مستمسك العروة الوثقى - ج ١٤

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مستمسك العروة الوثقى - ج ١٤

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٧

البوادي والقرى من الاعراب وغيرهم [١] ، وهو مشكل [٢] نعم الظاهر عدم حرمة التردد في الأسواق ونحوها مع العلم بوقوع النظر عليهن ، ولا يجب غض البصر إذا لم يكن هناك خوف افتتان.

______________________________________________________

وقد عرفت أنه المتعين. اللهم إلا أن يفهم أن ذكر الشعور والأيدي من باب أن المتعارف كشفه ، لا لخصوصية فيهما.

[١] لخبر عباد بن صهيب : « سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : لا بأس بالنظر الى رؤوس نساء أهل تهامة ، والأعراب ، وأهل السواد ، والعلوج ، لأنهم إذا نهوا لا ينتهون » (١). وعن الفقيه أنه رواه مكان‌ « أهل السواد والعلوج » ‌: « أهل البوادي من أهل الذمة » (٢).

[٢] لضعف عباد. لكن رواه في الكافي هكذا : « عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن محبوب ، عن عباد بن صهيب » وأحمد بن محمد بن عيسى أخرج البرقي من قم لأنه يروي عن الضعفاء ، ويعتمد المراسيل. وابن محبوب هو الحسن بن محبوب من أصحاب الإجماع ، وممن لا يروي إلا عن ثقة. ولا يبعد أن يكون ذلك كافياً في جبر ضعف السند. واحتمل في الجواهر أن يكون المراد من التعليل عدم وجوب غض النظر وترك التردد في الأسواق والأزقة من أجلهن ، لأنهن لا ينتهين بالنهي ، فيلزم من ترك ذلك العسر والحرج. لكنه خلاف الظاهر. فلا يبعد إذاً العمل بالحديث ، لو لا ما قد يظهر من المشهور من عدم العمل به ، لعدم‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١١٣ من أبواب مقدمات النكاح حديث : ١.

(٢) من لا يحضره الفقيه الجزء : ٣ صفحة ٣٠٠ طبعة النجف الحديثة. لكن الموجود فيه هكذا : « لا بأس بالنظر الى شعور أهل تهامة والاعراب وأهل البوادي من أهل الذمة والعلوج لأنهن إذا نهين لا ينتهين ».

٢١

( مسألة ٢٨ ) : يجوز لكل من الرجل والمرأة [١] النظر الى ما عدا العورة من مماثله شيخا أو شاباً ، حسن الصورة أو قبيحها ، ما لم يكن بتلذذ أو ريبة [٢]. نعم يكره كشف المسلمة بين يدي اليهودية والنصرانية [٣] ، بل مطلق الكافرة [٤] ، فإنهن يصفن ذلك لأزواجهن. والقول بالحرمة‌

______________________________________________________

تعرضهم لمضمونه. نعم لا بأس بالعمل به بالمقدار الذي عليه السيرة ، وهو ما أشار إليه المصنف (ره) بقوله : « نعم الظاهر .. ».

[١] بلا إشكال ولا خلاف ، بل لعله من ضروريات الدين المعلومة باستمرار عمل المسلمين عليه في جميع الأعصار والأمصار. كذا في الجواهر ، ويشهد له النصوص الواردة في آداب الحمام‌ (١).

[٢] لما سبق.

[٣] لما‌ في صحيح حفص بن البختري عن أبي عبد الله (ع) : « لا ينبغي للمرأة أن تنكشف بين يدي اليهودية والنصرانية ، فإنهن يصفن ذلك لأزواجهن » (٢). وقوله (ع) : « لا ينبغي » ‌لا يدل على أكثر من الكراهة ، كما أن التعليل يقتضي اختصاص الكراهة بالمزوجة التي هي مظنة الوصف للزوج ، فلا تشمل من لا زوج لها ، أو كان مفقوداً ، أو كانت مأمونة من جهة التوصيف ، كما لا تشمل المرأة التي لا صفات لها حسنة لا يحسن نقلها ، كما أن مقتضى التعليل التعدي الى غير اليهودية والنصرانية إذا كانت تصف لزوجها من تراه من النساء.

[٤] كأنه لعموم التعليل.

__________________

(١) راجع الوسائل باب : ٣ ، ٤ ، ٥ ، ١٨ من أبواب آداب الحمام.

(٢) الوسائل باب : ٩٨ من أبواب مقدمات النكاح حديث : ١.

٢٢

للآية [١] حيث قال تعالى ( أَوْ نِسائِهِنَّ ) فخص بالمسلمات ضعيف لاحتمال كون المراد من ( نِسائِهِنَّ ) [٢] الجواري والخدم لهن من الحرائر.

( مسألة ٢٩ ) : يجوز لكل من الزوج والزوجة النظر الى جسد الآخر [٣] ، حتى العورة [٤] ، مع التلذذ وبدونه ،

______________________________________________________

[١] قال في كشف اللثام : « والشيخ ، والطبرسي في تفسيرهما ، والراوندي في فقه القرآن ، على المنع من نظر المشركة الى المسلمة. قال الشيخ والراوندي : إلا أن تكون أمة ، وفسروا ( نِسائِهِنَّ ) بالمؤمنات وهو قوي » وفي الحدائق : موافقتهم ، لأن « لا ينبغي » في الصحيح بمعنى : لا يجوز ، ولأن النهي في الآية للتحريم.

[٢] هذا الاحتمال نسبه في المسالك الى المشهور ، وعن الكشاف : « المراد من ( نِسائِهِنَّ ) من في صحبتهن من الحرائر ». ويحتمل أن يكون المراد منه ما يعم الأمرين معا. ويحتمل أن يكون المراد منه مطلق النساء سواء كن في صحبتهن أو خدمتهن ، أم لم يكن كذلك ، كما احتمله في الجواهر. ويحتمل أن يكون المراد النساء اللاتي من الأرحام كالعمة والخالة والأخت. ولعل قرينة السياق تقتضي ذلك ، فيكون أقرب. وبالجملة : يكفي في الإضافة أدنى ملابسة ، والملابسة المصححة للإضافة في المقام مجهولة مرددة بين وجوه لا قرينة على واحد منها ، والحمل على جهة الاشتراك في الدين ليس أولى من غيره ، ومع الاجمال لا مجال للاستدلال.

وأقرب الاحتمالات الأخير ، وأبعدها ما في الجواهر.

[٣] إجماعاً ، نصا‌ (١) وفتوى ، بل هو من الضروريات.

[٤] كما صرح به في النصوص ، بل المصرح فيها أكثر من ذلك.

__________________

(١) راجع الوسائل باب : ٥٩ من أبواب مقدمات النكاح‌.

٢٣

بل يجوز لكل منهما مس الآخر بكل عضو منه كل عضو من الآخر مع التلذذ وبدونه [١].

( مسألة ٣٠ ) : الخنثى مع الأنثى كالذكر [٢] ، ومع الذكر كالأنثى.

______________________________________________________

نعم عن ابن حمزة حرمة النظر الى فرج المرأة حال الجماع. لما‌ في خبر أبي سعيد الخدري في وصية النبي (ص) لعلي (ع) : « ولا ينظر الرجل الى فرج امرأته. وليغض بصره عند الجماع ، فان النظر الى الفرج يورث العمى في الولد » (١). لكن‌ في موثق سماعة قال : « سألته عن الرجل ينظر في فرج المرأة وهو يجامعها. قال (ع) : لا بأس به إلا أنه يورث العمى » (٢).

[١] هذا كما قبله من القطعيات.

[٢] قال في جامع المقاصد : « الخنثى المشكل بالنسبة الى الرجل كالمرأة ، وبالنسبة إلى المرأة كالرجل ، لتوقف يقين امتثال الأمر بغض البصر والستر على ذلك ». وعن صاحب المدارك : الاتفاق عليه.

أقول : الخنثى مع ابتلائه بكل من الرجل والمرأة يعلم إجمالا بحرمة النظر الى أحد الصنفين فيجب عليه الاجتناب عنهما معا. وأما مع عدم الابتلاء إلا بأحدهما ، فيشكل وجوب الاحتياط عليه للشبهة الموضوعية ، كما أشار الى ذلك في الجواهر. ومثله الأنثى مع الخنثى فإنه لما لم يحرز ذكورته ، لم يجب التستر عنه ، ولم يحرم النظر اليه. وكذا الكلام في الذكر مع الخنثى. وسيأتي في المسألة الخمسين ما له تعلق بالمقام.

__________________

(١) الوسائل باب : ٥٩ من أبواب مقدمات النكاح حديث : ٥.

(٢) الوسائل باب : ٥٩ من أبواب مقدمات النكاح حديث : ٣.

٢٤

( مسألة ٣١ ) : لا يجوز النظر إلى الأجنبية [١] ، ولا للمرأة النظر إلى الأجنبي [٢] من غير ضرورة.

______________________________________________________

[١] إجماعا ، بل ضرورة من المذهب. كذا في الجواهر. ويشهد له قوله تعالى ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ، وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ، ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ ، وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ، وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها ، وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ ، أَوْ آبائِهِنَّ ، أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ ، أَوْ أَبْنائِهِنَّ ، أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ ، أَوْ إِخْوانِهِنَّ ، أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ ، أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ ، أَوْ نِسائِهِنَّ ، أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ ، أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ. وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ، وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (١). وإن كانت دلالته لا تخلو من تأمل. فإن غض الابصار غير ترك النظر. مع أنه من المحتمل أن يكون المراد الفروج بقرينة السياق ، لا العموم. مع أن إرادة العموم تقتضي الحمل على الحكم الأولي ، وهو غض النظر عن كل شي‌ء. وحمله على الغض عن المؤمنات لا قرينة عليه. اللهم الا أن يكون المستند في تعيين المراد الإجماع.

[٢] كما هو المعروف ، لعموم الأمر بغضهن من أبصارهن ، بناء على ما عرفت من الإجماع ، ويؤيده ما ورد من‌ قول النبي (ص) لعائشة وحفصة ، حين دخل ابن أم مكتوم : « أدخلا البيت ، فقالتا : إنه أعمى. فقال : إن لم يركما فإنكما تريانه » (٢). لكن في التذكرة : « حكي عن بعض الجواز. مستدلا على ذلك بأنه لو استويا لأمر الرجل بالاحتجاب‌

__________________

(١) النور : ٣٠ ، ٣١.

(٢) الوسائل باب : ١٢٩ من أبواب مقدمات النكاح حديث : ١.

٢٥

واستثنى جماعة الوجه والكفين فقالوا بالجواز فيهما [١]

______________________________________________________

كالنساء ». وهو كما ترى. والذي يظهر من كلماتهم مساواة المرأة للرجل في المستثنى منه والمستثنى. فان الحكم في المستثنى بالنسبة إلى نظر الرجل كان مستنداً الى قوله تعالى : ( إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها ) ، وليس مثله ثابتا في نظر المرأة ، فلا مستند في المساواة كلبة إلا الإجماع ، كما ادعاه بعضهم ، ففي الرياض : « تتحد المرأة مع الرجل ، فتمنع في محل المنع ، ولا تمنع في غيره ، إجماعا » ، ونحوه كلام شيخنا الأعظم (ره) في الرسالة. لكن الاعتماد على الإجماع المخالف للسيرة القطعية الفارقة بين الرجل والمرأة في ستر الوجه والكفين ، كما ترى.

[١] نسب هذا القول الى الشيخ وجماعة ، واختاره في الحدائق والمستند وشيخنا الأعظم في رسالة النكاح ، مستندين في ذلك الى‌ صحيح الفضيل قال : « سألت أبا عبد الله (ع) عن الذراعين من المرأة ، هما من الزينة التي قال الله تعالى ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ )؟ قال : نعم ، وما دون الخمار من الزينة ، وما دون السوارين » (١) ‌وظاهر أن ما يستره الخمار هو الرأس والرقبة ، والوجه خارج عنه ، وان الكف فوق السوار لا دونه ، فيكونان خارجين عن الزينة. و‌في موثق زرارة عن أبي عبد الله (ع) في قول الله عز وجل ( إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها ) قال : « الزينة الظاهرة : الكحل والخاتم » (٢) ‌، وهما في الوجه والكف ، ورواية أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) قال : « سألته عن قول الله عز وجل : ( وَلا يُبْدِينَ

__________________

(١) الوسائل باب : ١٠٩ من أبواب مقدمات النكاح حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ١٠٩ من أبواب مقدمات النكاح حديث : ٣.

٢٦

______________________________________________________

زِينَتَهُنَّ إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها ) قال (ع) : الخاتم والمسكة ، وهي القلب ) (١) ‌والقلب ـ بالضم ـ : السوار ، و‌خبر مسعدة بن زياد : « سمعت جعفرا (ع) وسئل عما تظهر المرأة من زينتها ، قال (ع) : الوجه والكفين » (٢) ‌، و‌خبر أبي الجارود المروي عن تفسير علي بن إبراهيم عن أبي جعفر (ع) : « في قوله تعالى ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها ) ، فهي الثياب ، والكحل ، والخاتم ، وخضاب الكف ، والسوار. والزينة ثلاثة : زينة للناس ، وزينة للمحرم ، وزينة للزوج. فاما زينة الناس فقد ذكرنا. وأما زينة المحرم فموضع القلادة فما فوقها ، والدملج فما دونه ، والخلخال وما سفل منه. وأما زينة الزوج فالجسد كله » (٣). الى غير ذلك من النصوص التي يستفاد منها صراحة ، أو ظهوراً ، أو إشعاراً : الجواز. ومنها : ما ورد في المرأة تموت وليس معها الا الرجال ، وفي الرجل يموت وليس معه الا النساء. ومنها : صحيحة أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (ع) قال : « سألته عن المرأة المسلمة يصيبها البلاء في جسدها ، إما كسر ، وإما جرح ، في مكان لا يصلح النظر إليه يكون الرجل أرفق بعلاجه من النساء ، أيصلح له النظر إليها؟ قال (ع) : إذا اضطرت فليعالجها إن شاءت » (٤) ‌، فإن الرواية كالصريحة في أن من جسد المرأة ما يصلح النظر إليه ، وما لا يصلح. بل يمكن الاستدلال بالآية الشريفة ( وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ ) ، فان استثناء ما ظهر من الزينة يدل على أن من الزينة‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١٠٩ من أبواب مقدمات النكاح حديث : ٤.

(٢) الوسائل باب : ١٠٩ من أبواب مقدمات النكاح حديث : ٥.

(٣) مستدرك الوسائل باب : ٨٤ من أبواب مقدمات النكاح حديث : ٣.

(٤) الوسائل باب : ١٣٠ من أبواب مقدمات النكاح حديث : ١.

٢٧

______________________________________________________

ما هو ظاهر ، ولا يكون إلا بظهور موضعها ، فيدل على أن بعض جسد المرأة ما يجوز إظهاره ولا يحرم كشفه. لا أقل من استفادة ذلك من قوله تعالى ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ ) ، فان تخصيص الجيوب بوجوب الستر يدل على عدم وجوب ستر الوجه ، وإلا كان أولى بالذكر من الجيب ، لأن الخمار يستر الجيب غالباً ولا يستر الوجه. وقيل : لا يجوز. واختاره العلامة في التذكرة والإرشاد ، وتبعه عليه جماعة ، منهم كاشف اللثام ، وشيخنا في الجواهر ، لعموم ما دل على غض البصر ، وقوله تعالى ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ) ، وما في كنز العرفان من إطباق الفقهاء على أن بدن المرأة عورة إلا على الزوج والمحارم ، ولسيرة المتدينين من الستر ، ولما في الروايات المتضمنة أن النظر سهم من سهام إبليس‌ ، وأن زنا العين النظر‌ ، وأنه رب نظرة أوجبت حسرة يوم القيامة‌ (١) و‌مكاتبة الصفار الى أبي محمد (ع) : « في رجل أراد أن يشهد على امرأة ليس لها بمحرم ، هل يجوز له أن يشهد عليها وهو من وراء الستر يسمع كلامها ، إذا شهد رجلان عدلان أنها فلانة بنت فلان التي تشهدك ، وهذا كلامها ، أو لا يجوز له الشهادة حتى تبرز ويثبتها بعينها؟ فوقع (ع) : تتنقب وتظهر للشهود » (٢) ‌، ولما ورد من أن المرأة الخثعمية أتت رسول الله (ص) بمنى في حجة الوداع تستفتيه ، وكان الفضل بن العباس رديف رسول الله (ص) ، فأخذ ينظر إليها وتنظر إليه فصرف رسول الله (ص) وجه الفضل عنها ، و‌قال : « رجل شاب وامرأة شابة. أخاف أن يدخل الشيطان بينهما » (٣).

__________________

(١) راجع الوسائل باب : ١٠٤ من أبواب مقدمات النكاح حديث : ١ ، ٢ ، ٥.

(٢) من لا يحضره الفقيه باب : ٢٩ من أبواب القضاء حديث : ٢.

(٣) مستدرك الوسائل باب : ٨٠ من أبواب مقدمات النكاح حديث : ٧ ، كنز العمال : ج : ٣ حديث : ٧٩٧.

٢٨

مع عدم الريبة والتلذذ [١].

______________________________________________________

والمناقشة في جميع ذلك ممكنة ، فإن عموم ما دل على لزوم غض البصر مقيد بما سبق ، مع أن غض البصر أعم من ترك النظر. وقوله تعالى : ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ) قد استثني منه ما ظهر منها. وحمله على زينة الثياب ـ كما حكاه في كشف اللثام عن ابن مسعود ـ مع أنه خلاف الظاهر في نفسه ، مخالف لقرينة السياق مع قوله تعالى ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ ). وأما إطباق الفقهاء المحكي عن كنز العرفان : فلا مجال للاعتماد عليه مع وضوح الخلاف وشهرته ، وأما السيرة : فأعم من الوجوب. وأما ما في الروايات من أن النظر سهم من سهام إبليس‌ : فالظاهر أنه بملاحظة ما يترتب على النظر من الأثر المحرم ، فان ذلك هو المناسب للتعبير بالسهم ، فيكون مختصاً بالنظر بشهوة. وأظهر منه في ذلك هو المناسب للتعبير بالسهم ، فيكون مختصاً بالنظر بشهوة. وأظهر منه في ذلك ما ورد من أن زنا العين النظر‌ ، وأنه رب نظرة أوجبت حسرة‌. على أن الأخير إيجاب جزئي ، وهو لا يدل على عموم التحريم. وأما الأمر بالتنقب في المكاتبة : فلا يظهر أنه للوجوب التعبدي ، ومن الجائز أن يكون للمحافظة على خفارة المرأة ومنع ما يوجب الاستحياء. مع أنها تدل على جواز النظر الى بعض الوجه. وأما رواية الخثعمية : فتدل على الجواز ، كما في المسالك ، لأنه (ص) لم ينههما عن النظر ، وإنما صرف وجه الفضل عن المرأة ، معللا بخوف دخول الشيطان ، الناشئ من التلذذ ، الحاصل من وقوع النظر المؤدي إلى الافتتان. هذا مضافاً الى ما يظهر من الرواية من أن المرأة كانت مكشوفة الوجه ، وأن النبي (ص) كان ينظر إليها ، فرآها تنظر الى الفضل. وهناك وجوه أخرى للجواز ، والتحريم ، لا يهم ذكرها لوضوح المناقشة فيها.

[١] قد عرفت أن الريبة مفسرة في كلامهم بأحد أمور : خوف الوقوع في الحرام ، وما يخطر في البال عند النظر من الميل الى الوقوع‌

٢٩

______________________________________________________

في الحرام مع المنظور اليه من تقبيل ونحوه. وخوف الافتتان. ويظهر من كلماتهم حرمة النظر في جميع ذلك ، وأن العمدة فيه الإجماع وارتكاز المتشرعة. وكذا النظر مع التلذذ.

وهل يختص التحريم بقصد التلذذ ـ كما قد يظهر من عبارة الشرائع ، والقواعد ، وغيرها ، حيث ذكر فيها أنه لا يجوز النظر لتلذذ أو ريبة ـ أو يعم ما إذا حصل التلذذ ، في حال النظر وإن لم يكن واقعاً بقصد التلذذ ، فيجب عليه الكف مع التلذذ؟ وجهان. وفي رسالة شيخنا الأعظم : الظاهر الأول ، لإطلاق الأدلة ، ولأن النظر الى حسان الوجوه من الذكور والإناث لا ينفك عن التلذذ غالباً بمقتضى الطبيعة البشرية المجبولة على ملائمة الحسان ، فلو حرم النظر مع حصول التلذذ لوجب استثناء النظر الى حسان الوجوه ، مع أنه لا قائل بالفصل بينهم وبين غيرهم. وأيده ( قده ) بصحيح علي بن سويد : « قلت لأبي الحسن (ع) : إني مبتلى بالنظر الى المرأة الجميلة فيعجبني النظر إليها ، فقال (ع) : لا بأس يا علي إذا عرف الله من نيتك الصدق ، وإياك والزنا ، فإنه يذهب بالبركة ، ويذهب بالدين » (١) ‌، فان مراد السائل أنه كثيراً ما يتفق له الابتلاء بالنظر الى المرأة الجميلة ، وأنه حين النظر إليها يتلذذ لمكان حسنها. وفيه : أن الظاهر من المرتكزات الشرعية حرمة النظر مع التلذذ ، فيقيد به الإطلاق. وأما ما ذكره ثانيا ، ففيه : أن التلذذ الذي هو محل الكلام التلذذ الشهوي ، وما تقتضيه الطبيعة البشرية المجبولة على ملائمة الحسان هو التلذذ غير الشهوي ، كالتلذذ الحاصل بالنظر الى المناظر الحسنة ، كالحدائق النظرة ، والعمارات الجميلة ، والاشعة الكهربائية المنظمة على نهج معجب ، ونحو ذلك ، وكل ذلك ليس مما نحن فيه. وأما صحيح.

__________________

(١) الوسائل باب : ١ من أبواب النكاح المحرم حديث : ٣‌.

٣٠

وقيل بالجواز فيهما مرة [١] ، ولا يجوز تكرار النظر. والأحوط المنع مطلقاً.

______________________________________________________

علي بن سويد فالظاهر منه الاضطرار الى النظر لعلاج ونحوه ، بقرينة‌ قوله (ع) : « إذا عرف الله من نيتك الصدق » ‌يعني : الصدق في أن نظرك للغاية اللازمة ، لا ما ذكره ( قده ) ولا ما ذكر في كشف اللثام والجواهر من النظر الاتفاقي ، إذ النظر الاتفاقي لا نية فيه.

[١] اختار هذا القول في الشرائع ، والقواعد. للجمع بين أدلة القولين ، كما يشهد به‌ النبوي : « لا تتبع النظرة النظرة ، فإن الأولى لك ، والثانية عليك ، والثالثة فيها الهلاك » (١) ‌وعن العيون روايته بدل : « فان .. » ‌: « فليس لك يا علي إلا أول نظرة » (٢) ‌، و‌خبر الكاهلي عن الصادق (ع) : « النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة ، وكفى بها لصاحبها فتنة » (٣). وفيه : أن من أدلة القولين ما يأبى هذا الجمع جدا. مع أنه بلا شاهد. والنبوي لا يصلح لذلك ، لقصوره سنداً ، بل دلالة أيضا ، لقرب كون المراد من أن النظرة الثانية عليه : أنها توجب الريبة واللذة ، بقرينة جعل المراتب ثلاثة. وبالجملة : القول المذكور أضعف الأقوال دليلا. وأقواها القول الأول ، لو لا ما عليه مرتكزات المتشرعة من المنع ، على وجه يعد ارتكاب النظر عندهم من المنكرات التي لا تقبل الشك والتردد ، ولا يقبل فيها عذر ولا اعتذار. واحتمال أن يكون ذلك من جهة الغيرة ، بعيد. ولذلك لا يستنكرون النظر الى‌

__________________

(١) لم نعثر على هذا النص ، نعم يوجد هذا المضمون متفرقاً في أحاديث الباب : ١٠٤ من أبواب مقدمات النكاح من الوسائل.

(٢) الوسائل باب : ١٠٤ من أبواب مقدمات النكاح حديث : ١١.

(٣) الوسائل باب : ١٠٤ من أبواب مقدمات النكاح حديث : ٦.

٣١

( مسألة ٣٢ ) : يجوز النظر الى المحارم [١] التي يحرم عليه نكاحهن ، نسباً ، أو رضاعا [٢] ،

______________________________________________________

القواعد من النساء استنكاراً دينياً ، وإن كانوا يستنكرونه من جهة الغيرة ولا يرونه حراماً. نعم يختص هذا الاستنكار في النساء التي يكون النظر إليها مظنة التلذذ ، وإن لم يكن بقصد التلذذ ، ولا مقروناً معه. ولأجل ذلك لا مجال للإقدام على الفتوى بالجواز فيهن ، وإن قام عليه دليل. اللهم إلا أن يكون الاستنكار من جهة ما يترتب عليه من التلذذ غالباً. والمسألة محتاجة إلى تأمل.

[١] إجماعا ، صريحاً وظاهراً. في كلام جماعة. وفي الجواهر : عده من الضروريات. ويشهد له في الجملة قوله تعالى ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ .. ) (١). وما ورد في تغسيل المحارم مجردات ويلقى على عورتهن خرقة‌ (٢). لكن في القواعد في آخر حد المحارب : « ليس للمحرم التطلع على العورة ، والجسد عاريا » ، ونسب الى ظاهر التحرير هناك ، وعن التذكرة : حكايته عن الشافعية في وجه ، وعن التنقيح : استثناء الثدي حال الرضاع. ولكنه كما ترى مخالف لإطلاق الكتاب ، ومعاقد الإجماع. وإن كان قد يشهد له خبر أبي الجارود المتقدم ‌(٣). لكنه لا يصلح لمعارضة ما ذكر.

[٢] إذا كان حكمه مستفاداً مما دل على أنه بمنزلة النسب ، فلا يشمل ما يستفاد حكمه مما دل على أنه لا ينكح أبو المرتضع في أولاد صاحب اللبن‌ (٤)

__________________

(١) النور : ٣١.

(٢) الوسائل باب : ٢٠ من أبواب غسل الميت.

(٣) راجع صفحة : ٢٧.

(٤) الوسائل باب : ١٦ من أبواب ما يحرم بالرضاع حديث : ١٠.

٣٢

أو مصاهرة [١] ، ما عدا العورة ، مع عدم تلذذ وريبة [٢]. وكذا نظرهن إليه [٣].

( مسألة ٣٣ ) : المملوكة كالزوجة بالنسبة إلى السيد [٤] إذا لم تكن مشتركة ، أو وثنية ، أو مزوجة [٥] أو مكاتبة أو مرتدة.

______________________________________________________

أو في أولاد المرضعة‌ (١) ، فإن دليل التحريم في مثل ذلك لا يقتضي الخروج عن عموم حرمة النظر وعموم وجوب التستر.

[١] بالمعنى الآتي بيانه ، وهو المختص بعلاقة الزوجية ، لا غير ، فإنه الذي تقتضيه الأدلة الموجبة للخروج عن عموم حرمة النظر. فلا يشمل التحريم الحاصل من الزنا ، أو اللواط ، أو نحو ذلك.

[٢] إجماعا على ما عرفت.

[٣] لما عرفت من البناء على المساواة بين الرجل والمرأة.

[٤] الذي يظهر من جماعة التلازم في الأمة بين جواز النكاح ذاتا والنظر ، فاذا جاز نكاح الأمة ذاتاً جاز النظر إليها ، والا فلا. وإذا حرم نكاحها عرضا لحيض ونحوه ، لم يحرم النظر إليها. ولأجل ذلك استثنى في المتن ـ تبعا للتذكرة ، وغيرها ـ المشركة وما بعدها ، لعدم جواز نكاحهن.

[٥] في صحيح عبد الرحمن بن الحجاج قال : « سألت أبا عبد الله (ع) عن الرجل يزوج مملوكته عبده ، أتقوم عليه كما كانت تقوم فتراه منكشفاً أو يراها على تلك الحال؟ فكره ذلك ، وقال : قد منعني أن أزوج بعض خدمي غلامي لذلك » (٢) ‌، ونحوه غيره. لكن في دلالته على الحرمة تأمل. ولذا مال أو قال بالجواز فيها جماعة.

__________________

(١) الوسائل باب : ١٦ من أبواب ما يحرم بالرضاع حديث : ١ ، ٢.

(٢) الوسائل باب : ٤٤ من أبواب نكاح العبيد حديث : ١.

٣٣

( مسألة ٣٤ ) : يجوز النظر إلى الزوجة المعتدة بوطء الشبهة [١] ، وإن حرم وطؤها. وكذا الأمة كذلك. وكذا إلى المطلقة الرجعية [٢] ما دامت في العدة ، ولو لم يكن بقصد الرجوع [٣].

( مسألة ٣٥ ) : يستثنى من عدم جواز النظر من الأجنبي والأجنبية مواضع. ( منها ) : مقام المعالجة [٤] ، وما يتوقف عليه من معرفة نبض العروق ، والكسر ، والجرح ، والفصد‌

______________________________________________________

[١] لعموم ما دل على جواز الاستمتاع بالزوجة. وعليه كما يجوز النظر يجوز غيره من أنواع الاستمتاع ، عدا الوطء ، فإنه لا ريب عندهم في حرمته ، وكونه القدر المتيقن من اعتداد الزوجة للوطء شبهة. لكن في القواعد والمسالك : المنع من الاستمتاع بها الى أن تنقضي العدة. وفي الجواهر : « لا دليل عليه يصلح لمعارضة ما دل على الاستمتاع بالزوجة ».

[٢] لما تضمن النص من أنها زوجة فتترتب عليها أحكامها ، ومنها جواز النظر.

[٣] لكن ترتب الرجوع عليه غير ظاهر. لعدم كونه من أمارات الزوجية ، اللهم إلا أن يكون بتلذذ وشهوة.

[٤] لا إشكال في ذلك ولا خلاف ، وفي المسالك : الإجماع على جواز النظر مع الحاجة اليه. ويشهد له صحيح الثمالي المتقدم في أدلة جواز النظر الى الوجه والكفين‌ (١) ، وعموم نفي الضرر‌ (٢). ومقتضى عبارات الأكثر جواز النظر لمطلق الحاجة. ولكنه غير ظاهر. إذ صحيح‌

__________________

(١) راجع صفحة : ٢٧.

(٢) راجع الوسائل باب : ١٦ من أبواب الخيار في كتاب البيع ، وباب : من كتاب الشفعة ، وباب : ٧ ، ١٢ من كتاب احياء الموات.

٣٤

والحجامة ، ونحو ذلك إذا لم يمكن بالمماثل [١] ، بل يجوز المس واللمس حينئذ [٢]. ( ومنها ) : مقام الضرورة ، كما إذا توقف الاستنقاذ من الغرق أو الحرق أو نحوهما عليه ، أو على المس [٣]. ( ومنها ) : معارضة كل ما هو أهم في نظر الشارع مراعاته من مراعاة حرمة النظر أو اللمس [٤]. ( ومنها ) : مقام الشهادة تحملا أو أداء مع دعاء الضرورة [٥] وليس منها ما عن العلامة من جواز النظر الى الزانيين لتحمل الشهادة [٦]. فالأقوى عدم الجواز. وكذا ليس منها النظر‌

______________________________________________________

الثمالي مختص بالضرورة. والعمومات لا تقتضي الجواز إلا معها. فالبناء على تسويغ النظر بمجرد الحاجة ضعيف.

[١] كما في المسالك ، وكشف اللثام ، وغيرهما. لعدم الضرورة أو الحاجة حينئذ. فالمرجع عموم المنع.

[٢] لعموم ما دل على الجواز للضرورة ، مثل قاعدة : « لا ضرر ولا ضرار ». وأما‌ قوله (ع) : « ما من شي‌ء إلا وقد أحله الله تعالى لمن اضطر اليه » (١). فيختص بالمضطر ، ولا يشمل الطبيب. نعم يمكن دخول ذلك في عموم صحيح الثمالي المتقدم‌. فلاحظ.

[٣] فان مزاحمة تحريم النظر بما هو أهم منه ـ من وجوب حفظ النفس المحترمة من الهلاك ـ يقتضي سقوطه ، وتقدم الأهم ، والعمل عليه.

[٤] لما عرفت. بل ما سبق من بعض موارده وصغرياته ، فكان الأولى الاقتصار على هذا وترك ما قبله.

[٥] لما سبق.

[٦] ذكر ذلك في القواعد. وعلله في المسالك : بأنه وسيلة إلى إقامة‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١ من أبواب القيام حديث : ٦ ، ٧. مع اختلاف يسير عما في المتن.

٣٥

الى الفرج للشهادة على الولادة ، أو الثدي للشهادة على الرضاع وإن لم يمكن إثباتها بالنساء ، وإن استجوده الشهيد الثاني [١]

______________________________________________________

حدود الله تعالى ، ولما في المنع من عموم الفساد ، واجتراء النفوس على هذا المحرم ، وانسداد باب ركن من أركان الشرع ، ولم تسمع الشهادة بالزنا ، لتوقف تحملها على الاقدام على النظر المحرم ، وإدامته لاستعلام الحال ، بحيث يشاهد الميل في المكحلة ، وإيقاف الشهادة على التوبة يحتاج الى زمان يعلم منه العزم على عدم المعاودة ، فيعود المحذور السابق. ثمَّ قال : « وهذا القول ليس بذلك البعيد ». لكن عن العلامة في قضاء القواعد والتذكرة : أنه استقرب المنع. وفي كشف اللثام : أنه الأقرب. وفي الجواهر : أنه الأقوى. لعدم ثبوت جواز النظر فيه. وما ذكره في المسالك لا يقتضيه ، إذ من الجائز أن لا يتعلق الغرض بإثباته بنحو يقتضي تحليل النظر. ويشير اليه عدم الاجتزاء بشهادة العدلين ، بل لا بد في إثباته من شهادة الأربعة ، فإن ذلك يناسب عدم الاهتمام به في مقام الإثبات. غير أن استقرار السيرة على عدم استنكار ذلك على الشاهد يقتضي الجواز. اللهم إلا أن يقال : إن السيرة مجملة ، لا يمكن أن يستفاد منها الجواز ، لاحتمال الحمل على الصحة ، للغفلة أو نحوها.

[١] في المسالك : « وأما نظر الفرج للشهادة على الولادة ، والثدي للشهادة على الرضاع ، فإن أمكن إثباتها بالنساء لم يجز للرجال. وإلا فوجهان ، أجودهما : الجواز ، لدعاء الضرورة اليه ، وكونه من مهام الدين وأتم الحاجات ، خصوصاً أمر الثدي ، ويكفي في دعاء الضرورة إلى الرجال المشقة في تحصيل أهل العدالة من النساء على وجه يثبت به الفعل ». وفيه : المنع من حصول الضرورة الى ذلك كلية. وكونه من مهام الدين وأتم الحاجات لا يقتضيه إلا مع وجود جهة تقتضي وجوب‌

٣٦

( ومنها ) : ( الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ [١] اللاّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً ) بالنسبة الى ما هو المعتاد له [٢] من كشف بعض الشعر والذراع‌

______________________________________________________

إثباته ، إذ من البديهي جواز الرجوع الى أصل الطهارة مع الشك في النجاسة ، والى أصل الحل مع الشك في الحرمة ، والى قاعدة الفراغ مع الشك في تمام الأداء ، والى أصالة الصحة مع الشك في أكثر الموارد التي هي من مهام الدين ، كما لا يخفى.

[١] قال الله تعالى ( وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ ، وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ ، وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١).

[٢] ففي مصحح الحلبي عن أبي عبد الله (ع). « أنه قرأ ( أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ ) قال : الخمار والجلباب. قلت : بين يدي من كان؟ قال (ع) : بين يدي من كان ، غير متبرجة بزينة » (٢) ‌، ونحوه مصحح حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله (ع) (٣). لكن‌ في صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع) : « ما الذي يصلح لهن أن يضعن من ثيابهن؟ قال : الجلباب » (٤) ‌، و‌في خبر محمد بن أبي حمزة عنه (ع) : « الجلباب وحده » (٥). و‌في خبر الكناني عنه (ع) : « الجلباب إلا أن تكون أمة فليس عليها جناح أن تضع خمارها » (٦). والجمع بينها‌

__________________

(١) النور : ٦٠.

(٢) الوسائل باب : ١١٠ من أبواب مقدمات النكاح حديث : ٢.

(٣) الوسائل باب : ١١٠ من أبواب مقدمات النكاح حديث : ٤.

(٤) الوسائل باب : ١١٠ من أبواب مقدمات النكاح حديث : ١.

(٥) الوسائل باب : ١١٠ من أبواب مقدمات النكاح حديث : ٣.

(٦) الوسائل باب : ١١٠ من أبواب مقدمات النكاح حديث : ٦.

٣٧

ونحو ذلك ، لا مثل الثدي والبطن [١] ونحوهما مما يعتاد سترهن له. ( ومنها ) : غير المميز من الصبي والصبية [٢] ، فإنه‌

______________________________________________________

يقتضي حمل الأخير على الاستحباب. ومقتضى ذلك جواز كشف ما يستر الخمار من الشعر والرقبة وبعض الصدر ، وكشف ما يستره الجلباب وهو الذراع. ومنه يشكل ما في المتن من تخصيص الكشف ببعض الشعر. ولا سيما بملاحظة‌ صحيح البزنطي المروي في قرب الاسناد عن الرضا (ع) قال : « سألته عن الرجل يحل له أن ينظر الى شعر أخت امرأته؟ فقال (ع) : لا ، إلا أن تكون من القواعد. قلت له : أخت امرأته والغريبة سواء؟ قال (ع) : نعم. قلت : فما لي من النظر اليه منها؟ فقال (ع) : شعرها وذراعها » (١). ومنه يفهم عموم الحكم لعموم الذراع وإن لم يكن الجلباب ساتراً له بتمامه. كما أن الاقتصار على الشعر والذراع لا بد أن يكون لمزيد الاهتمام بهما ، وإلا فوضع الجلباب والخمار يقتضي جواز كشف غير ذلك ، ويتعين العمل به.

[١] لخروجه عن مفاد النصوص المذكورة ، فيرجع فيه الى عموم حرمة النظر وعموم الحجاب. وإن كان ظاهر عبارة التذكرة ارتفاع حكم العورة عن جميع أجسادهن. وحكاه في الجواهر عن ظاهر عبارة الشهيد وغيرها. وكأنه اعتماداً على ظاهر الآية. لكنه ضعيف ، لما ذكر.

[٢] هذا في الجملة من القطعيات. ويقتضيه قوله تعالى ( أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ ) (٢). فان المتيقن منه غير المميز. كما تقتضيه أيضا السيرة ، وما ورد في موارد متفرقة ، مثل ما ورد في تغسيل الرجل الصغيرة ، والمرأة الطفل الصغير‌ (٣) ، وغير‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١٠٧ من أبواب مقدمات النكاح حديث : ١.

(٢) النور : ٣١.

(٣) الوسائل باب : ٢٣ من أبواب غسل الميت.

٣٨

يجوز النظر إليهما ، بل اللمس. ولا يجب التستر منهما. بل الظاهر جواز النظر إليهما قبل البلوغ [١] ،

______________________________________________________

ذلك. وكذلك الحكم في اللمس ، وعدم وجوب التستر منهما.

[١] كما صرح به جماعة. لصحيح عبد الرحمن بن الحجاج قال : « سألت أبا إبراهيم (ع) عن الجارية التي لم تدرك متى ينبغي لها أن تغطي رأسها ممن ليس بينها وبينه محرم؟ ومتى يجب عليها أن تقنع رأسها للصلاة؟ قال (ع) : لا تغطي رأسها حتى تحرم عليها الصلاة » (١). وهو وإن كان وارداً في الصبية ، لكن يتعدى منها إلى الصبي بالأولوية فيجوز نظر المرأة إليه قبل البلوغ. كما يتعدى الى غير الشعر بعدم القول بالفصل. والرواية وإن كانت ظاهرة في جواز تكشف الصبية للبالغ ، لكنها تدل بالملازمة العرفية على جواز نظره إليها. وأما نظرهما الى غير المماثل البالغ ، فيدل على‌ صحيح أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عن الرضا (ع) : « قال : يؤخذ الغلام بالصلاة وهو ابن سبع سنين ، ولا تغطي المرأة وشعرها منه حتى يحتلم » (٢) ‌، ونحوه صحيحه الآخر المروي عن قرب الاسناد‌ (٣). ودلالتهما على جواز التكشف له ظاهرة. ولا يحتاج في إثبات جواز نظره الى دعوى الملازمة العرفية ، إذ لا إشكال في حلية نظره ، لحديث رفع القلم عن الصبي‌ (٤) ، بل مقتضاه جواز النظر إلى عورة غير المماثل ، وإن وجب على المنظور التستر عنه. وقد يظهر من المستند أنه يحرم عليه النظر إلى العورة ، تخصيصاً منه‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١٢٦ من أبواب مقدمات النكاح حديث : ٢.

(٢) الوسائل باب : ١٢٦ من أبواب مقدمات النكاح حديث : ٣.

(٣) الوسائل باب : ١٢٦ من أبواب مقدمات النكاح حديث : ٤.

(٤) الوسائل باب : ٤ من أبواب مقدمات العبادات حديث : ١١.

٣٩

______________________________________________________

لحديث رفع القلم عن الصبي بالآية الشريفة وهي قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرّاتٍ ، مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ ، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ ، وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ، ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ ، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (١). وفيه أن الآية الشريفة ليست واردة في تحريم نظر الصبي إلى العورة ، وانما واردة في تحريم التطلع على بعض الافعال والأحوال التي يستقبح التطلع عليها ويستحي منه ، التي يغلب وقوعها في الأوقات الثلاثة. والخطاب فيه للبالغين ، لا لغير البالغين ، يعني : يلزم البالغين أن يكلفوهم بالاستئذان على وجه يتحقق ذلك منهم ، فالآية الاولى ليست واردة في النظر إلى العورة الحرام ، ولا في تحريم ذلك على غير البالغ. نعم الآية الثانية ظاهرة في تحريم التطلع على البالغين والخطاب فيها لهم. يظهر هذا الاختلاف في المخاطب من اختلاف سياق الآيتين الشريفتين. وكما تختلف الآيتان في المخاطب تختلفان في زمان الخطاب ، فان مورد الآية الأولى يختص بالأوقات الثلاثة ومورد الآية الثانية عام لجميع الأزمنة. ولعل هذا الاختلاف موجب للاختلاف في موضوع التطلع بأن تختص الاولى بما يقبح والثانية شاملة له ولغيره. وكيف كان لا مجال للاستدلال بالآية على تحريم النظر إلى العورة على غير البالغ بنحو يخصص بها حديث رفع القلم. وإن بناء الفقهاء بل المسلمين على عدم تكليف الصبي مطلقاً حتى وقع الكلام في وجه عقابه على ترك الإسلام.

__________________

(١) النور : ٥٨ ، ٥٩‌.

٤٠