فتح البيان فيما روي عن عليٍّ من تفسير القرآن

السيّد مصطفى الحسيني

فتح البيان فيما روي عن عليٍّ من تفسير القرآن

المؤلف:

السيّد مصطفى الحسيني


المحقق: سعد رستم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجسور الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٨

وروى المفسّرون أن رجلا تزوّج من امرأة فولدت له تماما لستة أشهر ، فانطلق زوجها إلى عثمان بن عفان (وفي بعض الروايات أنه انطلق إلى عمر بن الخطاب) فأمر برجمها ، فبلغ ذلك عليا عليه‌السلام ، فأتاه ، فقال : ما تصنع؟ قال : ولدت تماما لستة أشهر وهل يكون ذلك؟ قال علي عليه‌السلام : أما سمعت الله تعالى يقول (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ..)؟ (الأحقاف : ١٥) وقال : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ..) (البقرة : ٢٣٣) فكم تجده بقي إلا ستة أشهر؟ (١)

١٢ ـ وكان عليّ عليه‌السلام يحاجّ أعداءه بالقرآن كما أثبت المؤرخون احتجاجاته مع الخوارج وغيرهم. من ذلك ما رواه الدينوري في" الأخبار الطوال" : حيث يقول : قالت الخوارج لعليّ عليه‌السلام : «إنا كفرنا حين رضينا بالحكمين وقد تبنا إلى الله من ذلك فإن تبت كما تبنا فنحن معك وإلا فأذن بحرب فإنّا منا بذوك على سواء! فقال لهم عليّ عليه‌السلام : «أشهد على نفسي بالكفر؟! (.. قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (الأنعام : ٥٦) ، ثم قال عليه‌السلام :

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ذيل تفسيره لقوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (الزخرف : ٨١) وتفسير الدر المنثور للسيوطي ذيل تفسيره لقوله تعالى (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ..) (الأحقاف : ١٥) ، وتفسير القرطبي ، ذيل تفسيره للآيتين المذكورتين.

٢١

«ليخرج إليّ رجل منكم ترضون به حتى أقول ويقول ، فإن وجبت عليّ الحجّة أقررت لكم وتبت إلى الله ، وإن وجبت عليكم فاتقوا الذي مردّكم إليه. فقالوا : لعبد الله بن الكوّاء ـ وكان من كبرائهم ـ : اخرج إليه حتى تحاجّه! فخرج إليه. فقال علي عليه‌السلام : «يا ابن الكوّاء! ما الذي نقمتم عليّ؟ بعد رضاكم بولايتي وجهادكم معي وطاعتكم لي؟! فهلا برئتم منّي يوم الجمل؟! قال ابن الكوّاء : لم يكن هناك تحكيم. فقال علي عليه‌السلام : يا ابن الكواء! أنا أهدى أم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)؟ قال ابن الكواء : بل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : فما سمعت قول الله عزوجل : (... فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ)؟ (آل عمران : ٦١) أكان الله يشكّ أنهم كاذبون؟ قال : إن ذلك كان احتجاجا عليهم وأنت شككت في نفسك حين رضيت بالحكمين! فنحن أحرى أن نشكّ فيك! قال علي عليه‌السلام : وإن الله تعالى يقول : (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ ..) (سورة القصص : ٤٩) ، قال ابن الكواء : ذلك أيضا احتجاج منه عليهم! فلم يزل علي عليه‌السلام يحاجّ ابن الكوّاء بهذا وشبهه. قال ابن الكوّاء : أنت صادق في جميع ما تقول غير أنّك كفرت حين حكّمت الحكمين! (١).

__________________

(١) انظر : الأخبار الطوال ، للدينوري ، ص ٢٠٨ و ٢٠٩.

٢٢

وزاد الطبري في تاريخه : فقال (عليّ عليه‌السلام) : «إنا لسنا حكّمنا الرجال إنما حكّمنا القرآن وهذا القرآن إنّما هو خطّ مسطور بين دفّتين لا ينطق إنّما يتكلّم به الرّجال.» قالوا : فخبّرنا عن الأجل لم جعلته فيما بينك وبينهم؟؟ قال : «ليعلم الجاهل ويتثبّت العالم ، ولعلّ الله عزوجل يصلح في هذه الهدنة هذه الأمّة ، أدخلوا مصركم رحمكم الله! ..» (١).

١٣ ـ وكان عليّ عليه‌السلام يستشهد في مكاتباته بأي القرآن كما أورد اليعقوبي في تاريخه نبذة منها ، ومن ذلك كتابه عليه‌السلام إلى" يزيد بن قيس الأرحبي" (٢) : أما بعد ، فإنك أبطأت بحمل خراجك ، وما أدري ما الذي حملك على ذلك. غير أني أوصيك بتقوى الله وأحذرك أن تحبط أجرك وتبطل جهادك بخيانة المسلمين ، فاتق الله ونزه نفسك عن الحرام ، ولا تجعل لي عليك سبيلا ، فلا أجد بدّا من الإيقاع بك ، وأعزز المسلمين ولا تظلم المعاهدين ، (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ

__________________

(١) تاريخ الأمم والملوك للطبري ، ج ٥ ، ص ٦٦. والكامل في التاريخ لابن الأثير الجزري ، ج ٣ ، ص ٣٢٨.

(٢) كان عامل عليّ عليه‌السلام على الريّ وهمدان وأصفهان.

٢٣

إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص : ٧٧) (١).

١٤ ـ وكان عليه‌السلام إذا أراد أن يسير إلى الحرب قعد على دابّته وقال : «الحمد لله رب العالمين على نعمه علينا وفضله العظيم (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) (الزخرف : ١٣ و ١٤) ثم يوجّه دابّته إلى القبلة ثم يرفع يديه إلى السماء ثم يقول : «اللهم إليك نقلت الأقدام وأفضت القلوب ورفعت الأيدي وشخصت الأبصار ، نشكو إليك غيبة نبيّنا وكثرة عدوّنا وتشتّت أهوائنا. (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (الأعراف : ٨٩) سيروا على بركة الله!» (٢).

١٥ ـ وكان عليه‌السلام إذا أراد الغزو حرّض أصحابه على القتال بآي القرآن فقال : «إن الله عزوجل قد دلّكم على تجارة تنجيكم من العذاب وتشفي بكم على الخير ، إيمان بالله ورسوله وجهاد في سبيله ، وجعل ثوابه مغفرة الذنوب ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ، فأخبركم بالذي يحبّ فقال : (إِنَّ اللهَ يُحِبُ

__________________

(١) راجع تاريخ اليعقوبي : ج ٢ ، ص ٢٠٠ ـ ٢٠١.

(٢) كتاب" وقعة صفين" لنصر بن مزاحم الثقفي ، ص ٢٣١.

٢٤

الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف : ٤)» (١).

١٦ ـ وكان عليه‌السلام إذا أبصر بعض أصحابه ، بشّره بقراءة القرآن ، كما روي أنّه : أتى سليمان بن صرد الخزاعي (٢) عليّا أمير المؤمنين عليه‌السلام ووجهه مضروب بالسيف ، فلمّا نظر إليه علي عليه‌السلام قال : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب : ٢٣) فأنت ممّن ينتظر وممّن لم يبدّل (٣).

١٧ ـ وكان عليه‌السلام يكتب إلى أمراء الأجناد فيذكّرهم بالقرآن فكتب : «... فاعزلوا الناس عن الظلم والعدوان وخذوا على أيدي سفهائكم واحترسوا أن تعملوا أعمالا لا يرضى الله بها عنا فيرد علينا وعليكم دعاءنا فإن الله تعالى يقول : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) (الفرقان : ٧٧) (٤).

__________________

(١) كتاب" وقعة صفين" لنصر بن مزاحم الثقفي ، ص ٢٣٥.

(٢) سليمان بن صرد الخزاعي أبو مطرف الكوفي رضي الله عنه ، صحابي جليل وكان أيضا من أصحاب وشيعة الإمام علي عليه‌السلام ، استشهد بعين الوردة سنة ٦٥ ه‍.

(٣) المصدر السابق : ص ٥١٩.

(٤) المصدر السابق : ص ١٢٥.

٢٥

١٨ ـ وربّما أنشد أحد الشعر عند علي أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام فأمره أن يقرأ القرآن مكان شعره ، كما روي أنّه عليه‌السلام لمّا انتهى إلى مدينة بهر سير (في مسير صفّين) إذا رجل من أصحابه يقال له" حرّ بن سهم بن طريف" من بني ربيعة بن مالك ، ينظر إلى آثار كسرى وهو يتمثل قول ابن يعفر التميمي (١)

جرت الرياح على مكان ديارهم

فكأنما كانوا على ميعاد

فقال عليّ عليه‌السلام : «أفلا قلت : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) (الدخان : ٢٥ ـ ٢٩) إنّ هؤلاء كانوا وارثين فأصبحوا موروثين. إن هؤلاء لم يشكروا النعمة فسلبوا دنياهم بالمعصية. إياكم وكفر النّعم لا تحلّ بكم النّقم» (٢).

١٩ ـ وربّما أعذر أحد عنده فعذره عليه‌السلام ورفع عنه اللوم بآية من القرآن كما روي أنّه لمّا رجع من صفّين وانتهى إلى النّخيلة رأى شيخا في ظلّ بيت على وجهه أثر المرض فسلّم عليه فردّ ردّا حسنا فسأله عن حاله وبشّره برحمة الله وغفرانه وقال له : «هل شهدت

__________________

(١) من شعراء الجاهلية.

(٢) المصدر السابق ، ص ١٤٢ ـ ١٤٣.

٢٦

معنا غزاتنا هذه؟ قال : لا والله ما شهدتها ولقد أردتها ولكن ما ترى بي من لحب الحمّى خذلني عنها. قال عليّ : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة : ٩١)» (١).

٢٠ ـ وكان عليّ عليه‌السلام يكثر من مدح القرآن ويثني على أهله خيرا بأبلغ بيان وأحسن الكلام وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

٢١ ـ وكان من وصيّته عليه‌السلام لمّا حضره الموت أنّه قال : «.. والله الله في القرآن ، لا يسبقكم بالعمل به غيركم!» (٢).

هكذا كان عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ كما أخبر بذلك النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم). روى الخطيب البغدادي في تاريخه بسنده عن أبي ثابت قال : دخلت على أمّ سلمة رضي الله عنها فرأيتها تبكي وتذكر عليّا! قالت : سمعت النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : «عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ ، لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض يوم القيامة» (٣).

__________________

(١) المصدر السابق ، ص ٥٢٨ ـ ٥٢٩.

(٢) انظر نهج البلاغة ، للشريف الرضي ، ص ٤٢٢.

(٣) انظر تاريخ بغداد ، للخطيب البغدادي ، ج ١٤ ، ص ٣٢١.

٢٧

٢ ـ كلام عليّ عليه‌السلام في وصف القرآن

إن عليا عليه‌السلام كثيرا ما ندب أصحابه إلى القرآن ، وبيّن فضله بأبلغ البيان ، فما نرى أحدا من العلماء وصف القرآن كما وصفه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، لأن عليّا كان قلبه مرآة القرآن وعمله ثمرة لهذه الشجرة المباركة ، فينبغي لنا أن نسكت في هذا المقام ونفوّض نعت القرآن إلى عليّ عليه‌السلام (وفي طلعة الشّمس ما يغنيك عن زحل!) ؛ فاستمع إلى كلام تشدّ الرّحال فيما دونه :

١ ـ قال عليه‌السلام : «بعث الله محمّدا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالحقّ ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته ومن طاعة الشّيطان إلى طاعته بقرآن قد بيّنه وأحكمه ، ليعلم العباد ربّهم إذ جهلوه ، وليقرّوا به بعد إذ جحدوه ، وليثبتوه بعد إذ أنكروه ، فتجلّى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه ، فأراهم حلمه كيف حلم ، وأراهم عفوه كيف عفا ، وأراهم قدرته كيف قدر ، وخوّفهم من سطوته ، وكيف خلق ما خلق من الآيات ، وكيف محق من محق من العصاة بالمثلات واحتصد من

٢٨

احتصد بالنّقمات ، وكيف رزق وهدى وأعطى ..» (١).

٢ ـ وقال عليه‌السلام : «واعلموا أنّ هذا القرآن هو النّاصح الّذي لا يغشّ والهادي الّذي لا يضلّ والمحدّث الّذي لا يكذب ، وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان : زيادة في هدى أو نقصان من عمى. واعلموا أنّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ، ولا لأحد قبل القرآن من غنى ؛ فاستشفوه من أدوائكم ، واستعينوا به على لأوائكم ، فإنّ فيه شفاء من أكبر الدّاء ، وهو الكفر والنّفاق والغيّ والضّلال ، فاسألوا الله به ، وتوجّهوا إليه بحبّه ، ولا تسألوا به خلقه ، إنّه ما توجّه العباد إلى الله تعالى بمثله ، واعلموا أنّه شافع مشفّع ، وقائل مصدّق ..» (٢).

٣ ـ وقال عليه‌السلام : «وعليكم بكتاب الله فإنّه الحبل المتين ، والنّور المبين ، والشّفاء النّافع ، والرّيّ النّاقع ، والعصمة للمتمسّك ، والنّجاة للمتعلّق ، لا يعوجّ فيقام ، ولا يزيغ فيستعتب ، ولا

__________________

(١) راجع روضة الكافي للكليني ، ص ٣٨٦ ، ونهج البلاغة ، الخطبة ١٤٧ ، على اختلاف يسير بين رواية الكليني ورواية الشريف الرضيّ.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٧٦.

٢٩

تخلقه كثرة الرّدّ وولوج السّمع ، من قال به صدق ، ومن عمل به سبق ..» (١).

٤ ـ وقال عليه‌السلام : «وإنّ الله سبحانه لم يعظ أحدا بمثل هذا القرآن ، فإنّه حبل الله المتين وسببه الأمين ، وفيه ربيع القلب وينابيع العلم ، وما للقلب جلاء غيره ..» (٢).

٥ ـ وقال عليه‌السلام : «فالقرآن آمر زاجر ، وصامت ناطق ، حجّة الله على خلقه ، أخذ عليه ميثاقهم وارتهن عليهم أنفسهم ، أتمّ نوره وأكمل به دينه ، وقبض نبيّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وقد فرغ إلى الخلق من أحكام الهدى به ..» (٣).

٦ ـ وقال عليه‌السلام : «ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم ، ولكن أخبركم عنه : إنّ فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة ، وحكم ما بينكم» (٤).

٧ ـ وقال عليه‌السلام : «تعلّموا القرآن فإنّه أحسن الحديث ، وتفقّهوا فيه فإنّه ربيع القلوب ، واستشفوا بنوره فإنّه شفاء الصّدور ،

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٥٦.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٧٦.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٣.

(٤) نهج البلاغة ، الخطبة ١٥٨.

٣٠

وأحسنوا تلاوته فإنّه أنفع القصص» (١).

٨ ـ وقال عليه‌السلام : «وكتاب الله بين أظهركم ، ناطق لا يعيا لسانه ، وبيت لا تهدم أركانه ، وعزّ لا تهزم أعوانه» (٢).

٩ ـ وقال عليه‌السلام : «وفي القرآن نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم» (٣).

١٠ ـ وقال عليه‌السلام : «إنّ القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه ، ولا تنقضي غرائبه ، ولا تكشف الظّلمات إلا به ...» (٤).

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١١٠.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٣٣.

(٣) نهج البلاغة ، حكم أمير المؤمنين ، حكمة رقم ٣١٣.

(٤) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨.

٣١

٣ ـ كلام عليّ عليه‌السلام في ذمّ تفسير القرآن بالرّأي

قسّم الإمام عليّ عليه‌السلام العباد في كلامه إلى فئتين ، فئة قامعة لهواها ، تابعة لكلام ربّها تحلّ حيث حلّ القرآن ، فالقرآن إمامها وقائدها. وأخرى من أهل الزيغ والهوى ، وتحميل الرّأي على القرآن ، كأنّهم أئمّة الكتاب وليس الكتاب إمامهم! فقال في وصف رجل من الفئة الأولى :

«قد ألزم نفسه العدل ، فكان أوّل عدله نفي الهوى عن نفسه ، يصف الحقّ ويعمل به ، لا يدع للخير غاية إلا أمّها ولا مظنّة إلا قصدها قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده وإمامه يحلّ حيث حلّ ثقله وينزل حيث كان منزله ..» (١).

ثم وصف عليه‌السلام رجلا آخر من الفئة الثانية فقال :

«وآخر قد تسمّى عالما وليس به ، فاقتبس جهائل من جهّال وأضاليل من ضلال ونصب للنّاس أشراكا من حبائل غرور وقول زور قد حمل الكتاب على آرائه وعطف الحقّ على أهوائه» (٢).

__________________

(١) نهج البلاغة ، خطبة ٨٧.

(٢) نهج البلاغة ، خطبة ٨٧.

٣٢

وقال عليه‌السلام أيضا : «وإنّه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحقّ ولا أظهر من الباطل ، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله ، وليس عند أهل ذلك الزّمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حقّ تلاوته ، ولا أنفق منه إذا حرّف عن مواضعه! ولا في البلاد شيء أنكر من المعروف ، ولا أعرف من المنكر ، فقد نبذ الكتاب حملته وتناساه حفظته ، فالكتاب يومئذ وأهله طريدان منفيّان وصاحبان مصطحبان في طريق واحد لا يؤويهما مؤو. فالكتاب وأهله في ذلك الزّمان في النّاس وليسا فيهم ، ومعهم وليسا معهم ، لأنّ الضّلالة لا توافق الهدى وإن اجتمعا ، فاجتمع القوم على الفرقة وافترقوا على الجماعة ، كأنّهم أئمّة الكتاب وليس الكتاب إمامهم ، فلم يبق عندهم منه إلا اسمه ولا يعرفون إلا خطّه وزبره ، ومن قبل ما مثّلوا بالصّالحين كلّ مثلة وسمّوا صدقهم على الله فرية وجعلوا في الحسنة عقوبة السّيّئة (١) ...»

أقول : أصل هذا الكلام مرويّ عن رسول الله فأخذ أمير المؤمنين عليه‌السلام شطرا منه وبيّنه بأفضل بيان وتفصيل. روى الكليني في الروضة من الكافي بسنده عن أبي عبد الله الصادق قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) :

__________________

(١) نهج البلاغة ، خطبة ١٤٧.

٣٣

«سيأتي على النّاس زمان لا يبقى من القرآن إلا رسمه ومن الإسلام إلا اسمه ، يسمّون به وهم أبعد النّاس منه ، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى ، فقهاء ذلك الزّمان شرّ فقهاء تحت ظلّ السّماء ، منهم خرجت الفتنة وإليهم تعود!» (١).

وقال عليه‌السلام أيضا في النهي عن تفسير القرآن بالرأي : «فإنّه ينادي مناد يوم القيامة : ألا إنّ كلّ حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله غير حرثة القرآن فكونوا من حرثته وأتباعه واستدلّوه على ربّكم واستنصحوه على أنفسكم واتّهموا عليه آراءكم واستغشّوا فيه أهواءكم» (٢).

أقول : لا ريب أن القرآن الكريم نزل من عند الله رب العالمين ليتدبّر الناس آياته وليهتدوا به ، فالمراد من التفسير بالرّأي المنهيّ عنه في كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، تحميل الرّأي المتّخذ من المسالك المختلفة على القرآن كما هو معمول به عند أرباب المذاهب :

فكلّ يدّعي وصلا بليلى

وليلى لا تقرّ لهم بذاكا!

وأما من ترك تأويلات الصوفية ونسي الآراء الفلسفية وأعرض عن الأقوال الكلامية وأمثالها وتمسّك بحبل القرآن وطلب

__________________

(١) الروضة من الكافي ، للكليني (حديث الفقهاء والعلماء) ح رقم ٣.

(٢) نهج البلاغة ، خطبة ١٧٦.

٣٤

حلّ مشكل القرآن من نفسه وفسّر آية منه بآية أخرى ، أو بسنّة من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقد هدي إلى صراط مستقيم. هذا هو المنهج الحقّ في تفسير القرآن المبين وقد أشار إليه أمير المؤمنين عليه‌السلام في كلامه فقال :

«كتاب الله تبصرون به وتنطقون به وتسمعون به ، وينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض ولا يختلف في الله ، ولا يخالف بصاحبه عن الله» (١)

وقال عليه‌السلام : «واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور فقد قال الله تعالى لقوم أحبّ إرشادهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) : فالرّدّ إلى الله الأخذ بمحكم كتابه والرّدّ إلى الرّسول الأخذ بسنّته الجامعة غير المفرّقة» (٢).

فعلى المفسّر أن يسير إلى ما يتّجه إليه القرآن ويسكت فيما سكت الله عنه فلا يتكلّف نفسه في صرف مدلولات الآيات عن

__________________

(١) نهج البلاغة ، خطبة ١٣٣.

(٢) نهج البلاغة ، الكتاب ٥٣ (عهده للأشتر النخعيّ).

٣٥

ظواهرها ، ولا يجاوز حدود الله سبحانه في كلامه كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

«إنّ الله فرض عليكم فرائض فلا تضيّعوها وحدّ لكم حدودا فلا تعتدوها ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسيانا فلا تتكلّفوها ..» (١).

وذلك هو المنهج العلويّ في تفسير الذّكر الحكيم.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الحكمة ١٠٥ ، ص ٤٨٧.

٣٦

٤ ـ ظاهر القرآن وباطنه في كلام عليّ عليه‌السلام

المشهور بين المسلمين أن للقرآن الكريم ظهرا وبطنا ، كما وجدنا هذا المعنى في كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث يقول :

«.. وإنّ القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولا تكشف الظّلمات إلا به» (١).

فتعلّقت طائفة بهذا الكلام وصرفوا معنى القرآن عن وجهه فوضعوه في غير موضعه ، وأتوا في تأويل باطن الكتاب بما لم يرو عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أمثاله ، ولا عن الصحابة والتابعين أشباهه! والصواب أن المراد من ظاهر القرآن هو فصيح لغته وعجيب نظمه ، وغريب أسلوبه ، والمقصود من باطن القرآن عمق معناه ولطف مفهومه كما رووا عن عليّ عليه‌السلام أنّه قال :

«ما من آية إلّا ولها أربعة معان : ظاهر وباطن وحدّ ومطلع ، فالظاهر التلاوة والباطن الفهم ، والحدّ هو أحكام الحلال والحرام ، والمطلع هو مراد الله من العبد بها.» (٢).

__________________

(١) نهج البلاغة ، خطبة ١٠٥

(٢) الصافي في تفسير القرآن الكريم ، للفيض الكاشاني ، ج ١ ، ص ١٨ (أو ص ٣١) ، ومفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار لمحمد بن عبد الكريم الشهرستاني ، ج ١ ، ص ٢٧.

٣٧

فباطن القرآن كما صرّح به في هذه الرواية هو عمق مفاهيمه ، وذلك يدرك بالتدبّر والتأمّل. وأمّا ما حكي في الروايات الشاذّة عن باطن القرآن مما لا يدلّ عليه الكتاب بوجه من الوجوه ، فليس من باطن كتاب الله عزوجل ، فكيف يعدّ من معاني القرآن ما لا يدلّ القرآن عليه بدلالة لفظيّة ولا معنويّة؟! والأقرب أن تلك الروايات الشاذّة من وضع الباطنيّة والفرق الضالّة ، وضعوها للتغرير بالنّاس ودعوتهم إلى مذاهبهم المبتدعة.

٥ ـ تيسير فهم القرآن ورأي عليّ عليه‌السلام في ذلك

ذهبت طائفة من المسلمين إلى أن القرآن الكريم بعيد معناه عن فهم البشر لا يدركه إلا النبيّ الخاتم والإمام المعصوم. وهذا رأي غير سديد وظاهر البطلان يخالف دعوة الله تعالى عباده إلى التفكّر في القرآن ليعلموا أنّه الحقّ من ربّهم ، ويضادّ حديث رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في ذلك كما رواه عنه عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام :

فأما دعوة الله تعالى فتجدها في قوله العزيز :

٣٨

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر : ١٧ ، و ٢٢ و ٣٢ و ٤٠).

وقوله تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (سورة ص : ٢٩).

وقوله عزّ شأنه : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء : ٨٢). ومثله قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (محمد : ٢٤).

وأما حديث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقد رواه" الحارث الأعور" عن عليّ عليه‌السلام عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كما يلي :

«عن الحارث الأعور قال : مررت في المسجد فإذا النّاس يخوضون في الأحاديث فدخلت على عليّ ، فقلت : يا أمير المؤمنين ألا ترى النّاس قد خاضوا في الأحاديث؟ قال : وقد فعلوها؟ قلت : نعم ، قال : أما إني قد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : " ألا إنّها ستكون فتنة ، فقلت : ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال : «كتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبّار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذّكر الحكيم ، وهو الصّراط المستقيم ، هو الّذي لا تزيغ به

٣٩

الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق على كثرة الرّدّ ، ولا تنقضي عجائبه ، هو الّذي لم تنته الجنّ إذ سمعته حتّى قالوا (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) ، من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» خذها إليك يا أعور» (١).

رواه من أهل السنّة الترمذي والدارمي في سننها ، ومن الإمامية محمد بن مسعود العيّاشيّ في تفسيره مع اختلاف يسير في ألفاظه.

وفي الحديث ما يدل على أن طائفة من الجنّ قد فهموا القرآن ، حيث علموا أنه : (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) وآمنوا به ، فكيف لا يفهمه البشر وقد نزل القرآن بلسانهم؟!

والحديث أيضا شاهد على أن الذين يطلبون الهدى في غير القرآن فلا يهديهم الله إلى صراط مستقيم ، فهل يجوز أن يقال الرجوع إلى القرآن لطلب الهدى باطل أو عبث بلا فائدة؟!

فالحقّ أنّ القرآن نزل بيانا للناس ليفهموا معالمه وليعرفوا مقاصده ، ومع ذلك جائز أن يقال : إن لفهم دقائق القرآن ومعرفة

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الجامع الصحيح : ج ٥ ، باب ما جاء في فضل القرآن ، ص ١٨٥ ، وجاء مثله في تفسير العياشي ج ١ ، ص ٣.

٤٠