القرآن والطبّ الحديث

الدكتور صادق عبدالرضا علي

القرآن والطبّ الحديث

المؤلف:

الدكتور صادق عبدالرضا علي


الموضوع : الطّب
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٤

على ما يريد وفق أحكامه الخاصة المطلقة ، وحسب الصلاحيات والدساتير الإلهية التي وضعها بنفسه ولمصلحته.

هذا (الفرعون) إذا أردنا أن ندرس ونحلل حالته النفسية طبقا لما وصلتنا من الأخبار عن طريق : القرآن والسنة والأئمة الأطهار (ع) ، نجده إنساسا غير طبيعي ، غلبت عليه بعض الأفكار والحالات النفسية الغير طبيعية ، حتى جعلت منه في النهاية إنسانا مريضا تقوده تلك الأفكار والحالات ، ولا يستطيع أن يفكر بأي شيء إلّا وفق هذه التصورات والمعايير.

ومما زاد الطين بلة هو أنّ الزمرة المحيطة به كانت تصور له الامور ، وتقدم له الخدمات ، وكأنّه إله حقا وحقيقة ، وأنّ المخالفين له ما هم إلّا اناس كفرة يستحقون العذاب والموت.

القرآن الكريم صوّر لنا (فرعون) بآيات عديدة ، وعرض علينا بعض أفكاره وآرائه وأحكامه وتصرفاته الشخصية والعامة ، مع الناس ومع النبي موسى (ع) بشكل خاص ، بأسلوب علمي لطيف يوضح بجلاء الحالة النفسية التي وصل إليها (فرعون) عند ما ادّعى الربوبية.

والآن وبعد مقارنة الأفكار التي كان يحملها (فرعون) والحالة النفسية التي آل إليها ، حسبما جاءت على لسان القرآن الكريم مع علم النفس الطبي الحديث ، يتوضح لنا المرض النفسي الذي ألمّ بفرعون نتيجة الغرور والكبرياء والربوبية المزيفة التي سيطرت عليه ، عند ما اتيحت له الفرصة ليحكم مصر ، حيث نرى أنّ (فرعون) وبتأثير تلك الأفكار الشاذة ، والظروف النفسية المعقدة التي أحكمت الطوق عليه وعلى حاشيته المنافقة ، يتصرف بقسوة وعنف قال الله عنها : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (١).

__________________

(١) سورة القصص : الآية ٤.

٦١

وعند ما يأتي النبي (موسى) «ع» إلى (فرعون) ويعرض عليه الايمان بالله بأسلوب رباني ، وبآيات بينات ، ومعجزات إلهية ، يرفض (فرعون) ذلك ، لأنّه هو الرب الأعلى ولا ربّ غيره.

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى. فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى. وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى. فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى. فَكَذَّبَ وَعَصى. ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى. فَحَشَرَ فَنادى. فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (١).

ويثور على الرسول الجديد ويستهزئ برسالته السماوية ، ويشكك بها بطريقة مسرحية تدل على أنه مريض بداء جنون العظمة والوسوسة النفسية ، فيقول : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) (٢).

ويستمر مخاطبا الحاضرين من حوله : (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) (٣) ، أنا الرب الأعلى وأنا المالك والقادر والمعطي : (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ. أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) (٤).

ولكن النبي موسى (ع) يجادله باللين واللطف كما أمر به الله ، وبما يملك من آيات ، وفرعون يرفض ويتهم موسى بأنه ساحر ومخرّب. (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ) (٥).

__________________

(١) سورة النازعات : الآيات ١٧ ـ ٢٤.

(٢) سورة القصص : الآية ٣٨ ـ ٣٩.

(٣) سورة الشعراء : الآية ٢٣.

(٤) سورة الزخرف : الآية ٥١ ـ ٥٢.

(٥) سورة الشعراء : الآية ٣٤ ـ ٣٥.

٦٢

ويهدده أمام الملأ بالسجن والعذاب والقتل إذا تكلم عن إله آخر غيره (قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ. قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ. قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (١).

ويلتفت (فرعون) إلى الحاشية المنافقة التي زينت له الأعمال قائلا : (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) (٢)

ولكن النبي موسى (ع) يقدم له البرهان تلو البرهان ويدعوه للمناظرة وينتصر عليه ، ويؤمن السحرة من أصحاب فرعون بما جاء به النبي موسى (ع) ، لأنهم رأوا الحق واضحا أمامهم ، وهنا تثور ثائرة فرعون الطاغي وينفعل بعصبية حادة ، ويرفض المعجزة التي حدثت أمامه. ويصاب بصدمة نفسية تهيج أعصابه ، وتجعله حاد المزاج سريع الأحكام.

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) (٣).

ويرفض هذا الواقع بشدة ولا يقبل بالمعجزة التي حدثت ، والبرهان القاطع الذي جاء به النبي موسى (ع) لأنّ نفسيته مريضة ، وتصرفاته تحكمها الأفكار الشاذة التي سيطرت عليه بشكل مؤثر جعلته أسيرها ، فهو في نظره المريض إله ومرشد وطاعته واجبة.

نعم ، هذه هي حالة (فرعون) النفسية كما وردت في القرآن الكريم ، وقد جاءت مطابقة للأعراض التي تظهر على الانسان عند إصابته بداء العظمة والوسواس النفسي الشديد.

وباستعراض تلك الأعراض المرضية لداء العظمة والوسواس النفسي ،

__________________

(١) سورة الشعراء : الآية ٢٩ ـ ٣١.

(٢) سورة غافر : الآية ٢٦.

(٣) سورة الشعراء : الآية ٤٩.

٦٣

تتضح لنا في نهاية البحث الصورة الكاملة بكل أبعادها ومحتواها.

أعراض مرض اضطراب النفس الوسواسي وداء العظمة : ـ

١ ـ يظهر دائما بمظهر الشخص الفضولي ، ويكون بعض الأحيان متحذلقا يصل حد الإضحاك.

٢ ـ يهتم بالابهة والمظهر والديكور الزائد عن اللازم.

٣ ـ الحذر بدرجة كبيرة محاولا من جعل الامور مرتبة وذات نظام خاص ومعين تتلاءم وذوقه الخاص.

٤ ـ يظهر بصورة الشخص المتكامل ذي الشخصية الناضجة ، محاولا السيطرة على نفسه بقوة وإحكام ، وكذلك يجهد للسيطرة على الآخرين سواءا عن طريق الأفكار أو القوة.

٥ ـ يتصرف بطريقة أنانية وفردية زائدة.

٦ ـ يكون صلبا وعنيدا في آرائه وأحكامه ، ولا يعرف الرأفة مع الآخرين.

٧ ـ يريد أن تكون الوقائع والأحداث مسندة بأدلة كافية أو مرئية لغلبة عنصر الشك في نفسه ، ويعطي الأوّليات للامور الثانوية بدلا عن الفكرة أو الموضوع الرئيسي.

٨ ـ يجب أن تكون الأشياء قطعية وحادة خصوصا إذا كانت الفكرة أو الموضوع من ام أفكاره.

٩ ـ شديد الحساسية تجاه الآخرين ولا تؤثر عليه رغباتهم وآراؤهم وطلباتهم.

١٠ ـ عنده مجموعة من المقاييس الثابتة والأفكار المعينة التي لا يتزحزح عنها إلّا بصعوبة ، ويستجيب بطريقة معقدة وملتوية عند ما يقع في ورطة أو يواجه بحادثة خصوصا في حالة حضور جمع من الناس.

١١ ـ يظهر عليه العنف الشديد عند ما يقابل بطلبات أو رغبات مغايرة لمبادئه وآرائه المتسلطة.

٦٤

١٢ ـ يراوغ ويحاول أن يترك منافذ للامور بشرط أن تكون تلك المنافذ مرتبطة بوسيلة أو اخرى مع آرائه السابقة المتصلبة (١).

* * *

__________________

(١) Davidson\'s principle and practice of medicin ..

٦٥

الموضوع الثالث

«الرسول الكريم»

ليس الكلام عن رسول الله (ص) مثل الكلام عن غيره من عظماء الرجال الذين كان لهم فضل على الانسانية بتوجيهها وجهة الخير والحق والكمال.

والانسان مهما اوتي من فصاحة الكلام ، وقوة التعبير ، وسعة الخيال ، ودقة التصوير ، فما هو ببالغ الوفاء في ناحية من النواحي التي برّز فيها ، فضلا عن الاحاطة بكل النواحي التي فاق فيها غيره من سائر البشر.

إذا كانت النفس الانسانية في ذاتها معضلة العلم ، ومشكلة الفلسفة ، وعقدة الحكمة من القدم إلى اليوم ، وإذا كانت المعارف الانسانية بأجمعها ، وقوانين علوم النفس برمتها ، لم تزل قاصرة عن تتبع سير النفس في حركتها وسكناتها ، والاشراف على سر تطوراتها في صلاحها وفسادها ، وعاجزة عن الالمام بصفة عروجها في عالمها على أجنحة الفضائل ، أو هبوطها بدوافع شهوتها إلى حضيض النقص والرذائل ، فكيف يطمع باحث أن يقف على حقيقة روح نزلت من حظائر الملأ الأعلى ، وانفصلت من سرادقات العالم الأسمى ، واتصلت بأبدع وأكمل صورة من صور المادة ، لتأخذ في الأرض بيد أرواح غرقى ، وتنجي من الغم نفوسا هلكى ، وتتم من مكارم الأخلاق خداجا ونقصا ، وتعد النفوس لكمال طالما حنت إليه حنينا وبكت عليه الضمائر شوقا.

درس هذه الروح يستلزم معارف جلى ، وعلما جما ، ويستدعي من الباحث بعلم النفس إحاطة كبرى ، وبضمائر المساتر معرفة عظمى.

من ينكر علينا أنّ هذه الروح المحمدية الطاهرة الكريمة ، نشأت بين قوم كانوا من الدين في وثنية ، ومن الأخلاق في همجية ، ومن العادات في وحشية ، ومن الاجتماع في انقسامات قبيلية ، وتحزبات عصبية ، ومن المدارك في جهالة ، ومن الأفكار في ضلالة ، ومن الوجود في عماية ، ومن العقائد في غواية ، ومن الأنظمة في فاقة ، ومن

٦٦

القوانين في حاجة ؛ حروب متواصلة ، وأحقاد متوارثة ، ودماء مهدرة ، ومهج مهراقة ، وعادات نشبت فيهم نشوبا ، وغرست فيهم عيوبا ، وجرت عليهم خطوبا ، وطباع خلعتهم عن مقتضى الفطرة ، ونبت بهم عن مطالب الخلقة ، واصطلاحات بعدت بهم عن قوانين الطبيعة ، وألقت بهم إلى مطارح الرذيلة ، وأشربت نفوسهم سموم القطيعة ، صناديد لا يفكرون في غير الغارات ، ولا يفاخرون إلّا بطعن الردينيات وضرب المشرفيات ، شعراء ولكن في الدعوة إلى القتال ، وتيتيم الأطفال ، وإفناء الأهل والمال ، أقوياء ولكن في نسف المعالم ، واكتساح المغانم ، نجداء ولكن ضد بعضهم ، شجعان ولكن على أنفسهم.

ومن ينكر علينا ، أنّ هذه الروح المحمدية الشريفة ، قامت في مبدأ الأمر وحدها بدون نصير ، ولاقت مما يحيط بها من الأرواح مقاومات عنيفة ، ومخاصمات شديدة ، وفتنا مظلمة ، وإحنا حالكة وصدورا وغرة ، وأعداء فجرة؟

وأنها صبرت تجالد هذه الأرواح سنين متوالية ، تأخذها بالنصيحة مرة ، وبالترغيب اخرى ، وبالترهيب حينا ، وبالجدال أحيانا ، فكانت بذلك وحدها أمام امة بأسرها ، ترمقها عن بكرة أبيها شزرا وتتوعدها شرا ، وتهددها سرا وجهرا ، وتنصب لها الحبائل ، وترصد لها المخاتل ، وتغري بها اللئام والرعاع ، وتثير عليها الاحن والأحقاد؟

وكيف فازت في النهاية على جميع مجاوراتها ، وأخضعت لسلطانها جميع عدواتها ، وسائر حواسدها ، وأتمت كل وظائفها ، ثم صعدت إلى حيث أتت ، قريرة العين مرتاحة البال ، لم ينلها من تألب أعدائها شيئا ، ولم يلحقها في أداء وظيفتها فتور ولا ونى ، ولم تصعد حتى نقشت اسمها في صفحات الوجود نقشا لا يمحى ، وأبقت فيه أثرا لا يبلى ، واستخلفت فيه روحا لا تزهق ، وحياة لا تضمحل أفاعيلها في تابعها إلى يومنا هذا. ومن يرد أن ينكر كل هذه الحوادث فلينكر ، الشمس طالعة والنجوم ساطعة ، ونفسه الجاحدة.

٦٧

إنّ شخصية رسول الله (ص) من أوضح شخصيات الانسانية التي سجلتها صحف التاريخ الموثقة بالأدلة الساطعة والبراهين القاطعة ، التي إن أنكر الناس الشمس ودورتها في الفلك ، كان لهم أن ينكروا «محمدا (ص)» وظهوره في هذه الفترة من التاريخ وفي هذا المكان من العالم. ولله تعالى في هذا حكمة وتدبير.

نعم لقد كان الرسول الأكرم (ص) أكبر معلم عرفته البشرية منذ نشأتها حتى اليوم ، بشهادة القرآن ومن فسّره ، واعتراف كبار المفكرين والحكماء والفلاسفة من مسلمين وغيرهم.

فكان (ص) حكيما لم ينجب التاريخ قديما وحديثا مثله.

وكان (ص) طبيبا نفسيا لا يرقى إليه أحد مهما مرت الأيام والسنين.

هذا الطبيب النفساني الأوحد اسمه (محمد بن عبد الله ـ ص ـ) خاتم الأنبياء وسيّد المرسلين الممدوح في القرآن الكريم بقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (١).

و (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) (٢).

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (٣).

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (٤).

(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٥).

__________________

(١) سورة القلم : الآية ٤.

(٢) سورة الاحزاب : الآية ٤٥ ـ ٤٦.

(٣) سورة الأنبياء : الآية ١٠٧.

(٤) سورة الأحزاب : الآية ٢١.

(٥) سورة الحشر : الآية ٧.

٦٨

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١).

والجانب الخلقي في الشريعة الإسلامية ، هو الجانب الايجابي منها ، وهو غاية أحكامها ، ومرمى تعاليمها ، التي تدور حول تهذيب النفوس ، وتقويمها ، وتوجيه الناس بها إلى مقاصد الخير ، ومسالك النفع.

بهذا كانت دعوة الرسول الكريم (ص) ، وكانت أوامر الشريعة ونواهيها ، وهذا ما يتحقق به قوله تعالى في نبيه الكريم (ص) : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) .. فإنه لا شك أن أهم مظاهر الرحمة الالهية ، وأبرز آثارها في الانسان ، هو أن يحمد خلقه ، وتحسن سيرته ، ويستقيم مع الناس على طريق الحق والعدل ، والاحسان خطوة ، وهذا بعض ما يشير إليه قوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.)

والمحسنون حقا هم الذين فتح الله قلوبهم للخير ، وسلك بهم مسالك الهدى ، فحسن قولهم ، وصلح عملهم ، وطاب في الناس ذكرهم.

تلك هي غاية الرسالة الاسلامية ، خلق الانسان الصالح ، في المجتمع الصالح ، ولن يكون الانسان صالحا إلّا إذا توازنت قواه المادية والمعنوية جميعا ، وتلاقى

مع بعض على دواعي الخير ، وغايات الإحسان. ولن يكون الإنسان إنسانا صالحا ، إلّا إذا كانت له شخصيته ومكنته وآثاره المحمودة في المجتمع الذي يعيش فيه ، وذلك لا يتحقق إلّا بخلق كريم ، وسيرة محمودة ، وعمل نافع ، وآثار بارزة في ماديات الحياة ومعنوياتها جميعا ..

والعادات ، والمعاملات ، والآداب والأخلاق ، التي رسمتها الشريعة الاسلامية ، إنما غايتها تخريج نماذج طيبة للانسانية ، في صورة المسلم الذي تظهر عليه آثار الاسلام ، فتكسوه رواء يبهر العيون جمالا ، ويملأ القلوب جلالا ، ويثير عواطف الحب والاكبار التي يجدها الانسان في نفسه حين يلتقي بمثل هذا النموذج الكريم من

__________________

(١) سورة التوبة : الآية ١٢٨.

٦٩

الناس ..

وفي ذلك يقول الرسول الكريم (ص) : «إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (١). ومن تمام مكارم الأخلاق في الانسان أن يشف ويصفو ، وأن ترتفع إنسانيته الى المدى الذي تنتهي إليه الانسانية في أسمى مدارجها ، وفي أعلى مواطن كما لها .. هناك تجد ذلك الانسان الذي تهفو إليه مشاعر الأنسانية ، وتتمثله في الانسان الكامل.

فقد وهب الله تعالى لرسوله الكريم (ص) العناصر الأساسية لمكوّنات الشّخصية الانسانية النبيلة.

أ ـ تواضع لا يعرف الغرور ، ولا التعاظم ، فهو بين رجاله كواحد منهم. فكان (ص) : «يأكل على الأرض ، ويجلس جلسة العبد ، ويخصف بيده نعله ، ويرقع بيده ثوبه ، ويركب الحمار العاري ، ويردف خلفه» (٢).

وكان «يجيب دعوة الحرّ والعبد ولو على ذراع أو كراع ، ويقبل الهديّة ولو أنها جرعة لبن ويأكلها ولا يأكل الصّدقة. لا يثبت بصره في وجه أحد» (٣) «كان إذا دخل منزلا قعد في أدنى المجلس حين يدخل» (٤).

فحياته ومعاشرته (ص) كانت عادية تماما وبدون تجمّلات ، بحيث أنّ الغريب كان إذا أقبل على مجلسه (ص) يضطر أن يسأل : أيكم محمّد؟

ب ـ وعدل بلغ بصاحبه حدّ الميزان الدقيق الحساس ، دقّة ، إلى درجة أنّه ساوى بين نفسه وبين النّاس في العطاء. ولم يكن يقبل بأدنى تجاوز لحدود الله ... فعند ما اخبر أنّ فاطمة المخزوميّة سرقت لم يتقبل وساطة اسامة بن زيد وقال : «إنما هلك من

__________________

(١) كنز العمال ج ٣ ص ١٦ حديث ٥٢١٧.

(٢) نهج البلاغة (صبحي الصالح) ص ٢٢٨.

(٣) البحار ج ١٦ ص ٢٢٦ ـ ٢٢٨.

(٤) البحار ج ١٦ ص ٢٤٠.

٧٠

قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد ، وأيم الله لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطع محمّد يدها» (١).

ج ـ وزهد لا يعرفه إلّا النسّاك المتبتّلون لله المنقطعون للعبادة ، فلبس خشن ، ومأكل جشب ، لئلّا ينسى الفقراء ، ويظلّ ذاكرا فقراء رعيّته ، مارّا بالتجربة النفسية التي يمرّون بها يوميّا.

د ـ وحلم وصفح صغّر كلّ ما عرف عن حلماء العرب. «فرغم كل الذي لاقاه من قريش في بدء الدعوة ، فإنّه عند انتصاره عليهم في فتح مكة عفا عنهم .. عفا عن (وحشيّ) قاتل عمّه حمزة ، وكذلك فعل مع أبي سفيان وهند» (٢).

ه ـ وشجاعة أدبية لا تعرف المواربة ، ولا تفهم المراوغة والمداجاة.

و ـ شجاعة أزرت ببطولة كل بطل.

ز ـ وصفاء ذهن يوحي بأحكام عبقريّة يقف عندها كل عبقري ذاهلا.

ح ـ وجود شهد له به أعداءه قبل محبيه ، أليس هو القائل (ص) : «إنّ من موجبات المغفرة بذل الطعام ، وإفشاء السلام ، وحسن الكلام».

ويقول (ص) : «خلقان يحبهما الله تعالى : حسن الخلق والسخاء. وخلقان يبغضهما الله تعالى : سوء الخلق والبخل. وإذا أراد الله بعبد خيرا استعمله في قضاء حوائج الناس».

قال الإمام أمير المؤمنين (ع) : «يا عجبا لرجل مسلم يجيئه أخوه المسلم في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلا. فلو كان لا يرجو ثوابا ولا يخشى عقابا لقد كان ينبغي له أن يسارع إلى مكارم الأخلاق. فإنها مما تدل على سبيل النجاة.

فقال له رجل : أسمعته من رسول الله (ص)؟

فقال : نعم ، وما هو خير منه ذلك لما اتي بسبايا طيء ، وقفت جارية في

__________________

(١) ارشاد الساري : ج ٩ ص ٤٥٦.

(٢) الكامل : ج ٢ ص ٢٥٢ ط ١٣٨٥ ه‍.

٧١

السبي فقالت : يا محمد : إن رأيت أن تخلّي عني ، ولا شمت بي أحياء العرب ، فإني بنت سيّد قومي. وإنّ أبي كان يحمي الذّمار ، ويفك العاني ، ويشبع الجائع ، ويطعم الطعام ، ويفشي السلام ، ولم يرد طالب حاجة قط ، أنا بنت حاتم الطائي.

فقال رسول الله (ص) : «يا جارية ، هذه صفة المؤمنين حقا ، ولو كان أبوك مؤمنا لترحّمنا عليه. خلّوا عنها فإنّ أباها كان يحب مكارم الأخلاق ، والذي نفسي بيده. لا يدخل الجنة إلّا حسن الأخلاق».

ط ـ وثقة بالله لا يعرف لها مثيل ، فأعتق عبيدا من يده ، ولم يقل لسائل : لا ، قط. تلك هي إنسانيته (ص) التي لا تجارى.

أجل. ما كاد الوحي ينزل عليه حتى أشرق قلبه بالايمان فصار يرى الله في كل شيء : يرى مظاهر جماله وجلاله ، ودلائل قدرته وعظمته ، وآثار حكمته ورحمته.

يرى ذلك كله في نفسه ، وفي الطبيعة من حوله ، في الأرض ، وفي السماء ، في الحياة ، وفي الموت ، فتنفعل نفسه بهذا كله فيهتف من أعماق قلبه :

«اللهم لك الحمد ، أنت قيّم السموات والأرض ومن فيهن. ولك الحمد ، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن. ولك الحمد ، أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن. ولك الحمد ، أنت الحق ، ولقاؤك حق ، وقولك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والنبيون حق ، ومحمد حق ، والساعة حق.

اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت ، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت.أنت المقدم ، وأنت المؤخر. لا إله إلّا أنت. ولا حول ولا قوة إلّا بالله».

وتبقى هذه الحقيقة ماثلة في ضميره ، وشاخصة بين عينيه ، فلا تفارقه في ليله أو نهاره. ولا تزايله في نومه أو انتباهه. ولا تزيد على الأيام إلّا تألقا.

وإنها تتجلى في زهده. وورعه. وعزوفه عن متاع الدنيا وزهرتها كما تبدو في صلاته الخاشعة ، وذكره الدائم ودعائه الحار ، وصيامه المتواصل ، ولجئه إلى الله في كل شيء ، حتى لتكون آخر كلمة يلفظها : «إلى الرفيق الأعلى ، إلى الرفيق الأعلى».

٧٢

وكما أضاء الوحي جوانب نفسه فعرف الحقيقة الكبرى ، فقد حرك كوامن الخير وعواطف النبل فيه كذلك ، فأصبح إنسانا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان ، أصبح يحمل بين جنبيه صدرا رحيبا. وقلبا رحيما ..

فممّا حفظ من صفاته أنه متواضع يخفض جناحه لغيره ، ويجالس الفقراء ، ويؤاكل المساكين ، ويقبل عذر من إعتذر إليه. ولا يغلظ على أحد. ولا يواجهه بما يكرهه. يبدأ من لقيه بالسلام والمصافحة. ومن قادمه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف. وهو خضيب الوجه ، بسط الكف ، يكرم كل من دخل عليه حتى ربما بسط له ثوبه يجلسه عليه. يبذل من ذات نفسه لا يستأثر بشيء. ولا يبيت عنده درهم ولا دينار. يكرم أهل الفضل ، ويتألف أهل الشرف بالبر لهم. وهو أبعد الناس غضبا ، وأسرعهم رضا ، وأرحم الناس بالناس وأنفع الناس للناس.

وصفه أمير المؤمنين الأمام علي (ع) فقال : «كان أجود الناس كفّا ، وأوسع الناس صدرا ، وأصدق الناس لهجة ، وأوفاهم ذمة ، وألينهم عريكة ، وأكرمهم عشرة ، من رآه بديهة هابه ، ومن خالطه معرفة أحبه. يقول ناعته : «لم أر قبله ولا بعده مثله». وما سئل عن شيء قط إلّا أعطاه ... وكان أزهد الأنبياء ، ما رفعت له مائدة قط وعليها طعام ، وما أكل خبز بر قط ، ولا شبع من خبز شعير ثلاث ليال متواليات قط. توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بأربعة دراهم وما ترك صفراء ولا بيضاء».

وقال عنه سبطه الأمام الحسن بن علي (ع) عن خاله هند ابن أبي هالة التميمي قال : «كان الرسول (ص) متواصل الأحزان ، دائم الفكرة ليست له راحة ولا يتكلم في غير حاجة ، طويل السكوت ، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه ، ويتكلم بجوامع الكلم فصلا ، لا فصول فيه ولا تقصير ، دمث ليس بالجافي ولا بالمهين يعظم وإن دقت ولا يذم منها شيئا ، ولا يذم ذواقا ، ولا يمدحه ، ولا تغضبه الدنيا وما كان لها ... جل ضحكه التبسم ... ويتفقد أصحابه ويسأل الناس عما في الناس ، فيحسن الحسن ويقويه ويقبح القبيح ويوهنه ... لا يقصر عن الحق ولا يجوزه ،

٧٣

الذي يلونه من الناس خيارهم. أفضلهم عنده أعمهم نصيحة ، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة.

لا يجلس ولا يقوم إلّا على ذكر الله .. يعطي كلا من جلسائه نصيبه ، حتى لا يحسب جليسه أنّ أحدا أكرم عليه منه ، من جالسه أو قادمه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه ، ومن سأله عن حاجة لم يرده إلّا بها أو بميسور من القول.

قد وسع الناس منه بسطه وخلقه ، فكان لهم أبا وصاروا عنده في الحق سواء. فمجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة ، لا ترفع فيه الأصوات ، ولا يوهن فيه الحرم. يوقرون فيه الكبير ، ويرحمون فيه الصغير ، ويؤثرون ذا الحاجة ، ويحفظون الغريب ، وكان رسول الله (ص) دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ، ولا غليظ ، ولا صخاب ، ولا فحاش ، ولا عياب ، ولا مداح» (١).

وقال فيه حفيده الأمام الصادق (ع) : «كان رسول الله (ص) يقسم لحظاته بين أصحابه ، فينظر الى ذا وينظر الى ذا بالسوية ، ولم يبسط رسول الله رجليه بين أصحابه قط».

ولا يزال قوله المأثور عند ما فتح مكة ، معقل الشرك ورحى المؤامرات التي كانت تحاك ضده : «اذهبوا فأنتم الطلقاء ، لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين».

أرأيت غير محمد (ص) جمع كل هذه الصفات التي تم التأليف بينها ، وأحكم أمرها ، وظهرت آثارها لتكون مثلا أعلى ، ونورا يضيء للناس ، ويبصرهم جوانب الخير ، ونواحي الفضيلة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟

وإذا كان فراره إلى الله تعالى وتبتله إليه تبتيلا لم يسبقه فيه سابق ولم يلحقه فيه لاحق. وإذا كانت إنسانيته العليا قد ألقت عليه محبة من كل من عاشره. فإنّ

__________________

(١) مكارم الأخلاق : ١٤.

٧٤

هذا لا يقاس بجانب ما قدمه للانسانية من دعوة هادية ردت إليها الحياة ، وأنارت لها الطريق.

كانت هناك النصرانية واليهودية والوثنية ، وما كانت هذه كلها بمستطيعة أن تنقذ العالم من الهوّة التي كان قد أشرف عليها. إنها ديانات قد أفسدتها الأوهام والخرافات ، واستحالت إلى طقوس لا تهذب نفسا ، ولا ترفع رأسا ، ولا تفيد في دنيا ، ولا تنفع في دين.

واجه الرسول (ص) الدنيا ، وهي على ما هي عليه من الشقاء والفساد ، فكان كالفجر المشرق في أعقاب ليل مظلم ، وكان ذلك إيذانا بميلاد جديد للبشرية ، وإعلاما بأنّ روحا اخرى سرت في أوصال العالم المنهار ليعيد إليه القوة والصحة والكمال.

ليس على الذين أرعبتهم مفازات الحياة ووعوثتها ، وهالتهم عقباتها ومعاطبها ، إلّا أن يتّبعوا ذلك الطبيب النفساني الأول في العالم والمثال الكامل في سيره ويقتدوا بهديه في جميع أمره ، فإنه جاء ليعلّم الأنسان كيف يسلك بنفسه الحياة بدون أن يدنسها ، وكيف يطير بروحه إلى الغايات بدون أن يتعبها ، وكيف يجري في باحات المطالب المختلفة بدون أن يلامسه الجور بذلة ، ويركض في ساحات المجد غير خاش أن يصدمه الغلو في صدره.

فهل يصح ، أن يعد المسلمون هذه السيرة من ضمن السير ، ويجعلوها مجرد فكاهة في السهر ، ورقائق يوشون بها أطراف السمر أم يجب أن يدرسوها من جهة فلسفية حيوية ، ليتخذوها دستورا للعمل ، ونبراسا يجلون به عن حياتهم ظلمات الخطل ، ويحتمون به التدهور في الزلل ، وعلما يعشون إلى ضوئه في كل أمر جلل؟

كيف لا يجعل المسلمون هذه السيرة المثلى لهذه الروح العظمى كحلا لأعينهم ، وشغافا لقلوبهم ، ودخيلا تحت ضلوعهم ، وشعارا على جسومهم ، ودثارا فوق لباسهم؟ وكيف لا يجعلونها مرجعا لفخارهم ، وأصلا لمجدهم وسؤددهم ، ودواء لأدوائهم ،

٧٥

ومرهما شافيا لجراحهم ، ومنشطا لفتورهم ، وسلما لأوليائهم ، وحربا لأعدائهم ، وحجة على صحة دينهم ، ودليلا على وضوح طريقهم.

* * *

٧٦

الموضوع الرابع

«الاضطراب النفسي»

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (١).

(يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ. وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ. وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ) (٢).

العلاقة الحميمة والحب المتبادل والعطف والحنان والرعاية التي توليها الام لرضيعها ، لا يمكن أن توصف إلّا من قبل الام نفسها ، ولا تقوم به إلّا ام لأبنها فقط ، لكون ذلك مستحيلا ضمن قاموس الحب والحنان الموجود على ظهر الأرض.

فالام وحدها تتحمل مشاكل الحمل وآلام الولادة وما يرافقها حتى ترى ثمرة ذلك ، ألّا وهو وجود طفلها بين أحضانها تقبله في عطف ، وتغدق عليه حنان الامومة بلطف ومحبة وتسقيه الحليب بشوق ومتعة. تسهر لسهره ، وتمرض لمرضه. وإذا ابتسم في وجهها أشرقت معانيها بابتسامة الرضى والأمل. لا تكل عن العناية به سواء في الليل أم في النهار ، فإذا صرخ دق قلبها الحنون ، وفزعت نحوه لتسكته ، وتعرف سبب صراخه.

هذه الام المخلصة ، والمستعدة لكل طارئ تجاه رضيعها ، تراها في لحظات معينة من حياتها تنسى هذا الرضيع وتتركه ، وتنشغل عنه بامور أو مشكلة أو مشهد أهم وأعمق وأوسع وأشمل من أهتمامها برضيعها المدلل.

وهنا ينتصب السؤال : كيف حدث هذا التغير المفاجيء في غريزة ومنهاج

__________________

(١) سورة الحج : الآيتان ١ ـ ٢.

(٢) سورة المعارج : الآيات ١١ ـ ١٤.

٧٧

وحياة هذه الام الوالهة ، بحيث تتصرف مثل هذا التصرف المخالف لطبيعتها وأخلاقها وعرفها.

ففي هذه الآية الكريمة يصف الله سبحانه وتعالى قيام الساعة وما يرافقها من وقائع ملؤها العظمة والرهبة والخوف ، بحيث أنّ تلك الام المسكينة تنشغل عن رضيعها المحبوب بما هو أهم وأكثر تأثيرا منه ، وذلك من هول الصدمة التي تتعرض لها عند رؤيتها لمنظر قيام الساعة ، الأمر الذي يجعلها تتصرف خلاف غريزتها وطبيعتها التوّاقة لاحتضان وإرضاع وليدها.

هذه الحالة تعتبر من الناحية النفسية والطبية حالة انقلاب شديد وعنيف على الواقع الذي كانت تسلكه الام خلال حياتها العادية ، وحالة اضطراب نفسي مفاجيء يجعلها تترك أعز ما لديها ، وتنشغل بانشداد للواقع الجديد الذي حدث أمامها ، وأدّى بها الى هذا التبدل المفاجىء والمخالف لغريزتها كام.

هذا الانقلاب النفسي الحاد الذي صوره الله لنا في هذه الآية ، يمثل قمة التصوير الفني الذي يوضح لنا المعنى المراد من الآية من خلال طرح العلاقة المعروفة بين الام ورضيعها ، وهذه الحالة تعرف طبيا ب (Phobic Psycho Neurosis).

هذه الصورة الاولى ، أما الصورة الثانية ، فحين تضع كل حمل حملها ، لأنّ شدة تأثير مشهد قيام الساعة لا يشغل ـ فقط ـ الام المرضعة عمّا ترضع ، وانما يترك أثرا شديدا وخوفا عنيفا وفزعا عظيما على المرأة الحامل ، فيؤدي ذلك إلى حدوث تقلصات في عضلات البطن والرحم. تؤدي في النهاية إلى اسقاط الجنين من بطنها بتأثير الخوف المفزع ، علما بأنّ هذا الخوف أو الرهبة من منظر قيام الساعة ، ليس بالشيء الطبيعي الذي تتحمله المرأة الحامل ، وإنما هو خوف عظيم يفوق طاقتها وتحملها النفسي والجسمي ، وله تأثير عصبي مباشر على الجهاز العصبي ، بحيث يؤدي إلى تقلص العضلات المذكورة بصورة عنيفة وسريعة ، مما ينتج عنه حالة إجهاض مفاجئة.

٧٨

وتسمى هذه الحالة في الطب الحديث بالهبوط العصبي المفاجىء ، ويحدث هذا إمّا من رؤية بعض المناظر المرعبة ذات التأثير النفسي الحاد ، أو نتيجة لضربة مفاجئة وشديدة على أحد مراكز الدماغ أو بعض الأعصاب كالعصب العاشر ، فيؤدي ذلك إلى هبوط عصبي مفاجىء يجعل الأنسان يسقط على الأرض في حالة إغماء أو موت مفاجىء في بعض الأحيان.

وقد يرافق سقوط الأنسان على الأرض بعض الأعراض الطبية ، مثل التقيء الشديد ، واصفرار الوجه ، وسرعة في النبض ، مع تعرق شديد قد تنتهي في بعض الأحيان إلى السكتة القلبية.

أما في المرأة الحامل ، فإنّ التأثير العصبي المفاجىء ينتج عنه الاجهاض ، نتيجة العوامل النفسية والعصبية المارة الذكر.

والصورة الثالثة ، حيث ترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد. فمن المعروف أنّ شدة الصدمة العصبية تترك ردّ فعل عصبي بقدر تأثيرها على المشاهد ، فهؤلاء الناس المصابون بالهلع الشديد نتيجة هول المنظر المخيف الذي يرونه أمامهم ، يجعل منهم اناسا غير عاديين ، يتصرفون بشكل غير طبيعي أو إرادي أشبه ما يكون بالسكران الذي يتصرف بغير عقله.

هذا الانسان الذي كان قبل فترة وجيزة كامل العقل ، مدركا ، ذا إرادة وقوة وقدرة ، يتحول في ساعة معينة إلى إنسان آخر ، خائر القوى ، عديم التوازن ، يتصرف خلاف إرادته وارائه ، بسبب شدة الصدمة التي تعرض لها لدرجة جعلته مسلوب الفكر ، غير قادر على مواجهة المنظر أو الكارثة التي حدثت أمامه. فيأخذ بالتصرف بشكل غير عقلائي وسليم كأنه شرب كأسا مسكرا.

وهذا التحول لا يحدث إلّا عند ما يكون المؤثر الخارجي قويا جدا على المؤثر عليه.

هذا التشبيه البديع لأنسان عادي المظهر يتصرف من منظر مخيف كما

٧٩

يتصرف السكير هو خليط من الهلوسة (Hallucination) التي تصيب بعض الناس نتيجة تعرضهم لضغوط نفسية عديدة ، وآلام وأفكار تجعل من حياتهم عرضة للخطر ، فيتصرفون وفق آراء مغايرة للواقع الذي كان يعيشونه ، ممّا يؤدي بهم في النهاية إلى سلوك طريق مغاير للمجتمع الذي انسلخوا عنه تدريجيا.

أو نتيجة تسلط فكري مشبع بآراء غير منطقية لا وجود لها في الواقع ، وإنما في مخيلة المصاب فقط (Ellusion) وهذه الآراء المتسلطة تسبب له مشاكل مستقبلية ، وتؤدي إلى انفصاله تدريجيا عن المجتمع نتيجة لا نطوائه وتعلقه بتلك الآراء الخاطئة التي تصورها في نفسه فقط ، لأنّ الآية الكريمة تقول في الختام : (وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ). لأنّ السكر لم يكن واقعا بالفعل ، وإنما شدة العذاب جعلتهم يتصرفون تصرف السكارى.

أما الصورة الرابعة التي يعرضها الله علينا خلال تلك اللحظات من عمر الأنسان ، حيث يقول جلّ شأنه في سورة المعارج : (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ).

بهذه اللوحة الدقيقة المعالم والتصوير ، ذات التعبير الرائع ، يعرض علينا القرآن هذه الصورة الفريدة من نوعها ، التي تخالف العادات والقيم التي اعتاد عليها البشر ولا زال يلتزم بها في علاقاته العائلية والاجتماعية والعشائرية ، التي كانت تسيطر عليه وتسوده منذ نشأته الاولى وحتى الممات.

فالأب يحنو على طفله الصغير ، ويصرف الوقت والمال لكي ينمو ويترعرع في كنفه وتحت رعايته ، ويندفع نحو العمل ليلا ونهارا في سبيل إسعاد زوجته وإرضائها وتوفير العيش الكريم لها من مأكل وملبس ومشرب وكل ما تحتاجه ، بفضل الرابطة الربانية والحب الالهي الذي أوجده الله فيما بينهما منذ أيام الاقتران الاولى.

والأخ يحنو على أخيه ويساعده في كل شيء ، ويحمل الكثير من همومه وآلامه ، حتى يصبح قادرا على تحمل مصاعب الحياة.

٨٠