تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات - ج ٣

السيّد علي الحسيني الميلاني

تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٤
ISBN: 964-2501-06-6
الصفحات: ٤٤٠

١
٢

٣
٤

آيه سقايه الحاج

قوله تعالی : (أَجَعَلْتُمْ سِقٰايَهَ الْحٰاجِّ وَعِمٰارَهَ الْمَسْجِدِ ...) (١)

قال السيّد :

«وفيهم وفيمن فاخرهم بسقايه الحاجّ وعماره المسجد الحرام أنزل اللّٰه تعالی : (أَجَعَلْتُمْ سِقٰايَهَ الْحٰاجِّ وَعِمٰارَهَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ كمَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجٰاهَدَ في سَبِيلِ اللّٰهِ لاٰ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللّٰهِ وَاللّٰهُ لاٰ يَهْدِی الْقَوْمَ الظّٰالِمِينَ)».

قال في الهامش :

«نزلت هذه الآيه في عليّ وعمّه العبّاس وطلحة بن شيبه ؛ وذلك أنّهم افتخروا فقال طلحة : أنا صاحب البيت ، بيدي مفاتيحه وإلیَّ ثيابه. وقال العبّاس : أنا صاحب السقايه والقائم عليها. وقال علی : ما أدري ما تقولان! لقد صلّيت ستّه أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد. فأنزل اللّٰه تعالی هذه الآيه.

هذا ما نقله الإمام الواحدي في معني الآيه في كتاب أسباب النزول ، عن كلٍّ من الحسن البصری والشعبی والقرظی.

ونقل عن ابن سيرين ومرّه الهمداني أنّ عليّاً قال للعبّاس : ألا تهاجر؟ ألا

__________________

(١) سوره التوبه ٩ : ١٩.

٥

تلحق بالنبي صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم؟! فقال : ألستُ في أفضل من الهجره؟! ألست أسقی حاجّ بيت اللّٰه وأعمر المسجد الحرام؟! فنزلت الآيه» (١).

قيل :

«إنّ أمر هذا المؤلّف من أعجب العجب ، كانت الأمانه العلميّه تقتضیه أن يشير ـ مجرّد إشاره ـ إلی الرواية الأُولي عند الواحدي في سبب نزول هذه الآيه ، لكنّه لم يفعل! إذ وجدها تنقض استشهاده.

فقد روی مسلم في صحيحه ١٣ : ٢٦ من حديث النعمان بن بشير ، قال :

كنت عند منبر رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم فقال رجل : ما أُبالی أنْ لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلّا أنْ أسقی الحاجّ.

وقال الآخر : ما أُبالی أنْ لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلّا أنْ أعمر المسجد الحرام.

وقال آخر : الجهاد في سبيل اللّٰه أفضل ممّا قلتم.

فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم وهو يوم الجمعه ، ولكني إذا صلّيت الجمعه دخلت فاستفتيت رسول اللّٰه في ما اختلفتم فيه ؛ فنزلت هذه الآيه.

الطبري ١٤ : ١٦٩ ومسلم ١٣ : ٢٦ ، وأورده السيوطي في الدّر ٣ : ٢١٨ وزاد نسبته لأبي داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وأبي الشيخ وابن مردويه.

وهكذا ، ترك المؤلّف الرواية الصحيحه المسنده ، وعمد إلی الروايات

__________________

(١) المراجعات : ٣٥.

٦

الأُخری التی لا سند لها وبعضها مرسل ، وكلّها تسقط أمام الرواية الأُولي الصحيحه ، واستشهد بها ، علی أنّ في متن بعضها ما يشهد بعدم صحّتها ، فطلحة الذي يشير إليه المؤلّف لم يسلم وإنّما الذي أسلم هو عثمان بن طلحة».

أقول :

أوّلاً : إنّ مقصود السيّد رحمه اللّٰه في هذه المراجعه المطوّله التی تصلح لأنْ تكون كتاباً مستقلاً ـ هو إثبات إمامه أمير المؤمنين عليه السلام بعد رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم بلا فصل ، من القرآن الكريم ، علی ضوء روايات الفريقين وأقوال العلماء من الطرفين ؛ لأنّ المتّفق عليه أولي بالقبول في مقام البحث ، والحديث الذي استشهد به من هذا القبيل ، ورواته من أعلام القوم كثيرون كما سيأتي.

وأمّا الحديث الذي ذكره هذا المفتری فهو ممّا تفرّدوا به ، ولا يجوز لهم الاحتجاج به علينا بحسب قواعد المناظره ، كما صرّح به غير واحدٍ من أعلامهم كالحافظ ابن حزم الأندلسي (١).

وثانياً : إنّ الحديث الذي أخرجه مسلم وغيره. ليس فيه ذِكر لاسم أحدٍ ، فهو «قال رجل» و «قال آخر» و «قال آخر» ، أمّا الحديث الذي استدلّ به السيّد ففيه أسماء القائلين بصراحهٍ ، فنقول :

١ ـ أي فائدهٍ في هذا الحديث في مقام المفاضله بين الأشخاص؟!

٢ ـ وأي مناقضه بين هذا الحديث وبين الحديث الذي استشهد به السيّد؟!

__________________

(١) الفصل في الملل والأهواء والنحل ٣ : ١٢.

٧

٣ ـ بل إنّ الحديث الذي استند إليه السيّد يصلح لأنْ يكون مفسّراً لحديث مسلم ، الذي أبهم فيه أسماء القائلين!

وثالثاً : إنّ الحديث الذي رواه الواحدي قد أورده السيوطي في الدرّ المنثور كذلك (١) نَسَبَه إلی :

١ ـ عبد الرّزاق بن همّام الصنعاني ، وهو شيخ البخاري.

٢ ـ أبي بكر ابن أبي شيبه ، وهو شيخ البخاري.

٣ ـ محمّد بن جرير الطبري.

٤ ـ ابن أبي حاتم.

٥ ـ ابن المنذر.

٦ ـ ابن عساكر الدمشقي.

٧ ـ أبي نعيم الأصبهاني.

٨ ـ أبي الشيخ الأصبهاني.

٩ ـ ابن مردويه.

فهؤلاء الأئمه الأعلام من المحدّثين ... يروون هذه الرواية ، وبهم الكفايه!

ورابعاً : لقد ذكر المفسّرون الكبار من أهل السُنّة هذا الحديث بذيل الآيه المباركه ، بل إنّ بعضهم قدّمه في الذكر علی غيره من الأخبار والأقوال :

* قال الحافظ ابن كثير ـ وهو الذي يعتمد عليه أتباع ابن تيميّة ـ : «قال عبد الرزّاق : أخبرنا ابن عيينه ، عن إسماعيل ، عن الشعبی ، قال : نزلت في عليّ والعبّاس رضي اللّٰه عنهما بما تكلّما في ذلك.

__________________

(١) الدرّ المنثور في التفسير المأثور ٤ : ١٤٥ ـ ١٤٦.

٨

وقال ابن جرير : حدّثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرت عن أبي صخر ، قال : سمعت محمّد بن كعب القرظی يقول : افتخر طلحة بن شيبه من بني عبد الدار وعبّاس بن عبد المطلّب وعليّ بن أبي طالب ....

وهكذا قال السدّی إلّا أنّه قال : افتخر عليّ والعبّاس وشيبه بن عثمان ؛ وذكر نحوه.

وقال عبد الرزّاق : أخبرنا معمر ، عن عمرو ، عن الحسن ، قال : نزلت في عليّ وعبّاس وشيبه ، تكلّموا في ذلك ....

ورواه محمّد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ؛ فذكر نحوه».

وهنا أورد ابن كثير الحديث الآخر ووصفه ب «المرفوع» فقال : «وقد ورد في تفسير هذه الآيه حديث مرفوع ، فلا بُدّ من ذِكره هنا ، قال عبد الرزّاق : أخبرنا معمر ، عن يحيی بن أبي كثير ، عن النعمان بن بشير ...» (١).

أقول :

فأمر هؤلاء المفترين من أعجب العجب! كيف يُعرضون عن الحديث المعتبر ، المروی من طرقهم بالأسانيد الكثيره ، المتّفق عليه بين المسلمين ، الواضح في دلالته ، الصريح في معناه ، ويذكرون في مقابله حديثاً مبهماً في معناه ، تفرّد به بعضهم ، ولم يعبأ به جُلّهم ، ثمّ يتّهمون علماء الطائفه المحقّه بعدم الأمانه العلميه؟!

إنّهم طالما يستندون إلی روايات ابن كثير وأمثاله ، أمّا في مثل هذا المقام فلا يعبأون بذلك ولا يرجعون إليه!!

إنّهم ينقلون ذلك الحديث عن الدرّ المنثور ويذكرون نسبته إلی من رواه من

__________________

(١) تفسير القرآن العظيم ٤ : ١٢٢.

٩

المحدّثين ، ولا يشيرون ـ ولا مجرّد إشاره ـ إلی وجود الحديث الذي رواه السيّد عن الواحدي في الدرّ المنثور عن عدّهٍ كبيره من أئمّتهم!!

* وقال القرطبی : «وظاهر هذه الآيه أنّها مبطله قول من افتخر من المشركين بسقايه الحاجّ وعماره المسجد الحرام ، كما ذكره السدّی ، قال : افتخر عبّاس بالسقايه ، وشيبه بالعماره ، وعليّ بالإسلام والجهاد ، فصدّق اللّٰه عليّاً وكذّبهما ... وهذا بين لا غبار عليه».

ثم إنّه تعرّض لحديث مسلم ، وذكر فيه إشكالاً ، وحاول دفعه بناءً علی وقوع التسامح في لفظ الحديث من بعض الرواه ، فراجعه (١).

أقول :

وبذلك يظهر أنّ في حديث مسلم إشكالاً في المعني والدلاله أيضاً!

* وقال الآلوسي بتفسير الآيه والمقصود بالخطاب في (أَجَعَلْتُمْ) :

«الخطاب إمّا للمشركين علی طريقه الالتفات ، واختاره أكثر المحقّقين ... وإمّا لبعض المؤمنين المؤثِرين للسقايه والعماره علی الهجره والجهاد ، واستُدِلّ له بما أخرجه مسلم ... وبما روی من طرق أنّ الآيه نزلت في علی كرّم اللّٰه وجهه والعبّاس ... وأيّد هذا القول بأنّه المناسب للإكتفاء في الردّ عليهم ببيان عدم مساواتهم عند اللّٰه تعالی للفريق الثاني ...» (٢).

أقول :

ومن هذا الكلام يفهم :

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ٨ : ٩١ ـ ٩٢.

(٢) روح المعاني ١٠ : ٦٧.

١٠

١ ـ أنْ لا تعارض بين حديث مسلم وحديثنا ، كما أشرنا من قبل.

٢ ـ إنّ لحديثنا طُرُقاً لا طريق واحد ، واعترف به الشوكاني أيضاً (١).

٣ ـ إنّه كان بعض المؤمنين يؤثِر السقايه والعماره علی الهجره والجهاد! فجاءت الآيه لتردّ عليهم قولهم ، بأنّ الفضل للهجره والجهاد دون غيرهما.

وتلخّص :

إنّ حديثنا معتبر سنداً ، وهو عندهم بطرقٍ ، في أوثق مصادرهم في الحديث والتفسير ، ودلالته علی أفضليه أمير المؤمنين عليه السلام من سائر الصحابه واضحه ؛ لأنّ الإمام قد استدلّ لأفضليّته بما يقتضی الفضل علی جميع الأُمّه ، وقد صدّق اللّٰه سبحانه عليّاً عليه السلام في ما قاله ، وإذا كان هو الأفضل فهو الأَولي بالإمامه والولايه العامّه بعد رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم.

وأمّا الحديث الوارد في كتاب مسلم فلا يعارض الحديث المذكور ، علی إنّه متفرّد به ، ومخدوش سنداً ودلالهً باعتراف أئمّتهم!

* * *

__________________

(١) فتح القدير ٢ : ٣٤٦.

١١

آيه ومن الناس من يشری

قوله تعالی : (وَمِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْرِی نَفْسَهُ ...) (١)

قال السيّد :

«وفي جميل بلائهم وجليل عنائهم قال اللّٰه تعالی : (وَمِنَ النّٰاسِ مَنْ يشْرِی نَفْسَهُ ابْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِ اللّٰهِ وَاللّٰهُ رَؤُفٌ بِالْعِبٰادِ) وقال : (إِنَّ اللّٰهَ اشْتَریٰ مِنَ المؤمنين أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوٰالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّهَ يُقٰاتِلُونَ في سَبِيلِ اللّٰهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عليه حَقًّا في التَّوْرٰاهِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفیٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللّٰهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكمُ الذي بٰايَعْتُمْ بِهِ وَذٰلِك هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* اَلتّٰائِبُونَ الْعٰابِدُونَ الْحٰامِدُونَ السّٰائِحُونَ الرّٰاكعُونَ السّٰاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّٰاهُونَ عَنِ الْمُنْكرِ وَالْحٰافِظُونَ لِحُدُودِ اللّٰهِ وَبَشِّرِ المؤمنين)».

قال في الهامش :

«أخرج الحاكم في الصفحه ٤ من الجزء ٣ من المستدرك عن ابن عبّاس ، قال : شری عليّ نفسه ولبس ثوب النبيّ ... الحديث ؛ وقد صرّح الحاكم بصحّته علی شرط الشيخين وإنْ لم يخرجاه ، واعترف بذلك الذهبي في تلخيص المستدرك.

__________________

(١) سوره البقره ٢ : ٢٠٧.

١٢

وأخرج الحاكم في الصفحه المذكوره أيضاً عن عليّ بن الحسين ، قال : إنّ أوّل من شری نفسه ابتغاء رضوان اللّٰه عليّ بن أبي طالب ، إذ بات علی فراش رسول اللّٰه. ثمّ نقل أبياتاً لعليّ أوّلها : وقيتُ بنفسی خيرَ من وطئ الحصا ومن طافَ بالبيت العتيق وبالحجر» (١)

فقيل :

«هذه الآيه من سوره البقره ، وهی مدنيّه بالاتّفاق. وقيل : نزلت لمّا هاجر صهیب وطلبه المشركون ، فأعطاهم ماله وأتی المدينه ، فقال له النبيّ صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم : ربح البيع أبا يحيی.

علی إنّ عليّاً رضي اللّٰه عنه ممّن شروا أنفسهم ابتغاء مرضاه اللّٰه ، ليس في ذلك شك».

أقول :

إنّه لا مناص للمتعصّبين من القوم من الالتزام بصحّه ما وافق الذهبي الحاكم النيسابوري في تصحيحه ؛ لأنّ ما يصحّحه الذهبي ـ علی شدّه تعصّبه ـ لا يمكنهم التكلّم فيه أبداً!

فإلی هذه الآيه ونزولها في هذه القضيّه أشار ابن عبّاس في قوله في حديث المناقب العشر ، التی اختصّ بها أمير المؤمنين عليه السلام : «وشری عليّ نفسه ، لبس ثوب النبيّ صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم ونام مكانه ...» (٢).

__________________

(١) المراجعات : ٣٥.

(٢) هذا الحديث من أصحّ الأحاديث وأثبتها كما نصّ عليه كبار الحفّاظ ، كابن عبد البرّ في

١٣

هذا ، ولا ينافي ذلك كون سوره البقره مدنيّه.

ودلاله الآيه المباركه بضميمه الحديث الصحيح علی أفضليه الإمام عليه السلام واضحه ، والأفضل هو الإمام بالاتّفاق.

* * *

__________________

الاستيعاب ، والمزّي في تهذيب الكمال ، وأخرجه أبو داود الطيالسي والنسائي وأحمد وكبار الأئمه الأعلام ... ولنا فيه رساله مستقله مطبوعه في ملحقات كتابنا الكبير نفحات الأزهار في خلاصه عبقات الأنوار الجزء : ١٨.

١٤

آيه الانفاق بالليل والنهار

قوله تعالی : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ بِالليل وَالنَّهٰارِ ...) (١)

قال السيّد :

«(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ بِالليل وَالنَّهٰارِ سِرًّا وَعَلاٰنِيَهً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاٰ خَوْفٌ عليهم وَلاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ)».

قال في الهامش :

«أخرج المحدّثون والمفسّرون وأصحاب الكتب في أسباب النزول بأسانيدهم إلی ابن عبّاس في قوله تعالی : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ بِالليل وَالنَّهٰارِ سِرًّا وَعَلاٰنِيَهً) قال : نزلت في عليّ بن أبي طالب ، كان عنده أربعه دراهم ، فأنفق بالليل واحداً وبالنهار واحداً وفي السرّ واحداً وفي العلانيه واحداً ... فنزلت الآيه.

أخرجه الإمام الواحدي في أسباب النزول بسنده إلی ابن عبّاس. وأخرجه أيضاً عن مجاهد ، ثمّ نقله عن الكلبي مع زياده فيه» (٢).

__________________

(١) سوره البقره ٢ : ٢٧٤.

(٢) المراجعات : ٣٦.

١٥

فقيل :

«هذه الرواية كذب علی ابن عبّاس ، وهی من روآيه عبد الوهّاب بن مجاهد ، عن أبيه ، عن ابن عبّاس.

وعبد الوهّاب بن مجاهد ، كذّبه سفيان الثوری ، وقال أحمد : ليس بشيء ضعيف الحديث ، وقال النسائي : ليس بثقه ولا يُكتب حديثه ، وقال وكيع : كانوا يقولون إنّه لم يسمع من أبيه ، وذكره يعقوب بن سفيان في باب من يُرغب عن الرواية عنهم ، وقال الحاكم : روی أحاديث موضوعه ، وقال ابن الجوزي : أجمعوا علی ترك حديثه.

وكذلك هی روآيه عن الكلبي.

راجع الحاشيه رقم ١٣.

ومع إنّ الواحدي سبق وذكر في هذه الآيه أربع روايات تخالف ما ذهب إليه المؤلّف ، إلّا أنّه اختار ما لم يصحّ لأنّه يؤيّد مذهبه ؛ فتأمّل سلامه منهجه.

وقد علّق شيخ الإسلام ابن تيميّة في ردّه علی ابن المطهّر في هذه الآيه بقوله : «لكن هذه التفاسير الباطله يقول مثلها كثير من الجهّال ...».

أقول :

قال الحافظ السيوطي في الدرّ المنثور بتفسير هذه الآيه :

«وأخرج عبد الرزّاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن عساكر ، من طريق عبد الوهّاب بن مجاهد ، عن أبيه ، عن ابن عبّاس ، في قوله : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ بِالليل وَالنَّهٰارِ سِرًّا وَعَلاٰنِيَهً) قال : نزلت في علی بن أبي طالب ، كانت له أربعه دراهم ، فأنفق بالليل درهماً وبالنهار

١٦

درهماً وسرّاً درهماً وعلانيهً درهماً» (١).

فمن رواه هذا الخبر :

١ ـ عبد الرزّاق بن همّام الصنعاني ، وهو شيخ البخاري.

٢ ـ عبد بن حميد ، وهو صاحب المسند المعروف.

٣ ـ ابن المنذر ، وهو المفسّر الكبير.

٤ ـ ابن أبي حاتم ، صاحب التفسير وغيره من الكتب المعتمده.

٥ ـ الطبراني ، صاحب المعاجم الثلاثه.

٦ ـ ابن عساكر ، حافظ الشام.

فقد أورد السيوطي هذا الحديث بذيل الآيه المذكوره ، ونسبه إلی هؤلاء الأعلام ، وهم يروونه عن عبد الوهّاب بن مجاهد ، عن أبيه ، عن ابن عبّاس.

ورواه الحافظ ابن الأثير بإسناده عن «عبد الرزّاق ، حدّثنا عبد الوهّاب بن مجاهد ، عن أبيه ، عن ابن عبّاس ... (ثم قال) :

ورواه عفّان بن مسلم ، عن وهيب ، عن أيّوب ، عن مجاهد ، عن ابن عبّاس ؛ مثله» (٢).

* ووردت الرواية في :

١ ـ تفسير القرطبی : «عن عبد الرزّاق : أخبرنا عبد الوهّاب بن مجاهد ، عن أبيه ، عن ابن عبّاس ، أنّه قال : نزلت في علی ...» (٣).

٢ ـ تفسير البغوي : «روی عن مجاهد ، عن ابن عبّاس رضي اللّٰه

__________________

(١) الدرّ المنثور ٢ : ١٠٠.

(٢) أُسد الغابه ٣ : ٦٠١.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ٣ : ٣٤٧.

١٧

عنهما ...» (١).

٣ ـ تفسير ابن كثير : «قال ابن أبي حاتم : حدّثنا أبو سعيد الأشجّ ، أخبرنا يحيی بن يمانه ، عن عبد الوهّاب بن مجاهد بن جبر ، عن أبيه ، قال : كان لعليّ أربعه دراهم ....

وكذا رواه ابن جرير ، من طريق عبد الوهّاب بن مجاهد ، وهو ضعيف.

لكن رواه ابن مردويه من وجهٍ آخر عن ابن عبّاس أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب» (٢).

٤ ـ تفسير الشوكاني : «وأخرج عبد الرزّاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن عساكر ، من طريق عبد الوهّاب بن مجاهد ، عن أبيه ، عن ابن عبّاس ، في هذه الآيه ...وعبد الوهّاب ضعيف ، ولكنْ قد رواه ابن مردويه من وجهٍ آخر عن ابن عبّاس» (٣).

٥ ـ تفسير الآلوسي : «واختُلف في من نزلت ، فأخرج عبد الرزّاق وابن المنذر ، عن ابن عبّاس رضي اللّٰه تعالی عنهما أنّها نزلت في عليٍّ كرّم اللّٰه تعالی وجهه ....

وفي روآيه الكلبي : فقال له رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم : ما حملك علی هذا؟ قال : حملني أنْ أستوجب علی اللّٰه تعالی الذي وعدني ؛ فقال له رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم : ألا إنّ ذلك لك» (٤).

__________________

(١) معالم التنزيل ١ : ٣٩٦.

(٢) تفسير القرآن العظيم ١ : ٧٠٨.

(٣) فتح القدير ١ : ٢٩٤.

(٤) روح المعاني ٣ : ٤٨.

١٨

وتلخّص :

١ ـ إنّ الحقّ مع السيّد في قوله : «أخرج المحدّثون والمفسّرون وأصحاب الكتب في أسباب النزول» ؛ فإنْ كان هؤلاء الأئمه الأعلام ، والحفّاظ الثقات ، كاذبين علی ابن عبّاس ، فما ذنبنا؟!

وإنْ كانت تفاسيرهم باطلهً ، وهم جهّال ، فما ذنبنا؟!

٢ ـ لكنّ الحديث بالسند المذكور ليس بكذبٍ ، وإلّا لم يورده ابن أبي حاتم في تفسيره الذي نصَّ ابن تيميّة علی خلوّه من الأكاذيب (١).

وهذا أحد مواضع تناقضات ابن تيميّة في منهاجه ، وما أكثرها!!

٣ ـ علی إنّه لو كان الإسناد المذكور ضعيفاً ، فقد روی عن ابن عبّاس بغير هذا الإسناد ، وقد تقدّم عن أُسد الغابه ، كما تقدّم التصريح بذلك من ابن كثير والشوكاني ؛ فهل جهل به ابن تيميّة ومقلّدوه ، أو تجاهلوه عناداً وكتموه؟!!

تنبيه :

قال بعض الكذّابين : «إنّ الآيه نزلت في أبي بكر حين تصدّق بأربعين ألف دينار! عشره بالليل وعشره بالنهار وعشره في السرّ وعشره في العلانيه!».

أورده النسفي (٢) ، والخطيب الشربيني (٣).

وتعرّض له الآلوسي فقال : «وقال بعضهم : إنّها نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي اللّٰه تعالی عنه ، تصدّق بأربعين ألف ... وتعقّبه الإمام السيوطي بأنّ حديث

__________________

(١) منهاج السُنّة ٧ : ١٣.

(٢) تفسير النسفي ١ : ١٥٣.

(٣) تفسير السراج المنير ١ : ١٨٣.

١٩

تصدّقه بأربعين ألف دينار رواه ابن عساكر في تاريخه عن عائشه رضي اللّٰه تعالی عنها ، وخبر أنّ الآيه نزلت فيه لم أقف عليه ...» (١).

أقول :

ويا ليته وضع لا علی لسان ابنته عائشه!!

ولربّما كان واضعه جاهلاً بمقدار الأربعين ألف دينار!!

ولعلّه كان يری أنّ هذه إحدی تصدّقات أبي بكر!!

ثمّ جاء أئمّة القوم يذكرون في البحوث الكلاميّه أنّ أبا بكر كان «ضعيف الحال ، عديم المال» (٢)!!

* * *

__________________

(١) روح المعاني ٣ : ٤٨.

(٢) شرح المقاصد ٥ : ٢٦٠.

٢٠