التوحيد والشرك في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

التوحيد والشرك في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 964-357-214-5
الصفحات: ٢٣٢

فالمقصود من قوله سبحانه : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً)

وما شابهها ممّا تقدم في أوّل البحث هو الدعوة العبادية التي كان المشركون يقومون بها أمام اللّات والعزّى ومناة أو الأجرام الفلكية والملائكة والجن ، وكأنّ الآية تريد أن تقول : (فلا تعبدوا مع الله أحداً).

فلو نهى القرآن الكريم عن إشراك غير الله معه سبحانه في العبادة ، فأيّ ربط لهذه المسألة بمسألة دعوة الصالحين وطلب الحاجة منهم ممّا يقدرون عليها بإذن الله وإقداره :

فإذا قال القرآن الكريم :

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) (الرعد ـ ١٤).

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ) (الأعراف ـ ١٩٧).

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) (الأعراف ـ ١٩٤).

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) (فاطر ـ ١٣).

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) (الأنعام ـ ٧١).

(وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) (يونس ـ ١٠٦).

وما سواها من الآيات ممّا يوجد في القرآن بوفرة ، فكل هذه الآيات مرتبطة بالدعوة التي تكون عبادة للأصنام والكواكب والملائكة والجنّ ، باعتبار أنّها آلهة صغار وباعتبار أنّها معبودات ومدبرة للكون وشفعاء تامّي الاختيار ، ولا مرية في أن أية دعوة تكون هكذا ، تكون مصطبغة ـ لا محالة ـ بصبغة العبادة ، فأيّ ربط لهذه الآيات بدعوة الصالحين وطلب الشفاعة منهم مع الاعتقاد بأنّهم لا يقدرون على شيء بدون الإذن الإلهي ، ومع الاعتقاد بأنّهم لا يملكون أيّ مقام إلهي وربوبي وتدبير ، وما شابههما؟! فهل يمكن قياس الدعوتين بالأُخرى ، وبينهما بون شاسع.

١٠١

إنّ أوضح دليل على التباين بين هاتين الدعوتين هو أنّ الوهابيين يعتقدون بأنّ مثل هذا الطلب من الأنبياء الصالحين شرك حرام بعد وفاتهم ، وجائز مشروع حال حياتهم. وقد أثبتنا ـ فيما سبق ـ أنّ الموت والحياة غير مؤثّرين ـ مطلقاً ـ في ماهية العمل ، وفي جوازه وعدم جوازه.

ومما سبق تبيّن ما في «فتح المجيد» إذ قال :

«وقوله : (أو يدعو غيره) : اعلم أنّ الدعاء نوعان : دعاء عبادة ، ودعاء مسألة ، ويراد به في القرآن هذا تارة وهذا تارة أُخرى ، ويراد به مجموعهما.

فدعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضرّ ولهذا أنكر الله على من يدعو أحداً من دونه ممّن لا يملك ضراً ولا نفعاً كقوله تعالى : (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (المائدة : ٧٦) وقوله : (أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (الأنعام ـ ٧١) وقال : (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) (يونس ـ ١٠٦).

قال شيخ الاسلام [ابن تيمية] : فكلّ دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة ، وكل دعاء مسألة متضمّن لدعاء العبادة قال الله تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (الأعراف ـ ٥٥) وقال تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) (الأنعام ـ ٤٠ ـ ٤١). وقال تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (الجن ـ ١٨) وقال تعالى : (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى

١٠٢

الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (الرعد ـ ١٤) وأمثال هذا في القرآن في دعاء المسألة أكثر من أن يحصر وهو يتضمّن دعاء العبادة ، لأنّ السائل أخلص سؤاله لله وذلك من أفضل العبادات ، وكذلك الذاكر لله والتالي لكتابه ونحوه طالباً من الله في المعنى فيكون داعياً عابداً.

فتبيّن بهذا من قول شيخ الاسلام إنّ دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة ، كما انّ دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة» (١).

فمن هذا البحث الضافي حول الدعوتين وكون إحداهما مسألة عبادية ، والأُخرى مسألة غير عبادية ، تتضح أُمور :

الأوّل : كيف استفاد ابن تيمية من الآية : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) والآية : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) انّ طلب الحاجة من أحد تكون دعوة عبادة للمدعو.

فإذا كانت لفظة (ادْعُوا) في قوله سبحانه : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً) ولفظة «لا (تَدْعُوا) في قوله سبحانه : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ) بمعنى المناداة فكيف تكون الدعوة الطلبية مستلزمة للدعوة العبادية؟

إنّ هاتين الآيتين ـ على فرض دلالتهما ـ (ولا دلالة لهما) لا تدلّان على أكثر من النهي عن دعوة غير الله ، وأمّا أنّ دعوته تكون مستلزمة لعبادته ، فلا يدل ظاهر الآية عليه أبداً إذ أنّ النهي عن الشيء ليس دليلاً على كون المنهي عنه مصداقاً للعبادة.

الثاني : انّ الدعوة الطلبية إنّما تستلزم الدعوة العبادية إذا اعتقد الداعي بألوهية المدعو على مراتبها ، ففي هذه الموارد تستلزم الدعوة الطلبية : الدعوة

__________________

(١). فتح المجيد : ١٦٦.

١٠٣

العبادية ، بل هي الدعوة العبادية عينها وليست مستلزمة لها ، وتكون مثل هذه الدعوة عبادة لا أنّها مستلزمة للعبادة.

ولكن إذا دعى الداعي أحداً ، مجرداً عن الاعتقاد المذكور ، فلا تكون دعوته ـ حينئذ ـ عبادة له.

الثالث : من الغريب جداً أن تصح الاستغاثة بالأحياء وتكون مشروعة ـ على الإطلاق ـ غافلاً عن أنّه لو كان مطلق الاستغاثة بغير الله (حتى إذا لم تكن مصحوبة بالاعتقاد بألوهية أو مالكية المستغاث) شركاً لما كان لموت المدعو وحياته أي أثر في هذا القسم.

وما ورد عن النبي الأكرم من أنّ الدعاء مخ العبادة ، فالمراد هو الدعوة الخاصة ، أعني : ما إذا كانت مصحوبة بالاعتقاد بألوهية المدعو.

وبتعبير آخر : أنّ المقصود بالدعاء في الحديث المذكور انّما هو دعاء الله ، فيكون دعاء الله مخ العبادة.

فأي ربط لهذا الحديث بدعوة الصالحين التي لا تكون مقرونة بأي شيء من الاعتقاد بألوهية المدعو؟!!

نعم يبقى هنا سؤال وهو انّ دعوة الغير وإن لم تكن عبادة له على ما أوضحناه ، ولكنّها أمر محرّم بحكم هذه الآيات ، فدعوة الصالحين من الأموات من الدعوات المحرمة ، لأنّها دعوة غيره سبحانه ، ودعوة الغير منهية عنه ، نعم لا تشمل الآيات دعوة الأحياء ، لأنّه أمر جائز بالضرورة ، فيستنتج منها حرمة دعوة الصلحاء الماضين وإن لم يكن شركاً.

والجواب عنه واضح بعد الإحاطة بما ذكرناه لأنّ الآيات ناظرة إلى دعوة خاصة صادرة من المشركين ، وهي دعوة آلهتهم وأربابهم المزعومة ، والنهي عن هذه الدعوة المخصوصة لا توجب حرمة جميع الدعوات حتى فيما لم تكن بهذه المثابة.

١٠٤

وأوضح دليل على ما ذكرناه هو ما اعترف به السائل من عدم شمول الخطابات لدعوة الأحياء وطلب الحاجة منهم ، فإنّ خروج هذا القسم ليس خروجاً عن حكم الآيات حتى يكون تخصيصاً ، بل خروج عن موضوعها وعدم شمولها له من أوّل الأمر ، وليس الوجه لخروجه عن الآيات إلّا ما ذكرناه من أنّ الآيات ناظرة إلى الدعوة التي كان المشركون يقومون بها طيلة حياتهم وهي دعوة الأصنام والأوثان بما هي آلهة ، بما هم يملكون لهم النفع والضر والشفاعة والغفران ، وهذا الملاك ليس بموجود في دعوة الصلحاء.

ولأجل هذه العقيدة في حق الآلهة يقول سبحانه ، في الإله الذي صنعه السامري :

(هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ* أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) (طه ٨٨ ـ ٨٩).

وممّا يدل على ما ذكرناه هو تكرار كلمة (مِنْ دُونِهِ) في الآيات فإنّها ليست لتعميم كل دعوة متوجهة إلى غيره سبحانه حتى نحتاج إلى إخراج بعض الأقسام أعني : دعوة الأحياء لطلب الحوائج ، أو دعوة الأموات لا لطلب الحاجة ، بل للتوسّل والاستشفاع ، بل جيء به لتبيين خصوصية هذه الدعوة. وهي دعوة الغير بظن أنّه يقوم بالفعل مستقلاً من دون الله كما هو المزعوم للمشركين في آلهتهم.

وأمّا طلب الحاجة ممن لا يقوم (في زعم الداعي) إلّا بأمره سبحانه ومشيئته بحيث لا تكون دعوته منفكة عن دعوة الله سبحانه فلا يصدق عليه قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) (الرعد ـ ١٤).

١٠٥
١٠٦

الفصل الثالث

الوهابيون وملاكات التوحيد والشرك ..

١٠٧
١٠٨

١

هل الاعتقاد بالسلطة الغيبية

لغير الله معيار التوحيد والشرك؟

لا شك في أنّ طلب الحاجة من أحد ـ بصورة جدية ـ انّما يصح إذا اعتقد طالب الحاجة بأنّه قادر على إنجاز حاجته. وهذه القدرة قد تكون قدرة ظاهرية ومادية ، كأن نطلب من أحد أن يسقينا ماء ، ويجعله تحت تصرّفنا. وقد تكون القدرة قدرة غيبية ، خارجة عن نطاق المجاري الطبيعية والقوانين المادية ، كأن يعتقد أحد بأنّ الإمام علياً ـ عليه السلام ـ قلع باب «خيبر» بالقدرة الغيبية ، كما جاء في الحديث.

أو أنّ المسيح ـ عليه السلام ـ كان يقدر ، بقدرة غيبية على منح الشفاء لمن استعصى علاجه ، دون دواء ، أو إجراء عملية جراحية.

والاعتقاد بمثل هذه القدرة الغيبية إن كان ينطوي على الاعتقاد بأنّها مستندة إلى الإذن الإلهي وإلى القدرة المكتسبة منه سبحانه ، فهي حينئذ لا تختلف عن القدرة المادية الظاهرية ، بل هي كالقدرة المادية التي لا يستلزم الاعتقاد بها الشرك ، لأنّه سبحانه الذي أعطى القدرة المادية لذلك الفرد ، هو أيضاً أعطى القدرة الغيبية لآخر ، دون أن يعد المخلوق خالقاً ، وأن يتصوّر استغناء أحد عن الله.

فلو قام أحد بمعالجة المرضى عن طريق السلطة الغيبية ، فقد قام بأمر الله ،

١٠٩

وإذنه ومشيئته ، ومثل ذلك لا يعد شركاً. وتمييز السلطة المستندة إلى الله عن السلطة المستقلة هو حجر الأساس لامتياز الشرك عن التوحيد ، وبذلك يظهر خطأ كثير ممّن لم يفرّقوا بين السلطة الغيبية المستندة ، والسلطة الغيبية غير المستندة.

وقالوا : لو أنّ أحداً طلب من أحد الصالحين ـ حيّاً كان أم ميتاً ـ شفاء علّته أو رد ضالّته أو أداء دينه ، فهذا ملازم لاعتقاد السلطة الغيبية في حق ذلك الصالح وانّ له سلطة على الأنظمة الطبيعية ، الحاكمة على الكون بحيث يكون قادراً على خرقها وتجاوزها ، والاعتقاد بمثل هذه السلطة لغير الله عين الاعتقاد بألوهية ذلك المسئول ، وطلب الحاجة في هذا الحال يكون شركاً.

فلو طلب إنسان ظامئ الماء من خادمه فقد اتّبع الأنظمة الطبيعية لتحقّق مطلبه ، أمّا إذا طلب الماء من إمام أو نبي موارى تحت التراب ، أو عائش في مكان ناءٍ ، فانّ مثل هذا الطلب ملازم للاعتقاد بسلطة غيبية لهذا النبي ، أو الإمام على نحو ما يكون لله سبحانه ، ومثل هذا عين الاعتقاد بألوهية المسئول!!

وممّن صرّح بهذا الكلام الكاتب أبو الأعلى المودودي إذ يقول :

«صفوة القول إنّ التصوّر الذي لأجله يدعو الإنسان الإله ، ويستغيثه ، ويتضرّع إليه هو ـ لا جرم ـ تصوّر كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة وللقوى الخارجة عن دائرة نفوذ قوانين الطبيعة» (١).

وهذا الكلام صريح في أنّه جعل الاعتقاد بهذه السلطة المهيمنة ملاكاً للاعتقاد بالألوهيّة ، وقد صرّح بذلك في موضع آخر من كتابه حيث جعل ملاك الأمر في باب الألوهية ، هو الاعتقاد بأنّ الموجود المسئول قادر على أن ينفع أو يضر

__________________

(١). المصطلحات الأربعة : ١٧.

١١٠

بشكل خارج عن إطار القوانين والسنن الطبيعية المألوفة إذ قال :

«فالذي يتخذ كائناً ما ولياً له ونصيراً وكاشفاً عنه السوء ، وقاضياً لحاجته ومستجيباً لدعائه ، وقادراً على أن ينفعه ، كل ذلك بالمعاني الخارجة عن نطاق السنن الطبيعية يكون السبب لاعتقاده ذلك ظنّه فيه انّ له نوعاً من أنواع السلطة على نظام هذا العالم ، وكذلك من يخاف أحداً ويتّقيه يرى أنّ سخطه يجر عليه الضرر ، ومرضاته تجلب له المنفعة لا يكون مصدر اعتقاده ذلك وعمله إلّا ما يكون في ذهنه من تصوّر أنّ له نوعاً من السلطة على هذا الكون ثمّ إنّ الذي يدعو غير الله ويفزع إليه في حاجته بعد إيمانه بالله العلي الأعلى فلا يبعثه على ذلك إلّا اعتقاده فيه أنّه له شركاً في ناحية من نواحي السلطة الألوهية» (١).

وصريح هذا الكلام هو التلازم بين القدرة على النفع والضرر ، والاعتقاد بالسلطة الألوهية ، وانّ كل قدرة على النفع والضرر من غير المجاري الطبيعية ينطوي على الألوهية ، بالملازمة.

وهذا جداً عجيب من المودودي.

إذ مضافاً ـ إلى أنّ الاعتقاد بالألوهيّة لا يستلزم الاعتقاد بالسلطة في الطرف الآخر ، بل يكفي الاعتقاد بكونه مالكاً للشفاعة والمغفرة كما كان عليه فريق من عرب الجاهلية ، إذ كانوا يعتقدون في شأن أصنامهم بأنّها آلهتهم ، لأنّها مالكة شفاعتهم ومغفرتهم ومعلوم ـ جيداً ـ انّ مالكية الشفاعة غير القول بوجود السلطة التي يراد منها : السلطة على عالم التكوين ـ إنّ الاعتقاد بالسلطة الغيبية الخارجة عن إطار السنن الطبيعية لا يوجب الاعتقاد بالألوهيّة.

__________________

(١). المصطلحات الأربعة : ٢٣ ، وفي موضع آخر صرّح بهذا الاستلزام إذ قال في ص ٣٠ : «إنّ كلاً من السلطة والألوهية تستلزم الأُخرى».

١١١

إنّ السلطة على الكون بجميعه ـ فضلاً عن بعضه ـ إذا كانت بأقدار الله تعالى وبإذن منه ـ فهي بنفسها ـ لا تلازم الألوهية ، فكما أنّ الله أعطى لآحاد الإنسان قدرة محدودة في أُمورهم العادية وفضّل بعضهم على بعض في تلك القدرة ، فكذلك لا مانع من أن يعطي لفرد أو أفراد من خيار عباده قدرة تامة غير عادية على جميع الكون ، أو بعضه ، وذلك بنفسه لا يستلزم الألوهية ، والذي يمكن أن يقع عليه الكلام هو البحث عن وجود تلك القدرة وأنّه سبحانه هل أعطى ذلك أو لا؟ والقرآن يصرّح بذلك في عدّة موارد ، منها ما ورد في شأن يوسف ـ عليه السلام ـ.

* النبيّ يوسف والسلطة الغيبية :

أمر يوسف ـ عليه السلام ـ إخوته بأن يأخذوا قميصه إلى أبيه ويلقوه على بصره ليرتدّ بصيراً كما يقول القرآن الكريم في هذا الشأن :

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) (يوسف ـ ٩٣).

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) (يوسف ـ ٩٦).

إنّ ظاهر الآية يعطي أنّ رجوع البصر إلى يعقوب كان بإرادة يوسف وانّه لم يكن فعلاً مباشرياً لله سبحانه وإنّما فعل ما فعله يوسف بقدرة مكتسبة منه سبحانه.

ولو كان إشفاء يعقوب مستنداً إلى الله سبحانه مباشرة بلا دخالة يوسف لما أمر إخوته أن يلقوا قميصه على وجه أبيهم ، بل يكفي هناك دعاؤه من مكان بعيد ، وليس هذا إلّا تصرّف لولي الله في الكون بإذنه سبحانه.

١١٢

* النبيّ موسى والسلطة على الكون :

ونظير هذا نجده في أنبياء آخرين كموسى ـ عليه السلام ـ ، إذ قيل له :

(اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) (البقرة ـ ٦٠).

فلو لم يكن لضربه بالعصا عن إرادته ، تأثير في تفجير الماء من الصخر لما أمر به الله سبحانه.

وربما يتصوّر أنّ موسى يضرب بعصاه ولكن الله هو الذي يفجّر الأنهار ، فهذا لا يدل على سلطة غيبية لموسى ، إذ غاية الأمر أنّ الله تعالى يفعل تفجير الأنهار عند ضربه ، لكنّه ضعيف يرجع إلى لغوية الأمر بالضرب بالعصا ، فانّ الضرب بالعصا ليس من قبيل الدعاء حتى يقال إنه سبحانه يجيب دعوته عند دعائه ، وعلى الجملة لا يمكن أن تنكر دخالة ضربه بالعصا وإرادته ذاك العمل في تفجّر الأنهار وإن كان إذنه سبحانه ومشيئته فوقه. ولا تدل الآية على أزيد من هذا.

ومثله قوله سبحانه :

(فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (الشعراء ـ ٦٣).

ودلالة هذه الآية على ما نرتئيه لا تقصر عن دلالة الآية السابقة.

* أصحاب سليمان والسلطة الغيبية :

أنّ مثل هذه السلطة الغيبية لم تقتصر على من ذكرنا بل يثبتها القرآن الكريم لأصحاب سليمان وحاشيته فها هو أحد حاشيته يضمن له ـ عليه السلام ـ بإحضار عرش ملكة سبأ قبل أن يقوم من مقامه ، وقبل أن ينفض مجلسه إذ قال سبحانه :

١١٣

(قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ* قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) (النمل : ٣٨ ـ ٣٩).

بل ويضمن له آخر من حواشيه أن يحضر العرش المذكور في أقل من طرفة عين إذ قال : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) (النمل ـ ٤٠).

ولم يتبيّن ـ إلى الآن ـ ما المراد من هذا العلم الذي كان يحمله قائل هذا القول : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) (١).

وسواء أكان المراد من ذلك هو العلم بخواص الأشياء الغريبة وكيفية معالجتها وإحضارها من مكان بعيد في أقل من طرفة عين ، أم كان المراد منه غيره.

وعلى أيّ تقدير فليس هذا العلم من سنخ العلوم الفكرية التي تقبل الاكتساب وتنال بالتعلّم ، وهذا يكفي في عدّ عمله خارقاً للنواميس العادية والسنن الطبيعية المكشوفة الرائجة.

وربما يحتمل أنّه إذا كان عمله مستنداً إلى عمله بغرائب خواص الأشياء المستورة على الناس لا يخرج عن كونه عملاً طبيعياً ، وإن كان يعد غريباً ولعلّه كان له علم بغرائب الخواص.

يلاحظ عليه بأنّه ـ مع أنّه احتمال غير مدعم بدليل ـ لا يخرج عمل العامل عن كونه قرين المعجزات وعديل الكرامات التي لا يقدر عليها إلّا أولياء الله سبحانه.

وقد احتمل بعض في باب المعجزات أن يكون عمل الآتي بها ، مستنداً إلى

__________________

(١). ذكر المفسّرون هناك أقوالاً واحتمالات ، فراجع الميزان : ١٥ / ٣٦٣.

١١٤

علمه بالسنن الطبيعية التي لم يقف عليها أحد من الناس ، فيتصرّف في الطبيعة لإحاطته بتلك القوانين غير المعروفة ، وليس هذا من العلوم الفكرية التي تقبل الاكتساب والتعلّم ، وهذا يكفي في عدِّه معجزة أو كرامة.

* النبيّ سليمان والسلطة الكونية :

ويصرّح القرآن كذلك بسلطة خارقة لسليمان ـ عليه السلام ـ في سور مختلفة :

١ ـ إنّه كان لسليمان سلطة على الجن والطير حتى أصبحت من جنوده :

(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ ...) (النمل ـ ١٧).

٢ ـ إنّه وهب السلطة على عالم الحيوانات حتى إنّه كان يخاطبهم ويهدّدهم ويطلب منهم تنفيذ أوامره :

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ* لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (النمل : ٢٠ ـ ٢١).

٣ ـ وإنّه سلّط على الجنّ فكانوا يعملون بأمره وإرادته.

(وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ... يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ) (سبأ : ١٢ ـ ١٣).

٤ ـ وإنّه سلّط على الريح أيّما تسليط :

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ) (الأنبياء ـ ٨١).

وعلى أيّ تقدير فأيّة سلطة أعظم وأوضح من هذه السلطة على عالم التكوين التي كانت لسليمان ، والجدير بالذكر أنّ بعض الآيات صرّحت بأنّ كل هذه الأُمور غير العادية كانت تتحقّق له بأمره.

١١٥

* النبيّ المسيح والسلطة الغيبية :

ومثله ما صدر عن عيسى المسيح ـ عليه السلام ـ من تصرّف يكشف عن وجود سلطة خارقة للعادة ، إذ كان يخلق من الطين كهيئة الطير وينفخ فيه فيكون طيراً يتحرك ويطير ، أو يعالج ما استعصى من الأمراض والعلل دون ما آلة أو دواء ، كما يحدّثنا القرآن الكريم حيث يقول :

(أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران ـ ٤٩).

والجدير بالذكر أنّ الله يصرّح في آية أُخرى بأنّ هذه التصرّفات كانت نتيجة فعل عيسى نفسه ، الكاشف عن سلطته نفسه (وإن كانت مستندة إلى الله مآلاً) إذ يقول تعالى :

(وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) (المائدة ـ ١١٠).

ولمّا كان صدور هذه الآيات منه مستنداً إلى الله تعالى من غير أن يستقل عيسى بشيء منها كرر جملة (بِإِذْنِ اللهِ) في كل مورد ، لكيلا يضل فيه الناس فيعتقدوا بألوهيته ، لصدور تلك الآيات منه ، ولأجل ذلك قيد المسيح كل آية يخبر بها عن نفسه كالخلق وإحياء الموتى ب «إذن (اللهِ) ثمّ ختم الكلام في آية أُخرى بقوله :

(إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (آل عمران ـ ٥١).

وظاهر قوله : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ) صدور هذه الآيات منه في الخارج ولم يكن الهدف منه مجرد الاحتجاج والتحدي ، ولو كان المراد ذلك لكان حق الكلام تقييده بقوله : إن سألتم أو أردتم.

١١٦

على أنّ ما يحكيه الله سبحانه عنه ويخاطبه به يوم القيامة ، يدل على وقوع هذه الآيات أتم دلالة حيث قال :

(وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى ...)

وهاهنا يبرز سؤال وهو : إذا كان الإخبار عن الغيب آية من آياته المعجزة فلما ذا لم يقيّده ب «إذن الله» فيما سبق : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ) كما قيّد الآيات الأُخر بهذا القيد مع أنّ الإتيان بكل آية من آيات الرسل مقيد بإذن الله سبحانه حيث يقول :

(وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (غافر ـ ٧٨).

والإجابة عن هذا السؤال واضحة : فإنّ الأخبار عن ما يأكله الناس ويدّخرونه في بيوتهم ليس كالخلق والإحياء وإبراء الأكمه والأبرص ، فإنّ القلوب الساذجة تقبل وتتوهّم ألوهية خالق الطير ومحيي الموتى ومبرئ الأكمه والأبرص بأدنى وسوسة ومغالطة بخلاف ألوهية من يخبر عن المغيّبات ، فإنّها لا تذعن بالاختصاص الغيب بالله سبحانه ، بل تعتقده أمراً يناله كل مرتاض أو كاهن ، ولأجل ذلك لم ير حاجة إلى تقييده ب «إذن الله» (١).

سؤال آخر هو : أنّ قوله سبحانه : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) مشتمل على أُمور :

١ ـ خلق هيئة الطير من الطين.

٢ ـ النفخ في تلك الهيئة.

٣ ـ صيرورتها طيراً بإذن الله.

__________________

(١). الميزان : ٣ / ٢١٨.

١١٧

وما هو فعل عيسى ـ عليه السلام ـ إنّما هو الأوّلان ، والثالث خارج عن فعله ، بل هو فعل الله بقرينة تقييد الثالث بإذن الله دون الأوّل والثاني.

وعلى الجملة للخلق معنيان :

١ ـ الإيجاد من العدم.

٢ ـ التقدير.

والمتعيّن في المقام هو المعنى الثاني ، والإيجاد من العدم إنّما يتصوّر فيما لم تكن هنا مادة متحوّلة ، والمفروض وجود «الطين» في المقام وما صدر عن عيسى هو «التقدير» أعني : تقدير الطين كهيئة الطير ، وبقي الثالث وهو صيرورته طيراً حقيقياً فهو فعل الله يتحقّق بإذنه سبحانه ، فلم يبق هنا فعل غير عادي يصح استناده إلى المسيح ـ عليه السلام ـ.

أمّا الجواب فنقول أوّلاً : إنّا لا نُسَلّم بأنّ قوله تعالى : (بِإِذْنِ اللهِ) راجع إلى الأمر الثالث ، بل من المحتمل جداً رجوعه إلى الأُمور الثلاثة ، والشاهد عليه أنّه قيّد الأمر الأوّل من سورة المائدة بهذا القيد حيث قال سبحانه :

(وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) (المائدة ـ ١١٠).

وعلى ذلك فلا يدل تقييد الأمر الثالث بإذن الله على أنّ الأمرين الأوّلين فعل عيسى والأمر الثالث فعل الله سبحانه ، بل الكلّ فعله ـ عليه السلام ـ من جهة ، وفعل الله من جهة أُخرى.

وثانياً : لو سلّمنا ذلك التكلّف في خلق الطير ، فما ذا يمكن ان يقال في إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، التي هي من أفعال الله ، كصيرورة الطين طيراً ، فقد نسبه الله إلى نفسه ، وقال :

١١٨

(أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) (آل عمران ـ ٤٩).

حتى أنّ الله سبحانه نسبها إلى المسيح وخاطبه بها وقال :

(وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) (المائدة ـ ١١٠).

على أنّ الله يصف طائفة من ملائكته أيضاً بهذه السلطة فيقول عن جبرئيل بأنّه :

(شَدِيدُ الْقُوى) (النجم ـ ٥).

أي قواه العلمية كلّها شديدة فيعلم ويعمل (١) وكيف لا يكون ذا قوة وقد اقتلع قرى قوم لوط فرفعها إلى السماء ثمّ قلبها ، ومن شدة قوته صيحته على قوم ثمود حتى هلكوا (٢) ولو كان المراد من شديد القوى هو جبرائيل فقد وصفه الله في موضع آخر بقوله :

(ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) (التكوير ـ ٢٠).

ومن هذا هو شأنه فله السلطة الغيبية بإذن الله سبحانه على الكون.

وهل هناك سلطة غيبية أظهر من هذه التي يثبتها القرآن الكريم لفريق من عباد الله وأوليائه ، فإذا كان الاعتقاد بالسلطة الغيبية لأحد ملازماً للاعتقاد بألوهيته لزم أن يكون جميع هؤلاء : آلهة من وجهة نظر القرآن ، بل لا بد من القول بأنّ تحصيل مثل هذه السلسلة الغيبية أمر ممكن لأشخاص آخرين ـ حتى غير الأنبياء ـ عن طريق العبادة.

فالعبادة ـ التي يتصوّر أغلبية الناس أنّ آثارها تنحصر في جلب رضاء الله ، ودفع غضبه فقط ـ ربّما تمنح الروح قدرة عظيمة ، وبعداً أعمق من ذلك.

__________________

(١). مجمع البيان : ٥ / ١٧٣.

(٢). مفاتيح الغيب للرازي : ٧ / ٧٠٢.

١١٩

فالعبادة ذات تأثير جداً عظيم ، وفي الباطن ، والروح.

إذ الانتهاء عن المحرّمات ، والمكروهات ، والتزام الواجبات والمستحبات ، الإخلاص فيها ذو أثر عظيم ، وعميق في تقوية الروح ، وتجهيزها بقدرة خاصة خارقة للقوانين والسنن بحيث تكون الروح منشأ لآثار خارقة للعادة.

وهذا هو ما أشارت إليه أحاديث صحاح منها : ما روي في الحديث القدسي عن قوله تعالى :

«ما تقرّب إليَّ عبد بشيء أحبّ إليَّ مما افترضت عليه ، وانّه ليتقرب إليَّ بالنافلة حتى أحبّه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها» (١).

فالحق : أنّ السلطة الغيبية التي أعطاها سبحانه لخيار عباده ليتصرّفوا في الكون بإذنه ومشيئته ، ويخرقوا قوانين الطبيعة في مجالات خاصة لا تستلزم الاعتقاد بالألوهيّة ، ولا يكون صاحبها نداً وشريكاً لله تعالى.

نعم ، الاعتقاد بالسلطة الغيبية «المستقلة» من دون أن تكون مستنداً إليه سبحانه هو الموجب للاعتقاد بالألوهيّة ، وقد قال سبحانه في هذا الصدد :

(وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (الرعد ـ ٣٨).

__________________

(١). أصول الكافي : ١ / ٣٥٢ ، روى هذا الحديث باسناد صحيح ، والرواية ظاهرة في أنّ العبادة تخلق للنفس قدرة خارقة ممّا لا ينكر ، واحتمال أنّ المقصود منها أنّ فعل العبد يكون محفوفاً برضاء الله سبحانه ، وأنّه لا يفعل ولا يترك إلّا ما فيه رضاه ، احتمال مرجوح جداً ، فانّ الحركة على طبق رضاه طيلة الحياة ، ليست أثر خصوص فعل الصلوات ـ فرائضها ونوافلها ـ بل هي قبل كل شيء إثر الإيمان بالله وثوابه وعقابه ، لا الإقبال على الفرائض والنوافل ، ولو كان لهذه الأفعال تأثير في تلك الحركة فليكن للصوم والحج والجهاد ، تأثير أيضاً ، فلما ذا لم يذكرها؟

فعلم أنّ للصلاة ـ فريضتها ونافلتها ـ تأثيراً في تقوية النفس والروح وترفعتها إلى حدّ يقدر معه الإنسان ، على أن يكون مظهراً لله سبحانه في بصره وسمعه. وبطشه وتكلّمه ، فيبصر ببصره ، ويسمع بسمعه ، ما لا يبصر ولا يسمع بغيره.

١٢٠