار النفع ودفع الضرر بقولنا : بالاستقلال ونحوه ، بحيث يكون المسئول مستقلاً في ذلك.

وصفوة القول هي أنّ الحل في هذه المسألة هو أن نفرّق بين السلطة المستندة إلى إرادة الله وإذنه ومشيئته ، والسلطة المستقلة ولا نخلط بينهما.

تكملة :

إنّ النظريات في صدور المعجزات عن عباد الله الصالحين لا تخرج عن أربعة أقوال :

الأُولى : ما عليه الغلاة والمفوّضة من كونهم مستقلّين في الخلق والإيجاد والإحياء والإماتة.

الثانية : أنّ الله يوجد تلك الأُمور مقارناً لإرادتهم ، وقد مرّت النظريتان عند البحث عن التفويض.

الثالثة : ما استظهرنا من الآيات من أنّ الفعل مستند إليهم عليهم‌السلام بإذن الله سبحانه وأقداره.

الرابعة : النظرية التسخيرية التي وردت فيها روايات غير ما أشرنا إليه ، ولا تعارض بين الثلاث الأخيرة ، فهي غير مانعة الجمع كما لا يخفى.

والنظرية الأخيرة مبنية على سريان الشعور والإدراك في جميع الموجودات.

وعليه فما في الكون يأتمر بأمر النبي إذا أمر بشيء ، وينقاد لطلبه ويؤيده قوله سبحانه :

(فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) (ص ـ ٣٦).

١٢٤

٢

هل عادية السبب وغير العادية

ملاك التوحيد والشرك؟

ذهب بعض المتصوّفة والدراويش في وصف أقطابهم وشيوخ طرقهم إلى حد الشرك ، كما هو ظاهر ، وبذلك هدموا حدود التوحيد والشرك وتجاوزوا معاييرهما ، ويبدو هذا الأمر ـ بجلاء ـ من الأبيات التي مجّد بها القوم مشايخهم حيث تفوح من أكثرها رائحة الشرك الجلي فضلاً عن الخفي ، تلك الأبيات التي لا تنسجم مع أُسس (التوحيد القرآني) بحال ، وإن كان بعضهم يحاول أن يجد لتلك الأبيات والكلمات محامل بمنأى عن الشرك ، ولكن الحق هو أنّ الموحّد لا ينبغي له ، بل ولا يجوز ، أن يجري على لسانه كلاماً غير منسجم مع (التوحيد الإسلامي القرآني) الجلي الملامح ، الواضح الطريق. نعم لا يعم ذلك جميع المتصوّفة بل بعضهم.

ولقد كانت نظرة هذه الفرقة إلى مفهوم الشرك نظرة خاصة وشاذّة جداً ، حيث راحت تعد الكثير من أنواع الشرك القطعي بأنّه (عين التوحيد)!! وبذلك ضيّقوا (دائرة الشرك) أيّما تضييق!!

في مقابل هذه الفرقة ـ تماماً ـ وقف الوهابيون ، فهم توسّعوا في فهم حقيقة الشرك وإطلاقه ، توسعاً يكاد يشمل كل حركة وسكون وكل تصرف يصدر من أهل التوحيد تجاه أولياء الله بهدف الاحترام والتكريم حيث اعتبره الوهابيون عين

١٢٥

الشرك ، والحيدة عن جادة التوحيد!! وسمّوا فاعله مشركاً ، حتى أنّه اتفق لي أن التقيت ذات يوم بواحد من «هيئة الأمر بالمعروف» في المسجد الحرام ، فاتفق أن صدر منّي تكريم بانحناء رأسي ـ أثناء ذلك اللقاء ـ وإذا بذلك الشخص يقول ـ في جدّ وانزعاج ـ :

لا تفعل هذا ... إنّه شرك محرّم ... لا تحني رأسك إنّه شرك!!

والحق أنّه لو كان معنى الشرك والتوحيد هو كما ما يراه الوهابيون ويقولون به ، إذاً لما أمكن أن نمنح لأيّ أحد تحت هذه السماء وفوق هذه الأرض (هوية الموحّد) ولما استحقّ أحد أن تطلق عليه تلك الصفة أبداً.

لقد نقل لي صديق ثقة أن إمام المسجد النبوي وخطيبه : الشيخ عبد العزيز كان يقول في تحديد الشرك :

(إن كل تعلّق بغير الله شرك)!

أقول : لو كان معنى الشرك هو هذا الذي يقوله إذن لا بد أن نعتبر كل البشر على هذه الأرض مشركين ، بلا استثناء ، حتى الوهابيين أنفسهم ، لأنّهم يتوصلون إلى تحقيق مآربهم وتنفيذ حاجاتهم عن طريق التعلّق والتوسّل بالأسباب مع أنّه لا يمكن أنّ يقال إنّ الأسباب والعلل هي الله ، بل هي غير الله ، فينتج هذا أن يكون تعلّقهم بالأسباب وتوسّلهم بالعلل توسّلاً بغير الله ، وتعلّقاً بسواه!

في حين أنّ هذا النوع من التعلّقات والتشبّثات ليست لا تعدّ شركاً فقط بل هي (عين التوحيد وصميمه) لأنّ حياة الإنسان في هذه الدنيا مشدودة إلى الأسباب والعلل.

غاية الأمر أنّ عليه أن لا يعتقد لهذه الأسباب والعلل أيّ استقلال وانقطاع عن الإرادة الإلهية العليا ، بل لا بد أن يعتقد بتأثيرها تبعاً لمشيئته سبحانه ، نعم إنّ التعلق بالأسباب والعلل الظاهرية المادية قد يكون (عين التوحيد) من جهة ،

١٢٦

و (عين الشرك) من جهة أُخرى ، فعند ما لا نعتقد بأيّ استقلال لهذه الأسباب ـ عند تشبثنا بها ـ ولا نعتبر تأثيرها في مصاف الإرادة الإلهية وفي عرضها بل نعتقد بأنّها تقع في ضمن السلسلة التي تنتهي ـ بالمآل ـ إلى الله ، فلا نخرج عن إطار التوحيد.

وليس في (الفكر التوحيدي) من مناص إلّا الاعتقاد بمثل هذا الإمرة وعلى هذا النمط.

أمّا عند ما نرى لهذه الأسباب والعلل استقلالاً ، ونعتقد بإمكان تأثيرها بمعزل عن الإرادة الإلهية ، لا بنحو التبعية ففي هذه الصورة سنكون معتقدين بخالقين ، ومؤثرين!!

إنّ على الموحّد أن يحافظ على الاعتقاد بوجود قانون (العلّية والسببية) الحاكم في الظواهر الطبيعية ، وإنّ هذه الأسباب والعلل لا تملك استقلالاً في تأثيرها مطلقاً بل هي مفتقرة إلى الله في تأثيرها كما في وجودها وبقائها.

إنّ الموحد رغم أنّه يعرف هذه الحياة ويتعامل معها على أساس أنّها خاضعة لنظام العلّية إلّا أنّه ينظر إلى هذه العلل على أساس أنّ وجودها وبقاءها وتأثيرها من الله.

فالسبب الأوّل هو الله سبحانه ، وأمّا الأسباب الأُخرى فهي مخلوقة له خاضعة لإرادته واقعة في طول مشيئته لا في عرضها.

إنّ الفارق الأساسي بين الموحّد والمادّي يكمن في هذا المقام.

فالثاني يعتقد ب «أصالة العلل المادية واستقلالها في التأثير» في حين يسندها الموحّد إلى الله خالق كل شيء ، مع أنّه يعترف بقانون العلّية الحاكم في هذا الكون.

١٢٧

* شهادة القرآن :

إنّ قضية استقلال وعدم استقلال العلل الطبيعية المادّية هو الفاصل بين التوحيد والشرك ، وبه يعرف الموحّد عن المشرك ـ بوضوح ـ وإلى هذه الحقيقة أشار القرآن الكريم في آيات عديدة ، فهناك فريق من الناس عند ما يواجهون المشاكل المستعصية وتنسد في وجوههم جميع الأبواب والسبل ويقابلون المهالك وجهاً لوجه ، يتوجهون إلى الله ويلوذون به ولا يرون سواه ملجأ ومخلصاً ، فإذا ما نجوا عادوا إلى شركهم مرة أُخرى ، وهذه حالة فريق من الناس ، وإلى هذه الحالة تشير طائفة من آيات القرآن ، وها نحن نذكر فيما يلي بعضها على أنّ المهم لنا هو أن نعرف ما هو المقصود بالشرك المذكور في هذه الآيات.

وإليك فيما يلي نصّ الآيات :

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) (الروم ـ ٣٣).

(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) (العنكبوت ـ ٦٥).

(قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) (الأنعام ـ ٦٤).

(ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) (النحل ـ ٥٤).

هذه بعض الآيات في هذا المجال ، والواجب هو الإمعان في عبارة «إذا هم يشركون».

١٢٨

إنّ المقصود من الشرك في هذه الآيات ـ ليس فقط أنّ هؤلاء إذا وصلوا إلى البرّ أو نجوا عكفوا على عبادة الأوثان ، بل المراد ما هو أوسع من ذلك فانّهم إذا نجوا عادوا إلى نسيان الحالة السابقة ، والتجأوا إلى الأسباب الماديّة متصوّرين أنّها أسباب مستقلّة تمدّهم في إدامة الحياة من دون استمداد من الله سبحانه وناظرين إليها بعين العلل المستقلة غير المعتمدة على الله ، ولا شك أنّ النظر إلى الأسباب العادية من نافذة : الاستقلال ، هو أيضاً شرك يجب الاجتناب عنه ، وهي نقطة الافتراق بين المدرسة الإلهية والمدرسة المادية ، ولو طالعت هذه الآيات المتعلّقة بالشرك والتوحيد بروح علمية لوجدت كيف أنّ القرآن الكريم يصرّ على أنّه ليست في عالم الوجود قدرة في مصاف القدرة الإلهية ، ولا إرادة في عرض تلك الإرادة.

ويرشدك إلى هذا أنّ القرآن يعتقد بأنّه سبحانه هو الهادي في ظلمات البرّ والبحر ، وهو مرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته ومنزل الغيث ، ويقول :

(أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (النمل ـ ٦٣).

مع أنّ البشر كان ولا يزال يستفيد من الأسباب والوسائل الطبيعية كالنجوم والبوصلات ويهتدي بها وبغيرها من الأدوات التكنولوجية في أسفاره البرية والبحرية ، وليس هذا إلّا لأجل أنّ سببية الأسباب بتسبيب من الله سبحانه.

كما أنّ الرياح والأمطار في هذه الطبيعة ينشئان نتيجة سلسلة طويلة من تفاعل العلل الطبيعية التي تتسبب في وجود ظاهرة الرياح ، أو الأمطار ، ولكن القرآن مع ذلك يقول :

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) (الأعراف ـ ٥٧).

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) (الشورى ـ ٢٨).

١٢٩

وليس ذلك إلّا لأنّ الله وراء تلك الأسباب وهي تفعل بأمره وإقداره.

وبكلام آخر أنّ هذه العلل والأسباب حيث إنّها غير مستقلّة ، لا في وجودها ولا في تأثيرها ، بل هي مخلوقة بأسرها وبتمام وجودها ، وتأثيرها لله ، لذا يصرّح القرآن الكريم بأنّه سبحانه الهادي في ظلمات البرّ والبحر والمرسل الرياح ومنزل الغيث من بعد ما قنطوا.

وهذه الحقيقة ـ بعينها ـ مبيّنة بوضوح تام في آيات سورة الواقعة.

إنّ هذا لا يعني أنّ القرآن الكريم يتنكر للعلل والأسباب الطبيعية ، وينكر وجودها ودخالتها ، ويلغي دورها. بل حيث إنّ هذه العلل والأسباب لا تملك من لدن نفسها استقلالاً وتقوم بالله سبحانه قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي بحيث لو قطعت عنها عنايته تعالى آناً ما ، انهارت وتهافتت جملة واحدة ، وانقلب عالم الوجود مع كل وضوحه إلى ظلام وعدم ، لذلك تفنّن في تفسير الظواهر الطبيعية تارة بنسبتها إلى الله سبحانه وأُخرى إلى سائر العلل والثالثة إليهما معاً ، قال :

(وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (الأنفال ـ ١٧).

* التوسّل بالأسباب غير الطبيعية :

إلى هنا تبيّن أنّ النظرة إلى الأسباب الطبيعية بلحاظ أنّها علل غير مستقلّة عين التوحيد ، وبلحاظ استقلالها في التأثير عين الشرك ، وأمّا غير الطبيعية من العلل فحكمها حكم الطبيعية ، حيث إنّ التوسّل على النحو الأوّل عين التوحيد وعلى النحو الثاني عين الشرك حرفاً بحرف ، غير أن الوهابيين جعلوا التوسّل بغير الطبيعية من العلل توسلاً ممزوجاً بالشرك ويقول المودودي في ذلك :

«فالمرء إذا كان أصابه العطش ـ مثلاً ـ فدعا خادمه وأمره بإحضار الماء

١٣٠

لا يطلق عليه حكم «الدعاء» ولا أنّ الرجل اتّخذ الخادم إلهاً ، وذلك أنّ كل ما فعله الرجل جار على قانون العلل والأسباب ، ولكن إذا استغاث بوليّ في هذا الحال فلا شكّ أنّه دعاه لتفريج الكربة واتّخذه إلهاً.

فكأنّي به يراه سميعاً بصيراً ، ويزعم أنّ له نوعاً من السلطة على عالم الأسباب ممّا يجعله قادراً على أن يقوم بإبلاغه الماء ، أو شفائه من المرض».

«وصفوة القول إنّ التصوّر الذي لأجله يدعو الإنسان الإله ويستغيثه ويتضرّع إليه هو لا جرم تصوّر كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة وللقوى الخارجة عن دائرة نفوذ الطبيعة».

أقول : إنّ الحديث في المقام في موردين :

الأوّل : إذا اعتقد إنسان بأنّ للظاهرة المعينة سببين : طبيعياً وغير طبيعي فإذا يئس من الأوّل ولاذ بالثاني فهل يعدّ فعله شركاً أو لا؟

الثاني : إذا اعتقد بأنّ لشخص خاص سلطة غيبية على الكون بإذنه سبحانه فهل يعدّ هذا الاعتقاد اعتقاداً بألوهيته؟

وقد حقّقنا القول حول الأمر الثاني ونركّز البحث على الأمر الأوّل فنقول :

إذا اعتقد إنسان بأنّ لبرئه من المرض طريقين أحدهما طبيعي والآخر غير طبيعي ، وقد سلك الطريق الأوّل ولم يصل إلى مقصوده فعاد يتوسّل إلى مطلوبه بالتمسك بالسبب الثاني كمسح المسيح يديه عليه ، فهل يعدّ اعتقاد هذا وطلبه منه شركاً وخروجاً عن جادة التوحيد أو لا؟

وأنت إذا لاحظت الضوابط التي قد تعرّفت عليها في تمييز الشرك عن غيره لاستطعتَ على الإجابة بأنّه لا ينافي التوحيد ولا يضادّه بل يلائمه كمال الملائمة فإنّه يعتقد بأنّ الله الذي منح الأثر للأدوية الطبيعية أو جعل الشفاء في العسل هو

١٣١

الذي منح المسيح قدرة يمكنه ان يبرئ المرضى بإذنه سبحانه ، ومعه كيف يعدّ اعتقاده هذا شركاً؟!

وبكلام آخر : ان الشرك عبارة عن الاعتقاد باستقلال شيء في التأثير ، بمعنى أن يكون أثره مستنداً إليه لا إلى خالقه وبارئه والمفروض عدمه ، ومع ذلك كيف يكون شركاً ، والتفريق بين التوسّل بالأسباب الطبيعية وغيرها بجعل الأوّل موافقاً للتوحيد دون الثاني تفريق بلا جهة فأنّ نسبتها إلى الله سبحانه في كون التأثير بإذنه سواسية.

نعم يمكن لأحد أن يخطئ القائل في سببية شيء ، ويقول بأنّ الله لم يمنح للولي الخاص تلك القدرة وأنّه عاجز عن الإبراء ، ولكنّه خارج عن محطّ بحثنا فإنّ البحث مركّز على تمييز الشرك عن غيره لا على إثبات قدرة لأحد أو نفيها عنه وأظن أنّ القائلين بكون هذا الاعتقاد والطلب شركاً لو ركّزوا البحث على تشخيص ملاك الشرك عن غيره لسهّل لهم تمييز الحق عن غيره ، إذ أيّ فرق بين الاعتقاد بأنّ الله وهب الإشراق للشمس والإحراق للنار وجعل الشفاء في العسل ، وبين إقداره وليّه مثل المسيح وغيره على البرء ، أو اعطاءه للأرواح المقدسة من أوليائه قدرة على التصرّف في الكون وإغاثة الملهوف.

وقد ورد في القرآن الكريم نماذج من إعطاء آثار خاصة لعلل غير طبيعية تلقي الضوء على ما ذكرنا. فإليك بيانها :

١ ـ إنّ القرآن يصف عجل السامري بقوله :

(فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) (طه ـ ٨٨).

فبعد ما رجع موسى من الميقات ورأى الحال فسأل السامري عن كيفية عمله وأنّه كيف قدر على هذا العمل البديع؟ فأجاب :

١٣٢

(بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) (طه ـ ٩٦).

فعلّل عمله هذا بأنّه أخذ قبضة من أثر الرسول فعالج بها مطلوبه فعاد العجل ذي خوار. وهذا يعطي أنّ التراب المأخوذ من أثر الرسول كان له أثر خاص وقد توسل به السامري.

٢ ـ إنّ القرآن يصف كيفية برء يعقوب ممّا أصاب عينيه ، ويقول حاكياً عن يوسف أنّه قال : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) (يوسف ـ ٩٣).

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (يوسف ـ ٩٦).

فإذا اعتقد الإنسان بأنّ الذي خلق في التراب المأخوذ من أثر الرسول المعين أثراً خاصاً بحيث إذا امتزج مع الحلي يجعلها ذات خوار ، أو منح للقميص ذلك الأثر العجيب هو الذي أعطى لسائر العلل غير الطبيعية آثاراً خاصة يستفيد منها الإنسان في ظروف معينة فهل يجوز لنا رمي المعتقد بهذا ، بأنّه مشرك؟ وأيّ فرق بين ما أخذ السامري من أثر الرسول أو قميص يوسف وسائر العلل مع أنّ الجميع علل غير مألوفة؟

إنّ التوسل بالأرواح المقدسة والاستمداد بالنفوس الطاهرة الخالدة عند ربّها نوع من التمسّك بالأسباب في اعتقاد التمسّك وقد قال سبحانه :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) (المائدة ـ ٣٥)

وليست الوسيلة منحصرة في العمل بالفرائض والتجنب عن المحرمات بل هي أوسع من ذلك فتوسل ولد يعقوب بأبيهم كان ابتغاءً للوسيلة أيضاً.

وأمّا البحث عن أنّ هذه الأرواح والنفوس هل في مقدورها أنّ تغيث من يستغيث بها أو لا فهو خارج عمّا نحن بصدده.

١٣٣

٣

هل الحياة والموت

يدخلان في مفهومَي التوحيد والشرك؟

لا شك أنّ التعاون ، والتعاضد بين أبناء الإنسان أساس الحياة ، وما التاريخ الإنساني إلّا حصيلة الجهود البشرية التي نبعت من التعاون ، وتقاسم المسئوليات والاستفادة المتبادلة من الطاقات الإنسانية.

والقرآن حافل بنماذج كثيرة من استمداد البشر بمثله إذ يقول :

(فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) (القصص ـ ١٥).

إذن فاستمداد الإنسان بالإنسان الآخر أمر واقع في الحياة البشرية ، وجائز عند جميع الأُمم غير أنّ للوهابيين تفصيلاً في المقام يرونه هو الحد الطبيعي الفاصل بين (التوحيد والشرك).

فيقولون : إنّ التوسّل بالأنبياء والأولياء جائز في حال حياتهم دون مماتهم ويقول محمد بن عبد الوهاب في هذا الصدد :

«وهذا جائز في الدنيا والآخرة أن تأتي رجلاً صالحاً تقول له : ادع الله لي كما كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسألونه في حياته. وأما بعد مماته فحاش وكلّا أن يكونوا سألوا ذلك ، بل أنكر السلف على من قصد دعاء الله عند قبره فكيف

١٣٤

بدعاء نفسه» (١).

إنّ للتوحيد والشرك معايير خاصة بها يمتاز أحدهما عن الآخر ، وإنّ الإسلام لم يترك تلك المعايير إلينا بل حدّد كل واحد بحد خاص.

وقد ألمعنا بها فيما سبق ولم يذكر في تلك المعايير أنّ الحياة والموت حدّان للتوحيد والشرك.

وستعرف أنّه لا دخالة لحياة المستغاث منه ومماته في تحديد الشرك أو التوحيد مطلقاً ، لأنّ الاستمداد والاستغاثة بالحيّ مع الاعتقاد باستقلاله في القدرة والتأثير ، وأصالته في إغاثة المستغيث يوجب الشرك ، وكون الاستغاثة بالحيّ أمراً رائجاً بين العقلاء لا يوجب صحتها إذا كانت مقرونة مع الاعتقاد باستقلال المستغاث في الإغاثة ، لأنّ الدارج بين العقلاء هو : أصل الاستغاثة بالحيّ لا باعتباره مستقلاً في العمل.

فلا تكون استغاثة شيعة موسى مطابقة للتوحيد إلّا في صورة واحدة وهي :

أن لا يعتقد معها باستقلال موسى في التأثير ، بل يجعل قدرته ، وتأثيره في طول القدرة الإلهية ، ومستمدّة منه تعالى.

إنّ نفس هذه الحقيقة جارية في الاستمداد ، والاستغاثة ب «الأرواح المقدسة» العالمة الشاعرة حسب أخبار القرآن وتأييد العلوم الحديثة ، فإذا استغاث شيعة موسى ـ عليه السلام ـ به بعد خروج روحه عن بدنه بهذه العقيدة لم يكن عمله شركاً ، ولم يجعل موسى شريكاً لله لا في الذات ولا في الصفات ولا في الأفعال ولا في العبادة ، ولم يعبد موسى بهذه الاستغاثة والطلب.

وأمّا لو استغاث به وهو يعتقد باستقلال روحه في الإغاثة ويعتقد بأنّها قادرة

__________________

(١). كشف الشبهات ، تأليف محمد بن عبد الوهاب : ٧٠ ، طبع مصر.

١٣٥

على التأثير دون القدرة الإلهية. فإنّ هذا المستغيث يعدّ مشركاً ويكون موسى ـ كما يقتضي اعتقاده ـ في صف الآلهة.

ولو كانت حياة المستغاث ومماته مؤثّرة في الأمر فانما تكون مؤثّرة في جدوائية الاستغاثة أوّلاً. لا في تحديد التوحيد والشرك. والبحث عن الجدوائية وخلافها خارج عن موضوع بحثنا.

ومن العجب العجاب اعتبار التوسّل والاستغاثة بالحيّ والاستشفاع به عين التوحيد وعدّ هذه الاستغاثة والاستشفاء ـ مع نفس الخصوصيات ـ بميت شركاً وفاعلها واجب الاستتابة وإن لم يتب فيستحق القتل.

إنّ الوهابيين يسلّمون أنّ الله سبحانه أمر العصاة بأن يذهبوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويطلبوا منه أن يستغفر لهم أخذاً بظاهر الآية (النساء ـ ٦٤) كما يسلّمون أنّ أولاد يعقوب طلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم (يوسف : ٩٧ ـ ٩٨) غير أنّهم يقولون إنّ هذين الموردين إنّما ينطبقان مع أُصول التوحيد لأجل حياة المستغاث ، وأمّا إذا سئل ذلك في مماته عدّ شركاً.

غير أنّ القارئ النابه جداً عليم بأنّ حياة الرسول ومماته لا يغيّران ماهية العمل ، إذ لو كان التوسّل شركاً حقيقةً للزم أن يكون كذلك في الحالتين من دون فرق بين حالتي الحياة والممات.

ولو اعترض على الاستغاثة بالميت بأنّه عمل عبثي أوّلاً ، وبدعة لم ترد في الشرع ثانياً ، فيقال : في جوابه :

أوّلاً : أنّ هذا العمل إنّما يصطبغ بلون البدعة إذا أتى به المستغيث بعنوان كونه وارداً في الشرع وأمّا لو أتى به من جانب نفسه من دون أن ينسبه إلى مقام ، فلا يعدّ بدعة وإحداثاً في الدين. لأنّ البدعة هو إدخال ما ليس من الدين في الدين. وهو فرع الإتيان بالعمل بما أنّه أمر ديني.

١٣٦

ثانياً : أنّ البحث في المقام إنّما هو عن تحديد التوحيد والشرك ولا عن كون العمل مفيداً أو غيره أو بدعة ، وغير بدعة فكل ذلك خارج عن بحثنا ، أضف إلى ذلك أنّه قد ثبت في محلّه مشروعية التوسّل بالأرواح المقدسة بالدلائل النقلية الصريحة (١).

وعلى كل حال لا يمكن اعتبار الاستغاثة بالميت شركاً إذ لم يفوض ملاك التوحيد والشرك إلينا بل الميزان في الشرك هو الاعتقاد باستقلال الفاعل في ذاته وفعله والتوجه به كذلك. كما أنّ الاعتقاد بعدم استقلاله في ذاته وصفاته وأفعاله يعد اعترافاً بعبوديته ويعد التوجّه به تكريماً واحتراماً. ولو تناسينا هذه القاعدة لما وجد على أديم الأرض موحّداً أبداً.

وفيما يلي نلفت نظر القارئ الكريم إلى كلام لتلميذ ابن تيمية في هذا المجال. يقول ابن القيم :

«ومن أنواع الشرك طلب الحوائج من الموتى ، والاستعانة بهم ، والتوجه إليهم. وهذا أصل شرك العالم ، فانّ الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا» (٢).

وما ذكره من الدليل لا يثبت مدعاه لأنّ قوله : «فانّ الميت قد انقطع عمله» دليل على عدم فائدة الاستغاثة بالميت ، وليس دليلاً على كونها شركاً ، وهو لم يفرق بين الأمرين ، والأغرب من ذلك قوله : «ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا» إذ لا فرق في ذلك بين الحي والميت ، فلا يملك أحدٌ ضرّاً لنفسه ولا نفعاً بدون إذن الله وإرادته ، سواء أكان حيّاً ، أم ميتاً. ومع الإذن الإلهي يملكون النفع والضر ، أحياء كانوا أم أمواتاً.

__________________

(١). راجع رسالتنا : التوسل في ضوء الكتاب والسنّة.

(٢). فتح المجيد : ٦٨ ، الطبعة السادسة.

١٣٧

ومن هذا اتضح ضعف ما افاده ابن تيمية إذ قال :

«كل من غلا في نبي ، أو رجل صالح وجعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أنّ يقول : يا سيدي فلان انصرني أو أغثني ... فكل هذا شرك وضلال ، يستتاب صاحبه ، فإن تاب ، وإلّا قتل» (١).

إذا كانت الاستغاثة ب «الأرواح المقدسة» أو (الأموات) حسب تعبير الوهابيين ملازمة لنوع من الاعتقاد بألوهية تلك الأرواح ، إذاً يلزم أن تكون الاستغاثة بأيّ شخص ـ أعمّ من الحيّ والميت ـ ملازمة لمثل هذا الاعتقاد لأنّ حياة المستغاث ومماته حدّ لجدوائية الاستغاثة ولا جدوائيتها ، لا أنّها حدّ التوحيد وللشرك في حين أنّ الاستغاثة بالحيّ يعدّ من أشد ضروريات الحياة الاجتماعية البشرية ، وممّا به قوامها.

وإليك فيما يلي نبذة أُخرى من كلام ابن تيمية في هذا الصدد فهو يقول :

«والذين يدعون (مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق ، أو تنزل المطر وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم ، أو يعبدون صورهم يقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) ، أو (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا) (٢).

إنّ قياس الاستغاثة بأولياء الله بما كان يقوم به المسيحيون والوثنيون ابتعاد عن الموضوعية ، لأنّ المسيحيين كانوا يعتقدون ، في حقّ المسيح بنوع من الألوهية ، وكان الوثنيون يعتقدون بأنّ الأوثان تملك بنفسها مقام الشفاعة ، بل كان بعضهم ـ على ما نقل عن ابن هشام ـ يعتقد بأنّها متصرفة في الكون ، ومرسلة الأمطار ـ على الأقل ـ ولأجل هذا الاعتقاد كان طلبهم واستغاثتهم بالمسيح وبتلك الأوثان عبادة لها.

__________________

(١ و ٢). فتح المجيد : ١٦٧.

١٣٨

فعلى هذا إذا كانت الاستغاثة مقرونة بالاعتقاد بألوهية المستغاث كانت شركاً حتماً ، وأمّا إذا كانت الاستغاثة ـ بالحي أو الميت ـ خالية وعارية عن هذا القيد لم تكن شركاً ولا عبادة بل استغاثة بعبد نعلم أنّه لا يقوم بشيء إلّا بإذنه سبحانه.

نعم يجب في موارد الاستغاثة بالموتى أنّ نبحث في فائدة مثل هذه الاستغاثة وعدم فائدتها ، لا في كونها شركاً وعبادة لغير الله ، والكلام إنّما هو في الثاني دون الأوّل.

ومن العجب أنّ الوهابية يجوّزون التبرك بآثار النبيّ في حال حياته ، لأنّ الصحابة كانوا يتبركون بها ، ويرون التبرك بآثاره في حال مماته شركاً.

وهؤلاء في هذا التفصيل وقعوا في ورطة الشرك من حيث لا يعلمون فإنّ تخصيص جواز التبرك بحياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينفك عن الاعتراف بأنّ لحياته تأثيراً فيما يُقصد في التبرك من البرء والشفاء ، ونزول المطر وغيره ، أوليس هذا الاعتقاد في مدرسة هؤلاء شركاً؟! إذ لازمه الاعتقاد بتأثير نفس النبيّ في برء المريض ، ونزول المطر وهو نفس القول بأنّ للنبي سلطة غيبية على الكون.

فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون قولاً؟!

١٣٩

٤

هل القدرة والعجز

حدّان للتوحيد والشرك؟

ربما يستفاد من كلمات الوهابيين أنّ هناك معياراً آخر للشرك في العبادة وهو «قدرة المستغاث على تحقيق الحاجة وعجزه عنه» فإذا طلب أحد من آخر حاجة لا يقدر عليها إلّا الله عدّ عمله عبادة وشركاً ، فها هو ابن تيمية يكتب في هذا الصدد قائلاً :

«من يأتي إلى قبر نبي أو صالح ، ويسأله حاجته ، ويستنجد به مثل أن يسأله أن يزيل مرضه ويقضي دينه أو نحو ذلك ممّا لا يقدر عليه إلّا الله عزوجل ، فهذا شرك صريح يجب أن يستتاب صاحبه فإن تاب وإلّا قتل». (١)

لقد جعل الكاتب في هذه العبارة للشرك معياراً آخر وهو قدرة المسئول وعجزه عن تلبية السائل ، ولو كان هذا هو الميزان يجدر بابن تيمية أن يضيف بعد قوله : «قبر نبي أو صالح» جملة أُخرى هي : «أو ولي حي» ليتضح أنّ المعيار الذي اعتمده ـ هنا ـ ليس هو موت المستغاث وحياته ، بل قدرته على تلبية الحاجة وعدم قدرته على ذلك ، كما فعل الصنعاني وهو أحد المتأثرين من الوهابية إذ قال : «من الأموات أو من الأحياء».

__________________

(١). زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور : ١٥٦ ، وفي رسائل الهدية السنية : ٤٠ ، نجد ما يقرب من هذا المطلب أيضاً.

١٤٠