القرآن والطبّ الحديث

الدكتور صادق عبدالرضا علي

القرآن والطبّ الحديث

المؤلف:

الدكتور صادق عبدالرضا علي


الموضوع : الطّب
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٤

ويقول الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ما ملأ ابن آدم وعاء شرّا من بطنه».

ويقول : «نحن قوم لا نأكل حتى نجوع. وإذا أكلنا لا نشبع».

ونهى الإسلام عن تناول الخمور والمخدرات ، وكل ما يضر البدن بأي نوع من أنواع الضرر.

٣ ـ وشرع الإسلام ممارسة الألعاب الرياضية. مثل : المصارعة والعدو ، والسباحة ، والرماية ، وركوب الخيل ، بالإضافة إلى أنّ عبادات الإسلام نفسها تتضمن ممارسة الرياضة ممارسة منظمة. في غير إجهاد أو إرهاق.

٤ ـ وبما دعا إليه من علاج ، يقول الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «تداووا فان الله لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد ، الهرم».

وهكذا نجد القرآن دستورا متكامل المعالم وضعه الله وأنزله على خاتم أنبيائه ، ليكون الدستور الأمثل الصالح لكل الناس على مختلف العصور.

لقد غشيتنا الظلمات يوم أدرنا ظهرنا للإسلام ، وولينا وجوهنا شطر أعدائه. ودخلنا المتاهة يوم تركنا القرآن طريق الله المستقيم ، وتعلقت أبصارنا بالمذاهب الوضعية. وضاع منا الحق يوم هجرنا كتاب الله الذي انزل على رسوله بالحق ، وتعلقنا بكتب أئمة الضلال.

والقرآن لمن أراد أن يدرسه دراسة مستفيضة ، ويبحث في أعماقه ، يجد فيه كل متطلبات الحياة السعيدة. فهو الكتاب الإلهي الوحيد الذي يغني العقل والجسم ويربي المجتمع ويسعد الامة والعالم.

«حيث أنّ القرآن الحكيم فلسفة كاملة للحياة ولا فلسفة كاملة غيره. لا بدّ وأن يسيطر على الحياة إن عاجلا أو آجلا. فإنه انما يسيطر إذا عرف البشر هذين الأمرين. إنّه فلسفة كاملة ولا فلسفة كاملة غيره. إذ البشر بحاجة إلى فلسفة كاملة ليسعد ، والسعادة هي الغاية المتوخاة لكل بشر وليس وراءها مقصد. فانّ الذاتي لا يعلل بغيره. أما أنّ القرآن فلسفة كاملة فلأنه يعطي شؤون الروح ، ويعطي متطلبات

٢١

الجسد ويستند إلى ما لا يتغير.

وهذه العناصر الثلاثة هي التي تشكل السعادة الكاملة ، لأن الإنسان روح وجسد ولكل منهما متطلبات ، ثم إذا كانت متطلباتهما غير مستندة إلى قوة أزلية لا تتغير ، كانت محلا للتغير مما يسلب الثقة ، وسلب الثقة ينتهي إلى الشقاء» (١).

واستنادا لما تقدّم ذكره ، فإنّ القرآن هو الكتاب الوحيد الذي يعطي الانسان ما يريد ، ويجعل حياته مليئة بالسعادة والاستقرار ، حيث لا عقد نفسية فيها ولا كآبة ، حياة خالية من المشاكل والعوارض والآلام التي تغير وتدّمر حياة البشر وتجعله تعسا يائسا.

والآية الكريمة تعطي أفضل جواب كامل حول هذه النقطة حيث يقول الله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً).

والقرآن يشير بوضوح وصراحة ثابتة إلى أنه ليس بمقدور أحد أن يعيش حياة طيبة حتى يكون مؤمنا بكل ما جاء به ، لأنّ القرآن شفاء لروح الإنسان وعقله وقلبه. شفاء لجسم الإنسان وأمراضه ، بلسم لكل الجروح التي تصيب الإنسان خلال حياته الدنيوية التي يعيشها منذ اليوم الأول لولادته حتى ساعة فراقه الدنيا. (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً).

وإني في هذا الكتاب الذي سميته (القرآن والطب الحديث) ألتمس من الباري عزوجل أن يوفقني لخدمة الإسلام والمسلمين من خلال إبداء وجهة نظري ـ كطبيب ـ من خلال التدبر في بعض الآيات التي وردت في القرآن ، ولها مفهوم أو معنى أو مراد صحي من الوجه العام أو الخاص ، خصوصا وأنّ تلك الآيات هي مفاتيح إلهية لبعض العلوم الطبية الحالية بأوجهها المختلفة النفسية منها والجسدية.

وقد أقدمت على هذه الخطوة المباركة بعد أن قرأت قول الله عزّ وعلا : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها).

__________________

(١) تفسير (تقريب القرآن إلى الأذهان) ص ٢٧.

٢٢

ولعل القارئ الكريم قد لاحظ من خلال قراءاته السابقة أو الحالية الضجة الإعلامية الكبرى والدعاية التي تظهر بين آونة واخرى حول بعض الاكتشافات العلمية الحديثة ، أو ظهور مدارس طبية ذات وجهات نظر جديدة في ميدان بعض العلوم الطبية.

وعند المقارنة بين الاكتشاف الجديد وما جاء في القرآن والسنة وأقوال الأئمة المعصومين (عليهم‌السلام) .. نرى أنّ الله سبحانه وتعالى قد بين ذلك للمسلمين منذ زمن بعيد ـ أي عند مجيء الإسلام قبل أربعة عشر قرنا ـ سواء في كتابه الكريم أو على لسان رسوله العظيم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأهل بيته الطاهرين (عليهم‌السلام). ومن خلال الآيات القرآنية الكريمة ، أو الأحاديث النبوية الشريفة ، التي غطت جانبا كبيرا من العلوم الطبية ، والذي يدعي رواد مدارس الطب الحديثة الآن شرف اكتشافها.

والآيات والأحاديث التالية خير دليل على ما نقول في هذا الصدد :

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (١).

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) (٢).

(وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) (٣).

(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (٤).

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (٥).

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٢٢.

(٢) سورة عبس : الآية ٢٤.

(٣) سورة الأنعام : الآية ١٥١.

(٤) سورة لقمان : الآية ١٩.

(٥) سورة ق : الآية ٦ ـ ٧.

٢٣

(هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) (١).

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) (٢).

(وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) (٣)

(إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (٤)

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (٥).

وقال الرسول الأكرم (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) :

«الطهور شطر الإيمان».

«تنظفوا فإنّ الإسلام نظيف».

«الوقاية خير من العلاج».

«إنّ الله يكره الوسخ الشعث».

«غسل الجمعة واجب على كل محتلم» (أي البالغ).

«حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما يغسل فيه رأسه وجسده».

«خمس من الفطرة : الاستحداد ، والختان ، وقص الشارب ، ونتف الابط ، وتقليم الأظافر».

«إنّ الله جميل يحب الجمال».

وقال الإمام علي (عليه‌السلام) :

«إياكم والبطنة فانها مقساة للقلوب ، مكسلة عن الصلاة ، مفسدة للجسد».

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

(٢) سورة الرحمن : الآية ٥.

(٣) سورة الأنبياء : الآية ٣٠.

(٤) سورة الرعد : الآية ١١.

(٥) سورة البقرة : الآية ١٥٥.

٢٤

«كثرة الطعام تميت القلب كما يميت كثرة الماء الزرع».

«بطن المرء عدوه» (١).

هذه بعض من الآيات والأحاديث التي تمثل آراء بعض مدارس الطب الحديثة ، إضافة إلى تراث طب الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وطب الإمام الصادق (عليه‌السلام) ، وطب الإمام الرضا (عليه‌السلام) ، وطب الصحيفة السجادية (عليه‌السلام). ولكن عدم وجود الدارسين والباحثين المسلمين الملتزمين جعل اكتشاف ونشر هذه العلوم يعزى إلى تلك المدارس الطبية ، بينما الحقيقة أنّ الإسلام والقرآن كانا السبّاقين لتلك الآراء والمدارس الطبية.

ولو تمعنّا في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، لرأيناها تشمل مختلف العلوم الطبية الحديثة ، من : علم النفس الطبي ، إلى الوقاية الصحية ، إلى الإرشاد الصحي ، إلى البيئة الصحية ، إلى كيفية خلاص المجتمع من الآفات والأمراض الجنسية ، التي هي من أخطر المشاكل في الحياة الإنسانية ، خصوصا في عصرنا الحاضر ، وخطورتها لا تقاس بأي خطر مهما عظم إذا ما استثنينا خطر الإلحاد والكفر بالكتاب والسنة والعترة.

وساحاول أن اركز خلال البحث في بعض آيات القرآن الكريم على الجانب الصحي فقط ، ليكون الكتاب مختصرا. وهو بالطبع أكثر قراءة ومتناولا ، ولقلة نفقاته يصل إلى أيد أكثر ، وبذا يحقق الغرض ، وتحصل الفائدة ، بينما لا يقرأ الكتاب الموسع إلّا المختص وصاحب الثقافة الواسعة. ولكن لا بدّ من إضافة ما نقص وتوضيح ما غمض بشكل لا يخرج الكتاب عن حجمه ، ولا يغير معالمه.

وقبل أن أرفع قلمي وأختم المقدمة ، أرى من الواجب تسجيل شكري وتقديري للكاتب الإسلامي الكبير والأديب البارع ، المحامي السيّد طالب الحسيني البغدادي الشهير بالخراسان ، على مراجعته للكتاب ، ومناقشاته القيمة معي رغم

__________________

(١) وقد ندب الإسلام ورغب في تنظيف الأسنان ، وقص أظافر اليدين والرجلين ، وإكرام الشعر بدهنه وتسريحه.

٢٥

انشغاله بموسوعاته العلمية والأدبية ، سدّد الله خطاه ونفع به خدمة للإسلام والمسلمين.

وأترك القارئ الكريم يدلف إلى جو الكتاب الكريم ، يتنسم عبيره ، ويقطف من ثماره ، ويحمل رسالته السامية إلى سائر الناس.

نسأله تعالى التوفيق والإيمان وحسن العاقبة ، وأن يجعلنا من الراغبين إلى طاعته ، وأن يرزقنا كرامة الدنيا والآخرة ، انه سميع مجيب.

(رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) (١).

(رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) (٢).

صدق الله العلي العظيم.

د. صادق عبد الرضا

__________________

(١) سورة الكهف : الآية ١٠.

(٢) سورة البقرة : الآية ٢٨٦.

٢٦

٢٧

٢٨

٢٩

٣٠

الفصل الأول

علم النفس الطبي

يبحث هذا العلم التغييرات التي تطرأ على فكر الإنسان ومزاجه نتيجة الأحداث (السيكولوجية) التي يتعرض لها خلال مراحل حياته المختلفة. أو نتيجة إصابته ببعض الأمراض البدنية وما يرافقها من أثر نفسي على مجمل شخصية الإنسان الفكرية.

وعلم النفس الطبي ليس موضوعا علميا حديثا ، وإنما له جذور تأريخية منذ ظهور الطب اليوناني في عصر الطبيب المعروف (جالينوس) حتى بزوغ فجر الإسلام المشرق.

وكان الرسول الأكرم (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أول من عالج موضوع النفس الإنسانية وتقلباتها ، ووضع الحلول والاسس الكفيلة للقضاء عليها وإتقاء شرها. فكان (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا يترك كبيرة أو صغيرة لها مساس بالعلم والطب ـ لا سيما علم النفس الطبي ـ إلّا وقام بشرحها وتبيانها للمسلمين ، حتى أصبحت قوانين ثابتة ، خلدت مع الدهر ، وو اكبت العلم كسراج دائم الاشعاع لا ينقضي ولا ينطفئ نوره.

تلك هي السنة المحمدية وأحاديثه النبوية الشريفة. وهذه الأحاديث ليست حدثا طارئا ، أو أفكارا للقراءة والنشر ، وإنما نبعت من معايشة المسلمين للواقع في تلك الفترة الزمنية ، وما سيلاقونه ويواجهونه في مستقبلهم القادم (أولا).

وأنها مستقاة من القرآن الكريم ، ذلك البحر العميق الذي يحوي الكثير من الكنوز العلمية المختلفة (ثانيا).

وأروع مثال خالد لهذه المدرسة القرآنية النفسية ما جاء في الآية الكريمة

٣١

من سورة الرعد : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ.)

وموضوع علم النفس ، وما يطرأ على النفس البشرية ، ورد في أكثر من آية ، فالقرآن الكريم هو الينبوع الذي يستقي منه الأئمة الأطهار (عليهم‌السلام) الحلول للمعضلات الطبية بأنواعها النفسية والجسمية ، مضافا إليها سيرة الرسول العظيم (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) التي ورثوها عنه بإعتبارهم خلفاؤه وورثة علمه ، وأعلم الناس بعده.

فلا عجب أن نرى الإمام علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) قد غذّى هذا الجانب المهم من (الطب) بالكثير من وصاياه وخطبه ، وطبقها في سيرته الحميدة ، التي نجدها متكاملة الجوانب في كتاب «نهج البلاغة» فآراؤه لا تزال شامخة بالسمو تستحق الإحترام وسط مدارس (علم النفس الطبي) الحديثة.

وقد أكمل المهمة من بعده الأئمة الأطهار (عليهم‌السلام) من ولده ، حيثما سنحت الفرصة لهم ، كالسجاد والصادق والرضا (عليهم‌السلام).

كذلك يحتفظ التأريخ الإسلامي بأسماء العديد من الأطباء الذين ساهموا في تقدم العلوم الطبية ، ولا سيما الطبيب المعروف (أبو بكر الرازي) الذي ألّف العديد من الكتب الطبية في مختلف مجالات علم الطب وفروعه ، وكذلك طبيب الفلاسفة وفيلسوف الأطباء المشهور (ابن سينا).

وفي عصرنا الحاضر ، ونتيجة لتطور الأجهزة والامكانات الطبية والتفرغ للبحث العلمي ، نجد أنّ العلوم الطبية بفروعها المختلفة بدأت تسلك آفاقا جديدة وحديثة ، حيث تم ان شاء المدارس الطبية والكليات والجامعات ، وازداد عدد الأطباء سنة بعد اخرى ، حتى ظهر الاتجاه الحديث نحو التخصص في مجال العلوم الطبية ، وكان ذلك مترادفا مع الثورة الصناعية التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية وما رافقها من تطور حياتي واسع في مختلف المجالات.

ولكن بالرغم من ذلك النمو والتطور الطبي (الكمي والنوعي) ، نجد أنّ الأمراض النفسية والمشاكل الروحية ، والقلق المهيمن على حياة الكثير من البشر

٣٢

أخذت تنمو بسرعة وازدياد ، مما حدا بعلم النفس الطبي أن يتوسع ويتخصص أكثر من ذي قبل ليواكب هذه المتغيرات الجديدة ، حتى أصبح الآن من العلوم الطبية المهمة والواسعة في عصرنا الحاضر ، وأصبح له رواد ومدارس ذات اختصاصات مختلفة ومتعددة.

طيّب! وما هي النتيجة التي سنحصل عليها الآن من هذه القفزة العلمية الكبيرة التي حدثت في المجالين (الكمي والنوعي) حاليا؟ أظن أنّ ذلك ليس بخاف على القارئ الكريم ، ولا يحتاج إلى مزيد تفكير عند ما يرى بعينه الملايين من الناس يتقاطرون على المستشفيات والعيادات والمصحات للعثور على حل لمشاكلهم النفسية والعاطفية والإجتماعية. وهذا يدل بلا أدنى شك ، وبصورة قاطعة لا تقبل النقاش والجدل ، على أنّ تلك المشاكل هي أكبر بكثير من إمكانيات العالم الطبية ، وأنه لم يعد بالإمكان معالجة هؤلاء المصابين معالجة علمية كافية تتناسب مع ضخامة العدد المتنامي منهم.

وسوف يجعل المستقبل من هذه الظاهرة المؤلمة أكثر تعقيدا وإثارة. وربما سيجعل منها إحدى الكوارث التي تهدد البشرية ومستقبلها ، لأنّ تلك الملايين من المرضى والعاطلين عن العمل ، والمصابين بمختلف الأمراض والعقد النفسية ، لن تتمكن من مجاراة بقية الناس والعيش معهم بسعادة وهناء ، وبالتالي لن يستطيعوا أن ينعموا بعيش شريف مطمئن يليق بكرامة الإنسان وقناعته ، إذا لم يتحولوا مستقبلا إلى مصدر شقاء وتعاسة لعوائلهم وغيرهم من الناس.

والقرآن الكريم عند ما ركز على بعض العلوم الطبية النفسية وأنها ستكون مشكلة المستقبل. فأنّه أوضح الأسباب لذلك ، وأعطى العلاج الشافي الملائم. فكل آية عبارة عن مدرسة للعلم والطب ، وكل كلمة فيه هي درس كامل يأخذ منه الإنسان أصدق وأثبت وأفضل ما يريد في حياته الحاضرة.

حيث يقول الإمام علي (عليه‌السلام) موجزا هذه المعاجز الطبية في أجلى وأجمل وأعظم الكلمات البليغة في دعاء ختم القرآن المجيد ، عند ما يقول :

٣٣

«اللهمّ اشرح بالقرآن صدري ، واستعمل بالقرآن بدني ، ونوّر بالقرآن بصري ، وأطلق بالقرآن لساني ، وأعنّي عليه ما أبقيتني ، فإنه لا حول ولا قوة إلّا بك».

* * *

٣٤

الموضوع الأول :

«الخوف»

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (١).

تعريف : «الخوف» : تألم النفس من المكروه المنتظر والعقاب المتوقع ، بسبب احتمال فعل المنهيات وترك الطاعات. وفي ذلك قال الإمام الصادق (عليه‌السلام) : «ألا إن المؤمن يعمل بين مخافتين ، بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه ، وبين أجل قد بقى لا يدري ما الله قاض فيه ، فليأخذ العبد المؤمن من نفسه لنفسه ، ومن دنياه لآخرته».

وقد يعبّر عن الخوف : بالخشية ، أو الوجل ، أو الرهبة ، أو الهيبة. [والخوف يعتبر أحد مسببات أغلب الحالات العصبية ، وهو حالة انفعالية داخلية طبيعية يشعر بها الإنسان في بعض المواقف ، ويسلك فيها سلوكا يبعده عادة عن مصادر الضرر ، وهذا كله ينشأ عن استعداد فطري أوجده الخالق في الإنسان والحيوان. ويسمى (غريزة).

(ولا بدّ أن يكون الخالق قد أوجد هذا الاستعداد الغريزي لحكمة تتعلق بصالح الكائن الحي ، فالخوف هو الذي يدفعنا لحماية أنفسنا والمحافظة عليها. فالخوف أمر طبيعي معقول وضروري يؤدي إلى حماية الفرد مما يجوز أن يسبب له ضررا.

والخوف في ظرف أو وقت ما حالة طبيعية أو شاذة ، وحيث أنّ الشاذ هو ما يشذ عن المألوف أو يخرج عنه ، لأنّ الخوف الكثير المتكرر الوقوع لأية مناسبة يعتبر نشازا) (٢).

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٥٥.

(٢) د. عبد العزيز القوصي (اسس الصحة النفسية).

٣٥

الخوف عند الأطفال قد تظهر آثار الخوف عند الطفل لأسباب عديدة ومختلفة منها : عوامل تكوينية قبل الولادة ، وعوامل بيئية بعد الولادة ، ينتج عنها عقد مكتسبة تصيب الطفل أثناء نموه وتطوره ، وهذه العوامل هي :

١ ـ العامل الصحي : فالرعاية الصحية للام أثناء الحمل ، والتغذية الجيدة لها ، وعدم إصابتها بالأمراض والعقد النفسية والهياج العصبي والتوتر النفسي ، أو الجهد الزائد الذي تتعرض له الام خلال تلك الفترة ، أو بسبب المضاعفات الجراحية والمرضية أثناء الولادة وبعدها.

كما أنّ رعاية المولود وتوفير البيئة الصحية له حتى ينمو ويتعلم العادات الصحية الصحيحة بشكل علمي مدروس ، وفق أحدث الأساليب ، يجعل عقل الطفل وفكره ينمو بصورة اعتيادية وسليمة ، ويترك أثرا كبيرا على سلوك الطفل مستقبلا ، ويجعله يعيش حياة لا تعكرها الشوائب والشكوك وعقد الخوف.

٢ ـ العامل التربوي : يبدأ الطفل بالنمو جسميا وفكريا ويأخذ تفكيره طابعا مختلفا في هذه الفترة ، حيث يبدأ نظره إلى الامور المستجدة بشكل أعمق من السابق ، مع ما يرافق تلك الفترة من تأثير تربوي في البيت والشارع والمدرسة ، وإنعكاس تلك الظروف على نفسية الطفل سلبا أو إيجابا ، وبأشكال متفاوتة ، قد يكون تأثيرها بسيطا بعض الأحيان ، أو ذات تأثير متوسط. وقد تأخذ طابعا حادا يؤدي إلى إصابة الطفل بعقد مختلفة أبرزها : الخوف وظلام المستقبل.

والتربية الصحيحة لها آثار كبيرة لمنع الطفل من السقوط في هاوية الخوف والجمود والنظر إلى المستقبل بمنظار الريبة والشك والحيرة.

٣ ـ العامل الاجتماعي والبيئي : العصر الحديث وما يمثله من سرعة في الحركة والتطور ، حيث سهولة وسرعة السفر ، وانتشار وسائل الإعلام كالراديو والتلفزيون في جميع البيوت ، وكثرة دور السينما التي تعرض الأفلام غير الهادفة. إضافة

٣٦

للتطور التكنولوجي السريع ، وظهور الأحياء والمدن ذات الكثافة السكانية العالية ، جعلت من فكر الطفل ـ الذي لا يزال يعيش مرحلة النمو ويفتقر للقدرة التي تؤهله على تحمل المصاعب ـ فكرا مضطربا مشوشا بعض الأحيان ، لا ينظر إلى المستقبل إلّا بمنظار الشك والريبة والخوف للأزمة الناتجة من إضطراب دائم في السلوك والأفكار.

وهذه المضاعفات تشاهد بوضوح في الأحياء السكنية المكتظة بالسكان ، والمحرومة من الخدمات الصحية والبيئية والاجتماعية ، حيث يؤثر هذا المناخ على الطفل ويجعله يكتسب الكثير من العادات السيئة التي لها الأثر البالغ على مستقبله ومستقبل اسرته ، ويكون بسببها في حاجة ماسة إلى جهود متواصلة وحثيثة كي يتخلص من آثار ورواسب ذلك المجتمع وتلك البيئة الفاسدة. إضافة إلى أنّ النظم الاجتماعية السائدة في العالم تفتقر إلى تطبيق العدالة الاجتماعية ، مما أدى إلى نقص واضح لهذه الشريحة الغضة من المجتمع ، وما يعكسه هذا النقص من انعكاسات تركت أسوأ الآثار على سلوك ونفسية ذلك الطفل النامي ، ويمكن ملاحظة تلك المظاهر بأسوأ حالاتها داخل الطبقات الفقيرة المحرومة من هذه الرعاية.

٤ ـ العامل المالي : يدخل العامل المالي كأحد الأطراف المؤثرة في خلق وتبلور بعض العقد النفسية لدى الأطفال في مراحل نموهم ، حيث أنّ وجود المال الكافي عند العائلة يجعلها توفر الوسائل الكفيلة والمتطلبات الأساسية ، الأمر الذي يجعل من تربية الطفل تأخذ مسارها الصحيح ، لأنّ المال يعتبر عاملا مؤثرا ومساعدا على حل المشاكل التي قد تحدث للعائلة.

وبالعكس من ذلك فانّ الفقر يزيد الطين بللا ، ويضاعف المشاكل العائلية أكثر فأكثر من جراء عدم توفر المال الكافي لديهم.

٥ ـ العامل الغذائي : التغذية الجيدة والعلمية للام أثناء الحمل وبعده ، وللطفل أثناء نموه ، لها الأثر الكبير في فعالية الجسم وزيادة مقاومته للأمراض ، ممّا يجعله أقل عرضة للأمراض التي قد تصيبه ، وتؤدي في حينه إلى ضعف مقاومته البدنية

٣٧

والفكرية.

أما إذا كان الغذاء المتناول قليل الكمية ، وذا نوعية غير متوازنة ، لا تفي بالمتطلبات الجسمية والروحية ، نتج عنه هزال في الجسم ، وتغيّر في السلوك الطبيعي للطفل ، قد يصل في بعض مراحله إلى متغيّرات نفسية وعاطفية عديدة ، لها ارتباط وثيق بطول الفترة التي تعرّض فيها الطفل لعوامل سوء التغذية المختلفة خلال مراحل نموه المتعاقبة.

٦ ـ العامل الثقافي : وهو من العوامل المهمة التي تجعل تربية الطفل تأخذ المسار العلمي الكفيل بالحد من المشاكل والمتاعب اليومية والغذائية والنفسية للطفل ، فبدلا من أن يكون الجهل عاملا إضافيا ثقيلا تكون الثقافة عاملا مساعدا للحد من تزايد مخاوف واضطراب وانحراف الطفل. خصوصا إذا علمنا أنّ الثقافة التي يتلقاها الأطفال في الوقت الحاضر أغلبها ثقافة غير إسلامية ، لا تستند إلى روح الإسلام العظيم ، التي تغرس في الأطفال القدرة وروح المقاومة والصمود ، وتزرع الإيمان الكفيل بازالة وتحطيم عوامل القلق والخوف ـ المادي والروحي ـ خلافا لما نراه اليوم من ثقافة مادية حاقدة يتغذى بها أطفالنا الأعزاء خلال مراحل دراساتهم المختلفة. وهي بلا شك بعيدة عن واقع الإسلام العظيم ، وما يمثله من مصدر مهم للثقافة الإسلامية والإنسانية.

إذ أنّ الثقافة الإسلامية تستند إلى ركائز قوية ، كالقرآن الحكيم ، والسنة النبوية الشريفة ، وسيرة الائمة الأطهار (عليهم‌السلام) ، والتي برهن التاريخ القديم والحاضر على أنها الثقافة الوحيدة القادرة على خلق الإنسان المؤمن المقاوم والمبدع ، الذي يملك العزيمة الكاملة التي تؤهله لأن يكون عضوا صالحا في مجتمع خال من الوساوس والأفكار الهدامة والخرافات.

٧ ـ العامل الديني : وهو من العوامل المهمة والمؤثرة جدا في حياة الأطفال ، لأنّ نشوء الطفل وترعرعه وسط مجتمع محافظ وملتزم بالمعتقدات الدينية السماوية ،

٣٨

سيولّد بلا شك طفلا مؤمنا صالحا مستقيم السيرة ، قوي العقيدة ، لا تؤثر فيه الصدمات النفسية ، أو التيارات الفكرية.

وطبعا ، فإنّ مجتمعا كهذا سيكون مجتمعا فاضلا تسوده المحبة والإخاء والصداقة والوفاء ، وتتجلى فيه السعادة الإجتماعية بأبهى وأحلى صورها ، وتجري فيه الحياة بلا تكلف ولا عقد نفسية أو إضطرابات عقلية.

كيف لا؟ والأخلاق الدينية الإسلامية منحته من روحها وحلاوتها أحلى القيم الرشيدة ، وفق المسار الصحيح والطريق القويم ، والنضج الفكري المثالي الذي يبلور روح الفضيلة لدى الفرد والاسرة والمجتمع.

مجتمع بهذا البناء الروحي القوي يخلق ـ حتما ـ جيلا من الأطفال ذا قوة جسدية وروحية عالية ، تجعله في مناعة من المؤثرات الخارجية ، أو تمنع هذه المؤثرات من أن تكون ذات أثر حاد يعجل في سقوط الطفل في خضم المشاكل العاطفية والنفسية والخوف المنتظر.

وقد تجعل من ذلك الأثر الموجود عند الأطفال شيئا مؤقتا ، وليس حالة دائمة. وهذا ما يحدو بالأطفال إلى أن ينظروا إلى المستقبل نظرة أمل واشراق واستبشار وتفاؤل. على العكس من زملائهم الذين ينشأون في مجتمعات واسر غير ملتزمة دينيا ، لا تعرف الجانب التربوي والأخلاقي العظيم الذي جاء به الدين الحنيف.

فمثل اولئك الأطفال تكثر فيهم وتنمو عندهم عقد الخوف والقلق والتشاؤم من المجهول ، وتظهر عليهم الإضطرابات النفسية بصورة مبكرة ، ممّا يحول حياتهم إلى بؤس ومرارة تتخللها الهزات العنيفة بأعلى مراحلها وحدودها. وأخيرا تهيء لهم عوامل السقوط والانحدار نحو جحيم الحياة المضطربة.

٨ ـ العامل الاسروي : يعتبر من العوامل المؤثرة في تغيّر سلوك وأخلاق ونوازع الأطفال ، وهو ذو أثر مصيري في تقرير مستقبلهم النفسي. خصوصا في الأعوام الاولى خلال مراحل النمو. فعند ما يبدأ الطفل يعي ويدرك ما حوله ، ويشاهد

٣٩

بام عينيه وقلبه الصغير المشاحنات العائلية المستمرة ، والصراع العائلي الدائم يمزق شمل الاسرة وهناءها ، يدب الألم والخوف فيه. وتستحكم في داخل كيانه الطري والبريء العقد النفسية ، التي قد تزداد مع استمرار وديمومة الحوادث وتتابعها.

فمثلا الطلاق الواقع بين الأبوين ، يجعل الطفل ممزّق الشعور والعواطف والآراء ، وعرضة لدخول عالم الخوف القاتل.

كذلك نرى أنّ روح اللامبالاة من قبل الآباء تجاه أطفالهم ، أو اعطاءهم الحرية اللامحدودة ، يعطي نتائج معكوسة في سلوك الأطفال ، أمّا التهديد المستمر أو التضييق بقسوة ، وعدم تلبية حاجات ورغبات ومتطلبات الأطفال الضرورية ، مع التمييز في التعامل بينهم ، يؤدي إلى خلق حالة تناقض في سلوكهم قد تدفعهم إلى السقوط في مهالك التناقضات والصراعات ذات التأثير الواضح في مجمل سلوك الأطفال.

نتائج الخوف عند الأطفال :

١ ـ قصور في معدل النمو الطبيعي للأطفال.

٢ ـ العدول عن تناول الغذاء وسوءالهظم.

٣ ـ ضعف وهزال الجسم العام.

٤ ـ التأخر الدراسي وضعف الذاكره وعدم القدرة على استيعاب الدروس.

٥ ـ ارتخاء وضعف الأعصاب.

٦ ـ ضعف البصر والتعب عند القراءة.

٧ ـ تقلب المزاج والأفكار وتحسس الطفل تجاه زملائه وانفعاله لأبسط الأشياء وأتفهها.

٨ ـ الخوف من الناس والمجتمع.

٩ ـ الهياج وحب الاعتداء والتسلط والتخريب.

١٠ ـ إهمال العناية بالنفس واللامبالاة.

٤٠