تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات - ج ٣

السيّد علي الحسيني الميلاني

تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٤
ISBN: 964-2501-06-6
الصفحات: ٤٤٠

وأخرجه الطبري أيضاً في الجزء الثاني من كتابه : تاريخ الأُمم والملوك (١).

وأرسله ابن الأثير إرسال المسلّمات في الجزء الثاني من كامله (٢) ، عند ذكره أمر اللّٰه نبیّه بإظهار دعوته.

وأبو الفداء في الجزء الأوّل من تاريخه (٣) ، عند ذكره أوّل من أسلم من الناس.

ونقله الإمام أبو جعفر الإسكافي المعتزلی في كتابه : نقض العثمانيه ، مصرّحاً بصحّته (٤).

وأورده الحلبي في باب استخفائه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم وأصحابه في دار الأرقم (٥) ، من سيرته المعروفه.

__________________

(١) ص ٣٢٠ ـ ٣٢٢ ، بطرق مختلفه.

(٢) ص ٦٠.

(٣) ص ١١٦.

(٤) كما في ص ٢٤٤ من المجلّد ١٣ من شرح نهج البلاغه لابن أبي الحدید ، طبع مصر. أمّا كتاب نقض العثمانيه ، فإنّه ممّا لا نظير له ، فحقيق بكلّ بحّاث عن الحقائق أن يراجعه ، وهو موجود في ص ٢١٥ وما بعدها إلی ص ٢٩٥ من المجلّد ١٣ من شرح النهج ، في شرح آخر الخطبه القاصعه.

(٥) راجع الصفحه الرابعه من ذلك الباب ، أو ص ٢٨٣ من الجزء الأوّل من السيرة الحلبية ، ولا قسط لمجازفه ابن تيميّة وتحكماته التی أوحتها إليه عصبيته المشهوره.

وهذا الحديث أورده الكاتب الاجتماعی المصری محمّد حسين هيكل ، فراجع العمود الثاني من الصفحه الخامسه من ملحق عدد ٢٧٥١ من جريدته (السياسه) الصادر في ١٢ ذی القعده سنه ١٣٥٠ ، تجده مفصّلاً ، وإذا راجعت العمود الرابع من صفحه ٦ من ملحق عدد ٢٧٨٥ من (السياسه) تجده ينقل هذا الحديث عن كلّ من : مسلم في صحيحه ، وأحمد في مسنده ، وعبد اللّٰه بن أحمد في زيادات المسند ، والهيثمي في مجمع الزوائد ، وابن قتيبه في

١٤١

وأخرجه بهذا المعني مع تقارب الألفاظ غير واحد من أثبات السُنّة وجهابذه الحديث ، كالطحاوی ، والضياء المقدسی في المختاره ، وسعيد بن منصور في السُنن.

وحسبك ما أخرجه أحمد بن حنبل من حديث عليّ في ص ١٧٨ وفي ص ٢٥٧ من الجزء الأوّل من مسنده ، فراجع.

وأخرج في أوّل ص ٥٤٤ من الجزء الأوّل من مسنده أيضاً حديثاً جليلاً عن ابن عبّاس يتضمّن هذا النصّ في عشر خصائص ممّا امتاز به عليّ علی من سواه.

وذلك الحديث الجليل أخرجه النسائي أيضاً عن ابن عبّاس في ص ٥٢ من خصائصه العلويه ، والحاكم في ص ١٣٢ من الجزء الثالث من صحيحه المستدرك ، وأخرجه الذهبي في تلخيصه معترفاً بصحّته.

ودونك الجزء السادس [١٣] من كتاب كنز العمّال ، فإنّ فيه التفصيل (١).

__________________

عيون الأخبار ، وأحمد بن عبد ربّه في العقد الفريد ، وعمرو بن بحر الجاحظ في رسالته عن بني هاشم ، والإمام أبي إسحاق الثعلبي في تفسيره ..

قلت : ونقل هذا الحديث جرجس الانگليزي في كتابه الموسوم مقاله في الإسلام ، وقد ترجمة إلی العربيه ذلك الملحد البروتستانتی الذي سمّی نفسه بهاشم العربی ، والحديث تجده في صفحه ٧٩ من ترجمة المقاله في الطبعه السادسه.

ولشهره هذا الحديث ذكره عدّه من الإفرنج في كتبهم الفرنسيه والانگليزيه والألمانيه ، واختصره توماس كارليل في كتابه الأبطال.

(١) راجع منه : الحديث ٣٦٣٧١ في ص ١١٤ تجده منقولاً عن ابن جرير .. والحديث ٣٦٤٠٨ في ص ١٢٨ تجده منقولاً عن أحمد في مسنده ، والضياء المقدسی في المختاره ، والطحاوی ، وابن جرير وصحّحه .. والحديث ٣٦٤١٩ في ص ١٣١ تجده منقولاً عن

١٤٢

وعليك ب : منتخب الكنز وهو مطبوع في هامش مسند الإمام أحمد ، فراجع منه ما هو في هامش ص ٤١ إلی ص ٤٣ من الجزء الخامس تجد التفصيل ؛ وحسبنا هذا ونعم الدليل (١).

تصحيح هذا النصّ :

لو لا اعتباری صحّته من طريق أهل السُنّة ما أوردته هنا.

علی أن ابن جرير ، والإمام أبا جعفر الإسكافي ، أرسلا صحّته إرسال المسلّمات (٢).

وقد صحّحه غير واحد من أعلام المحقّقين.

وحسبك في تصحيحه ثبوته من طريق الثقات الأثبات ، الّذين احتجّ بهم أصحاب الصحاح بكلّ ارتياح.

ودونك ص ١٧٨ من الجزء الأوّل من مسند أحمد ، تجده يخرج هذا

__________________

ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبي نعيم ، والبيهقي في شعب الإيمان وفي الدلائل .. والحديث ٣٦٤٦٥ ص ١٤٩ تجده منقولاً عن ابن مردويه .. والحديث ٣٦٥٢٠ في ص ١٧٤ تجده منقولاً عن أحمد في مسنده ، وابن جرير ، والضياء في المختاره .. ومن تتّبع كنز العمّال وجد هذا الحديث في أماكن أُخر شتّی ، وإذا راجعت ص ٢٥٥ من المجلّد الثالث من شرح النهج للإمام المعتزلی الحديدي ، أو أواخر شرح الخطبه القاصعه منه ، تجد هذا الحديث بطوله.

(١) المراجعات : ١١٠ ـ ١١٢.

(٢) راجع : الحديث ٣٦٤٠٨ من أحاديث الكنز في ص ١٢٨ من جزئه الثالث عشر تجد هناك تصحيح ابن جرير لهذا الحديث ، وإذا راجعت من منتخب الكنز ما هو في أوائل هامش ص ٤٣ من الجزء ٥ من مسند أحمد تجد تصحيح ابن جرير لهذا الحديث أيضاً.

أمّا أبو جعفر الإسكافي فقد حكم بصحّته جزماً في كتابه نقض العثمانيه ، فراجع ما هو موجود في ص ٢٤٤ من المجلّد ١٣ من شرح نهج البلاغه للحديدي ، طبع مصر.

١٤٣

الحديث عن أسود بن عامر (١) ، عن شریك (٢) ، عن الأعمش (٣) ، عن المنهال (٤) ، عن عباد بن عبد اللَّه الأسدی (٥) ، عن عليّ مرفوعاً.

وكلّ واحد من سلسله هذا السند حجّه عند الخصم ، وكلّهم من رجال الصحاح بلا كلام ، وقد ذكرهم القیسراني في كتابه الجمع بين رجال الصحيحين ؛ فلا مندوحه عن القول بصحّه الحديث.

علی أنّ لهم فيه طرقاً كثيره يؤيّد بعضها بعضاً ، وإنّما لم يخرجه الشيخان وأمثالهما ؛ لأنّهم رأوه يصادم رآيهم في الخلافه ، وهذا هو السبب في إعراضهم عن كثير من النصوص الصحيحه ، خافوا أن تكون سلاحاً للشيعه ، فكتموها وهم يعلمون ..

وإنّ كثيراً من شيوخ أهل السُنّة ـ عفا اللّٰه عنهم ـ كانوا علی هذه الوتيره ، يكتمون كلّ ما كان من هذا القبيل ، ولهم في كتمانه مذهب معروف ، نقله عنهم الحافظ ابن حجر في فتح الباری.

وعقد البخاري لهذا المعني باباً في أواخر كتاب العلم من الجزء الأوّل من

__________________

(١) احتجّ به البخاري ومسلم في صحيحيهما ، وقد سمع شعبه عندهما ، وسمع عبد العزيز بن أبي سلمه عند البخاري ، ، وسمع عند مسلم زهير بن معاوية ، وحمّاد بن سلمه ، روی عنه في صحيح البخاري محمّد بن حاتم بن بزيع ، وروی عنه في صحيح مسلم هارون بن عبد اللَّه ، والناقد ، وابن أبي شيبه ، وزهير.

(٢) احتجّ به مسلم في صحيحه ، كما أوضحناه عند ذكره في المراجعه ١٦.

(٣) احتجّ به البخاري ومسلم في صحيحيهما ، كما بيناه عند ذكره في المراجعه ١٦.

(٤) احتجّ به البخاري ، كما أوضحناه عند ذكره في المراجعه ١٦.

(٥) هو عباد بن عبد اللَّه بن الزبير بن العوّام القرشي الأسدي ، احتجّ به البخاري ومسلم في صحيحيهما ، سمع أسماء وعائشه بنتی أبي بكر ، وروی عنه في الصحيحين ابن أبي مليكه ، ومحمّد بن جعفر بن الزبير ، وهشام بن عروه.

١٤٤

صحيحه ، فقال (١) : (الباب من خصّ بالعلم قوماً دون قوم).

ومن عرف سريره البخاري تجاه أمير المؤمنين وسائر أهل البيت ، وعلم أنّ يراعته ترتاع من روائع نصوصهم ، وأنّ مداده ينضب عن بيان خصائصهم ، لا يستغرب إعراضه عن هذا الحديث وأمثاله ، ولا حول ولا قوّه إلّا باللّٰه العليّ العظيم.

الوجه في احتجاجنا بهذا الحديث.

الخلافه الخاصّه منفيه بالإجماع.

النسخ هنا محال.

إنّ أهل السُنّة يحتجّون في إثبات الإمامه بكلّ حديث صحيح ، سواء كان متواتراً أو غير متواتر ، فنحن نحتجّ عليهم بهذا لصحّته من طریقهم ، إلزاماً لهم بما ألزموا به أنفسهم ، وأمّا استدلالنا به علی الإمامه فیما بيننا ، فإنّما هو لتواتره من طریقنا كما لا يخفي.

ودعوی : أنّه إنّما يدلّ علی أنّ عليّاً خليفه رسول اللّٰه في أهل بيته خاصّه ، مردوده بأنّ كلّ من قال بأنّ عليّاً خليفه رسول اللّٰه في أهل بيته ، قائل بخلافته العامّه ، وكلّ من نفي خلافته العامّه ، نفي خلافته الخاصّه ، ولا قائل بالفصل ، فما هذه الفلسفه المخالفه لإجماع المسلمین؟!

وما نسيت فلا أنسَ القول بنسخه ، وهو محال عقلاً وشرعاً ، لأنّه من النسخ قبل حضور زمن الابتلاء كما لا يخفي ، علی أنّه لا ناسخ هنا إلّا ما زعمه من إعراض النبيّ عن مفاد الحديث ..

__________________

(١) في ص ٦٧.

١٤٥

وفيه : إنّ النبيّ صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم لم يعرض عن ذلك ، بل كانت النصوص بعده متوإليه ومتواتره ، يؤيّد بعضها بعضاً ، ولو فرض أن لا نصّ بعده أصلاً ، فمن أین علم إعراض النبيّ عن مفاده ، وعدولة عن مؤدّاه؟! (إِنْ يتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمٰا تَهْوَی الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جٰاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدیٰ) (١) ، والسلام».

أقول :

يقع الكلام في هذا المقام في جهات :

الجهه الأُولي : في متن الحديث ورواته.

لقد روی الشيخ علی المتّقی الهندی هذا الحديث في كتاب كنز العمّال بعدّه ألفاظٍ ، عن جمعٍ كثير من أئمّة الحديث ، ونحن نورد هنا محلّ الحاجه ، ومن أراد النصوص الكامله فليرجع إليه :

(٣٦٤٠٨) ـ «...عن عليّ ، قال : لمّا نزلت هذه الآيه (وَأَنْذِرْ عَشِیرَتَك الْأَقْرَبين) (٢) جمع النبيّ صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم من أهل بيته ، فاجتمع ثلاثون ، فأكلوا وشربوا ، فقال لهم : من يضمن عني ديني ومواعیدی ويكون معی في الجنّه ويكون خليفتی في أهلی؟ وقال رجل : يا رسول اللّٰه؟ أنت كنت بحراً ، من يقوم بهذا؟! ثمّ قال الآخر. فعرض هذا علی أهل بيته واحداً واحداً.

فقال عليّ : أنا.

__________________

(١) سوره النجم ٥٣ : ٢٣.

(٢) سوره الشعراء ٢٦ : ٢١٤.

١٤٦

حم ، وابن جرير وصحّحه ، والطحاوی ، والضياء» (١).

(٣٦٤١٩) ـ «...عن عليّ ، قال : لمّا نزلت هذه الآيه علی رسول اللّٰه (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَك الْأَقْرَبين) ...تكلّم النبيّ صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم فقال : يا بني عبد المطّلب! إني ـ والله ـ ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ما جئتكم به ، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخره ، وقد أمرني اللّٰه أن أدعوكم إليه ، فأیّكم يؤازرني علی أمري هذا (٢)؟

فقلت ـ وأنا أحدثهم سنّاً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً ـ : أنا يا نبيّ اللّٰه أكون وزيرك عليه.

فأخذ برقبتی فقال : إنّ هذا أخی ووصيی وخليفتی فیكم ، فاسمعوا له وأطيعوا. فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع وتطيع لعليّ.

ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبو نعيم والبيهقي معاً في الدلائل» (٣).

(٣٦٤٦٥) ـ «...عن عليّ ، قال : لمّا نزلت هذه الآيه (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَك الْأَقْرَبين) دعا بني عبد المطّلب ...ثمّ قال لهم ـ ومدّ يده ـ : من يبايعني علی أن يكون أخی وصاحبي ووليّكم من بعدي؟!

__________________

(١) كنز العمّال ١٣ : ١٢٨ ـ ١٢٩ ، و «حم» : رمز أحمد في المسند ، و «الضياء» : هو المقدسی صاحب كتاب المختاره.

(٢) وفي تفسير البغوي ٤ : ٢٧٨ ـ الملتزم فيه بالصحّه ـ توجد هنا إضافه : «ويكون أخی ووصيي وخليفتی فيكم».

(٣) كنز العمّال ١٣ : ١٣١ ـ ١٣٣.

١٤٧

فمددت وقلت : أنا أبایعك ، وأنا يومئذٍ أصغر القوم ، عظيم البطن ، فبايعني علی ذلك ... (قال :) وذلك الطعام أنا صنعته.

ابن مردويه» (١).

(٣٦٥٢٠) ـ «...عن عليّ إنّه قيل له : كيف ورثت ابن عمّك دون عمّك؟!

فقال : جمع رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم بني عبد المطّلب ...فقال : يا بني عبد المطّلب! إني بعثت إليكم خاصّه وإلی الناس عامّهً ، وقد رأيتم من هذه الآيه ما رأيتم ، فأیّكم يبايعني علی أن يكون أخی وصاحبی ووارثی؟ فلم يقم إليه أحد ، فقمت إليه ـ وكنت من أصغر القوم ـ فقال : اجلس. ثمّ قال ثلاث مرّات. كلّ ذلك أقوم إليه فيقول لي : اجلس. حتّی كان في الثالثه ضرب بیده علی يدی. قال :

فلذلك ورثت ابن عمّی دون عمّی.

حم ، وابن جرير ، والضياء» (٢).

أقول :

وهذا سند الرواية الأُولي ـ التی رواها المتّقی برقم (٣٦٤٠٨) عن أحمد ، وابن جرير وصحّحه ، والطحاوی ، والضياء ـ في مسند أحمد : «أسود بن عامر ، ثنا شریك ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن عباد بن عبد اللَّه الأسدی ، عن عليّ» (٣).

وهذا سند الرواية الأخيره ـ التی رواها برقم (٣٦٥٢٠) عن أحمد ، وابن جرير ، والضياء ـ في مسند أحمد : «عفّان ، ثنا أبو عوانه ، عن عثمان بن المغيره ، عن

__________________

(١) كنز العمّال ١٣ : ١٤٩.

(٢) كنز العمّال ١٣ : ١٧٤.

(٣) مسند أحمد ١ : ١٧٨.

١٤٨

أبي صادق ، عن ربیعه بن ناجذ ، عن عليّ رضي اللّٰه عنه ، قال : جمع رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم بني عبد المطّلب ...» (١).

وقد أخرج الحافظ الهيثمي الرواية الأُولي ، ثمّ قال : «رواه احمد ، ورجاله ثقات» (٢).

وأخرج النسائي أيضاً الرواية الأخيره ـ بسند أحمد بن حنبل نفسه ـ في خصائص سيّدنا أمير المؤمنين عليه السلام (٣) ، وأهل العلم يعلمون بأنّ هذا الكتاب جزء من سنن النسائي .. ولا يخفي عليهم أيضاً صحّه السند المذكور.

وأخرجه الهيثمي : «عن عليّ ، قال : لمّا نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَك الْأَقْرَبين) ، قال رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم : يا عليّ! اصنع رجل شاهٍ بصاع من طعام واجمع لي بني هاشم ...فأكلوا وشربوا ، فبدرهم رسول اللّٰه فقال : أیّكم يقضی عني ديني؟ قال : فسكت وسكت القوم. فأعاد رسول اللّٰه المنطق. فقلت : أنا يا رسول اللّٰه. فقال : أنت يا عليّ ، أنت يا عليّ.

رواه البزّار ـ واللفظ له ـ وأحمد باختصار ، والطبراني في الاوسط باختصارٍ أيضاً ، ورجال أحمد وأحد إسنادی البزّار رجال الصحيح غير شريك وهو ثقه» (٤).

أقول :

فهذه نصوص الحديث ، وهؤلاء رواته ..

__________________

(١) مسند أحمد ١ : ٢٥٧.

(٢) مجمع الزوائد ٨ : ٣٠٢.

(٣) خصائص أمير المؤمنين عليّ : ٩٩ ح ٦٦.

(٤) مجمع الزوائد ٨ : ٣٠٢.

١٤٩

أمّا من حيث السند ، فقد رأيت كيف ينصّون علی صحّته ..

وأمّا من حيث الدلاله ، فكلُّ لفظٍ من ألفاظه دليل علی إمامه عليّ عليه السلام بعد رسول اللّٰه ، وهو بمجموع ألفاظه من أقوی النصوص سنداً ودلالهً علی ذلك.

ويضاف إلی جهه السند :

١ ـ الحديث من روايات تفسير الطبري ، وابن أبي حاتم الرازي ، والبغوي ، وقد احتجَّ ابن تيميّة في منهاج السُنّة بهذه الكتب (١) ، ووصف الطبري وابن أبي حاتم ـ في جماعهٍ من المفسّرين ـ بأنّهم : «لم يذكروا الموضوعات» (٢) ، وبأنّهم : «الّذين لهم في الإسلام لسان صدق ، وتفاسيرهم متضمّنه للمنقولات التی يعتمد عليها في التفسير» (٣).

٢ ـ الحديث من روايات كتاب المختاره للضياء المقدسی ، وهو ممّن التزم بالصحّه ، بل قال الحافظ ابن حجر ـ لإثبات صحّه أحد الأحاديث ـ : «قلت : وأخرجه الضياء في المختاره من المعجم الكبير للطبراني ... (قال :) وابن تيميّة يصرّح بأنّ أحاديث المختاره أصحّ وأقوی من أحاديث المستدرك» (٤).

٣ ـ الحديث من جمله الفضائل العشر المختصّه بأمير المؤمنين عليه السلام ، في الصحيح عن ابن عبّاس ، وسيأتي الكلام حوله بالتفصيل.

__________________

(١) انظر احتجاجه بتفسير البغوي في : منهاج السُنّة ١ : ٤٥٧.

(٢) منهاج السُنّة ٧ : ١٣.

(٣) منهاج السُنّة ٧ : ١٧٨ ـ ١٧٩.

(٤) فتح الباری بشرح صحيح البخاري ٧ : ٢١٧.

١٥٠

الجهه الثانية : في النظر في كلام ابن تيميّة :

والآن فلننظر في كلام ابن تيميّة حول هذا الحديث ، وهذا نصّه :

«هذا الحديث ليس في شيء من كتب المسلمين التی يستفيدون منها علم النقل ، لا في الصحاح ولا في المسانيد والسُنن والمغازي والتفسير التی يذكر فيها الإسناد الذي يحتجّ به ، وإذا كان في بعض كتب التفسير التی ينقل منها الصحيح والضعيف ، مثل تفسير الثعلبي والواحدي والبغوي بل وابن جرير وابن أبي حاتم ، لم يكن مجرّد روآيه واحدٍ من هؤلاء دليلاً علی صحّته ....

(قال :) إنّ هذا الحديث كذب عند أهل المعرفة بالحديث ، فما من عالمٍ يعرف الحديث إلّا وهو يعلم أنّه كذب موضوع ، ولهذا لم يرْوه أحد منهم في الكتب التی يرجع إليها في المنقولات ، لأنّ أدني من له معرفه بالحديث يعلم أنّ هذا كذب ....

(قال :) وقد رواه ابن جرير والبغوي بإسنادٍ فيه عبد الغفّار بن القاسم بن فهد أبو مریم الكوفي ، وهو مجمع علی تركه ...ورواه ابن أبي حاتم ، وفي إسناده عبد اللَّه بن عبد القدّوس ، وهو ليس بثقه ....

(قال :) إن بني عبد المطّلب لم يبلغوا أربعین رجلاً حين نزلت هذه الآيه ....

(قال :) ليس بنو هاشم معروفین بمثل هذه الكثره في الأكل ، ولا عرف فيهم من كان ياكل جذعهً ، ولا يشرب فرقاً ....

(قال :) إنّ الذي في الصحاح من نزول هذه الآيه غير هذا ..» (١).

__________________

(١) منهاج السُنّة ٧ : ٢٩٩ ـ ٣٠٧.

١٥١

أقول :

أوّلاً : إنّ هذا الحديث موجود في سُنن النسائي (١) ، ومسند أحمد ، ومسند البزّار ، وفي المعجم الأوسط للطبراني ، والمختاره للضياء ، وغيرها من كتب الحديث ...كما عرفت.

ورواه ابن إسحاق صاحب المغازي ..

وهو في كثير من التفاسير المعتمده.

وعرفت أنّ عدّهً من أسانيده صحيحه ، باعتراف الحافظ الهيثمي ، الذي هو عندهم من نقّاد الحديث ، وأنّ جمعاً من أكابرهم يقولون بصحّته .. وأنّ البيهقي وأبا نعيم الأصبهاني يجعلان القضية من دلائل النبوّه.

فكلام ابن تيميّة يشتمل علی أكاذيب لا كذبه واحده.

وثانياً : قد عرفت أنّ غير واحدٍ من أسانيده الصحيحه ليس فيه «عبد الغفّار ابن القاسم» ولا «عبد اللَّه بن عبد القدّوس».

وثالثاً : إنّ «عبد الغفّار بن القاسم» ليس بمجمعٍ علی تركه ، بل هو مختلف فيه ..

قال الحافظ ابن حجر : «قال أبو حاتم : ليس بمتروك ، وكان من رؤساء الشيعه» (٢).

ونقلوا عن شعبه بن الحجّاج أنّه كان يروی عنه ، ويثني عليه ، ويقول : لم أرَ أحفظ منه (٣).

__________________

(١) السُنن الكبری ٥ : ١٢٥ : ٨٤٥١.

(٢) تعجیل المنفعه : ٢٩٧.

(٣) تعجیل المنفعه : ٢٩٧.

١٥٢

وعن ابن عقده أنّه كان يثني عليه ويطریه ؛ قال ابن عدی ؛ وتجاوز الحدّ في مدحه حتّی قال : لو انتشر علم أبي مریم وخرّج حديثه لَما احتاج الناس إلی شعبه. قال ابن عدی : وإنّما مال إليه ابن عقده هذا الميل لإفراطه في التشيّع (١).

قلت : وإنّما تكلّم من تكلّم في أبي مریم ، لأنّه كان يحدّث ببلايا عثمان وعائشه (٢).

وقد بحثنا سابقاً عن هذا الموضوع بالتفصيل ، وذكرنا أنّ في رجال الصحاح من يتكلّم في الشيخين فضلاً عن عثمان ، وأنّ التشيّع أو الرفض غير مضرٍّ بالوثاقه ...فلا نعید.

ورابعاً : إنّ «عبد اللَّه بن عبد القدّوس» من رجال البخاري في التعالیق ، ومن رجال الترمذي ، وأخرج له أبو داوُد ، وذكره ابن حبّان في الثقات ..

وقال البخاري : هو في الأصل صدوق إلّا أنّه يروی عن أقوامٍ ضعاف ، وقال يحيی بن المغيره : أمرني جرير أنْ أكتب عنه حديثاً ، وقال ابن عدی : عامّه ما يرویه في فضائل أهل البيت (٣).

وهذا هو الذنب الوحید!! ولذا قال الحافظ في التقريب : «صدوق رمي بالرفض» (٤).

وقد تقدّم أنّ الرفض غير مضرّ.

وخامساً : إنّ التشكيك في صحّه الحديث بأنّ بني عبد المطّلب ما كانوا

__________________

(١) الكامل ـ لابن عدی ـ ٧ : ١٨.

(٢) تعجیل المنفعه : ٢٩٧.

(٣) تهذيب التهذيب ٥ : ٢٦٥.

(٤) تقريب التهذيب ١ : ٤٣٠.

١٥٣

يبلغون الأربعين ، وأنّهم ما كانوا بهذا القدر ياكلون ، لا يصغی إليه ، ولا رواج له عند مَن يفهمون ..

وكذلك المعارضه بما ورد في بعض كتبهم في شأن نزول الآيه ، فالحديث الذي نستند إليه متفق عليه ، ولا يعارضه ما انفردوا به ، كما لا يخفي علی أهل الدرآيه.

فالحقّ مع السيّد في قوله عن ابن تيميّة : «ولا قسط لمجازفه ابن تيميّة وتحكماته التی أوحتها إليه عصبيته المشهوره».

الجهه الثالثه : في دفع الشبهات.

ولبعض علماء القوم ـ من المتقدّمین والمتأخّرين ـ شبهات في هذا الاستدلال ، وإن كانت واضحه السقوط :

١ ـ «في مسند أحمد : (ويكون خليفتی) غير موجود ، بل هو من إلحاقات الرفضه» ، قاله ابن روزبهان في الردّ علی العلّامه الحلّی (١).

قلت :

قد عرفت أنّه موجود في مسند أحمد بن حنبل ، كغيره من المصادر.

٢ ـ هذا الحديث غير متواتر ، والإماميه لا يستدلّون في الإمامه إلّا بالمتواتر ؛ لأنّها عندهم من أُصول الدين.

٣ ـ هناك احتمال كونه منسوخاً.

٤ ـ غآيه ما يدلّ عليه كون عليّ خليفه له في أهل بيته.

__________________

(١) انظر : دلائل الصدق ٢ : ٣٥٩.

١٥٤

وهذه الشبهات أوردها السيّد ، وأجاب عنها ، فلا نكرّر.

الجهه الرابعه : في محاولات أُخری.

وإذْ لا سبيل للطعن في متن الحديث ، ولا في سنده ، ولا في مدلوله المصادم لرآيهم في الخلافه والهادم لأساس عقيدتهم ، فلا بدّ من الكتمان والإخفاء بشتّی الأنحاء ..

إمّا بعدم الذكر ؛ وهذا ما سلكه الكثيرون منهم في الموارد المختلفه ، ومشی عليه هنا غير واحدٍ ، كبعض المعاصرین ، من أمثال محمّد سعيد رمضان البوطی ، صاحب كتاب فقه السيره النبوية ، فإنّه كتب السيره النبوية كما شاء له هواه ، وقد سكت عن هذه القضية من الأساس.

وممّا يشهد بقول السيّد : «وإنّ كثيراً من شيوخ أهل السُنّة عفا اللّٰه عنهم كانوا علی هذه الوتيره ، يكتمون كلّ ما كان من هذا القبيل ، ولهم في كتمانه مذهب معروف» تصريحهم بالكتمان بلا أي خجلٍ ووجل .. فمثلاً :

* يقول ابن هشام في مقدّمه السيره : «وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب ...وأشياء بعضها يشنع الحديث به ، وبعضٌ يسوء بعض الناس ذكره» ..

ثمّ يقول ـ ضمن عنوان : «مباداه رسول اللّٰه قومه وما كان منهم» ـ : «ثمّ إنّ اللّٰه عزّ وجلّ أمر رسوله صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم أنْ يصدع بما جاءه منه ، وأنْ يبادیَ الناس بأمره وأنْ يدعو إليه ..

وكان بين ما أخفي رسول اللّٰه أمره واستتر به إلی أنْ أمره اللّٰه تعالی بإظهار دينه ثلاث سنين ـ في ما بلغني ـ من مبعثه ، ثمّ قال اللّٰه تعالی له : (فَاصْدَعْ بِمٰا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشركين) ، وقال تعالی : (وَأَنْذِرْ عَشِیرَتَك الْأَقْرَبين* وَاخْفِضْ جَنٰاحَك

١٥٥

لِمَنِ اتَّبَعَك مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١) (وَقُلْ إِني أَنَا النَّذِيرُ الْمُبين) (٢)» (٣).

قلت :

فقارن بين هذا وما رویناه عن المتّقی ، عن ابن إسحاق ، وما سننقله عن البيهقي راويا عنه!! لتری أن ابن إسحاق يروی لكنّ ابن هشام يكتم روايته ، والبيهقي يحرّفه!!

* ويقول الطبري : «وذكر هشام ، عن أبي مخنف ، قال : وحدّثني يزيد بن ظبيان الهمداني : إنّ محمّد بن أبي بكر كتب إلی معاوية بن أبي سفيان لمّا ولي ، فذكر مكاتبات جرت بينهما ، كرهت ذكرها ، لِما فيه ممّا لا يحتمل سماعها العامّه» (٤) ..

وسيأتي أنّ الطبري وضع في تفسيره كلمه : «كذا وكذا» بدل ألفاظ حديث الدار (٥).

* ويقول ابن الأثير في حوادث سنه ٣٠ : «وفي هذه السنه كان ما ذكر في أمر أبي ذرّ وإشخاص معاوية إياه من الشام إلی المدينه. وقد ذكر في سبب ذلك أُمور كثيره ...كرهت ذكرها» (٦).

أو بالتحريف ؛ ولهم فيه طرق :

__________________

(١) سوره الشعراء ٢٦ : ٢١٤ و ٢١٥.

(٢) سوره الحجر ١٥ : ٨٩.

(٣) السيره النبوية ـ لابن هشام ـ ١ : ٢٨٠.

(٤) تاريخ الطبري ٤ : ٥٥٧.

(٥) اللّٰهم إلّا أنْ تكون هذه الخيانه من غيره.

(٦) الكامل في التاريخ ٣ : ١١٣.

١٥٦

منها : وضع كلمه : «كذا وكذا» بدل الكلام ؛ كما صنع البخاري (١) في قضیهٍ مذكورهٍ بتمامها في صحيح مسلم (٢) ، وكما صنع أبو عبيد بكلام أبي بكر في تمنّياته في آخر حياته (٣) ، وله نظائر كثيره.

ومنها : وضع كلمه : «لأفعلنَّ ولأفعلنَّ» في موضع التهديد الصريح ؛ كما فعله ابن عبد البرّ وجماعه ، في كلام عمر لمّا هجموا علی بيت الزهراء الطاهرة (٤).

ومنها : وضع كلمه : «رجل» أو : «فلان» في موضع الاسم الصريح ؛ كما في نقل الهيثمي كلام أبي سفيان في النبيّ صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم وأُسرته (٥) ، وقد جاء اسمه صريحاً في روآيه ابن عدی (٦).

ومنها : بتر الخبر ؛ كما في روآيه البيهقي حديث الدار عن شيخه الحاكم النيسابوري ، عن طريق ابن إسحاق ، وهذا نصّه :

«أخبرنا محمّد بن عبد اللَّه الحافظ ، قال : حدّثنا أبو العبّاس محمّد بن يعقوب ، قال : حدّثنا أحمد بن عبد الجبّار ، قال : حدّثنا يونس بن بكير ، عن محمّد بن إسحاق ، قال : فحدّثني من سمع عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل واستكتمني اسمه ، عن ابن عبّاس ، عن عليّ بن أبي طالب رضي اللّٰه عنه ، قال : «لمّا نزلت هذه الآيه علی رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَك الْأَقْرَبين* وَاخْفِضْ جَنٰاحَك لِمَنِ اتَّبَعَك مِنَ المؤمنين) ، قال رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم : عرفت أني إن

__________________

(١) صحيح البخاري ٣ : ٥٣٥٨/٥١٣.

(٢) صحيح مسلم ٣ : ١٧٥٧/٢٨٢.

(٣) كتاب الأموال : ١٤٤.

(٤) الاستيعاب ٣ : ٩٧٥.

(٥) مجمع الزوائد ٨ : ٢١٥.

(٦) الكامل ـ لابن عدی ـ ٣ : ٢٨.

١٥٧

بادَأتُ بها قومی رأيت منهم ما أكره ، فصمتُّ عليها فجاءني جبریل عليه السلام فقال لي : يا محمّد! إنّك إن لم تفعل ما أمرك به رَبُّك عذَّبك ربّك.

قال عليّ : فدعاني فقال : يا عليّ! إنّ اللّٰه قد أمرني أن أنذر عشیرتی الأقربين فعرفت أني إن بادَأتُهم بذلك رأيت منهم ما أكره ، فصمتُّ عن ذلك ، ثمّ جاءني جبریل عليه السلام فقال : يا محمّد! إن لم تفعل ما أُمرتَ به عَذَّبَك رَبُّك.

فاصنع لنا يا عليّ رِجْلَ شاهٍ علی صَاعٍ من طعام ، وأعدَّ لنا عُسَّ لبنٍ ثمّ اجْمَعْ لي بني عبد المطّلب ، ففعلت.

فاجتمعوا له وهم يومئذٍ أربعون رجلاً ، يزیدون رجلاً أو ينقصونه ، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزه والعبّاس وأبو لَهَب الكافِرُ الخبیث ، فقدّمت إليهم تلك الجَفْنَه ، فأخذ رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم منها حُذْیَهً فشقَّها بأسنانه ثمّ رمي بها في نواحیها وقال : كلوا باسم اللّٰه ، فأكل القوم حتّی نَهِلوا عنه ما يری إلّا آثار أصابعهم ، والله إن كان الرجل منهم ياكلُ لیشرب مثلها.

ثمّ قال رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم : اسقِهِمْ يا عليّ! فجئت بذلك القَعْبِ فشربوا منه حتّی نَهلُوا جميعاً ، وأیمُ اللّٰه إن كان الرجل منهم لیشرب مثله.

فلمّا أراد رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم أن يكلّمَهُمْ بَدَرَهُ أبو لهَبٍ إلی الكلام ، فقال : لهدّما سَحركم صاحبكم. فتفرّقوا ولم يكلّمهم رسول اللّٰه ..

فلمَّا كان الغد ، قال رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم : يا عليّ! عُد لنا بمثل الذي كنت صنعت لنا بالأمس من الطعام والشراب ، فإنّ هذا الرجل قد بدرني إلی ما قد سمعت قبل أن أكلّم القوم ، ففعلت.

ثمّ جمعتهم له ، فصنع رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم كما صنع بالأمس ، فأكلوا حتّی نَهِلُوا عنه ، ثمّ سقیتُهُم فشربوا من ذلك القَعْبِ حتّی نَهِلوا عنه ،

١٥٨

وأيْمُ اللّٰه إن كان الرجل منهم لياكل مِثْلَها ويشربُ مثلها.

ثمّ قال رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم : يا بني عبد المطّلب! إني والله ما أعْلَمُ شابّاً من العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتُكم به ، إني قد جئتُكم بأمر الدنيا والآخره.

قال أبو عمر أحمد بن عبد الجبّار : بلغني أنّ ابن إسحاق إنّما سمِعَهُ من عبد الغفّار بن القاسم بن مَرْیم ، عن المِنْهَالِ بن عَمرو ، عن عبد اللَّه بن الحارث ، قال ابن إسحاق : وكان ما أخفي النبيّ صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم أمرَهُ واسْتَسرَّ بهِ إلی أن أُمِرَ بإظهارِهِ ثَلاثَ سنين من مَبْعَثِهِ».

قلت : وقد روی شریك القاضي عن المنهال بن عمرو ، عن عَبّادِ بن عبد اللَّه الأسدی عن عليّ في إطعامه اياهم بقَرِيبٍ من هذا المعني مُخْتصَراً» (١).

وكروآيه ابن الجوزي ، قال : «عن علی بن أبي طالب ...ثمّ تكلّم رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم فقال : يا بني عبد المطّلب! إني ـ والله ـ ما أعلم شابّاً من العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به ، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخره ، وقد أمرني ربّی أن أدعوكم إليه ، فأیّكم يؤازرني علی هذا الأمر علی أنْ يكون أخی؟! فأحجم القوم.

فقلت ـ وأنا أحدثهم سنّاً ـ أنا يا نبيّ اللّٰه ، فقام القوم يضحكون» (٢).

هذا ، ولهم كلمات جامعه في الأمر بالكتمان والإخفاء في كتب العقائد والكلام وسير الخلفاء ، لا نطیل المقام بذكرها هنا ، ونكتفي بكلام للذهبی في سير أعلام النبلاء عند الدفاع عن الشافعي ، بمناسبه ما وقع بينه وبين المالكیّه ، وتكلّم

__________________

(١) دلائل النبوه ٢ : ١٧٩ ـ ١٨٠.

(٢) الوفا بأحوال المصطفي ١ : ١٨٥.

١٥٩

بعضهم في بعض :

«قلتُ : كلامُ الأقرانِ إذا تبرهنَ لنا أنّه بهویً وعَصَبِیّه ، لا يلتَفتُ إليه ، بل يطوی ولا يروی.

كما تقرّر من الكفِّ عن كثير ممّا شَجَرَ بين الصحابهِ وقتالِهم رضي اللّٰه عنهم أجمعين ، وما زال يمُرُّ بنا ذلك في الدواوین والكتب والأجزاء ، ولكن أكثر ذلك منقطعٌ وضعيف ، وبعضُه كذِبٌ ، وهذا فیما بأیدينا وبين عُلمائِنا ، فینبغی طَیُّه وإخفاؤه ، بل إعدامُهُ لتَصفُوَ القلوبُ ، وتتوفّرَ علی حُبِّ الصحابه ، والترضي عنهم ، وكتمانُ ذلك مُتَعيّن عن العامّه وآحاد العُلماء ..

وقد يرخّص في مطالعهِ ذلك خلوهً للعالم المُنصِفِ العَرِیِّ من الهوی ، بشرطِ أن يستغفِرَ لهم ، كما علّمنا اللّٰهُ تعالی حيث يقول : (وَالَّذِينَ جٰاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يقولون رَبَّنَا اغْفِرْ لَنٰا وَلِإِخْوٰانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونٰا بِالْإِيمٰانِ وَلاٰ تَجْعَلْ في قُلُوبِنٰا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا ...) (١).

فالقوم لهم سوابق ، وأعمال مُكفِّرهٌ لِما وقع منهم ، وجهاد محاءٌ ، وعبادهٌ مُمَحِّصهٌ ، ولسنا ممّن يغلو في أحدٍ منهم ، ولا ندّعی فيهم العصمه ، نقطع بأنّ بعضَهم أفضلُ من بعض ، ونقطعُ بأنّ أبا بكر وعُمر أفضلُ الأُمّه ، ثمّ تتمّه العشره المشهود لهم بالجنّه ، وحمزه وجعفر ومعاذ وزيد ، وأُمّهات المؤمنين ، وبنات نبينا صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم ، وأهل بدر مع كونِهم علی مراتب ..

ثمّ الأفضلُ بعدهم ، مثلُ : أبي الدرداء وسلمان الفارسی وابن عُمر ، وسائر أهل بَیْعَهِ الرضوانِ الّذين رضي اللّٰه عنهم بنصّ آيه سوره الفتح ، ثمّ عموم المهاجرين والأنصار ، كخالد بن الوليد والعبّاس وعبد اللّٰه بن عمرو ، وهذه الحَلْبَه ..

__________________

(١) سوره الحشر ٥٩ : ١٠.

١٦٠