قصص الأنبياء عليهم السلام - ج ٢

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]

قصص الأنبياء عليهم السلام - ج ٢

المؤلف:

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]


المحقق: عبدالحليم عوض الحلّي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة العلامة المجلسي رحمه الله
المطبعة: عمران
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-91180-3-8
الصفحات: ٤٣٢

ثمّ صعد بي إلى السماء الثانية (١).

ثمّ صعد بي إلى السماء الثالثة ، فرأيت بها يوسف عليه‌السلام.

ثمّ صعدت إلى السماء الرابعة ، فرأيت فيها إدريس عليه‌السلام.

ثمّ صعد بي إلى السماء الخامسة ، فرأيت فيها هارون عليه‌السلام.

ثمّ صعد بي إلى السماء السادسة ، فإذا فيها خلق كثير يموج بعضهم في بعض ، وفيها الكروبيّون.

قال : ثمّ صعد بي إلى السماء السابعة فأبصرت فيها خلقا وملائكة (٢).

[٤٧٤ / ١٥] ـ وفي حديث آخر قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : رأيت في السماء السادسة موسى عليه‌السلام ، ورأيت في السابعة إبراهيم عليه‌السلام ثمّ قال : جاوزنا متصاعدين إلى أعلى علّيّين ، ووصف ذلك إلى أن قال : ثمّ كلّمني ربّي وكلّمته ، ورأيت الجنّة والنار ، ورأيت العرش وسدرة المنتهى.

قال : ثمّ رجعت إلى مكّة ، فلمّا أصبحت حدّثت به (٣) ، فأكذبني أبو جهل والمشركون ، وقال مطعم بن عديّ : أتزعم أنّك سرت مسيرة شهرين في ساعة؟ أشهد أنّك كاذب ، ثمّ قالت قريش : أخبرنا عمّا رأيت.

فقال : مررت بعير بني فلان ، وقد أضلّوا بعيرا لهم وهم في طلبه ، وفي رحلهم قعب من ماء مملوّ ، فشربت الماء فغطّيته كما كان ، فاسألوهم هل وجدوا الماء في القدح؟ قالوا : هذه آية واحدة.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : مررت بعير بني فلان ، فنفر بعير فلان فانكسرت يده ، فاسألوهم عن ذلك ، فقالوا : هذه آية أخرى. قالوا : فأخبرنا عن عيرنا ، قال : مررت بها بالتنعيم ،

__________________

(١) قوله : (ثمّ صعد بي إلى السماء الثانية) من «ر».

(٢) عنه في بحار الأنوار ١٨ : ٣٧٥ / ٨١.

(٣) في «ص» «م» : (فيه الناس) بدلا من : (به).

٢٤١

وبيّن لهم أحوالها وهيئاتها ، قالوا : هذه آية أخرى (١).

[٤٧٥ / ١٦] ـ وفي رواية أخرى قال أبو جهل : قد أمكنتكم الفرصة منه ، فاسألوه كم فيها من الأساطين والقناديل؟ فقالوا : يا محمّد ، إنّ هيهنا من دخل بيت المقدس ، فصف لنا أساطينه وقناديله ، فجاء جبرئيل عليه‌السلام فعلّق صورة بيت المقدس تجاه وجهه فجعل يخبرهم بما سألوه عنه ، فلمّا أخبرهم قالوا : حتّى تجيء العير ونسألهم عمّا قلت (٢).

فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : تصديق ذلك أنّ العير تطلع عليكم عند طلوع الشمس يقدمها جمل أحمر عليه غرارتان (٣) ، فلمّا كان من الغد أقبلوا ينظرون إلى العقبة والقرص ، فإذا العير يقدمها جمل أحمر ، فسألوهم عمّا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : لقد كان هذا ، فلم يزدهم إلّا عتوّا (٤).

[في شعب أبي طالب رضى الله عنه]

[٤٧٦ / ١٧] ـ فاجتمعوا في دار الندوة وكتبوا صحيفة بينهم أن لا يواكلوا بني هاشم ولا يكلّموهم ، ولا يبايعوهم ، ولا يزوّجوهم ، ولا يتزوّجوا إليهم حتّى يدفعوا إليهم محمّدا ليقتلوه ، وأنّهم يد واحدة على محمّد يقتلونه غيلة أو صراحا ، فلمّا بلغ ذلك أبا طالب جمع بني هاشم ودخلوا الشعب ، وكانوا أربعين رجلا ، فحلف لهم أبو طالب بالكعبة والحرم ؛ إن شاكت محمّدا شوكة لأتينّ (٥)

__________________

(١) عنه في بحار الأنوار ١٨ : ٣٧٦ / ٨١.

(٢) في «ر» «س» : (أخبرت).

(٣) في «ص» «م» : (أحمر عليه عرارتان) ، وفي إعلام الورى : (أحمر عليه عزارتان) ، والغرارة : الوعاء (العين ٤ : ٣٤٦).

(٤) إعلام الورى ١ : ١٢٤ وعنه في بحار الأنوار ١٨ : ٣٣٦.

(٥) الأصل : (أتي) ماض مجهول اكّد باللام والنون المثقّلة فصارت : (لأتينّ) والمعنى لأتتكم الهلكة.

٢٤٢

عليكم يا بني هاشم.

وحصّن الشعب ، وكان يحرسه بالليل والنهار ، فإذا جاء الليل يقوم بالسيف عليه ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مضطجع ، ثمّ يقيمه ويضجعه في موضع آخر ، فلا يزال الليل كلّه هكذا ، ويوكّل ولده وولد أخيه به يحرسونه بالنهار فأصابهم الجهد.

وكان من دخل مكّة من العرب لا يجسر أن يبيع من بني هاشم شيئا ، ومن باع منهم (١) شيئا انتهبوا ماله ، وكان أبو جهل والعاص بن وائل السهميّ والنضر بن الحارث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط يخرجون إلى الطرقات التي تدخل مكّة ، فمن رأوه معه ميرة (٢) نهوه أن يبيع من بني هاشم شيئا ، ويحذّرونه إن باع شيئا منهم انتهبوا ماله.

وكانت خديجة لها مال كثير وأنفقته على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الشعب ، ولم يدخل في حلف الصحيفة مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد المطّلب بن عبد مناف ، وقال : هذا ظلم ، وختموا الصحيفة بأربعين خاتما كلّ رجل من رؤساء قريش بخاتمه ، وعلّقوها في الكعبة ، وتابعهم على ذلك أبو لهب.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخرج في كلّ موسم ، فيدور على قبائل العرب ، فيقول لهم : تمنعون لي جانبي حتّى أتلو عليكم كتاب ربّكم وثوابكم الجنّة على الله ، وأبو لهب في أثره فيقول : لا تقبلوا منه ، فإنّه ابن أخي وهو كذّاب ساحر ، فلم يزل هذا حالهم.

وبقوا في الشعب أربع سنين لا يأمنون إلّا من موسم إلى موسم ، ولا يشترون ولا يبيعون إلّا في الموسم ، وكان يقوم بمكّة موسمان في كلّ سنة : موسم العمرة في رجب ، وموسم الحجّ في ذي الحجّة ، فكان إذا اجتمعت المواسم يخرج

__________________

(١) في «م» «ص» : (بني هاشم).

(٢) الميرة : جلب القوم الطعام للبيع (العين ٨ : ٢٩٥).

٢٤٣

بنو هاشم من الشعب ، فيشترون ويبيعون ، ثمّ لا يجسر أحد منهم أن يخرج إلى الموسم الثاني ، وأصابهم الجهد وجاعوا ، وبعثت قريش إلى أبي طالب : ادفع إلينا محمّدا نقتله ونملّكك علينا ، فقال أبو طالب رضى الله عنه قصيدته اللّاميّة يقول فيها :

ولمّا رأيت القوم لا ودّ منهم (١)

وقد قطعوا كلّ العرى والوسائل

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى (٢) عصمة للأرامل

كذبتم وبيت الله يبزى (٣) محمّد

ولمّا نطاعن دونه ونقاتل

لعمري لقد كلّفت وجدا بأحمد

وأحببته حبّ الحبيب المواصل

وجدت بنفسي دونه وحميته

وادرأت عنه بالذّرى والكواهل

فأيّده ربّ العباد بنصره

وأظهر دينا حقّه غير باطل

فلمّا سمعوا هذه القصيدة آيسوا منه ، وكان أبو العاص بن الربيع ، وهو ختن (٤) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يأتي بالعير بالليل عليها البرّ والتمر إلى باب الشعب ، ثمّ يصيح بها فتدخل الشعب فيأكله بنو هاشم ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لقد صاهرنا أبو العاص (٥) فأحمدنا صهره.

__________________

(١) في إعلام الورى ١ : ١٢٦ والبحار : (فيهم).

(٢) الثمال بالكسر : الغياث ، يقال : فلان ثمال قومه أي غياث لهم وقائم بأمرهم ، والمراد بعصمة للأرامل أي يمنعهم عن الحاجة والضياع (انظر النهاية في غريب الحديث ١ : ٢٢٢).

(٣) قال ابن الأثير في النهاية ١ : ١٢٥ في مادّة : (بزا) في قصيدة أبي طالب يعاتب قريشا في أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

كذبتم وبيت الله يبزى محمّد

ولمّا نطاعن دونه ونناضل

يبزى أي يقهر ويغلب ، أراد لا يبزى ، فحذف «لا» من جواب القسم ، وهي مرادة ، أي لا يقهر ولم نقاتل عنه وندافع.

(٤) الختن : الصهر (العين ٤ : ٢٣٨).

(٥) في النسخ الأربع : (العبّاس) بدلا من : (العاص) ، والمثبت عن إعلام الورى ١ : ١٢٧.

٢٤٤

[دابّة الأرض أكلت الصحيفة]

ولمّا أتى أربع سنين بعث الله على صحيفتهم القاطعة دابّة الأرض ، فلحست (١) جميع ما فيها من قطيعة وظلم ، وتركت : باسمك اللهمّ ، ونزل جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره بذلك ، فأخبر رسول الله أبا طالب ، فقام أبو طالب ولبس ثيابه ثمّ مشى حتّى دخل المسجد على قريش وهم مجتمعون فيه ، فلمّا أبصروه قالوا : قد ضجر أبو طالب وجاء الآن ليسلّم ابن أخيه ، فدنا منهم وسلّم عليهم ، فقاموا إليه وعظّموه ، وقالوا : قد علمنا ـ يا أبا طالب ـ أنّك أردت مواصلتنا والرجوع إلى جماعتنا ، وأن تسلّم ابن أخيك إلينا.

قال : والله ما جئت لهذا ، ولكن ابن أخي أخبرني ـ ولم يكذّبني ـ أنّ الله تعالى أخبره أنّه بعث على صحيفتكم القاطعة دابّة الأرض ، فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور ، وتركت اسم الله ، فابعثوا إلى صحيفتكم ؛ فإن كان حقّا فاتّقوا الله وارجعوا عمّا أنتم عليه من الظلم والجور وقطيعة الرحم ، وإن كان باطلا دفعته إليكم ، فإن شئتم قتلتموه ، وإن شئتم استحييتموه (٢).

فبعثوا إلى الصحيفة وأنزلوها من الكعبة ، فإذا ليس فيها إلّا : «باسمك اللهمّ» ، فقال لهم أبو طالب : يا قوم ، اتّقوا الله وكفّوا عمّا أنتم عليه ، فتفرّق القوم ولم يتكلّم أحد ، ورجع أبو طالب إلى الشعب (٣).

[٤٧٧ / ١٨] ـ وقال عند ذلك نفر من بني عبد مناف وبني قصيّ ورجال من قريش ولدتهم نساء بني هاشم منهم : مطعم بن عديّ بن عامر بن لؤيّ ـ وكان

__________________

(١) اللحس : أكل الدواب الصوف وأكل الجراد الخضر والشجر ونحوه (كتاب العين ٣ : ١٤٣).

(٢) في «م» : (استجنتموه) ، وفي «ص» غير منقّطة.

(٣) إعلام الورى ١ : ١٢٥ وعنه في بحار الأنوار ١٩ : ١ / ١ ، دلائل النبوّة ٢ : ٣١١ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٨٩.

٢٤٥

شيخا كبيرا كثير المال ، له أولاد ـ وأبو البختريّ بن هاشم ، وزهير بن أميّة المخزوميّ في رجال من أشرافهم : نحن برآء ممّا في هذه الصحيفة ، فقال أبو جهل : هذا أمر قضي بليل.

وخرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ورهطه من الشعب وخالطوا الناس ومات أبو طالب بعد ذلك بشهرين ، وماتت خديجة رضي الله عنها بعد ذلك ، وورد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمران عظيمان وجزع جزعا شديدا ، ودخل صلى‌الله‌عليه‌وآله على أبي طالب وهو يجود بنفسه ، فقال : يا عم ، ربّيت صغيرا ، ونصرت كبيرا ، وكفّلت يتيما ، فجزاك الله عنّي خير الجزاء ، أعطني كلمة أشفع لك بها عند ربّي (١)(٢).

[٤٧٨ / ١٩] ـ قال ابن عبّاس : فلمّا ثقل أبو طالب رئي يحرّك شفتيه ، فأصغى إليه العبّاس يسمع قوله ، فرفع العبّاس عنه (٣) وقال : يا رسول الله ، والله قد قال الكلمة التي سألته إيّاها (٤).

[٤٧٩ / ٢٠] ـ وعن ابن عبّاس قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عارض جنازة أبي طالب ،

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٢٩ ، ولا يخفى عليك أنّ إيمان أبي طالب رضى الله عنه قضيّة واضحة لا ريب فيها كما ظهر لك من خلال أشعاره وكلماته المتقدّمة ، فينبغي حمل هذا الكلام على التلقين والتجديد لخاطرة التوحيد والرسالة من باب السنّة والطريقة أو من باب استحكام حمايته الدائمة له صلى‌الله‌عليه‌وآله في آخر لحظات عمره الشريف أو الدخل والتصرّف في آخر الرواية ، ووجه الأخير أوجه.

(٢) إعلام الورى ١ : ١٢٨ ، انظر : الكافي ٨ : ٢٦٢ / ٣٧٦ ، تفسير القمّيّ ٢ : ١٣ ، الأمالي للصدوق : ٣٦٣ / ١ ، الطبقات الكبرى ١ : ٢٠٨.

(٣) في البحار زيادة : (رأسه).

(٤) إعلام الورى ١ : ١٣١ وانظر : دلائل النبوّة للبيهقيّ ٢ : ٣٤٩ ، سيرة ابن هشام ٢ : ٥٩ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٤ : ٧٦ ، لا يخفى على المتتبّع الخبير أنّ ورود وجعل هذه الروايات لا سيّما في مآخذ العامّة إنّما كان استصغارا لعظمة ومنزلة أبي طالب عليه‌السلام لبغضهم لأمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.

٢٤٦

فقال : وصلتك رحم وجزيت خيرا يا عمّ (١).

فصل

[الرحلة إلى الطائف]

[٤٨٠ / ٢١] ـ وعن الزّهريّ : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يعرض نفسه على قبائل العرب في كلّ موسم ، ويكلّم كلّ شريف قوم لا يسأله منهم أحد (٢) ، فلمّا توفّي أبو طالب اشتدّ البلاء على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فعمد لثقيف بالطائف رجاء أن يؤووه ، فرضخوه (٣) بالحجارة ، فخلص منهم ورجلاه يسيلان بالدماء (٤) ، واستظلّ في ظلّ نخلة فيه وهو مكروب موجع ، فإذا في الحائط عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، فلمّا رآهما كره مكانه (٥) لما يعلم من عداوتهما ، فلمّا رأياه أرسلا إليه غلاما ـ يدعى عداس وهو نصرانيّ ـ ومعه عنب ، فلمّا جاءه عداس ، قال له رسول الله : من أيّ أرض أنت؟

قال : أنا من أهل نينوى ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من مدينة الرجل الصالح : يونس بن متّى ، فقال عداس : وما يدريك من يونس بن متّى؟

فقال له : لا تحقّر أحدا أن يبلّغ رسالة ربّه ، أنا رسول الله ، والله تعالى أخبرني

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٣١ وعنه في بحار الأنوار ١٩ : ٤ / ٣ ، تاريخ اليعقوبيّ ٢ : ٣٥ ، الوفاء بأحوال المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ١ : ٢٠٨ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٤ : ٧٦.

(٢) في إعلام الورى : (لا يسألهم مع ذلك إلّا أن يأووه) بدلا من : (لا يسأله منهم أحد).

(٣) أي رموه.

(٤) في «م» «ص» : (الدماء) ، وكلمة : (ظلّ) لم ترد فيهما ، وفي إعلام الورى : (الدماء فعمد إلى حائط من حوائطهم واستظلّ في ظلّ حبلة) ، والحبلة : شجر العنب واحدته حبلة (كما في لسان العرب ١١ : ١٣٨).

(٥) في البحار : (مكانهما).

٢٤٧

خبر يونس بن متّى ، فجعل عداس يقبّل قدميه (١).

[٤٨١ / ٢٢] ـ ولمّا رجع عليه‌السلام من الطائف وأشرف على مكّة وهو معتمر ، كره أن يدخل مكّة وليس له فيها مجير ، فنظر إلى رجل من أهل مكّة من قريش ـ قد كان أسلم سرّا ـ فقال له : ائت مطعم بن عديّ ، فسله أن يجيرني حتّى أطوف وأسعى ، فقال له : ائته وقل له : إنّي قد أجرتك ، فتعال وطف واسع ما شئت ، فأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال مطعم لولده وأختانه (٢) وأخيه طعيمة : خذوا سلاحكم ، فإنّي قد أجرت محمّدا ، وكونوا حول الكعبة حتّى يطوف ويسعى ـ وكانوا عشرة ـ فأخذوا السلاح.

وأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى دخل المسجد ورآه أبو جهل ، فقال : يا معشر قريش ، هذا محمّد وحده ، وقد مات ناصره فشأنكم به ، فقال طعيمة : يا عمّ ، لا تتكلّم ، فإنّ أبا وهب قد أجار محمّدا ، فقال أبو جهل : أبا وهب ، أمجير أم صابئ (٣)؟ قال : بل مجير ، قال : إذا لا نخفر (٤) جوارك.

فلمّا فرغ رسول الله من طوافه وسعيه جاء إلى مطعم فقال : يا أبا وهب ، قد أجرت وأحسنت ، فردّ عليّ جواري ، فقال : وما عليك أن تقيم في جواري ، فقال : لا أقيم في جوار مشرك أكثر من يوم ، فقال مطعم : يا معشر قريش ، قد خرج محمّد من جواري (٥).

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٣٣ وعنه في بحار الأنوار ١٩ : ٥ / ٥ ، دلائل النبوّة ٢ : ٤١٤ ، مناقب ابن شهر آشوب ١ : ٦٨ ، سيرة ابن هشام ٢ : ٦٠ ، تاريخ اليعقوبيّ ٢ : ٣٦.

(٢) الختن زوج البنت (الصحاح ٥ : ٢١٠٧).

(٣) صبأ فلان : إذا خرج من دين إلى دين آخر.

(٤) في إعلام الورى : (يخفر) ، قال في المصباح المنير : ١٧٥ : خفر بالعهد إذا وفى به ، وخفرت الرجل حميته وأجرته من طالبه ، وخفرت بالرجل غدرت به ، وتخفرت به إذا احتميت به.

(٥) إعلام الورى ١ : ١٣٥ وعنه في بحار الأنوار ١٩ : ٧ ، انظر : سيرة ابن هشام ٢ : ٢٠ ، وفاء الوفا بأحوال المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ١ : ٢١٤ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٩٢.

٢٤٨

فصل

[دخول الإسلام إلى الأوس والخزرج]

[٤٨٢ / ٢٣] ـ ذكر عليّ بن إبراهيم أنّ أسعد بن زرارة وذكوان (١) خرجا إلى عمرة رجب ، وكان أسعد صديقا لعتبة بن ربيعة ، فنزل عليه ، فقال له : إنّه كان بيننا وبين قومنا حروب ، وقد جئناك نطلب الحلف عليهم ، فقال عتبة : بعدت دارنا من داركم ولنا شغل لا نتفرّغ لشيء ، قال : وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم؟ فقال عتبة : خرج فينا رجل يدّعي أنّه رسول الله ؛ سفّه أحلامنا (٢).

فقال أسعد : ومن هو منكم؟ قال : محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب من أوسطنا شرفا وأعظمنا بيتا.

وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم ـ النضير وقريظة وقينقاع ـ أنّ هذا أوان نبيّ يخرج من مكّة يكون مهاجره بالمدينة ، فلمّا سمع أسعد وقع في قلبه ما كان سمع من اليهود ، فقال : أين هو؟ قال : هو جالس في الحجر ، فلا تكلّمه فإنّه ساحر يسحرك بكلامه.

قال أسعد : كيف أصنع وأنا معتمر لا بدّ لي أن أطوف بالبيت؟ قال : ضع في أذنك القطن.

فدخل أسعد المسجد وقد حشا أذنيه القطن ، فطاف بالبيت ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحجر مع بني هاشم ، فنظر إليه نظرة وجازه ، فلمّا كان في الشوط الثاني رمى القطن وقال في نفسه : لا أجد (٣) أجهل منّي ، فقال أسعد : أنعم صباحا.

__________________

(١) في إعلام الورى : (ذكوان بن عبد قيس).

(٢) في إعلام الورى والبحار زيادة : (وسبّ آلهتنا ، وأفسد شبابنا ، وفرّق جماعتنا).

(٣) في «س» «ص» : (أحد).

٢٤٩

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قد أبدلنا الله أحسن (١) من هذا ، تحيّة أهل الجنّة : سلام عليكم.

[فقال له أسعد : إنّ عهدك. بهذا لقريب ، إلى ما تدعو يا محمّد؟ قال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وأدعوكم إلى أن لا تشركوا به شيئا (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(٢) فلما سمع أسعد هذا](٣).

فقال : أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّك رسول الله ، أنا من أهل يثرب من الخزرج ، وبيننا وبين إخوتنا من الأوس حبال مقطوعة ، فإن وصلها الله بك ، فلا أحد أعزّ منك ، ومعي رجل من قومي ، فإن دخل في هذا الأمر أرجو أن يتمّ الله لنا أمورنا فيك ، لقد كنّا نسمع من اليهود خبرك وصفتك ، وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك ، فقد أعلمنا اليهود ذلك ، فالحمد لله الذي ساقني إليك.

ثمّ أقبل ذكوان ، فقال له أسعد : هذا رسول الله الذي كانت اليهود تبشّرنا به وتخبرنا بصفته ، فأسلم ذكوان وقالا : يا رسول الله ، ابعث معنا رجلا يعلّمنا القرآن كثيرا ، فبعث معهما مصعب ، فنزل على أسعد ، وأجاب من كلّ بطن الرجل والرجلان لمّا أخبروهم بخبر رسول الله وأمره.

وكان مصعب يخرج في كلّ يوم ، فيطوف على مجالس الخزرج يدعوهم إلى

__________________

(١) في إعلام الورى ١ : ١٣٨ والبحار : (قد أبدلنا الله به ما هو أحسن).

(٢) الأنعام : ١٥١ و ١٥٢.

(٣) ما بين المعقوفين من البحار وإعلام الورى.

٢٥٠

الإسلام فيجيبه الأحداث ، وقال أسعد لمصعب : إنّ خالي سعد بن معاذ من رؤساء الخزرج (١) ، فإن دخل في هذا الأمر تمّ لنا أمرنا ، فجاء مصعب مع أسعد إلى محلّة سعد بن معاذ ، وقعد على بئر من آبارهم ، واجتمع إليه قوم من أحداثهم ، وهو يقرأ عليهم القرآن ، فبلغ ذلك سعد بن معاذ ، فقال لأسيد بن حصين (٢) ـ وكان من أشرافهم ـ : بلغني أنّ أسعد أتى (٣) محلّتنا مع هذا القرشيّ يفسد شبابنا ، ائته وانهه عن ذلك ، فأتى أسيد وقال لأسعد : يا أبا أمامة ، يقول لك خالك : لا تأتنا في نادينا (٤) ولا تفسد شبابنا.

فقال مصعب : أو تجلس فنعرض عليك أمرا؟ فإن أحببته دخلت فيه ، وإن كرهته نحّينا عنك ما تكره ، فجلس فقرأ عليه سورة ، فأسلم أسيد ، ثمّ رجع إلى سعذ بن معاذ ، فلمّا نظر إليه سعد قال : أقسم أنّ أسيدا رجع إلينا بغير الوجه الذي ذهب من عندنا ، وأتاهم سعد فقرأ عليه أسعد (٥) : (حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)(٦) فلمّا سمع بعث إلى منزله وأتى بثوبين طاهرين ، واغتسل وشهد الشهادتين ، وصلّى ركعتين ، ثمّ قام وأخذ بيد مصعب وحوّله إليه وقال : أظهر أمرك ولا تهابنّ أحدا.

ثمّ صاح : لا يبقينّ رجل ولا امرأة إلّا خرج ، فليس هذا يوم ستر ولا حجاب ، فلمّا اجتمعوا قال : كيف حالي عندكم؟ قالوا : أنت سيّدنا والمطاع فينا ، ولا نردّ لك أمرا ، فقال : كلام رجالكم ونساؤكم عليّ حرام حتّى تشهدوا أن لا إله إلّا الله ، وأنّ

__________________

(١) في «ص» «م» وإعلام الورى : (الأوس).

(٢) في إعلام الورى : (أسيد بن حضير).

(٣) في «ص» : (لأتى).

(٤) النادي : مجلس القوم ومجتمعهم.

(٥) في إعلام الورى : (مصعب).

(٦) فصّلت : ١ و ٢.

٢٥١

محمّدا رسول الله ، والحمد لله الذي أكرمنا بذلك ، وهو الذي كانت اليهود تخبرنا به ، وشاع الإسلام بالمدينة ودخل فيه من البطنين أشرافهم.

وكتب مصعب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، فكلّ من دخل في الإسلام من قريش ضربه قومه وعذّبوه ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يأمرهم أن يخرجوا إلى المدينة ، فيصيرون إليها فينزلهم الأوس والخزرج عليهم ويواسونهم (١).

[بيعة العقبة]

[٤٨٣ / ٢٤] ـ ثمّ إنّ الأوس والخزرج قدموا مكّة ، فجاءهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : تمنعون جانبي حتّى أتلو عليكم كتاب ربّكم وثوابكم على الله الجنّة؟ قالوا : نعم ، قال : موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق ، فلمّا حجّوا رجعوا إلى منى ، فلمّا اجتمعوا قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : تمنعوني بما تمنعون أنفسكم؟ قالوا : فمالنا على ذلك؟ قال : الجنّة ، قالوا : رضينا دماؤنا بدمك ، وأنفسنا بنفسك ، فاشترط لربّك ولنفسك ما شئت.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا يكونون عليكم بذلك ، كما أخذ موسى من بني إسرائيل اثني عشر نقيبا ، فقالوا : اختر من شئت ، فأشار جبرئيل إليهم فقال : هذا نقيب وهذا نقيب حتّى اختار تسعة من الخزرج ، وهم : أسعد بن زرارة ، والبراء بن مغرور (٢) ، وعبد الله بن حزام ـ أبو جابر بن عبد الله ـ ورافع بن مالك ، وسعد بن عبادة ، والمنذر بن عمر ، وعبد الله بن رواحة ، وسعد ابن الربيع ، وعبادة بن الصامت.

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٣٦ ـ ١٤١ ، وعنه في بحار الأنوار ١٩ : ٨ / ٥ ، تفسير القمّيّ ١ : ٢٧٢ ، سيرة ابن هشام ٢ : ٧٧ ، الطبقات الكبرى ١ : ٢٢١ ، دلائل النبوّة للبيهقي ٢ : ٤٣٠ ، وانظر الكامل في التاريخ ٢ : ٩٦.

(٢) في إعلام الورى ١ : ١٤٣ : (معرور) بدون نقطة.

٢٥٢

وثلاثة من الأوس : وهم : أبو الهيثم بن التّيهان ـ وكان رجلا من اليمن حليفا في بني عمرة بن عوف ـ وأسيد بن حصين ، وسعد بن خيثمة.

فلمّا اجتمعوا وبايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صاح إبليس : يا معشر قريش والعرب ، هذا محمّد والصباة من الأوس والخزرج على جمرة العقبة يبايعونه على حربكم ، فأسمع أهل منى ، فهاجت قريش وأقبلوا بالسلاح ، وسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله النداء ، فقال للأنصار : تفرّقوا.

فقالوا : يا رسول الله ، إن أمرتنا أن نميل إليهم بأسيافنا فعلنا؟ فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : لم أؤمر بذلك ، ولم يأذن الله لي في محاربتهم ، فقالوا : يا رسول الله ، تخرج معنا؟ قال : أنتظر أمر الله تعالى جلّ وعلا.

فجاءت قريش قد أخذوا السلاح وخرج حمزة ومعه السيف ومعه عليّ عليه‌السلام فوقفا على العقبة ، فقالوا : ما هذا الذي اجتمعتم عليه؟ قال حمزة : ما هيهنا أحد وما اجتمعنا ، والله لا يجوز أحد هذه العقبة إلّا ضربت عنقه بسيفي ، فرجعوا وغدوا إلى عبد الله بن أبي وقالوا : بلغنا أنّ قومك بايعوا محمّدا على حربنا ، فحلف لهم عبد الله أنّهم لم يفعلوا ولا علم له بذلك ، فإنّهم لم يطلعوه على أمرهم فصدّقوه ، وتفرّقت الأنصار ، ورجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مكّة (١).

فصل

[ليلة المبيت والهجرة إلى المدينة]

[٤٨٤ / ٢٥] ـ ثمّ اجتمعت قريش في دار الندوة ، فجاءهم إبليس لمّا أخذوا

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٤٣ وعنه في بحار الأنوار ١٩ : ١٣ / ١٤ ، وص ٤٧ / ٦ ، وراجع : تفسير القمّيّ ١ : ٢٧٣ ، سيرة ابن هشام ٢ : ٧٧ ، الطبقات الكبرى ١ : ٢٢١ ، دلائل النبوّة للبيهقيّ ٢٢ : ٤٣٠.

٢٥٣

مجلسهم (١) ، فقال أبو جهل : لم يكن أحد من العرب أعزّ منّا حتّى نشأ فينا محمّد ، وكنّا نسمّيه الأمين لصلاحه وأمانته ، فزعم أنّه رسول ربّ العالمين وسبّ آلهتنا ، وقد رأيت فيه رأيا ، وهو أن ندسّ إليه رجلا فيقتله ، وإن طالبت بنو هاشم بدمه أعطيناهم عشر ديات ، فقال إبليس : هذا رأي خبيث ، فإنّ بني هاشم لا يرضون أن يمشي قاتل محمّد على الأرض أبدا ، ويقع بينكم الحروب في الحرم.

فقال آخر : الرأي أن نأخذه فنحبسه في بيت ونثبته فيه ، ونلقي إليه قوته حتّى يموت ، كما مات زهير والنابغة. قال إبليس : إنّ بني هاشم لا ترضى بذلك ، فإذا جاء مواسم العرب اجتمعوا عليكم ، فأخرجوه فيخدعهم بسحره.

فقال آخر : الرأي أن نخرجه من بلادنا ونطرده ونتفرّغ لآلهتنا ، فقال إبليس : هذا أخبث منهما ، فإنّه إذا خرج يفجأكم وقد ملأها خيلا ورجلا فبقوا حيارى.

قالوا : ما الرأي عندك؟ قال : ما فيه إلّا رأي واحد ، وهو أن يجتمع من كلّ بطن من بطون قريش رجل شريف ، ويكون معكم من بني هاشم أحد ، فيأخذون سيفا ويدخلون عليه ، فيضربه كلّهم ضربة واحدة ، فيتفرّق دمه في قريش كلّهم (٢) ، فلا يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه وقد شاركوا فيه ، فحماداهم أن تعطوا الدية (٣).

فقالوا : الرأي رأي الشيخ النجديّ ، فاختاروا خمسة عشر رجلا فيهم أبو لهب على أن يدخلوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأنزل الله تعالى جلّ ذكره : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ

__________________

(١) في «ر» «س» : (مجالسهم).

(٢) في إعلام الورى ١ : ١٤٧ : (كلّها).

(٣) الظاهر أنّ المراد من : فحماداهم أي قصاراهم وغايتهم أن تعطوهم الدية (انظر : النهاية في غريب الحديث ١ : ٤٣٧).

٢٥٤

الْماكِرِينَ)(١) وأجمعوا أن يدخلوا عليه ليلا وكتموا أمره ، فقال أبو لهب : بل نحرسه ، فإذا أصبحنا دخلنا عليه ، فقاموا حول حجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يفرش له ، وقال لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : أفدني بنفسك ، فقال : نعم يا رسول الله ، قال : نم على فراشي والتحف ببردتي ، فقام وجاء جبرئيل عليه‌السلام فقال : اخرج والقوم يشرفون على الحجرة فيرون فراشه وعليّ عليه‌السلام نائم عليه ، فيتوهّمون أنّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فخرج رسول الله وهو يقرأ : «يس» إلى قوله : (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)(٢) وأخذ ترابا بكفّه ونثره عليهم وهم نيام ومضى ، فقال جبرئيل عليه‌السلام : يا محمّد ، خذ ناحية ثور ، وهو جبل على طريق منى له سنام كسنام الثور ، فمرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتلقّاه أبو بكر في الطريق ، فأخذ بيده ومرّ به ، فلمّا انتهى إلى ثور دخل الغار.

فلمّا أصبحت قريش وأضاء الصبح ، وثبوا في الحجرة وقصدوا الفراش ، فوثب عليّ عليه‌السلام إليهم وقام في وجوههم ، فقال لهم : مالكم؟ قالوا : أين ابن عمّك؟ قال عليّ عليه‌السلام : جعلتموني عليه رقيبا؟ ألستم ، قلتم له : اخرج عنّا؟ فقد خرج عنكم فما تريدون؟ فأقبلوا عليه يضربونه ، فمنعهم أبو لهب ، وقالوا : أنت كنت تخدعنا منذ الليلة؟ فلمّا أصبحوا تفرّقوا في الجبال.

وكان فيهم رجل من خزاعة يقال له : أبو كرز ، يقفو الآثار ، فقالوا له : يا أبا كرز ، اليوم اليوم ، فما زالوا يقفون أثر رسول الله حتّى وقف على باب الغار ، فقال : هذه قدم محمّد ، هي والله أخت القدم التي في المقام ، فلم يزل بهم حتّى وقّفهم على باب الغار ، وقال : ما جاوزوا هذا المكان ، إمّا أن يكونوا صعدوا إلى السماء ، أو دخلوا الأرض ، فبعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار ، وجاء فارس من

__________________

(١) الأنفال : ٣٠.

(٢) يس : ٩.

٢٥٥

الملائكة في صورة الإنس ، فوقف على باب الغار وهو يقول لهم : اطلبوا في هذه الشعاب ، فليس هيهنا فأقبلوا يدورون في الشعاب (١).

[الإذن بالهجرة إلى المدينة]

[٤٨٥ / ٢٦] ـ وبقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الغار ثلاثة أيّام ، ثمّ أذن الله تعالى له في الهجرة وقال : اخرج عن مكّة يا محمّد ، فليس لك بها ناصر بعد أبي طالب ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقبل راع لبعض قريش يقال له : ابن أريقط ، فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له : ائتمنك على دمي ، فقال : إذا والله أحرسك ولا أدلّ عليك ، فأين تريد يا محمّد؟ قال : يثرب ، قال : لأسلكنّ بك مسلكا لا يهتدي فيها أحد.

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ائت عليّا وبشّره بأنّ الله تعالى قد أذن لي في الهجرة ، فهيّئ لي زادا وراحلة. وقال أبو بكر : أعلم عامر بن فهيرة أمرنا وقل له : ائتنا بالزاد والراحلة وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الغار ، فلم يرجعوا إلى الطريق إلّا بقديد (٢) ، وقد كانت الأنصار بلغهم خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم ، وكانوا يتوقّعون قدومه إلى أن وافى مسجد قبا (٣)(٤).

ونزل على كلثوم بن الهدم شيخ صالح مكفوف ، واجتمعت إليه بطون الأوس ، ولم تجسر الخزرج أن يأتوا رسول الله لما كان بينهم وبين الأوس من

__________________

(١) عنه في بحار الأنوار ١٩ : ٤٧ / ٨ وعن إعلام الورى ١ : ١٤٥ ، تفسير القمّيّ ١ : ٢٧٣ ، سيرة ابن هشام ٢ : ١٢٤ ، دلائل النبوّة ٢ : ٤٦٧ ، الكامل في التاريخ ٢ : ١٠١.

(٢) قديد : اسم موضع قرب مكّة ، قال ابن الكلبيّ : لمّا رجع تبّع من المدينة بعد حرب لأهلها نزل قديدا فهبّت ريح قدّت خيم أصحابه فسمّي قديدا (معجم البلدان ٤ : ٣١٣).

(٣) في «ر» «س» زيادة : (ونزل فخرج إليه الرجال والنساء يستبشرون بقدومه).

(٤) إعلام الورى ١ : ١٤٨ وعنه في بحار الأنوار ١٩ : ٤٨ ، وانظر : تفسير القمّيّ ١ : ٢٧٣ ، سيرة ابن هشام ٢ : ١٢٤ ، الطبقات الكبرى ١ : ٢٢٧ ، دلائل النبوّة للبيهقيّ ٢ : ٤٦٧.

٢٥٦

العداوة (١) ، فلمّا أمسى أتاه أسعد بن زرارة مقنّعا ، فسلّم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفرح بقدومه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للأوس : من يجيره؟ فأجاره عويمر بن ساعدة وسعد بن خيثمة.

فبقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خمسة عشر يوما فقال أبو بكر : ندخل المدينة فالقوم متشوّقون إلى نزولك ، فقال : لأديم في هذا المكان حتّى يوافيني أخي عليّ بن أبي طالب وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد بعث إليه أن احمل العيال وأقدم ، فقال أبو بكر : ما أحسب عليّا يوافي ، قال : بلى ما أسرعه.

فلمّا قدم عليّ ركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله راحلته ، واجتمعت إليه بنو عمرو بن عوف ، فقالوا : يا رسول الله ، أقم عندنا ، قال : خلّوا عنها فإنّها مأمورة ، وبلغ الأوس والخزرج خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلبسوا السلاح وأقبلوا يعدون حول ناقته ، وأخذ كلّ حيّ بزمام ناقته ويقول : خلّوا سبيلها فإنّها مأمورة ، فبركت الناقة على باب أبي أيّوب ، فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وجاءته اليهود ، فقالوا : يا محمّد ، إلى ما تدعو؟ قال : إلى شهادة أن لا إله إلّا الله ، وأنّي رسول الله ، وأنا الذي تجدونني مكتوبا في التوراة ، والذي أخبركم به علماؤكم ، فحرمي بمكّة ومهاجري في هذه الحرّة (٢) ، فقالوا : قد سمعنا ما تقول وقد جئناك لنطلب منك الهدنة على أن لا نكون لك ولا عليك ، فأجابهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ذلك ، وكتب بينهم كتابا.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي في المربد (٣) بأصحابه ، ثمّ اشتراه وجعله المسجد ،

__________________

(١) في «ر» «س» «ص» : (عداوة).

(٢) في النسخ : (البحيرة) ، والمثبت عن البحار وإعلام الورى ١ : ١٥٧ والحرّة : أرض ذات حجارة سود نخرة كأنّما أحرقت بالنار والجمع حرار (ترتيب كتاب العين ١ : ٣٦٥ ، المصباح المنير : ١٢٨).

(٣) المربد : الموضع الذي تحبس فيه الإبل والغنم ، وبه سمّي مربد المدينة والبصرة (النهاية ٢ : ١٨٢).

٢٥٧

وكان يصلّي إلى بيت المقدس ، حتّى أتى له سبعة أشهر ، فأمر أن يصلّي إلى الكعبة ، فصلّى بهم الظهر ركعتين إلى هاهنا وركعتين إلى هاهنا (١).

فصل

في مغازيه صلى‌الله‌عليه‌وآله

[٤٨٦ / ٢٧] ـ قال المفسّرون وأهل السّير : إنّ جميع ما غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه ستّ وعشرون غزوة ، وأنّ جميع سراياه التي بعثها ولم يخرج معها ستّ وثلاثون سريّة ، وقاتل صلى‌الله‌عليه‌وآله في تسع غزوات منها ، وهي : بدر ، وأحد ، والخندق ، وبني قريظة ، والمصطلق ، وخيبر ، والفتح ، وحنين ، والطائف (٢) ونذكر بعضها :

فمنها : أنّه بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عبد الرحمن بن جحش (٣) إلى نخلة ، وقال : كن بها (٤) حتّى تأتينا بخبر من أخبار (٥) قريش ، ولم يأمره بقتال ، وذلك في الشهر الحرام ، وكتب له كتابا وقال له : اخرج أنت وأصحابك حتّى إذا سرت يومين ، فافتح كتابك وانظر فيه ، وامض لما أمرتك ، فلمّا سار يومين وفتح الكتاب فإذا فيه : امض حتّى تنزل نخلة ، فائتنا من أخبار قريش بما يصل إليك منهم.

فقال لأصحابه حين قرأ الكتاب : سمعا وطاعة من له رغبة (٦) في الشهادة

__________________

(١) عنه في بحار الأنوار ١٩ : ٦٩ وعن إعلام الورى ١ : ١٤٨ ـ ١٥٨ ، وانظر : دلائل النبوّة ٢ : ٤٩٨ ، الكامل في التاريخ ٢ : ١٠٩.

(٢) انظر : مغازي الواقدي ١ : ٧ ، الطبقات الكبرى ٢ : ٥ ـ ٦ ، وعنهما في بحار الأنوار ١٩ : ١٨٦ / ٤٣.

(٣) في إعلام الورى : (عبد الله بن جحش) ، وذكر في سيرة ابن هشام أنّ نخلة بين مكّة والطائف.

(٤) في «ر» «س» : (لن تزل بها) بدلا من : (كن بها).

(٥) قوله : (أخبار) لم يرد في «ر» «س».

(٦) في النسخ تقديم وتأخير ، والمثبت موافق لإعلام الورى ، والظاهر أنّ الصحيح هكذا : (فقال حين قرأ الكتاب : سمعا وطاعة ، فقال لأصحابه من كان له رغبة في الشهادة ...).

٢٥٨

فلينطلق معي ، فمضى معه القوم حتّى إذا نزلوا نخلة مرّ بهم عمرو بن الحضرميّ والحكم بن كيسان وعثمان والمغيرة ابنا عبد الله معهم تجارة قدموا بها من الطائف أدم (١) وزبيب ، فلمّا رآهم القوم أشرف لهم واقد (٢) بن عبد الله ، وكان قد حلق رأسه فقالوا : عمّار (٣) ليس عليكم منهم بأس وائتمر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو آخر يوم من رجب فقالوا : لئن قتلتموهم إنّكم لتقتلونهم (٤) في الشهر الحرام ، ولئن تركتموهم ليدخلوا (٥) هذه الليلة مكّة ، فأجمع القوم على قتلهم ، فرمى واقد ابن عبد الله التميميّ عمرو بن الحضرميّ بسهم فقتله ، واستأمن (٦) عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان ، وهرب المغيرة بن عبد الله ، فأعجزهم فاستاقوا العير ، فقدموا بها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقال : والله ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام ، وأوقف الأسيرين والعير ولم يأخذ منها شيئا ، وسقط في أيدي القوم ، فظنّوا أنّهم قد هلكوا ، وقالت قريش : استحلّ محمّد الشهر الحرام ، فأنزل الله تعالى جلّ ذكره : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ)(٧) الآية ، فلمّا نزل ذلك أخذ رسول الله العير وفدى الأسيرين ، وقال المسلمون : أيطمع لنا أن نكون غزاة ، فأنزل الله تعالى فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ)(٨)

__________________

(١) الأدم بالضمّ ما يؤكل مع الخبز أي شيء كان (النهاية ١ : ٣١).

(٢) في النسخ : (وافد) بدلا من : (واقد) ، والمثبت موافق لإعلام الورى.

(٣) كذا في النسخ والمصادر ، والظاهر أنّها : (أغماد).

(٤) في النسخ : (لتقتلوهم) ، والمثبت موافق لإعلام الورى.

(٥) في «ر» «س» : (يدخلوا) ، وفي إعلام الورى : (ليدخلنّ).

(٦) في إعلام الورى : (واستأسر).

(٧) البقرة : ٢١٧.

(٨) البقرة : ٢١٨.

٢٥٩

وكانت هذه قبل بدر بشهرين (١).

[غزوة بدر الكبرى]

[٤٨٧ / ٢٨] ـ ثمّ كانت غزوة بدر الكبرى ، وذلك أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سمع بأبي سفيان ابن حرب في أربعين راكبا من قريش تجّارا قافلين من الشام ، فخرج رسول الله في ثلاثمائة راكب ونيّف وأصحابه أكثرهم مشاة ، معهم ثمانون بعيرا وفرس (٢) ، وذلك في شهر رمضان ، فبلغ أبا سفيان الخبر ، فأخذ العير على الساحل ، وأرسل إلى أهل مكّة يستصرخ بهم ، فخرج منهم ألف رجل ، معهم مائتا فرس ومعهم القينات (٣) يضربن الدفوف ، فلمّا بلغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بدر ـ وهي بئر ـ وقد علم بفوات العير ومجيء قريش شاور أصحابه في لقائهم أو الرجوع.

فقالوا : الأمر إليك ، وكان لواء رسول الله أبيض مع مصعب بن عمير ، ورايته مع عليّ ، وأمدّهم الله بخمسة آلاف من الملائكة ، وكثّر الله المسلمين في أعين الكفّار ، وقلّل المشركين في أعين المؤمنين كيلا يفشلوا ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كفّا من تراب فرماه إليهم ، وقال : شاهت الوجوه ، فلم يبق منهم أحد إلّا اشتغل بفرك عينيه ، وقتل الله من المشركين سبعين رجلا وأسر سبعون منهم : العبّاس ، وعقيل ، ونوفل بن الحارث ـ فأسلموا وكانوا مكرهين في الخروج (٤) ـ وعقبة ابن أبي معيط ، والنضر بن الحارث قتلهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصفراء (٥).

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٦٦ وعنه في بحار الأنوار ١٩ : ١٨٨ وانظر سيرة ابن هشام ٢ : ٢٥٢ ، الطبقات الكبرى ٢ : ١٠ ، تاريخ الطبري ٢ : ٤١٠ ، دلائل النبوّة للبيهقيّ ٣ : ١٨.

(٢) في «م» : (بعيرا وفرسا) ، والمثبت موافق لإعلام الورى ١ : ١٦٨ وبقيّة المصادر.

(٣) في إعلام الورى : (القيان) ، قال في المصباح المنير : ٥٢١ : القينة : الأمة البيضاء هكذا قيده بن السكيت ، مغنّية كانت أو غير مغنّية ، وقيل : تختصّ بالمغنّية.

(٤) قوله : (في الخروج) لم يرد في «ص» «م».

(٥) قال ياقوت الحموي في معجم البلدان ٣ : ٤١٢ : وادي الصفراء : من ناحية المدينة وهو واد ـ

٢٦٠