فتح البيان فيما روي عن عليٍّ من تفسير القرآن

السيّد مصطفى الحسيني

فتح البيان فيما روي عن عليٍّ من تفسير القرآن

المؤلف:

السيّد مصطفى الحسيني


المحقق: سعد رستم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجسور الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٨

اسم من أسماء الله عزوجل ... الحديث (١).

وقال الميبديّ في تفسيره : " كان يحلف بكهيعص أمير المؤمنين عليّ" (٢). والحلف لا يكون إلا بأسماء الله تعالى.

وأمّا ما حكي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : «إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي» (٣). فإنه لا ينافي تفسيره عليه‌السلام هذه الحروف ، بأسماء الله ، لأن الصفوة من كل شيء خالصه ومصطفاه ، ومن القرآن الكريم أسماء الله عزوجل التي هي مفتاح معرفته ووسيلة دعائه وعبادته. قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (الأعراف : ١٨٠).

وقد تكلمت العرب بالحروف المقطعة كقول شاعرهم :

قلنا لها قفي ، فقالت قاف! لا تحسبني أنا نسينا الإيجاف (٤) ، والقاف في هذا البيت تدل على كلمة" وفقت" فدلت المرأة بتكلم القاف على تمام مرادها ، كذلك كل حرف من الحروف المقطعة في

__________________

(١) انظر : معاني الأخبار ، لابن بابويه ، ص ٤٤ ، و" التوحيد" له أيضا ص ٢٤٤.

(٢) راجع : كشف الأسرار وعدة الأبرار ، لأبي الفضل الميبدي ، ص ٦.

(٣) انظر مجمع البيان ، للطبرسي ، ج ١ ، ص ٦٨.

(٤) انظر جامع البيان ، للطبري ، ج ١ ، ص ٩٠.

٦١

كلام الله يدل على اسم كامل من أسماء الله جل وعلا.

وهذا التفسير أليق بكتاب الله تعالى وأنسب من غيره ، وإلى هذا ذهبت جماعة من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، منهم عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، قالوا : كل حرف من الحروف المقطّعة" اشتقّ من حروف هجاء أسماء الله جل ثناءه" ، كما رواه الطبري عنهم في تفسيره (١) ، وأمّا سائر الأقوال فهي من الظنون التي لا دليل عليها مثل ما قيل أنها رموز بين الله تعالى ورسوله! ولا محلّ للرموز في كتاب الله المبين الذي أنزله سبحانه هدى للناس ويسّره للذّكر وقال : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ؟) (النساء : ٨٢) ، وقال : (.. وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) (النساء : ١٧٤).

١٠ ـ ما روي عن عليّ عليه‌السلام في متشابهات القرآن

لا خلاف بين المسلمين أن للقرآن الكريم محكما ومتشابها كما قال الله عزوجل : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا

__________________

(١) انظر جامع البيان ، للطبري ، ج ١ ، ص ٨٨.

٦٢

اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (آل عمران : ٧).

واختلف المفسّرون من المسلمين في معنى المحكم والمتشابه فاشتهر بينهم أن المحكم في القرآن ما لا يحتمل من المعنى إلا وجها واحدا ، والمتشابه ما يحتمل وجهين فصاعدا من دون ترجيح أحدهما على غيره! وغفلوا عن ذكر القرائن (المتّصلة والمنفصلة) في القرآن النافية عنه التشابه والإبهام! ونسوا أن الكتاب الذي يحتمل وجوها من المعاني المتعارضة لا يكون هاديا للناس ولا يرشدهم إلى الصواب بل يوقعهم في التيه والحيرة وذلك ينافي قوله العزيز : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران : ١٣٨) ، وقوله تعالى : (.. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران : ١٠٣) وأمثال هذه الآيات.

وأمّا أمير المؤمنين عليّ ع فإنه ذهب إلى أنّ المتشابه في القرآن الحكيم هو الذي يبحث عن" الغيب المحجوب" كصفات الربّ وأسرار ملكوته (جلّ وعلا) وما حجب الله تعالى عن العباد علمه (١).

__________________

(١) قال عليه‌السلام عن عجز العقول عن اكتناه علمه وغيبه : «حار دون ملكوته عميقات مذاهب التفكير ، وانقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير ، وحال دون غيبه المكنون حجب من الغيوب ، تاهت في أدنى أدانيها طامحات العقول ..) (تيسير المطالب في أمالي أبي طالب ، ص ١٩٨).

٦٣

وذهب الإمام عليه‌السلام أيضا إلى أن الراسخين في العلم يؤمنون بمتشابه القرآن ولا يعلمون تأويله ، لأنّه ممّا استأثر الله تعالى بعلمه (١) ، كما رواه محمد بن عليّ بن بابويه القمي في كتابه" التوحيد" والشّريف الرّضيّ في" نهج البلاغة". قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة:

«روى مسعدة بن صدقة عن الصّادق جعفر بن محمّد عليه‌السلام أنّه قال : خطب أمير المؤمنين بهذه الخطبة على منبر الكوفة ، وذلك أنّ رجلا أتاه فقال : يا أمير المؤمنين صف لنا ربّنا مثل ما نراه عيانا لنزداد له حبّا وبه معرفة ، فغضب ونادى الصّلاة جامعة! فاجتمع إليه النّاس حتّى غصّ المسجد بأهله ، فصعد المنبر وهو مغضب متغيّر اللّون ، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النّبيّ ص ثمّ قال : «الحمد لله الّذي لا يفره المنع والجمود ولا يكديه الإعطاء والجود ، إذ كلّ معط منتقص سواه وكلّ مانع مذموم ما خلاه ، وهو

__________________

(١) ولسائل أن يسأل : ما الحكمة في إنزال الله سبحانه آيات متشابهات لا يعلم معناها أحدّ إلا الله نفسه؟! والجواب : ليس فهم معاني الآيات هو المشكل ـ سواء محكماتها أو متشابهاتها ـ لأنها لم تخرج عن أساليب كلام العرب لغة وإعرابا وإنّما الإشكال في فهم" تأويل المتشابه منها" أي معرفة حقائقها ومصاديقها ، كحقيقة العرش ، واللوح المحفوظ ، وكتاب الأعمال ، وأمثال هذه الأمور الغيبية.

٦٤

المنّان بفوائد النّعم وعوائد المزيد والقسم ، عياله الخلائق ، ضمن أرزاقهم وقدّر أقواتهم ، ونهج سبيل الرّاغبين إليه والطّالبين ما لديه وليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل ، الأوّل الّذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله والآخر الّذي لم يكن له بعد فيكون شيء بعده ، والرّادع أناسيّ الأبصار عن أن تناله أو تدركه ، ما اختلف عليه دهر فيخلف منه الحال ولا كان في مكان فيجوز عليه الانتقال ...

(إلى أن وصل إلى قوله) :

فانظر أيّها السّائل فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتمّ به واستضئ بنور هدايته ، وما كلّفك الشّيطان علمه ممّا ليس في الكتاب عليك فرضه ولا في سنّة النّبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وأئمّة الهدى أثره ، فكل علمه إلى الله سبحانه ، فإنّ ذلك منتهى حقّ الله عليك. واعلم أنّ الرّاسخين في العلم هم الّذين أغناهم عن اقتحام السّدد المضروبة دون الغيوب ، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما ، وسمّى تركهم التّعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخا ، فاقتصر على ذلك ، ولا تقدّر عظمة الله سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين» (١).

__________________

(١) راجع نهج البلاغة ، الخطبة ٩١ ، وشرحه لابن أبي الحديد (ج ٢ ، ص ٥٣٨) وكتاب" التوحيد" لابن بابويه : ص ٥٥ ـ ٥٦ ، ورواه أيضا من أئمة الزيدية السيد

٦٥

أقول مما يؤيد هذا الكلام المتين والنصّ الجليّ قوله تبارك وتعالى : (.. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ..) (آل عمران : ٧) فلو لم يكن تأويل المتشابه مما استأثر الله بعلمه ، لما ذمّ الله سبحانه طائفة على طلب تأويل المتشابه ، واقتصر بذمّهم على ابتغائهم الفتنة فحسب (١). وهذا امر دقيق يفهم من كتاب الله (٢) ، فتدبّر واغتنم.

١١ ـ ما روي عن عليّ في تفسير تكليم الله تعالى

إن الله عزوجل كلّم من اصطفى من عباده على وجوه مختلفة ، منها على صورة الإلهام أو الوحي في النّوم أو اليقظة ، ويسمّى هذا" وحي القلوب". ومنها على وجه النّداء والنّقر في

__________________

أبو طالب في أماليه (ص ٢٠٢) بإسناده عن زيد بن أسلم مع اختلاف يسير في بعض ألفاظه فلا يوجد فيه : (مما ليس في الكتاب فرضه ولا في سنة النبي ص وأئمة الهدى أثره) وهكذا روى ابن عبد ربّه شطرا منه في العقد الفريد.

(١) فبناء على ذلك" الواو" في قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) للاستئناف وليست عطفا.

(٢) من هنا نفهم وجه غضب الإمام عليه‌السلام ، حين سأله الرجل عمّا نهاه القرآن أن يخوض فيه.

٦٦

الآذان. ومنها على هيئة الايحاء بسبب الملائكة كما قال جلّ ذكره في كتابه الكريم :

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (الشورى : ٥١)

ونعرف وجها آخر من كلامه سبحانه يسمّى" الكلام التكويني" وإليه أشار في قوله تعالى :

(.. فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (فصلت : ١١) وفي قوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس : ٨٢) وفي قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي ..) (هود : ٤٤) وأمثال هذه الآيات.

وأمّا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام فقد فسّر تكليم الله ـ جلّ شأنه ـ في خطبه بما لا مزيد عليه من السّداد ، فقال عند تلاوته : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ..) (النور : ٣٧) :

«وما برح لله عزّت آلاؤه في البرهة بعد البرهة ، وفي أزمان الفترات ، عباد ناجاهم في فكرهم وكلّمهم في ذات عقولهم ..» (١).

__________________

(١) نهج البلاغة ، خطبة ٢١٩.

٦٧

فعبّر عليه‌السلام عن وعاء الإلهام" بالفكر والعقل" دون" القلب والفؤاد" لأنّ الإلهام يتعلّق بوعاء الذّهن وذلك من دقائق تعبيره.

ثمّ قال عليه‌السلام في خطبة أخرى من خطبه الجليلة :

«الّذي كلّم موسى تكليما وأراه من آياته عظيما ، بلا جوارح ولا أدوات ، ولا نطق ولا لهوات ..» (١).

وهذا وجه آخر من تكليم الله تعالى فإنّه ينادي عبده من وراء حجاب الغيب فيسمع نداءه ، والله تعالى لا يقاس بخلقه ولا يحتاج إلى جوارح النّطق وأدوات البيان.

ثم قال عليه‌السلام في خطبة أخرى عند وصف الملائكة الحاملين لوحيه إلى رسله :

«.. تسبّح جلال عزّته ، لا ينتحلون ما ظهر في الخلق من صنعه ، ولا يدّعون أنّهم يخلقون شيئا معه ممّا انفرد به (٢) ، (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (٣) ، جعلهم

__________________

(١) نهج البلاغة ، خطبة ١٨٠.

(٢) وفي هذه العبارة يشير الإمام عليه‌السلام إلى توحيد الخالقيّة.

(٣) الأنبياء : ٢٦ ـ ٢٧.

٦٨

الله فيما هنالك أهل الأمانة على وحيه وحمّلهم إلى المرسلين ودائع أمره ونهيه» (١).

وقال الإمام عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى : (كُنْ فَيَكُونُ) وهو طور آخر من كلامه العزيز :

«يقول لمن أراد كونه كن فيكون ، لا بصوت يقرع ، ولا بنداء يسمع ، وإنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثّله ، لم يكن من قبل ذلك كائنا ، ولو كان قديما لكان إلها ثانيا!» (٢).

فانظر في هذا التفسير فإنّه من كنوز العلم وطرائف الحكمة.

١٢ ـ ما روي عن عليّ عليه‌السلام في تفسير سورة التّوحيد

كان عليّ عليه‌السلام يحبّ ذكر وحدانيّة الله حبّا شديدا فجعل هذا الذّكر فاتحة كلامه وغاية مرامه ، ولأجل ذلك كان يقرأ في أكثر صلواته سورة التوحيد أو الإخلاص. فقد أخرج علي بن الحسين بن بابويه القمّيّ في كتاب" التوحيد" بإسناده عن عمران بن

__________________

(١) نهج البلاغة ، خطبة ٩٠.

(٢) نهج البلاغة ، خطبة ١٨٤.

٦٩

حصين (١) أنّ النبيّ ص بعث سرية واستعمل عليها عليّا عليه‌السلام فلمّا رجعوا سألهم فقالوا : كلّ خير غير أنّه قرأ بنا في كلّ صلاة بقل هو الله أحد! فقال (رسول الله) : يا عليّ! لم فعلت هذا؟؟ فقال : لحبّي لقل هو الله أحد. فقال النبي ص : «ما أحببتها حتّى أحبّك الله عزوجل» (٢).

ثم فسّر أمير المؤمنين ع هذه السورة للمسلمين لمّا سألوه عنها ، كما روي في تفسير" مجمع البيان" عن عبد خير ، قال : سأل رجل عليّا ع عن تفسير هذه السورة ، فقال :

«(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ :) بلا تأويل عدد. (اللهُ الصَّمَدُ :) بلا تبعيض بدد. (لَمْ يَلِدْ :) فيكون موروثا هالكا. (وَلَمْ يُولَدْ :) فيكون إلها مشاركا.

__________________

(١) عمران بن حصين بن عبيد بن خلف الخزاعي من أفاضل الصحابة ، أسلم عام خيبر وكان فاضلا ، وكان من أصحاب أمير المؤمنين علي عليه‌السلام توفي بالبصرة سنة ٥٢ ه‍.

(٢) ورواه من أهل السنة مسلم في صحيحه ولم يذكر اسم أميرهم : ولفظ روايته بسنده عن عائشة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث رجلا على سريّة. وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم ب (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ). فلمّا رجعوا ذكر ذلك لرسول الله صل. فقال : " سلوه. لأيّ شيء يصنع ذلك؟ ".

فسألوه. فقال : لأنّها صفة الرّحمن. فأنا أحبّ أن أقرأ بها. فقال رسول الله صل : " أخبروه أنّ الله يحبّه".

٧٠

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً) من خلقه (أَحَدٌ.)» (١).

وبيّن عليه‌السلام أيضا مفهوم وحدانيّة الله الذي جاء في هذه السورة الكريمة ، كما روى ابن بابويه القمّيّ في كتابه" معاني الأخبار" وكتابه" التوحيد" بإسناده عن المقدام بن شريح الهانئ عن أبيه (٢) ، قال : إن أعرابيّا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال يا أمير المؤمنين أتقول إن الله واحد؟ قال فحمل الناس عليه ، قالوا يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب؟! فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : دعوه فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم ، ثم قال : يا أعرابي إن القول في أن الله واحد على أربعة أقسام : فوجهان منها لا يجوزان على الله عزوجل ، ووجهان يثبتان فيه. فأما اللذان لا يجوزان عليه : فقول القائل واحد يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز لأن ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد أما ترى أنه كفر من قال ثالث ثلاثة ، وقول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز عليه لأنه تشبيه وجل ربنا عن ذلك وتعالى. وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه : فقول

__________________

(١) راجع مجمع البيان للطبرسي ، الجزء الثلاثون ، ص ٢٣٢ ، وكتاب : " معاني الأخبار" لابن بابويه القمّيّ ، ص ٥.

(٢) شريح بن هانئ بن يزيد الحارثيّ ، كان من خلّص أصحاب عليّ عليه‌السلام (تنقيح المقال : ج ٢ ، ص ٨٣).

٧١

القائل هو واحد ليس له في الأشياء شبه كذلك ربنا ، وقول القائل إنه عزوجل أحدي المعنى يعني به أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربنا عزوجل» (١).

وقال عليه‌السلام في بعض خطبه : «ولا صمده من أشار إليه وتوهّمه» (٢). أي ما قصد الله تعالى من أشار إليه بإشارة حسّيّة أو وهميّة. والصمد هو الذي يقصد إليه عند الحوائج.

وروي عن عليّ عليه‌السلام أيضا أنّه قال : «الصّمد الّذي ليس فوقه أحد» (٣). ولا منافاة بين الأمرين ، فالصّمد : هو المقصود إليه في الحوائج الذي ليس فوقه أحد ، جلّ ذكره تعالى.

١٣ ـ في تفسيره قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ

وَالْباطِنُ)

روي عن عاصم بن حميد (٤) أنّه قال : سئل عليّ بن الحسين عليه‌السلام عن التّوحيد فقال : «إنّ الله عزوجل علم أنّه يكون في آخر

__________________

(١) كتاب" التوحيد" لابن بابويه ، ص ٨٣.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٤.

(٣) راجع كشف الأسرار وعدّة الأبرار ، للميبدي ، ج ١٠ ، ص ٦٦٢.

(٤) عاصم بن حميد (بضم الحاء) الحناط الحنفي أبو الفضل ، مولى كوفي ، ثقة ، عين ، صدوق (خلاصة الأقوال) ، للحلي ، ص ٢٢٠.

٧٢

الزّمان أقوام متعمّقون فأنزل الله تعالى قل هو الله أحد والآيات من سورة الحديد إلى قوله وهو عليم بذات الصّدور فمن رام وراء ذلك فقد هلك!» (١).

أقول : ومن تلك الآيات قوله العزيز : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الحديد : ٣). وقد فسّرها أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام في خطبه بأحسن ما ينبغي أن يفسّر فقال عليه‌السلام : «الحمد لله الأوّل فلا شيء قبله ، والآخر فلا شيء بعده ، والظّاهر فلا شيء فوقه ، والباطن فلا شيء دونه» (٢).

وهذا الذي ذكره عليّ من تفسير الآية هو الذي فسّره رسول الله ص بعينه كما رواه الترمذيّ في سننه عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنه قال في أثناء دعائه : «... أنت الأوّل فليس قبلك شيء. وأنت الآخر فليس بعدك شيء. والظّاهر فليس فوقك شيء ، والباطن فليس دونك شيء. اقض عنّي الدّين وأغنني من الفقر» (٣).

__________________

(١) أصول الكافي ، للكليني ، ج ١ ، ص ٩١.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٩٦.

(٣) سنن الترمذي ، ج ٥ ، ص ٤٤٠ ، وقال أبو عيسى الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

٧٣

أقول : جاء" الظاهر" في هذا التفسير بمعنى" الغالب" ، كما قال الله عزوجل في كتابه الكريم : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) (الصف : ١٤).

ولأمير المؤمنين عليه‌السلام في معنى الظاهر والباطن تفسير آخر أورده في بعض خطبه حيث قال : «الظّاهر بعجائب تدبيره للنّاظرين والباطن بجلال عزّته عن فكر المتوهّمين» (١).

وقال أيضا : «ظهر للعقول بما أرانا من علامات التّدبير المتقن والقضاء المبرم» (٢).

فالمراد من الظهور في هذا الكلام المنير ، ما يقابل الخفاء والكمون ، ولا منافاة بين التفسيرين ، فإن لفظ الآية يشملهما.

١٤ ـ تفسير عليّ لقوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما

كُنْتُمْ)

مما نزّل في سورة الحديد قوله العزيز : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الحديد : ٤) ، وقد أخرج إبراهيم ابن

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٢١٣.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٢.

٧٤

محمد الثقفي الكوفي في كتاب" الغارات" عن الحارث ابن عبد الله الأعور (١) : «أن عليا عليه‌السلام دخل يوما (من أيام خلافته) السوق فقال : يا معشر اللحامين من نفخ منكم في اللحم فليس منا فإذا هو برجل موليه ظهره فقال كلا والذي احتجب بالسبع فضربه علي عليه‌السلام على ظهره ثم قال : يا لحام! ومن الذي احتجب بالسبع؟؟ قال : رب العالمين يا أمير المؤمنين! فقال له : أخطأت ثكلتك أمك (٢) إن الله ليس بينه وبين خلقه حجاب لأنه معهم أينما كانوا. فقال الرجل : ما كفّارة ما قلت يا أمير المؤمنين؟ قال : أن تعلم أن الله معك حيث كنت. قال (اللحام) : أطعم المساكين؟ قال (علي) : لا إنما حلفت بغير ربك!» (٣).

ثم إن عليا عليه‌السلام فسر للمسلمين معيّة الله تعالى في خطبه الجليلة فقال : «مع كلّ شيء لا بمقارنة وغير كلّ شيء لا بمزايلة» (٤).

__________________

(١) الحارث ابن عبد الله الأعور الهمداني ، كان من ثقات أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، نص على توثيقه علماء الشيعة في كتب رجالهم ووثقه بعض العلماء من أهل السنة كابن معين وغيره.

(٢) جاء في رواية الطبرسي في كتابه" الاحتجاج" (ص ١١٠) عبارة" يا ويلك! " مكان" ثكلتك أمّك" وهذا أليق بكلام علي عليه‌السلام وخلقه.

(٣) الغارات للثقفي ، ج ١ ، ص ١١١.

(٤) نهج البلاغة ، الخطبة ١.

٧٥

وقال عليه‌السلام : «لم يحلل في الأشياء فيقال هو كائن ولم ينأ عنها فيقال هو منها بائن» (١)

وقال عليه‌السلام : «قريب من الأشياء غير ملابس ، بعيد منها غير مباين» (٢)

وقال عليه‌السلام : «ليس في الأشياء بوالج ولا عنها بخارج» (٣)

وقال عليه‌السلام : «لم يقرب من الأشياء بالتصاق ولم يبعد عنها بافتراق» (٤).

أقول : كل هذه التعبيرات عن معيّة الله سبحانه تنبئنا عن كمال إحاطته بكلّ شيء ، من دون قياس وتشبيه بالخلق ، كما قال عليه‌السلام في بعض خطبه : " له الإحاطة بكلّ شيء والغلبة لكلّ شيء والقوّة على كلّ شيء" (٥).

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٦٥.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٧٩.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٦.

(٤) نهج البلاغة ، الخطبة ١٦٣.

(٥) نهج البلاغة ، الخطبة ٨٦.

٧٦

وقال عليه‌السلام أيضا : " لا يشبهه صورة ولا يحسّ بالحواسّ ولا يقاس بالنّاس. قريب في بعده بعيد في قربه. فوق كلّ شيء ولا يقال شيء فوقه. أمام كلّ شيء ولا يقال له أمام. داخل في الأشياء لا كشيء داخل في شيء ، وخارج من الأشياء لا كشيء خارج من شيء ، سبحان من هو هكذا ولا هكذا غيره ... الحديث" (١).

هكذا كان مذهب أهل البيت عليهم‌السلام في صفات الله عزوجل ومذهب سلف الأمة رضي الله تعالى عنهم.

١٥ ـ ما روي عن عليّ عليه‌السلام من تفسير" وجه الله"

قد ورد ذكر وجه الله ـ تعالى شأنه ـ في عدة من آيات القرآن الكريم كقوله جلّ ذكره : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (الرحمن : ٢٦ و ٢٧) وقوله العزيز : (.. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ..) (القصص : ٨٨) ، فتوهّم بعض الناس ممن لا يعرف إشارات الكلام أن لله سبحانه وجها مغايرا لذاته (كوجه الإنسان!) فزلّت أقدمهم في طريق معرفة الله وسقطوا

__________________

(١) الأصول من الكافي ، ج ١ ، ص ٨٦ ، وقريبا منه ذكره السيد أبو طالب من أئمة الزيديّة في أماليه. (ص ١٩٠).

٧٧

في مضيق التشبيه ، كأنهم لم يسمعوا قول الله عزوجل : (.. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى : ١١).

والإمام عليّ عليه‌السلام ردّ هذا الزعم الباطل ، وأبطل ما ذهب إليه أهل التشبيه وبيّن وجه الحقّ في معنى هذه الآيات. فقد أخرج محمد بن علي بن الحسين بن بابويه في كتابه" التوحيد" بإسناده عن سلمان الفارسي ـ رحمة الله ـ في حديث طويل يذكر فيه قدوم الجاثليق المدينة مع مائة من النصارى بعد وفاة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وسؤاله أبا بكر عن مسائل لم يجبه عنها ثم أشد إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام فسأله عنها فأجابه : «فكان فيما سأله أن قال له : أخبرني عن وجه الرب تبارك وتعالى؟ فدعا عليّ عليه‌السلام بنار وحطب فأضرمه ، فلما اشتعلت قال علي عليه‌السلام : «أين وجه هذه النار؟» قال النصراني : هي وجه من جميع حدودها! قال علي عليه‌السلام : «هذه النار مدبّرة مصنوعة لا يعرف وجهها وخالقها لا يشبهها (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (١) لا يخفى على ربّنا خافية ... الحديث» (٢).

__________________

(١) سورة البقرة : ١١٥.

(٢) كتاب" التوحيد" لابن بابويه القمّيّ ، ص ١٨٢.

٧٨

و" الوجه" في كلام العرب ربما يستعمل في معنى حقيقة الشيء وذاته كما يقال : " هذا وجه الأمر وذاك وجه الرأي". وقد جاء في كلام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : " عمي وجه الأمر" (١) أي خفيت حقيقته.

وقال عليه‌السلام : " رجل سمع من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) شيئا (حديثا) لم يحفظه على وجهه" (٢) أي على أصله وحقيقته. وقال عليه‌السلام : " واستظهر زادا ليوم رحيله ووجه سبيله" أي جهته وطريقه.

فوجه الله ـ سبحانه وتعالى ـ ذاته الحيّ الباقي ، كما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال في دعائه : «اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء ... وبوجهك الباقي بعد فناء كل شيء» (٣).

هذا وللوجه معان أخر تطلب في مواردها.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٥١.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٢١٠.

(٣) راجع : مصباح المتهجد ، لأبي جعفر الطوسي ، ص ٥٨٤.

٧٩

١٦ ـ في تفسيره قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا

زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (١)

روى محمد بن يعقوب الكليني في الكافي عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق قال : «بينا أمير المؤمنين عليه‌السلام يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له ذعلب ذو لسان بليغ في الخطب شجاع القلب فقال : يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك؟؟ قال : ويلك يا ذعلب ما كنت أعبد ربّا لم أره! فقال : يا أمير المؤمنين! كيف رأيته؟! قال : ويلك يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ...

ثم بيّن له عليّ عليه‌السلام شطرا مما رأى عقله المنير وقلبه الطاهر من صفات ربه ـ جل وعلا ـ ومن جملته أن قال :

«.. وبمضادّته بين الأشياء عرف أن لا ضدّ له ، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له ، ضادّ النّور بالظّلمة واليبس بالبلل والخشن باللّيّن والصّرد بالحرور ، مؤلّف بين متعادياتها ومفرّق بين متدانياتها ، دالّة بتفريقها على مفرّقها وبتأليفها على مؤلّفها ، وذلك قوله تعالى (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)

__________________

(١) سورة الذاريات : ٤٩.

٨٠