تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات - ج ٣

السيّد علي الحسيني الميلاني

تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٤
ISBN: 964-2501-06-6
الصفحات: ٤٤٠

علی تلك الأسماء فليراجع (١).

حكم من توقّف في مسأله خلق القرآن :

ومن مشاهد اضطراب القوم واختلاف آرائهم ، قضيّه خلق القرآن ، وذلك لأنّ فریقاً من أئمّة القوم أجابوا ، وآخرین ثبتوا علی القول بالعدم ، وجماعه توقّفوا ....

فمن الناس من حكم بالكفر ، لا علی الّذين أجابوا وحسب ، بل حتّی علی مَن توقّف ، فقد ذكروا أنّ المحاسبی الزاهد العارف ، شيخ الصوفيه ، خلّف له أبوه مالاً كثيراً ، فتركه ، وقال : لا يتوارث أهل ملّتين ، لأنّ أباه كان من المتوقّفين في مسأله خلق القرآن (٢).

وأحمد بن حنبل ، قال عن يعقوب بن شيبه ، صاحب المسند الكبير : «مبتدع ، صاحب هویً» فقال الخطيب : «وصفه أحمد بذلك لأجل الوقف» (٣).

وترك الناس كلّهم حديث إسحاق بن أبي إسرائيل ـ من رجال البخاري وأبي داود والنسائي ـ لكونه من الواقفه في مسأله خلق القرآن (٤).

وأمّا الّذين أجابوا .. فقد حكم عليهم بعضهم بالارتداد ، ودافع عنهم آخرون حاملین ذلك منهم علی التقيّة!! حفظاً لماء وجههم ، وكرامهً لصحاحهم ؛ لكونها قد أخرجت أحاديثهم ....

__________________

(١) تدريب الراوي ١ : ٣٨٨.

(٢) حلية الأولياء ١٠ : ٧٥.

(٣) تاريخ بغداد ١٤ : ٢٨٢.

(٤) سير أعلام النبلاء ١١ : ٤٧٧.

١٠١

كعليّ بن المديني ، الذي وصفوه بأمير المؤمنين في الحديث ، فإنّه قد أجاب ، وقبل الأموال علی ذلك ، فكثر الكلام حوله ، بين طاعنٍ فيه وبين مدافع عنه .. قال إبراهيم بن عبد اللَّه بن الجنيد : سمعت يحيی بن معين وذُكر عنده علی بن المديني فحملوا عليه ، فقلت : ما هو عند الناس إلّا مرتدّ ، فقال : ما هو بمرتدّ ، هو علی إسلامه ، رجل خاف فقال (١).

هذا ، وقد ترك مسلم وأبو زرعة الرازي وإبراهيم الحربي الرواية عنه بسبب ذلك (٢) ..

أمّا العقيلي فقد أورده في كتابه في الضعفاء (٣).

والذهبي من جمله المدافعين عن ابن المديني ، فإنّه قال : «قد كان ابن المديني خوّافاً متاقيا في مسأله القرآن» ، ثمّ شدّد النكير علی العقيلي ذِكره إياه في الضعفاء ، وكلّ ذلك من أجل أنّ البخاري «قد شحن صحيحه بحديث علی بن المديني ...» كما قال (٤).

وكأبي معمر الهذلی ، ويحيی بن معين ـ وكلاهما من رجال الصحيحين ـ ، قال الذهبي : «روی سعيد بن عمرو البرذعی عن أبي زرعة ، قال : كان أحمد بن حنبل لا يری الكتابه عن أبي نصر التمّار ولا يحيی بن معين ، ولا عن أحدٍ ممّن امتُحِن فأجاب».

ثمّ حاول الدفاع فقال : «قلت : هذا أمر ضیّق ، ولا حرج علی من أجاب فی

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١١ : ٥٧.

(٢) ميزان الاعتدال ٣ : ١٣٨.

(٣) الضعفاء الكبير ٣ : ٢٣٥ رقم ١٢٣٧.

(٤) ميزان الاعتدال ٣ : ١٤٠.

١٠٢

المحنه ، بل ولا علی من أُكره علی صريح الكفر عملاً بالآيه ، وهذا هو الحقّ. وكان يحيی من أئمّة السُنّة ، فخاف من سطوه الدولة وأجاب تقيّهً» (١).

هذا باختصارٍ بالنسبه إلی المرجئه والقدریه والمعتزله والواقفه في مسأله القرآن ، ونحوهم ....

وقد ظهر اختلافهم الشديد في قبول أو ردّ أحاديث مَن كان من أهل هذه الفرق وإنْ كان صادقاً في روايته ، متقناً في نقله ..

ويبقی الكلام في الرواية عن النواصب ونحوهم ، وعن الشيعه ..

حكم الرواية عن النواصب :

أمّا في الرواية عن النواصب والخوارج ، وأعداء عليّ وأهل البيت عليهم السلام .. فقد أسّس بعضهم قاعدهً مفادها أنّ هؤلاء لا يكذبون أصلاً ، فبني علی ذلك قبول أحاديثهم مطلقاً ..

يقول ابن تيميّة : «والخوارج أصدق من الرافضه وأدين وأورع! بل الخوارج لا نعرف عنهم أنّهم يتعمّدون الكذب ، بل هم من أصدق الناس!!» (٢).

هذا كلامه في الخوارج الّذين حاربوا أمير المؤمنين عليه السلام ..

ويقول الذهبي : إنّ التكلّم في من حارب عليّاً من الصحابه قبيحٌ يؤدَّب فاعلُه! ....

قال : ولا نذكر أحداً من الصحابه إلّا بخير ، ونترضي عنهم ، ونقول : هم طائفه من المؤمنين بَغَت علی الإمام عليّ ، وذلك بنصّ قول المصطفي صلوات اللّٰه عليه

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١١ : ٨٧.

(٢) منهاج السُنّة ٧ : ٣٦.

١٠٣

لعمّار : تقتلك الفئه الباغيه ... (١).

فهذا رأي مثل الذهبي الذي أصبحت آراؤه وأقواله حجّهً عند المتأخّرين منهم ، يرجعون إليها ويعتمدون عليها ...!!

وقال ابن حجر : «...وأيضاً ، فأكثر من يوصف بالنصب يكون مشهوراً بصدق اللهجه والتمسّك بأُمور الديانه ، بخلاف من يوصف بالرفض فإنّ غالبهم كاذب ولا يتورّع في الأخبار ، والأصل فيه أنّ الناصبه اعتقدوا أنّ عليّاً رضي اللّٰه عنه قتل عثمان أو كان عليه ، فكان بغضهم له ديانهً بزعمهم. ثمّ انضاف إلی ذلك أنّ منهم من قتلت أقاربه في حروب عليّ» (٢).

في حين أنّ المناوی ـ مثلاً ـ ينقل في شرح الجامع الصغير إجماع فقهاء الحجاز والعراق من أهل الحديث والرأي ، منهم مالك والشافعي وأبو حنيفه والأوزاعی ، وعن الجمهور الأعظم من المتكلّمين والمسلمين أنّ عليّاً مصيب في قتاله لأهل صِفّين كما هو مصيب في قتاله أهل الجمل ، وأن الّذين قاتلوه بغاه ظالمون له (٣).

بل العجيب أنّ بعض الأعلام منهم قال : «كان عمّار بن ياسر فاسقاً»!! وقائل هذا الكلام من رجال أبي داود ، وقد وثّقه أبو زرعة ، وذكره ابن حبّان في الثقات (٤) ، وقال ابن حجر : «صدوق يخطئ» (٥).

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٨ : ٢٠٩.

(٢) تهذيب التهذيب ، وانتقده بالتفصيل صاحب كتاب العتب الجميل علی أهل الجرح والتعديل فأفاد وأجاد جزاه اللّٰه خيراً.

(٣) فيض القدير شرح الجامع الصغير ٦ : ٣٦٦.

(٤) تهذيب التهذيب ٥ : ١٥٥.

(٥) تقريب التهذيب ١ : ٤٠٧.

١٠٤

ومن العجيب أيضاً أن القوم أخرجوا في صحاحهم عمّن كان يستغفر للحجّاج بن يوسف الثقفي!! فقد ذكروا بترجمة عبد اللَّه بن عون ـ من رجال الصحاح الستّه ـ : «قال معاذ بن معاذ : ما رأيت رجلاً أعظم رجاءً لأهل الإسلام من ابن عون ، لقد ذُكر عنده الحجّاج وأنا شاهد ، فقيل : يزعمون أنّك تستغفر له؟ فقال : ما لي لا أستغفر للحجّاج من بين الناس ، وما بيني وبينه؟! وما كنت أُبالی أن أستغفر له الساعه!

قال معاذ : وكان إذا ذُكر عنده الرجل بعیب قال : إنّ اللّٰه تعالی رحيم» (١).

وروايتهم في الصحاح عمّن كان «يحمل علی عليّ» كثيره جدّاً ....

فقد أخرج أرباب الصحاح الستّه عن مغيره بن مقسم ، ووثّقه الذهبي ، وكان يحمل علی عليّ عليه السلام (٢) ..

وأخرجوا عن قيس بن أبي حازم ، ووثّقه الذهبي ، وكان يحمل علی عليّ عليه السلام (٣).

وعن أبي قلابه الجرمي البصری ، وترجم له الذهبي وذكر له كرامات ومناقب!! وكان يحمل علی عليّ عليه السلام ولم يرو عنه شيئاً (٤) ..

وأخرج مسلم والأربعه عن الفأفاء ، وقد نصَّ الذهبي علی كونه ناصبيا (٥).

فباللّٰه عليك!! كيف يكون من يتحامل علی عليّ عليه السلام ثقهً ينقل

__________________

(١) حلية الأولياء ٣ : ٤١.

(٢) سير أعلام النبلاء ٦ : ١٢.

(٣) سير أعلام النبلاء ٤ : ١٩٩.

(٤) سير أعلام النبلاء ٤ : ٤٦٨.

(٥) سير أعلام النبلاء ٥ : ٣٧٤.

١٠٥

بواسطته الحديث عن رسول اللّٰه ويذكر في الكتب الموصوفه بالصحاح؟!

وكيف يكون النواصب عدولاً ، وعداؤه علامه النفاق ؛ للأحاديث الصحيحه المتّفق عليها ، والمنافق فاسق بالإجماع؟!

١٠٦

رابعاً ـ الشيعه والتشيّع

وما اختلفوا في فرقهٍ بمثل اختلافهم في الشيعه ، وما اختلفوا في أحاديث أهل الفرق بمثل اختلافهم في أحاديث الشيعه ....

وقبل الورود في شرح ذلك ، لا بُدّ من التنبيه علی إنّ بعضهم عند ما يریدون الطعن علی الشيعه يخلطون ـ عن عمدٍ أو جهلٍ ـ بينهم وبين الغُلاه ـ المعتقدين للنبوّه أو الربوبیه في أئمّة أهل البيت عليهم السلام ـ ، هؤلاء الّذين تبرّأت منهم الطائفه منذ اليوم الأوّل ، وطردهم الأئمّة عليهم السلام وحذّروا منهم الأُمّه ..

لقد افتتح ابن تيميّة منهاجه بالسبّ والشتم للشيعه .. فنقل ـ بأسانيد ساقطه ـ عن الشعبی أنّه قال : «لو كانت الشيعه من البهائم لكانوا حمراً ، ولو كانت من الطير لكانت رخماً» إلی أن قال ـ بعد صحائف كثيره شحنها بالافتراءات والأكاذيب ـ : «لكنْ قد لا يكون هذا كلّه في الإماميه الاثني عشريه ولا في الزيدية ، ولكنْ قد يكون كثير منه في الغإليه» (١).

وإذا كان يعترف بأنّ «الغإليه» ليسوا من «الشيعه الإماميه الأثني عشريه» فلما ذا هذا التخليط والتخبيط؟!

الشيعه لغهً

والشيعه لغهً : الأتباع والأنصار ، فقد جاء في القاموس وشرحه : «شيعه الرجل أتباعه وأنصاره ، وأصل الشيعه الفرقه من الناس علی حده ، وكلّ من عاون

__________________

(١) منهاج السُنّة ١ : ٥٧.

١٠٧

إنساناً وتحزّب له فهو له شيعه. قال الكميت :

وما لي إلّا آل أحمد شيعه

وما لي إلّا مشعب الحقّ مشعبُ

ويقع علی الواحد والاثنین والجمع والمذكر والمؤنّث ، بلفظ واحدٍ ومعني واحد.

وقد غلب هذا الاسم علی كلّ من يتولي عليّاً وأهل بيته رضي اللّٰه عنهم أجمعين ، حتّی صار اسماً لهم خاصّاً ، فإذا قيل فلان من الشيعه تعرف أنّه منهم ، وفي مذهب الشيعه كذا أي عندهم. وأصل ذلك من المشایعه ، وهی المطاوعه والمتابعه ...» (١).

وقد كانت غلبه هذا الاسم علی كلّ من شایع عليّاً وتابعه وقدّمه علی غيره منذ عصر رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم ، بل لعلّ هذه التسميه كانت في بدء أمرها منه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم ، كما يستفاد ذلك من الأحاديث ، ونصّ عليه بعض العلماء ؛ فقد ذكر الأُستاذ محمّد كرد علی أنّ النبيّ صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم هو الذي حثّ علی ولاء عليّ وأهل بيته ، وهو أوّل من سمّی أولياءهم بالشيعه.

قال : وفي عهده ظهر التشيّع وتسمّی جماعه بالشيعه.

قال : عرف جماعه من كبار الصحابه بموالاه عليّ في عصر رسول اللّٰه مثل سلمان القائل : بایعنا رسول اللّٰه علی النصح للمسلمین والائتمام بعليّ بن أبي طالب والموالاه له ؛ ومثل أبي سعيد الخدري الذي يقول : أُمر الناس بخمسٍ فعملوا بأربع وتركوا واحدهً ، ولمّا سئل عن الأربع قال : الصّلاه والزكاه وصوم شهر رمضان والحجّ. قيل : فما الواحده التی تركوها؟! قال : ولآيه عليّ بن أبي طالب.

__________________

(١) تاج العروس في شرح القاموس : مادّه «شیع».

١٠٨

قيل له : وإنّها لمفروضه معهنّ؟! قال : نعم ، هی مفروضه معهنّ ؛ ومثل أبي ذرّ الغفاری ، وعمّار بن ياسر ، وحذيفه بن اليمان ، وذی الشهادتين خزيمة بن ثابت ، وأبي أيّوب الأنصاري ...» في جمع كثير ذكرهم (١).

أقول :

وقد سبقه إلی ذلك غير واحدٍ من الأئمّة ، كالحافظ ابن عبد البرّ ، فقد ذكر بترجمة أمير المؤمنين عليه السلام : «روی عن سلمان وأبي ذرّ والمقداد وخبّاب وجابر وأبي سعد الخدري وزيد بن الأرقم : إنّ عليّ بن أبي طالب رضي اللّٰه عنه أوّل من أسلم ؛ وفضّله هؤلاء علی غيره» (٢).

ولا يخفي أنّ معني «وفضّله هؤلاء علی غيره» هو القول بتعیّنه للخلافه عن رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم ، وبطلان تقدّم غيره عليه ، لأنّ توليه المفضول مع وجود الأفضل ظلم ...وقد نصَّ علی هذا ابن تيميّة أيضاً (٣) في جماعهٍ من حفّاظهم ....

أقول :

ومنهم : عامر بن واثله أبو الطفيل المكی ، قال ابن حجر العسقلاني : «أثبت مسلم وغيره له الصحبه ، وقال أبو علی بن السكن : روی عنه رؤيته لرسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم من وجوهٍ ثابته ...وقال ابن عديّ : له صحبه. وكان

__________________

(١) خطط الشام ٥ : ٢٥١ ـ ٢٥٦.

(٢) الاستيعاب في معرفه الأصحاب ٣ : ١٠٩٠.

(٣) منهاج السُنّة ٦ : ٤٧٥ وج ٨ : ٢٢٣ و ٢٢٨.

١٠٩

الخوارج يرمونه باتّصاله بعليّ وقوله بفضله وفضل أهل بيته ، وليس بحديثه بأس. وقال ابن المديني : قلت لجرير : أكان مغيره يكره الرواية عن أبي الطفيل؟ قال : نعم. وقال صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه : مكیُّ ثقه ، وكذا قال ابن سعد وزاد : كان متشیّعاً.

قلت : أساء أبو محمّد ابن حزم فضعّف أحاديث أبي الطفيل وقال : كان صاحب رآيه المختار الكذّاب ، وأبو الطفيل صحأبي لا شك فيه ، ولا يؤثّر فيه قول أحدٍ ولا سیّما بالعصبیّه والهوی» (١).

وأمّا التابعون ، الّذين فضّلوا أمير المؤمنين عليه السلام علی غيره من الصحابه مطلقاً ، فكثيرون لا يحصون .. ذكر ابن قتيبه منهم جماعه (٢).

فهؤلاء هم الشيعه .. والتشيّع هو القول بإمامه عليّ عليه السلام بعد رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم .. فالمعني الذي أراده رسول اللّٰه في هذه التسميه هو المفهوم اللغوی لهذه اللفظه .. كما لا يخفي علی من راجع الأحاديث (٣).

التشيّع في اصطلاح القوم :

ولكنّ القوم ـ كما أشرنا من قبل ـ اختلفوا في معني هذا الإسم اصطلاحاً ، وكذا في مصداقه والمسمّی به .. واضطربت كلماتهم اضطراباً شديداً.

فالذي يظهر من كلماتهم في بعض المواضع أنّ مرادهم من «التشيّع» هو

__________________

(١) مقدّمه فتح الباری : ٤١٠.

(٢) كتاب المعارف : ٣٤١.

(٣) كالأحاديث الوارده بذيل قوله تعالی : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ أُولٰئِك هُمْ خير الْبَرِيَّهِ) راجع : الدرّ المنثور ٨ : ٥٨٩.

١١٠

ما ذكرناه من تقديم عليّ عليه السلام وتفضيله علی غيره من الصحابه ، ففي ترجمة الشافعي أنّ أحمد بن حنبل سئل عن الشافعي فقال : ما رأينا منه إلّا كلّ خير ، فقيل له : يا أبا عبد اللَّه! كان يحيی وأبو عبيد لا يرضيانه ـ يشير إلی التشيّع ، وأنّهما نسباه إلی ذلك ـ ، فقال أحمد بن حنبل : ما ندری ما يقولان! والله ما رأينا منه إلّا خيراً.

قال الذهبي ـ بعد نقله ـ : «قلت : من زعم أنّ الشافعي يتشيّع فهو مفترٍ لا يدری ما يقول» وقال الذهبي بعد روايته شعر الشافعي :

يا راكباً قف بالمحصَّب من منی

واهتف بقاعد خيفنا والناهض

سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى

فيضاً كملتطم الفرات الفائض

إن كان رفضاً حبُّ آل محمّدٍ

فلشهد الثقلان أنّي رافضي

قال : «قلت : لو كان شيعيا ـ وحاشاه من ذلك ـ لَما قال : الخلفاء الراشدون خمسه ، بدأ بالصدّيق ، وختم بعمر بن عبد العزيز» (١).

فالتشيّع هو القول بإمامه عليّ عليه السلام بعد رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم ، وليس مجرّد محبّته ، أو القول بأفضليته مع القول بإمامه الشيخين ، ولو كان بأحد هذين المعنيين أو نحوهما لَما نَزَّه عنه الشافعي ، كما هو واضح.

وعن ابن المبارك في «عوف بن أبي جميلة» ـ من رجال الصحاح الستّه ـ : «ما رضي عوف ببدعةٍ حتّی كان فيه بدعتان : قدری وشيعي» .. فهو يريد من «التشيّع» تقديم أمير المؤمنين علی جميع الصحابه ، ولذا جعله «بدعهً» ؛ إذ ليس مجرّد محبّته ببدعه بالإجماع ..

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٠ : ٥٨ ـ ٥٩ ، وللشافعی أشعار أخری من هذا القبيل مرويّه عنه في المصادر المعتبره ، وإنْ كان بعض المعاندين لأهل البيت عليهم السلام يحاولون كتمها أو إنكارها أو التقليل من عددها أو التشكيك في نسبتها ...!!

١١١

وممّا يشهد بذلك قول بندار في عوفٍ المذكور : «كان قدريا رافضيا».

وقال الذهبي بعد نقل الكلامین : «قلت : لكنّه ثقه مكثر» (١).

وبما ذكرنا يظهر أنّ قول الذهبي وابن حجر من أنّ : «الشيعي الغالی في زمان السلف وعُرفهم هو من يتكلّم في عثمان والزبير وطلحة وطائفهٍ ممّن حارب عليّاً رضي اللّٰه عنه وتعرّض لسبّه» (٢) غير صحيح ؛ لأنّ «الشيعي» بلا غلوٍّ ـ في عرفهم ـ هو تقدیمه علی سائر الصحابه جميعاً.

وأمّا قول ابن حجر : «والتشيّع محبّه عليّ وتقديمه علی الصحابه ، فمنْ قدّمه علی أبي بكر وعمر فهو غالٍ في تشيعه ، ويطلق عليه رافضی ، وإلّا فشيعي» (٣).

فإن أراد عُرف السلف ، فقد عرفت ما فيه ..

وإنْ أراد عُرف زمانه كما جاء في كلامه ـ تبعاً للذهبی ـ : «والغالی في زماننا وعُرفنا هو الذي يكفّر هؤلاء الساده ويتبرّأ من الشيخين أيضاً ، فهذا ضالّ مفتر» (٤) ؛ دلّ علی نقطتین مهمّتین :

إحداهما : اختلاف العُرف والاصطلاح أو تبدّله ، وهذا ما ينبغی التمحيص عن أسبابه والغرض منه.

والأُخری : الترادف بين «غلوّ التشيّع» و «الرفض».

وقال الذهبي بترجمة «الدارقطني» «شيخ الإسلام» المتّهم بالتشيّع :

«جمهور الأُمّه علی ترجيح عثمان علی الإمام عليّ ، وإليه نذهب ، والخطب

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٦ : ٣٨٤.

(٢) ميزان الاعتدال ١ : ٦ ، لسان الميزان ١ : ٩ ـ ١٠.

(٣) مقدّمه فتح الباری : ٤٦٠.

(٤) ميزان الاعتدال ١ : ٦ ، لسان الميزان ١ : ١٠.

١١٢

في ذلك يسير ، والأفضل منهما بلا شك أبو بكر وعمر ، من خالف في ذا فهو شيعي جلد ، ومن أبغض الشيخين واعتقد صحّه إمامتهما فهو رافضی مقیت ، ومن سبّهما واعتقد أنّهما ليسا بإمامَی هدیً فهو من غلاه الرافضه ، أبعدهم اللّٰه» (١).

إلّا أنّه قال بترجمة «الفأفاء» «الإمام الفقيه» «الناصبی» في كلامٍ له :

«صار اليوم شيعه زماننا يكفّرون الصحابه ، ويبرءون منهم جهلاً وعدواناً ، ويتعدّون إلی الصدّيق ...» (٢).

فتراه لا يصفهم ب : «الغلوّ» ، ولا يسمّيهم ب : «الرافضه» .. فيناقض نفسه ، ولا يبقی فرق في العرف بين السلف والخلف.

ثمّ إنّ لهم في «التشيّع» اصطلاحات :

منها : «فيه تشيّع يسير» أو «خفيف» كقول الذهبي بترجمة «وكيع بن الجرّاح» ـ وهو من رجال الصحاح الستّه ـ بعد نقل وصف بعضهم إياه ب :

«الرفض» .. «والظاهر أنّ وكيعاً فيه تشيّع يسير لا يضرّ إن شاء اللّٰه!! فإنّه كوفي في الجملة ، وقد صنّف كتاب فضائل الصحابه ، سمعناه ، قدّم فيه باب مناقب عليّ علی مناقب عثمان» (٣).

فتقديم ذِكر مناقب عليّ علی عثمان «تشيّع يسير» لكنّه «لا يضرّ إن شاء اللّٰه»!!

وقوله بترجمة أبي نعيم الفضل بن دكين ـ وهو من رجال الصحاح الستّه ـ :

«كان في أبي نعيم تشيّع خفيف» ثمّ روی أنّه قال : «حبّ عليّ عباده ، وخير العباده

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٦ : ٤٥٨.

(٢) سير أعلام النبلاء ٥ : ٣٧٤.

(٣) سير أعلام النبلاء ٩ : ١٥٤.

١١٣

ما كتم» (١).

ومنها : «فيه أدني تشيّع» كقوله في «أبي غسّان النهدی» ـ وهو من رجال الصحاح الستّه ـ : «فيه أدني تشيّع ، أخبرنا أحمد بن عبد الرحمن بن يوسف المقرئ ...عن زيد بن أرقم : إنّ النبيّ صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم قال لعليّ وفاطمة والحسن والحسين : أنا حرب لمن حاربتم ، وسلم لمن سالمتم» ثمّ روی عن الحسين الغازی ، قال :

«سألت البخاري عن أبي غسّان ، قال : وعمّا ذا تسأل؟! قلت : التشيّع!

فقال : هو علی مذهب أهل بلده ، ولو رأيتم عبيد اللّٰه بن موسی وأبا نعيم وجماعه مشايخنا الكوفيّين لَما سألتمونا عن أبي غسّان».

وهنا اضطرّ الذهبي لأنْ يقول : «قلت : وقد كان أبو نعيم وعبيد اللّٰه معظّمَين لأبي بكر وعمر ، وإنّما ينالان من معاوية وذويه. رضي اللّٰه عن جميع الصحابه» (٢).

أقول :

لا شك أنّ معاوية وذويه قد حاربوا أهل البيت عليهم السلام ، وإنّما قصد أبو غسّان من روآيه هذا الحديث النيل ممّن حاربهم ، فكان فيه «أدني تشيّع» ..

لكنّ عبيد اللّٰه بن موسی وأبا نعيم ومشايخ البخاري الكوفيّين كانت عقيدتهم فوق عقيده أبي غسّان ، وإلّا لَما قال البخاري كذلك ، فكيف يكونون إنّما ينالون «من معاوية وذويه» فقط؟!

كلّا! ليس الأمر كذلك ، وممّا يشهد لِما قلناه ، تصريح غير واحدٍ منهم بأنّ

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٠ : ١٥١.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٠ : ٤٣٢.

١١٤

محدّثی الكوفه كانوا يقدّمون عليّاً علی عثمان ، وقد ذكر الذهبي أيضاً ذلك ، وعدّد أسماء بعضهم ، وفيهم «عبيد اللّٰه بن موسی» و «عبد الرزّاق بن همّام» (١).

وجاء بترجمة «عبد الرزّاق» : «قلت لعبد الرزاق : ما رأیك أنت؟! ـ يعني في التفضيل ـ قال : فأبي أن يخبرني ، وقال : كان سفيان يقول : أبو بكر وعمر ، ويسكت. ثمّ قال لي سفيان : أُحبّ أن أخلوَ بأبي عروه ـ يعني معمراً ـ فقلنا لمعمر فقال : نعم ؛ فخلا به ، فلمّا أصبح ، قلت : يا أبا عروه! كيف رأيته؟ قال : هو رجلٌ ، إلّا أنّه قلّما تكاشف كوفيا إلّا وجدت فيه شيئاً ـ يريد التشيّع ـ ثمّ قال عبد الرزّاق : وكان مالك يقول : أبو بكر وعمر ، ويسكت. وكان معمر يقول : أبو بكر وعمر وعثمان ، ويسكت ، ومثله كان يقول هشام بن حسّان» (٢).

فمن هذا يعرف حال عبد الرزّاق بن همّام ، وحال أهل الكوفه ، ومنه يفهم أنّ المعني الصحيح للتشيّع هو ما ذكرناه ، وإلّا لَما قال ابن عيينه في عبد الرزّاق : «أخاف أنْ يكون من الّذين ضلّ سعیهم في الحياه الدنيا» (٣).

وإلّا لَما قيل بترجمة «اليامی» : «من أهل الكوفه الّذين لا يحمدون علی مذاهبهم»!!

كما يفهم ذلك أيضاً من قول الذهبي بترجمة «محمّد بن فضيل بن غزوان الكوفي» ـ وهو من رجال الصحاح الستّه ـ : «علی تشيّع كان فيه» ، فإنّه وإنْ حاول جعل تشيعه علی حدّ تكلّمه في من حارب أو نازع الأمر عليا ، إلّا أنّه روی عن يحيی الحماني : «سمعت فضيلاً ـ أو حُدّثت عنه ـ قال : ضربت ابني البارحه إلی

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٢ : ٥٨٨.

(٢) سير أعلام النبلاء ٩ : ٥٦٩.

(٣) سير أعلام النبلاء ٩ : ٥٧١.

١١٥

الصباح أنْ يترحّم علی عثمان ، فأبي عليّ» (١).

بل لقد وصفوا «تليد بن سليمان» ـ وهو من مشايخ أحمد ومن رجال الترمذي ـ بالتشيّع ـ كما عن أحمد بن حنبل وغيره ـ مع أنّه «كان يشتم عثمان» و «يشتم أبا بكر وعمر» (٢).

وسيأتي مزيد من الكلام عن هذا الموضوع ....

الرفض في اصطلاح القوم :

لقد تبين من خلال ما تقدّم : أنّ حقيقة التشيّع ليس مجرّد محبّه عليّ عليه السلام ، أو مجرّد التكلّم في من حاربه كمعاوية وطلحة والزبير وغيرهم ، أو مجرّد التكلّم في عثمان .. بل التشيّع تقديم عليّ عليه السلام علی جميع الصحابه ، والقول بإمامته بعد رسول اللّٰه صلّی اللّٰه عليه وآله وسلّم مباشرهً ، ورفض إمامه من تقدّم عليه ، ولذا وصفوا مثل «أبي الطفيل» الصحأبي الجليل ب : «الرفض» ، كما في كتاب المعارف (٣).

لكن القوم اتّخذوا ـ في علم الرجال والحديث ـ مصطلح «الرفض» للدلاله علی المعني الأخير ؛ محاولين التفريق بين المصطلحين من أجل التغطيه علی حال من اتّصف بحقيقة التشيّع ممّن ذكرناهم وغيرهم ..

إنّه مصطلح حادث وضعوه للطعن في الرواه وردّ أحاديثهم ، وقد نصّ علی ذلك ابن تيميّة بعد أن حكی السبّ والشتم للشيعه عن الشعبی وغيره ، فقال : «لكن

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٩ : ١٧٤.

(٢) تاريخ بغداد ٧ : ١٣٨.

(٣) المعارف : ٦٢٤ ، «أسماء الغإليه من الرافضه».

١١٦

لفظ (الرافضه) إنّما ظهر لمّا رفضوا زيد بن علی بن الحسين ، في خلافه هشام ، وقصّه زيد بن علی بن الحسين كانت بعد العشرین ومائه ...والشعبی توفي سنه خمس ومائه أو قریباً من ذلك ، فلم يكن لفظ الرافضه معروفاً آنذاك ، وبهذا وغيره يعرف كذب لفظ الأحاديث المرفوعه التی فيها لفظ الرافضه ، ولكنْ كانوا يسمّون بغير ذلك الاسم ...» (١).

ولكنّهم اختلفوا في هذا اللفظ أيضاً ، مفهوماً ومصداقاً ، فعن عبد العزيز بن أبي روّاد ـ وهو من رجال البخاري في التعالیق والأربعه ـ وقد سُئل مَنْ الرافضي؟! قال : «مَن كره أحداً من أصحاب محمّد» ، ووافقه علی ذلك مَن حضر من العلماء (٢).

وعن الدارقطني : أنّ أوّل عقد يحلُّ في الرفض تفضيل عثمان علی عليّ (٣).

واعترضه الذهبي قائلاً : «ليس تفضيل عليّ برفضٍ ولا هو ببدعه ، بل ذهب إليه خلقٌ من الصحابه والتابعين ...ومن أبغض الشيخين واعتقد صحّه إمامتهما فهو رافضی مقیت ، ومن سبّهما واعتقد أنّهما ليسا بإمامَی هدیً فهو من غلاه الرافضه» (٤).

__________________

(١) منهاج السُنّة ١ : ٣٥ ـ ٣٦ ، وقد عرفت أنّ واقع الرفض قدیم ، وأنّهم يصفون بعض الصحابه بالتشيّع وبالرفض ، فكان معناهما في الحقيقة واحداً ، وهو القول بإمامه عليّ عليه السلام بلا فصل.

(٢) تهذيب التهذيب ٦ : ٣٠٢.

(٣) سير أعلام النبلاء ١٦ : ٤٥٧.

(٤) سير أعلام النبلاء ١٦ : ٤٥٨.

١١٧

أقول :

بل الحقّ مع الدارقطني ، فإنّ أوّل عقدٍ من عقود رفض خلافه المشايخ هو القول بتفضيل عليّ عليه السلام علی عثمان ، وهذا ما سنؤكد عليه في ما بعد ، ولكنّ الذهبي يعترف بذهاب خلق من الصحابه والتابعين إلی تفضيل أمير المؤمنين عليه السلام ..

ثمّ كيف يجتمع بغض الشيخين مع الاعتقاد بصحّه إمامتهما ، لیسمّی صاحبه بالرافضي المقيت؟! وإذا لم يكن تفضيله عليه السلام برفض ولا بدعةٍ ، فلما ذا قال بعض أئمّتهم في عبد الرزّاق بن همّام الصنعاني ـ لمّا سئل عن رآيه في التفضيل فأبي أن يجیب ـ : «أخاف أنْ يكون من الّذين ضلّ سعیهم في الحياه الدنيا»؟! (١).

ثمّ إنّ الذهبي عنون في ميزانه ابن عقده فقال : «أحمد بن محمّد بن سعيد بن عقده ، الحافظ أبو العبّاس ، محدّث الكوفه ، شيعي متوسّط» (٢) ، مع أنّه بترجمة «أحمد بن الفرات» ذكر ابن عقده ووصفه ب : «الرفض والبدعة» (٣).

وهذا من تناقضاته بناءً علی هذا المصطلح الجديد ، وهو ممّا يؤيّد ما نذهب إليه في معني التشيّع كما تقدّم وسيأتي تفصيله.

وأمّا ابن حجر ، فهو يقول بالترادف بين «الرافضي» وبين «الشيعي الغالی» ، والمقصود منهما من قدّم عليّاً علی أبي بكر وعمر ، قال : «فإنْ انضاف إلی ذلك السبّ أو التصريح بالبغض فغالٍ في الرفض» (٤).

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٩ : ٥٧١.

(٢) ميزان الاعتدال ١ : ١٣٦.

(٣) ميزان الاعتدال ١ : ١٢٨.

(٤) مقدّمه فتح الباری : ٤٦٠.

١١٨

هذا ما أردنا ذكره في هذا الفصل باختصار ، ويتلخّص في أُمور :

الأوّل : إنّ القوم ليس عندهم علماء يقفون عند آرائهم في الجرح والتعديل ، بحيث يكون القول الفصل والميزان العدل في هذا الباب.

والثاني : إنّ القوم ليس عندهم قواعد متقنه يرجعون إليها ، وضوابط محكمه يعتمدون عليها في هذا الباب.

والثالث : إنّ القوم ليس عندهم مصطلحات محدّده ثابته متفّق عليها بينهم ، مفهوماً ومصداقاً.

والرابع : إنّ القوم في أكثر أقوالهم في الجرح والتعديل يتّبعون الهوی والعصبیه ، وكيف يجوز الأخذ بآراء مَن هذا حاله؟!

والخامس : إنّ «التشيّع» بالمعني الصحيح هو «الرفض» لخلافه من تقدّم علی عليّ عليه السلام ، ولذا وصف مثل أبي الطفيل الصحأبي بكلا الوصفین ، وكذا كثير من التابعين والأئمّة الأعلام في مختلف القرون.

حكم الرواية عن الرافضي والشيعي :

وقد اختلفوا في حكم الرواية عن «الرافضي» و «الشيعي» علی أثر اختلافهم في العنوانَین مفهوماً وحكماً .. وتحیّروا في ذلك بشدّه ؛ لكثره الرواه الشيعه من جههٍ ، ولاعتراف القوم بعدالتهم وأمانتهم وضبطهم في النقل من جههٍ أخری ، ولوجود عدد غير قليل منهم في الصحاح وغيرها من الكتب من جهه ثالثه.

١١٩

فذهب بعضهم إلی جرح الراوي وردّ روايته ، لا لشيء ، إلّا لتشيعه (١) :

ففي ترجمة «ثویر بن أبي فاخته» بعد ذكر تكلّم بعضهم فيه : «قال الحاكم في المستدرك : لم ينقم عليه إلّا التشيّع» (٢).

وفي ترجمة «عبيد اللّٰه بن موسی» عن أحمد بن حنبل : «إنّه تركه لتشيعه» (٣).

وفي ترجمة «علی بن غراب» قال الخطيب : «أظنّه طعن عليه لأجل مذهبه فإنّه كان يتشيّع» (٤).

وفي ترجمة «فطر بن خليفه» عن العجلی : «كان فيه تشيّع قليل» وعن ابن عياش : «تركت الرواية عنه لسوء مذهبه» (٥).

وفي ترجمة «علی بن المنذر» عن الإسماعيلي : «في القلب منه شيء ، لست

__________________

(١) ولا نذكر آراء الجوزجاني ؛ لأنّه كان ناصبيا ، لا يعتبرون بتجریحاته للشيعه ، ثمّ لا عجب من أنْ يتكلّموا في الراوي لأجل تشيعه ، فإنّ في القوم من تكلّم في أئمّة العتره الطاهرة بكلّ جرأهٍ ووقاحهٍ حتّی انتقده بعض علمائهم ، كقول ابن سعدٍ صاحب الطبقات في الإمام الصادق عليه السلام : «كان كثير الحديث ، ولا يحتّج به ، ويستضعف. سئل مرّهً : هذه الأحاديث من أبیك؟ فقال : نعم. وسئل مرّهً فقال : إنّما وجدتها في كتبه» ، فاعترضه ابن حجر قائلاً : «يحتمل أنْ يكون السؤالان وقعا عن أحاديث مختلفه ، فذكر في ما سمعه أنّه سمعه ، وفي ما لم يسمعه أنّه وجده ، وهذا يدلّ علی تثبّته». تهذيب التهذيب ٢ : ٨٩. قلت : فإنْ كان ابن سعد لا يفهم هذا فما أجهله ، وإنْ كان يفهمه فما أسوء حاله! وعلی كلّ حالٍ فليس لقوله أي اعتبار.

(٢) تهذيب التهذيب ٢ : ٣٣.

(٣) تهذيب التهذيب ٧ : ٤٨.

(٤) تاريخ بغداد ١٢ : ٤٦.

(٥) مقدّمه فتح الباری : ٤٣٥.

١٢٠