تراثنا ـ العدد [ 101 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 101 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 1016-4030
الصفحات: ٣١٨

١

تراثنا

صاحب الامتیاز

مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث

المدير المسؤول :

السيّد جواد الشهرستاني

العدد الأوّل [١٠١]

السنة السادسة والعشرون

محتـويات العـدد

* كلمة العدد :

* تراثنا : كلمة التراث وتراث الكلمة.

............................................................... هيئة التحرير ٧

*مرويات عقبة بن سمعان والضحاك المشرقي لواقعة الطف.

................................................. الشيخ حسن كريم الربيعي ١٠

* الأشعار والأرجاز التي قيلت في وقعة الجمل

................................................ الدكتور عبد الإله العرداوي ٥٥

٢

محرّم ـ ربيع الأوّل

١٤٣١ هـ

* من تراث مكتبات النجف الأشرف (٢) مكتبة الشيخ شير محمّد الهمداني (٢)

.................................................... أحمد علي مجيد الحلّي ١٤٥

* من ذخائر التراث :

* صحائف الأبرار في وظائف الأسحار للشيخ محمّد الحسين كاشف الغطاء.

....................................... تحقيق : السيّد عبد الهادي الشريفي ١٧٥

* من أنباء التراث.

........................................................... هيـئة التحرير ٢٨٦

* صورة الغلاف : نموذج من نسخة (صحائف الأبرار في وظائف الأسحار) للشيخ محمّد الحسين كاشف الغطاء (ت ١٣٧٣ هـ) والمنشورة في هذا العدد.

٣
٤

٥
٦

كلمة العـدد :

تراثنا

كلمة التراث وتراث الكلمة

هيئة التحرير

بسم الله الرحمن الرحيم

تراثنا : خمسة وعشرون عاماً من العطاء الفكري ، رفدت به تراث الكلمة فكانت كلمة التراث وتراث الكلمة.

اختارتها أقلام شُحذت بهِمَمِ رجال نذروا أنفسهم للفكر «فنَشَرَتِ النِعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرامَتِها ، وأسالَتْ لَهُمْ جَداولَ نَعيمِها» في زمن كان النقاش محتدماً والسجال على أشُدّه ، وكانت مجتمعاتنا تعيش في فوضى الأفكار ، وكانت دوائر التنظير ترسم لعالمنا الإسلامي خططاً لم تستطع معها تلك الأقلام أن تبقى حبيسة السكوت أو الجدل ، فاختارت مسار الكلمة عبر التراث ، فكانت مصداقا من مصاديق صفوة الطبقة المثقّفة التي ساهمت في تجاوز الأزمة الفكرية والحضارية لمجتمعاتنا آنذاك ، بعد أن ألقت العصور المظلمة بظلالها على المسلمين مع بداية عصر الانْحطاط الفكري ، وبعد أن أخذت المدنيّة تُبْهرُ ناظريها ، والتقنيّة الحديثة تُرْسي أُسُسها على جُرف هار من الحضارة المُزيّفة ، فظهرت النخبة من المفكرين يحمل

٧

يراعُهُم كلمة تأنس لها الأنْفُس ، فأخذوا يُخاطبون الشُعور الجمْعي وحبّ العراقة في الوجْدان العاطفي لأبناء الأمّة ، فكانوا هم أصْحاب الكلمة الطيّبة والعُقول المُفكّرة التي ما انفكت أقلامهم عن الدفاع عن موْروثات ورثوها جاءت بها الصفْوةُ والنُخْبةُ من السلف الصالح ، فكانت أقْلاماً زاكيةً ساهمت في رفد الكلمة ، وكرّست حياتها في خدمة ثوابت البُنى الفكرية لمدرسة آل البيت عليهم‌السلام ، وكان من ثمارها (تراثنا) تتويجاً لمشروعها الطموح الذي بدأت به في المؤسسة الأم (مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث).

لقد كانت (تراثنا) مجمع الخصائص من الإبداع والابتكار والعثور على الضالّة وملىء الفراغ وردم الفجوة ، وقد لبّت طموحاً طالما راود الأفكار الناهدة والطاقات الواعدة ففتحت لهم فضاءات من الثقة والإسناد كانت مجرّدأحلام وردية ، كما منحت (تراثنا) درساً بليغاً في تجاوز الصعاب الكأداءوالظروف المرّة ، ولا ننسى دورها في ميدان الاستشارة وتلاقح الأفكاروتبادل الخبرات وسبر الغور في زوايا وحقول كانت نسياً منسياً ، أمّا استقطابها لذوي الفضل والخبرة والتخصّص ـ استقطاباً ظلّ عصيّاً على الآخرين ـ فهذا ممّا يشهد له الداني والقاصي.

(تراثنا) شغلت حيّزاً كبيراً في الساحة الفكرية ، وحملت معها أدبياتها المتميّزة حتّى أصبحت مدرسة من مدارس الفكر وأبجديّة من أبجديّاته ، بل هي جدلية المعرفة بين الماضي والحاضر للرجوع بالهوية الفكرية من خلال تفعيل الكوامن وتعزيز الثوابت ، ومؤسّسة فكرية ساهمت في قراءة التراث قراءة علمية دون الحنين المَرَضي للماضي ، فكانت تربة عصيّة على استنبات الغريب عن بيئتها.

لقد كانت حياة النخبة في (تراثنا) جهداً مستمراً من أجل إقامة التوفيق بين السلوك والقيم التي قطعوها على أنفسهم ، يحملون مفهوماً

٨

نهضوياً ينهض بصناعة التراث بعقلانية ، ومن دون التقولب بقوالب فكرية سوى ماتمليه مدرسة آل البيت عليهم‌السلام بثوابتها ومرتكزاتها.

لقد حطّت النخبة رحالها وأناخت ركابها في (تراثنا) ، وكان محطّ رهانهاإعادة قراءة التراث للانتقال به من عالم المثال إلى عالم الواقع ، لتقيم فيواقعنا علاقات وئام وجسور بين الموروث والمعاصر ، على أمل نقله بما يخدم الثوابت الفكرية للأمّة حتّى لا تعيش القطيعة مع الفترة المُبدِعة من تراثها.

لقد كانت تلك الأقلام نموذجاً يعبّر عن هموم الأمّة الفكرية ، خصوصاًوأنّ الخطاب الإسلامي المعاصر يقوم في أغلبه على إهدار البعد التراثي والتاريخي لمجتمعاتنا مع عدم الأخذ بنظر الاعتبار معطيات الواقع الثقافي والاجتماعي والبنى الفكرية لهذه المجتمعات ، حتى أصبحت هذه الإشكالية تمثّل أهمّ اشكاليات الفكر الإسلامي المعاصر على الإطلاق ، ممّا حدى بالنخبة في التراث إلى تبنّي هذا المشروع ، فأصبحت (تراثنا) موسوعةومرجعاً لاتستغني عنها جميع المؤسّسات العاملة في مجال المعرفة ، إنّ التواجد في أكثر من أربعمائة مركز ومعهد في أكثر من سبعين دولة مؤشّر غنيّ عن التعليق.

لقد كانت ولا زالت (تراثنا) شاخصاً معرفيّاً وعلميّاً وثقافياً يصعب تجاهله ، وسجّلت رقماً بارزاً للكلمة الحرّة المستقلّة بكلّ ما فيها من وهج القيم وسناء المبادىء وعمق الأصالة وسلامة الإنتماء.

٩

مـرويّات

عقبة بن سمعان والضحّاك المشرقي

لواقعة الطفّ في تاريخ الطبري (ت ٣١٠ هـ)

الشيخ حسن كريم الربيعي

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدّمة :

يبقى الخبر يحتمل الصدق أو الكذب ما لم تتبدّد الاحتمالات لأحد الطرفين ، ولمعرفة صحّة الخبر لابدّ من إسقاط الاحتمالات حتّى يبقى الصحيح ، ولكي نقترب من الحقيقة التاريخية لابدّ من اعتماد مرجّحات الراوي التي من أهمّها مشاهدة الحدث مع الدقّة والعدالة والموضوعية بنقله.

ويبدو أنّ صحّة المرويّات التاريخية لا تتوقّف على الإسناد كثيراً بخلاف أهمّيته عند المحدّثين ، بل تتوقّف على المقارنة والمشابهة بين المرويّات التاريخية ، والفرق واضح بينهما لاختلاف المنهجية بين المؤرّخين والمحدّثين وإن كانت النشأة واحدة.

يعدّ كتاب تاريخ الرسل والملوك لمحمّد بن جرير الطبري (ت٣١٠ هـ) من أهمّ الكتب التاريخية التي تناولت تاريخ الإسلام وتفصيل أحداثه ، فقد

١٠

نهج الطبري منهجية النقل المتعدّد للأحداث وذلك على شكل المنهج الحولي ، وقد عكس فيه الأحداث التاريخية من أطراف متعدّدة لتصوير الحدث التاريخي ، هذا هو المنهج العام لتاريخ الطبري في نقل الأحداث وبالأخصّ في بيان أحداث واقعة الطفّ الأليمة فقد تناولها من جوانبها المتعدّدة ، فنراه يذكر روايات السلطة الأموية أي التاريخ الرسمي أو بعبارة أخرى روايات المنتصر وروايات المغلوب ، كما يذكر روايات الكوفة والشام والمدينة ، ولكن مع كلِّ هذا فإنّ ما رواه الطبري عن الشهود العيان هوالأروع في الجانب الموضوعي ، فقد روى عن شهود عيان في الجيش الأموي وشهود عيان في جيش الإمام الحسين عليه‌السلام ، هذا ويذكر الأستاذ جواد علي في بحث الموارد ترجيحه لأقوال الشهود.

ونحن في بحثنا هذا المعنون بـ : (مرويّات عقبة بن سمعان والضحّاك المشرقي لواقعة الطفّ في تاريخ الطبري) ، نحاول أن نستعرض وندرس روايات كلّ واحد منهما ، ومدى أهميّة تلك الروايات وبيان مصداقية كلّ واحد منهما ، ونستعرض فيه نظر الرجاليّين لهما ولمحات من سيرتهما وكيفية نجاتهما من المعركة والموت المحقّق لهما.

أمّا سبب اختياري مرويّات الطبري فلأهمّيته واعتماده في الغالب المنهجية الموضوعية وبالأخصّ روايات هذه الواقعة ، ثمّ إنّ عقبة بن سمعان والضحّاك المشرقي ممّن شاهدا الأحداث ، فالأوّل على معرفة تامّة بكلّ ما جرى من المدينة المنورة إلى مكة إلى العراق ، والثاني فقد فصّل لنا ليالي الواقعةوالحرب في يوم العاشر وكيفية نجاته من المعركة وتفاصيل مهمّة أخرى ، وهي تنفع الباحث في الوصول إلى الحقائق بعد المقارنة ومعرفة القرائن ، وتتّضح لنا الصورة أكثر إذا وصلنا إلى وثاقتهم ومصداقيّتهم

١١

في نقل الأخبار التي شاهدوها وعاشوا محنتها.

لقد اعتمدت في بحثي هذا على مصادر عدّة ، إلاّ أنّ المصدر الأساسي لهذا البحث هو تاريخ الطبري كما هو واضح من العنوان ، وقد حففته بكتب التاريخ الأخرى وكتب الرجال ، كما اعتمدت على مراجع تؤخذ منها الآراء ، وقدجمعت كلّ ذلك في قائمة حوت جميع هذه المصادر والمراجع المذكورة في نهاية البحث ، وقد قسّمت البحث إلى مبحثين : الأوّل تناول عقبةومرويّاته ، والثاني تناول الضحّاك ومرويّاته استعراضاً ودراسة لكلّ منهما ، هذا وأتمنّى أن ينال البحث القبول على ما فيه من هنات فالكمال لله وحده ومن الله التوفيق وإليه يرجع الأمر كلّه والحمد لله ربّ العالمين.

حسن كريم الربيعي

١٢

المبحث الأوّل

مرويّات عقبة بن سمعان عرض ودراسة

أهمّية الشاهد التاريخي :

كان عقبة بن سمعان ممّن شاهد وسمع وشارك في الثورة الحسينية منذانطلاقها فقد روي عنه قوله : «صحبت حسيناً ، فخرجت معه من المدينة إلى مكّة ومن مكّة إلى العراق ، ولم أفارقه حتّى قتل» (١) ، وهذا النصّ التاريخي يؤكّد الحركة الفعلية لعقبة بن سمعان وقربه الفعلي من الأحداث القولية والفعلية والتقريرية ، وهذا ما جعل الباحثين يولون أهمّية لمرويّاته لأنّه شاهد عيان لكلّ الأحداث ، مع الأخذ بنظر الاعتبار المرجّحات الخاصّة من العدالة والوثاقة والمواقف التي سوف تعرفها من سيرته بعد الواقعة أيضاً.

كانت منهجية الطبري (ت٣١٠ هـ) فيما يتعلّق بأحداث التاريخ الإسلامي إيراد كافّة الأخبار المتعلّقة بالحدث من مصادرها المختلفة(٢) ، وعلى هذا المنهج تكون المقارنة والتحقيق في هذه الروايات لمعرفة الصحيح منها والسقيم وفق المنهج العقلي السليم وبالتحليل والاستنتاج.

إنّ عقبة بن سمعان هو الشاهد الذي عاش في قلب الأحداث فرواها

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٤١٣.

(٢) علم التاريخ ومناهج المؤرّخين في علم التاريخ نشأةً وتدويناً ونقداً وفلسفة ومناهج كبارمؤرّخي الإسلام : ١٨٥.

١٣

عن دراية ويقين ، وقد نقل الطبري إصرار عقبة في رواية مهمّة جدّاً من الناحية التاريخية ، وهو نصّ يعبّر عن قيمة الشاهد التاريخي وردّه للمنقول من الروايات ، ويبدو أنّه ردّ على ما أشيع من مخاطبات وأقوال الإمام الحسين عليه‌السلام التي جاءت خلاف الواقع الذي شاهده وسمعه الراوي ، وقد نقل الطبري نصّ كلامه حيث يقول عقبة ابن سمعان : «وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ولا بمكّة ولا في طريق ولا بالعراق ولا في عسكر إلى يوم مقتله إلاّ وقد سمعتها»(١).

ومن هذا النصّ تتّضح للباحث أهمّية عقبة بن سمعان في بيان الأحداث التي وقعت في مختلف الأمكنة التي ذكرها ، وهو يرفع التشويه والتحريف لمسار الثورة الحسينية التي أشيع عنها الكثير بما يمحو أثرها في نفوس المسلمين ، لقد أنكر عقبة بن سمعان ما تناقلته كتب الأخبار وتناقله الناس آنذاك ومن ثمّ دوّنت عن قصد أو غفلة والتي تذكر : أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام أراد وضع يده بيد يزيد بن معاوية (٦٠ ـ ٦٣ هـ) وطلب من الجيش المحيط به ذلك ، ولمّا طرقت هذه الأخبار سمع عقبة بن سمعان حلف قائلاً : «والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية»(٢).

ومن هذا النصّ تبدو أنّ هناك جملة من الإشاعات وتبادل التهم ما بين الكوفة والشام يتبيّن من خلالها أنّ الترويج الحاصل ما هو إلاّ بأمر من السلطة التي تريد التشكيك بقيادة الثورة والتمويه على أنّ الإمام

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٤١٤.

(٢) المصدر السابق ٥ / ٤١٤.

١٤

الحسين عليه‌السلام كان لديه مثل هذا العرض ، وفعلاً فقد انتشر مثل هذا الخبر بين الناس وإنّ نصّ قول عقبة بن سمعان يؤكّد على ذلك بقوله : «ما يتذاكر الناسوما يزعمون» وفيه دلالة واضحة على انتشار هذا الخبر بين الناس وهم يتحدّثون به في مجالسهم ، وربّما أشيع لتخفيف نقمة الناس أو إيقاع اللّوم على الكوفة وواليها في عدم قبوله مثل هذا العرض بزعمهم ، وقد انطلت هذه الإشاعات على بعض المؤرّخين فأوردها بدون أن يعلّق عليها فقد نقلها السيوطي (ت٩١١ هـ) في تاريخه فقال : «فخذله أهل الكوفة كما هو شأنهم مع أبيه من قبله ، فلمّا رهقه السلاح عرض عليهم الاستسلام والرجوع والمضيّ إلى يزيد فيضع يده في يده ، فأبوا إلاّ قتله»(١).

إنّ هذا النصّ الذي تداوله عدّة من المؤرّخين يكذّبه واقع الشخصية التي لا يمكن أن تقبل مثل هذا المصير ، هذا وإنّ العقل ينكر مثل هذا لغير الإمام الحسين عليه‌السلام فكيف بالإمام نفسه ، وثمّةَ وجود نصّ آخر يصف صبر وجلادة الإمام الحسين عليه‌السلام وهو وصف من أحد جنود جيش عمر بن سعد بقوله : «فوالله ما رأيت مكسوراً قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاًولا أمضى جناناً ولا أجرأ مقدَماً منه»(٢) ، وهذا النصّ يصف صبر وجلدومقدم الإمام الحسين عليه‌السلام ، فلا يمكن لمثل هذه الصفات أن يحملها إلاّ الرجل الشجاع المتيقّن من إقدامه ، وإنّ وصيّته لأخته قبل شهادته وهو يقول مردّداً : «يا أختي اتّقي الله فإنّ الموت نازل لا محالة» خير دليل على ذلك(٣).

__________________

(١) تاريخ الخلفاء : ٢٠٧.

(٢) تاريخ الطبري ٥ / ٤٥٢.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٧٠.

١٥

إنّ المنهج العقلي يعدّ الأساس في تقويم النصوص التاريخية ، وعلى ضوء هذا المنهج تتّضح لنا أنّ الرواية التي ذكرها السيوطي واضحة الوضع ، ولكن في المقابل فإنّ العقل يقبل رواية الحوار التي دارت بين المعسكرين ، وإنّ طلب الإمام الحسين عليه‌السلام تركه ليذهب في هذه الأرض العريضة كما وردفي النصّ هو الأقرب إلى المنهج المنطقي العقلي لحركة الإمام الحسين عليه‌السلام(١) لاالاستسلام المهين الوارد في رواية السيوطي ، فكيف ينبغي لشخص أن يستسلم بعد أن قتل أهل بيته وأصحابه؟ هذا وإنّ دعوى ذهابه ليزيد بن معاوية وإصلاح الأمر كما عبّر عنه عمر بن سعد في رسالة مرسلة إلى ابن زياد ، فقد كذّبها الشاهد العيان عقبة بن سمعان وروى عدّة روايات نقل منهاالطبري في تاريخه معتمّداً المنهج المتعدّد للرواية التاريخية ، وبهذا المنهج فقد فسح مجالا واسعاً لنقد هذه الروايات وذلك وفق المنهج العقلي المقارن بين الشخصية وعوامل قبولها الأفعال والأقوال وعدمه ، ابتناءً على مراعاة أحوال شهود العيان من المتحاربين والمنعزلين عن المعركة في مدى وثاقة الراوي واخلاصه في الدفاع عمّا شاهد وعاين وهو يسمع المنقول وقدجاء بخلاف الواقع ، وهكذا هو موقف الشاهد الذي يردّ الأخبار التي هوأكثر من غيره معرفة بها.

عقبة بن سمعان في كتاب الرجال :

ذكره الشيخ الطوسي (ت٤٦٠ هـ) في رجاله من أصحاب الإمام

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٤١٤.

١٦

الحسين عليه‌السلام(١) ، وذكره مصطفى التفرشي (ت ق١١ هـ) في كتابه نقد الرجال ، وممّن ذكره (٢) السيّد الخوئي (ت١٤١٣ هـ) في معجمه نقلاً عن الشيخ الطوسي وأضاف إليه قوله : «واستشهد بين يدي الحسين عليه‌السلام ، ووقع التسليم عليه في الزيارة الرجبية وعن بعض المؤرّخين أنّه فرّ من المعركة ونجا»(٣).

أمّا شهادته فلم تثبت لورود ما يخالف ذلك بوجود رواياته التاريخية عن المعركة والتي رواها الطبري وغيره ، أمّا ورود اسمه في الزيارة الرجبية لايعني أنّه استشهد في المعركة لاحتمال أنّ الزيارة قد كتبت متأخّرة فاشتملت على جميع المشاركين مع الإمام الحسين عليه‌السلام ، أمّا ما ذكره السيّد الخوئي عن بعض المؤرّخين أنّه فرّ من المعركة ونجا فليس بصحيح والذي فرّمن المعركة هو الضحّاك بن عبد الله المشرقي وقد تعاهد مع الإمام الحسين عليه‌السلام في الانسحاب من المعركة وقبل الإمام ذلك.

ولا يوجد ما يؤيّد كلام السيّد الخوئي بأنّ عقبة بن سمعان قد استشهدبين يدي الإمام الحسين عليه‌السلام إلاّ ورود اسمه من ضمن قائمة الشهداءفي الزيارة الرجبية ، ولو قارنّا بينها وبين زيارة الناحية المقدّسة ـ وهي زيارة منسوبة للإمام المهدي عجّل الله فرجه ـ لم نجد اسمه فيها ، وقد قارن الشيخ محمّد مهدي شمس الدين بين الزيارتين ثمّ نقل كلام الشيخ محمّدباقر المجلسي (ت١١١١ هـ) صاحب كتاب بحار الأنوار الذي علّق على الزيارة الرجبية بقوله : «ونقلناه في كلّ موضع كما وجدناه» بعد إشارته

__________________

(١) رجال الطوسي : ١٠٤.

(٢) نقد الرجال ٣ / ٢٠٦.

(٣) معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة ١٢ / ١٦٩.

١٧

لاختلاف الأسماء ما بين الزيارتين(١) ، وهي إشارة إلى النقل غير المحقّق وأنّه كيف اختلف في الأسماء ما بين الشهداء والناجين من المعركة والاختلاف في العدد بين الزيارتين ، لقد جاء اسم عقبة بن سمعان باعتباره من شهداء الواقعة بما اشتملت عليه الزيارة الرجبية من أسماء ، والغريب تعليق الشيخ شمس الدين بترجيحه عدم مشاركة عقبة بن سمعان على الاطلاق (٢) ، وهذا الترجيح يخالف الواقع التاريخي ، فعقبة كان قد واكب جميع الأحداث إلى أن انتهت ، فهل كان متفرّجاً وسط هذه الأحداث على القول بعدم المشاركة؟ فإنّ عدم ذكره في الأحداث لا يدلّ على عدم مشاركته ، فكثير من الأسماء لم يعرف عنهم إلاّ أسماؤهم وهم متواجدون في الواقعة.

وبما أنّ منهج الطبري هو نقل الأخبار من جهات متعدّدة فقد ذكر خبرنجاته وإطلاق سراحه ما نصّه : «أخذ عمر بن سعد عقبة بن سمعان ـ وكان مولى للرباب بنت امرئ القيس الكلبية وهي أمّ سكينة بنت الحسين ـ فقال له : ما أنت؟ قال : أنا عبد مملوك ـ فخلّى سبيله فلم ينج منهم أحد غيره»(٣) ، ولكن يبدو للمتتبّع أنّ هناك مجموعة قد نجت من هذه المعركة وهم :

١ ـ الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليهما‌السلام وقد نجا بأُعجوبة وبعناية إلهية.

٢ ـ الحسن بن الحسن بن عليّ وكان جريحاً وبرئ من جراحاته.

__________________

(١) انصار الحسين دراسة عن شهداء ثورة الحسين الرجال والدلالات : ١٣٨.

(٢) المصدر السابق : ١٥٦.

(٣) تاريخ الطبري ٥ / ٤٥٤.

١٨

٣ ـ عمر بن الحسن ولكن لم يعرف حاله أي أنّه اشترك في المعركة أم كان صغيراً.

٤ ـ القاسم بن عبد الله بن جعفر ، كان صغيراً.

٥ ـ زيد بن الحسن بن عليّ.

٦ ـ عقبة بن سمعان.

٧ ـ الموقّع بن تمامة الأسدي الصيداوي وقيل : المرقّع بن قمامة ، لكن ضبطه السماوي في كتابه بالموقَّع بن تمامة(١) الذي كان ناثراً نبله وهو يقاتل وبعد انتهاء المعركة آمنه نفر من قومه (٢) فخرج إليهم وأخفوه عن ابن زياد ، لكنّه علم به وطلبه فشفع فيه جماعة من بني أسد فلم يقتله ابن زياد ، ولكن كبّله بالحديد ونفاه إلى الزارة(٣) ـ وهو موضع بعمان ـ ومات بعد سنة من نفيه (٤).

٨ ـ مسلم بن رباح نجا من المعركة وله روايات بخصوصها(٥).

هذا ما أحصاه الشيخ باقر شريف القرشي ولم يذكر الضحّاك المشرقي لأنّه قد ذكره من المنهزمين من المعركة ، ولكنّه كما سيتضح قد تعاهدمع الإمام الحسين عليه‌السلام وقبل الإمام منه ذلك وقد اتّفقا على هذا العهد.

إنّ جملة من مؤرّخي الواقعة قد ذكروا عقبة بن سمعان كان عبداً

__________________

(١) أبصار العين في أنصار الحسين : ١٠٨.

(٢) تاريخ الطبري ٥ / ٤٥٤.

(٣) ذكرها ابن الفقيه في الكلام عن البحرين وهي تقع ما بين الطريق من البصرة إلى البحرين أو بالعكس ، مختصر كتاب البلدان : ٣٣.

(٤) أبصار العين : ١٠٨.

(٥) حياة الإمام الحسين بن علي عليهما‌السلام دراسة وتحليل ٣ / ٣٣٣.

١٩

للرباب ، وكان يتولّى خدمة أفراس الإمام الحسين عليه‌السلام وتقديمها له ، ولما استشهد الإمام عليه‌السلام فرّ على فرس فأخذه أهل الكوفة ثمّ أُطلق سراحه وجعل يروي أخبار الأحداث التاريخية كما حدثت ومنه أخذت أخبارها(١) ، وفيه تأمّل ونظر ، فقد روى الضحّاك المشرقي وغيره أخبار الواقعة ، ويستبعد فراره من المعركة لعدم الاتّفاق على ذلك فقد ورد ما يخالف ذلك ، ولكن الاتفاق على فرار الضحّاك ونجاته حاصل بهذه الطريقة.

أمّا ورود اسمه في الزيارة الرجبية وليلة النصف من شعبان لا يدلّ على استشهاده ويدلّ على صحبته وحسن حاله ، لذا ما ذكره السيّد الخوئي والشيخ علي النمازي في المستدركات لا دليل عليه (٢) ، بل الدليل على عدم شهادته في المعركة لوجود روايات تصف الأحداث وفيها ردود على ما نقل من أحداث الواقعة ، وعقبة بن سمعان يبدو من حاله أنّه كان موضع سرّ الإمام عليه‌السلام فقد ناداه الإمام عندما لقي الحرّ بن يزيد الرياحي في منطقة ذي حسم(٣) بقوله : «يا عقبة بن سمعان أخرج الخرجين الذين فيهما كتبهم»(٤) وفي الخرجين كتب مرسلة تشير للبيعة للإمام وتعجيل بالمجيء إلى الكوفة فيها أسماء شخصيّات من أهل الكوفة ، وقد نفى الحرّ معرفته بهذه الكتب (٥) وقال : «إنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك»(٦) ، ويبدو من هذه النصوص

__________________

(١) الإمام الحسين في المدينة المنورة ورحلته إلى مكّة المكرّمة ١ / ٤١٠.

(٢) الإمام الحسين عليه‌السلام ١ / ٤١١.

(٣) ذو حسم بضمّ أوّله وثانيه : واد بنجد ، معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع ٢/٤٤٦.

(٤) تاريخ الطبري ٥ / ٤٠٢.

(٥) المصدر السابق ٥ / ٤٠٢.

(٦) الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ٢ / ٨٠.

٢٠