القرآن والطبّ الحديث

الدكتور صادق عبدالرضا علي

القرآن والطبّ الحديث

المؤلف:

الدكتور صادق عبدالرضا علي


الموضوع : الطّب
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٤

الموضوع الأول

«الإغراء والاغتصاب»

(قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (١).

كان يوسف (ع) يسحر العقل بجماله ، ويأخذ بالأبصار من حسنه ، يبهر العيون وتنجذب إليه القلوب هيبة ، حسن الطالع ، جميل المحيّا ، محبوب الصوت ، كامل الخلق والخلق ، ذا جلال تشد إليه الأبصار وتجله النفوس ، تتعذر العين من النظر إليه طويلا ، وليس بمقدور القلب أن يتركه ويفارقه طويلا. لأنّ النفس أصبحت أسيرة ما وهبه الله له من الجمال والكمال والهيبة ، فتتلهف لسماع حديثه وطراوة لسانه وعذوبة صوته.

تلك الصفات الجميلة ، مضافا إليها ما وهبه الله له من الحكمة والعلم ، جعلت من يوسف أن يدخل إلى العقول والقلوب بيسر وسهولة ، ويسيطر عليها بقوة واقتدار وكأنه أصبح ملكا. (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ. قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) (٢).

لهذا السبب أخذت امرأة العزيز ـ وكان يوسف (ع) يعمل في بيتها ـ تراوده عن نفسه ، بعد أن غلبت عليها الشهوة ، وأضلها الشيطان عن الطريق القويم ، فقامت بإغلاق أبواب الدار ، وهي تأمل في نفسها ما تأمل. وتمر لحظات حساسة وحاسمة وبها يسيطر الايمان على قلب يوسف (ع) فينشغل عنها بذكر الله والخشية منه. ويحاول الانصراف من البيت وتركه لاعنا الشيطان ووساوسه.

__________________

(١) سورة يوسف : الآية ٢٦ و ٢٧.

(٢) سورة يوسف : الآية ٣١ و ٣٢.

٢٨١

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (١).

ويجري يوسف (ع) نحو باب الدار في عملية سباق وصراع محاولا الهرب من ذلك الموقف الشيطاني الذي حصل في الدار. في حين بذلت هي كل المحاولات بعد أن استزلها الشيطان ، فتتبعه وكلها رغبة واندفاع حتى أمسكت قميصه وسحبته بقوة كي لا يترك دارها ، ويوسف (ع) يحاول فتح الباب حتى تمزق قميصه ، تخلصا من ذلك الموقف.

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢).

وكان العزيز عند الباب مما أسقط في يدها وذهب ما كانت تسعى إليه. فتتدارك الموقف وتظهر نفسها بمظهر البريئة المظلومة ، وتدّعي خلاف الحقيقة والواقع ، وتحاول إلصاق التهمة بيوسف ، ويوسف (ع) يدافع عن نفسه. وامرأة العزيز تصر على الاتهام بعناد.

وهنا تتدخل العناية الالهية الحكيمة للدفاع عن يوسف (ع) لتبرىء ساحته من التهمة الموجهة إليه ، ولتصون شرفه وسمعته أمام العزيز والمجتمع ، حيث تجري حكمة إلهية على لسان طفل صغير كان موجودا في البيت ، وهذا اللطف الرباني والقانون العدلي كان ولا يزال مصدرا مفيدا من مصادر الطب العدلي في وقتنا الحاضر ، وينطلق لسانه بالحق : (قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ

__________________

(١) سورة يوسف : الآية ٢٣ ، ٢٤.

(٢) سورة يوسف : الآية ٢٥.

٢٨٢

فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) (١).

وهذا البرهان الواضح والدليل الساطع الذي جرى على لسان ذلك الصغير أبعد التهمة عن يوسف بصورة علمية وعقلية جعلت العزيز يقتنع ببراءة يوسف (ع) وكذب امرأته ، فلم تأخذه العاطفة أو الحكم الظاهري على ما شاهده ورآه بام عينيه.

ومن المعروف طبّيا أنّ هنالك علامات ودلائل تحدث أثناء أي عملية اعتداء أو اغتصاب تحصل بين رجل وامرأة. ومن خلال معرفة تلك العلامات والدلائل يتمكن المحقق والطبيب العدلي من التوصل لمعرفة الواقع والحادث وكونه جنائيا أو غيره. بعد دراسة الظروف المحيطة بالمتهمين ، ومقارنة الأدلة الواقعة والمقدمة من كلا الطرفين لاثبات ادعاء كل منهما.

ويعرف (الاغتصاب) : بأنه حالة الاتصال الجنسي مع امرأة دون رضاها. وقد يحصل في الكثير من الحالات أن تكون المرأة موافقة على عملية الاتصال ثم تشعر بالندم على ما أقدمت عليه ، لا سيما إذا انكشف أمرها ، فعند ذلك تحاول التخلص من العار والفضيحة وإلقاء تبعة ذلك على الرجل ، مدعية أنه اعتدى عليها بالقوة أو بالاغراء أو باستعمال مواد مسكرة ومخدرة.

وهذا بالضبط ما حصل بين يوسف (ع) وامرأة العزيز التي اتهمت يوسف (ع) بمحاولة الاعتداء عليها بعد أن اكتشفت زوجها على الباب ، فحاولت دفع التهمة عنها وإلصاقها بيوسف (ع).

* * *

__________________

(١) سورة يوسف : الآية ٢٦ ـ ٢٨.

٢٨٣

[علامات الاغتصاب عند المرأة]

وتكون تلك العلامات موضعية في الجهاز التناسلي للمرأة ، أو علامات عامة سببها مقاومة المرأة للاعتداء.

(١) العلامات الموضعية :

أ ـ تمزق غشاء البكارة عند الباكر.

ب ـ نزف دموي مختلف الشدة مصدره غشاء البكارة.

ج ـ دفق منوي يرافق الاغتصاب تظهر آثاره في المهبل وثياب المرأة وكذلك على جلد الناحية التناسلية للمرأة.

د ـ وجود كدمات وسحجات على الجزء الداخلي للفخذ والناحية التناسلية.

ه ـ وجود شعور غريبة على الأجزاء الداخلية للفخذين والناحية التناسلية.

و ـ حدوث التهاب أو مرض جنسي نتيجة العدوى الحاصلة من عملية الاغتصاب.

ز ـ حصول الحمل عند المرأة المغتصبة.

(٢) العلامات العامة :

وتنتج من مقاومة المرأة للرجل أثناء الاعتداء ، وتدل على عدم رضا المرأة ، وتبدو هذه العلامات بشكل كدمات أو سحجات ظفرية وخدوش على الجهة الأمامية الانسية للفخذين عند محاولة المعتدي إبعاد فخذي الضحية ، كما تشاهد على الأيدي والذراعين أو الوجه وحول فوهتي الأنف والفم عند قيام المعتدي منع الضحية من الصراخ ، وتبرز على العنق عند محاولة الخنق.

وتفحص الملابس الداخلية للمرأة للكشف عن وجود بقع دموية أو منوية أو شعور حدثت نتيجة الاعتداء ، أما الملابس الخارجية فتفحص بعناية ودقة للكشف عن وجود البقع المختلفة المار ذكرها ، إضافة لوجود التمزقات المختلفة التي تدل على عدم

٢٨٤

الرضى والمقاومة. كذلك تفحص الشعور الموجودة على الملابس ومقايستها مع شعور المعتدي.

علامات الاغتصاب عند الرجل

إذا تم الاغتصاب بعد تغلب الجاني على مقاومة المرأة ، بدت عليه علامات المقاومة بشكل سحجات وكدمات وخدوش وعضّات في الوجه واليدين ، أو أي مكان آخر من جسمه.

كما تظهر آثار المقاومة على ثيابه بشكل تمزقات وشقوق. ويفتش دوما عمّا قد علق بجسمه من شعور المجني عليها. فتفحص للتأكد من مصدرها. كذلك تفحص البقع الدموية التي تشاهد على ثيابه وتقارن مع فئة دم المجني عليها لمعرفة مصدرها.

ويتم أيضا التفتيش عن البقع المنوية وفحصها إذا وجدت. ويفحص المتهم عن الاصابات الزهرية وتقارن مع ما يكشفه الفحص عما تحمله الضحية من هذه الأمراض (١).

* * *

__________________

(١) الطب الشرعي : د. زياد درويش.

٢٨٥

٢٨٦

٢٨٧

الموضوع الثاني

ـ أسرار البنان ـ

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ. بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (١).

ما فائدة الأصابع ومفاصلها والأظافر فيها؟ ولم كانت متفاوتة في الطول والقصر؟

من فوائد الأصابع والأظافر تزيين الانسان والقدرة على لقط الاشياء الصغيرة كالابرة ونحوها ومسك القلم ورفع الأشياء عن الارض ، ومن فوائد الاظافر القدرة على الحك وحفر بعض الأشياء ووقاية الأصابع من الفساد عند مزاولة العمل باليد ، فهي بمنزلة الحديدة التي في أسفل العصا. وجعل في الأصابع مفاصل ثلاثة وعظام ثلاثة مربوطة بأعصاب قوية للقدرة على طيها عند إرادة القبض بها ومزاولة مثل ما مرّ ، ولو كانت اليد قطعة واحدة لما قدر الانسان على شيء من أعمال اليد ، وإلى عجائب خلق الأصابع الإشارة بقوله تعالى : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ).

وبالأصابع ومفاصلها يمكن العد ، وجعلت متفاوتة في الطول والقصر لتكون أعون على القبض بها ، ويمكن حفظ المقبوض فيها فيصير الابهام والخنصر بمنزلة الصمامتين ولذلك كانا أقصر الكل ، والسبابة والبنصر أقصر من الوسطى ليتشكل من الجميع شبه إناء ، وجعل الابهام متباعدا كثيرا عن السبابة ليكون معها كالعقدة حين القبض على شيء ، إلى غير ذلك من الفوائد التي لا تحصى ، فجلّ من لا يدرك حكمته إلّا هو ، وتبا لمن أنكره وهو يرى آثار خلقه العجيبة.

يحوي القرآن الكريم حوالي (٧٥٠) آية أو أكثر تختص بالعلوم الكونية ، وهي

__________________

(١) سورة القيامة : الآية ٣ و ٤.

٢٨٨

بحق مشاعل مضيئة وسط العلم الحديث ، وهداية لا يعتريها خطأ أو يمسها تعديل لما سيكشف في المستقبل.

«ليس لأحد مهما اوتي من علم غزير وكفاءة فائقة ونبوغ مرموق أن يفسر جميع الآيات الكونية في القرآن تفسيرا علميا ناصعا كاملا غير ناقص. وهكذا كلما تكامل العلم المادي ظفرنا بحقائق جديدة سبق كلام الله المجيد إلى ذكرها بإيجاز» (١).

وظل سر بعض تلك الآيات خافيا على الناس والعلماء حقبة طويلة من الزمن ، ولم تعرف حقيقته إلّا في العصر الحاضر نتيجة تطور العلوم والاكتشافات واستخدام التكنلوجيا الحديثة وآخر المخترعات. فتكشفت لنا بعض الأسرار القرآنية ، وما تحتويه من الاعجازات الكبرى التي تجعل العالم والجاهل يزداد إيمانا بعظمة الخالق الذي خلق الأشياء بحكمة وإتقان. وإن كان البعض ولا يزال قد تساوره الشكوك حول العديد من المسلّمات والحقائق القرآنية الألهية كيوم القيامة والمعاد وغيرها.

أولى الاسلام قضية البعث اهتماما خاصا ، إذ كان البعث مضلة للكثير من الضالين ، لما وقع في تصورهم من استحالة أن يعود الانسان إلى الحياة مرة اخرى بعد أن تذهب معالمه في الأرض ، ويصبح ترابا من ترابها .. بل إنّ كثيرا من المشركين كانوا على استعداد لأن يؤمنوا بالله وحده ، وأن يطرحوا هؤلاء الشركاء الذين اتخذوهم معبودين مع الله ، ليكونوا شفعاء لهم عنده ، على حين أنهم لم يكونوا مستعدين بحال أن يؤمنوا بالبعث بعد الموت ، ومن ثم كان تكذيبهم للنبي إذ جمع في دعوته إياهم إلى الايمان ، الايمان بالله ، والايمان باليوم الآخر.

ولهذا ، لم يذكر القرآن الكريم عن المشركين ما كان من اعتراضهم على الإيمان بإله واحد ، ما ذكره عنهم في كثير من المواضع من إنكارهم للبعث.

__________________

(١) التكامل في الإسلام : العلامة الفيلسوف د. احمد امين الكاظمي ج ٦ ص ١٨.

٢٨٩

فإذا ذكر القرآن عنهم في انكارهم لوحدانية الله قولهم : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) (١).

وقولهم : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً) (٢).

إذا ذكر القرآن عنهم وجها واحدا لاعتراضهم على وحدانية الله ، ذكر عنهم ألوانا من الجدل ، وصورا من الاحتجاج على استحالة البعث ، وذلك كما في قوله تعالى على لسانهم :

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٣).

وقولهم : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) (٤).

وقولهم : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٥).

إلى كثير من مئات الآيات التي تعرض أقوال المشركين في البعث ، وترد على هذه الأقوال ، وتنقضها ، وتسفه أحلام الذين يرددونها.

ولهذا لم يقبل الاسلام إيمان من لا يؤمن بالله ، ثم لا يؤمن باليوم الآخر ، ولا بلقاء الله ، ولا بالوقوف بين يديه ليحاسب عمّا عمل في الدنيا ، وليلقى جزاء ما عمل من خير أو شر.

وليس البعث لمجرد البعث ، وإنما هو للحساب والجزاء ، والجنة أو النار.

ما الحياة الدنيا في شريعة الاسلام إلّا معبر إلى الآخرة ، وإلّا امتحان للانسان ، يكشف فيه عن جوهره ، ويخرج الثمر الطيب أو الخبيث منه .. وهذا الثمر

__________________

(١) سورة ص : الآية ٥.

(٢) سورة الفرقان : الآية ٦٠.

(٣) سورة السجدة : الآية ١٠.

(٤) سورة المؤمنون : الآية ٨٢.

(٥) سورة سبأ : الآية ٧.

٢٩٠

هو زاده إلى الحياة الآخرة ، فإن تزود في دنياه بالأعمال الطيبة الصالحة ، وجد في الآخرة الحياة الطيبة الصالحة ، وإن تزود بالخبيث الكريه ، وجد هناك الحياة الخبيثة الكريهة.

قليل من الناس اولئك الذين يرحلون عن هذه الحياة الدنيا ، دون أن تنازعهم أنفسهم إلى التعلق بها والحنين إليها ، مهما كان سوء حظهم فيها ، وشقاؤهم بها ..

الناس جميعهم ـ إلّا هذه القلة القليلة ـ يتعلقون بالحياة راغبين في المزيد من البقاء فيها ، ولو أخذت منهم الأيام ، وألحت عليهم العلل ، وحطمتهم السنون .. فحب البقاء طبيعة كل حي ، وهو في الانسان طبيعة وإرادة معا .. طبيعة تدفعه إلى حفظ نفسه ، بالابقاء على ذاته أطول عمر ممكن ، وإرادة تخلقت في الانسان من اتصاله بالحياة ، واختلاطه بالأحياء ، وانفساح آماله بينهم ، وامتداد آثاره فيهم.

والموت هو الذي يقطع على الانسان حبل هذا الرجاء ، ويقتل في نفسه كل دواعي هذا الأمل في امتداد الحياة إلى غاية لا نهاية لها.

ومع هذا ، فقد رفض العقل الانساني منذ أول مرحلة من مراحل تفكيره أن يجعل الموت خاتمة نهائية لحياة الانسان .. وقد اتخذ لذلك عدة أساليب ، يخفف بها من سطوة العدم الذي يخيل إليه أنه سيحتويه بعد الموت .. فأقام المقابر لموتاه ، وسعى إليهم ـ في أوقات مختلفة ـ يناجيهم ، ويبثهم ما بصدره من حنين وأشواق ، حتى لكأنهم في سفر قد طال وهو ينتظر عودتهم ، ولقاءهم بعده .. ثم حول المقابر وعليها اقيمت التماثيل للموتى وتليت الأدعية ، وقدمت القرابين ، ليجد الميت في ذلك ما يهنأ به ويستريح إليه.

وهكذا ، أقام العقل الانساني حياة ـ على أية صورة ـ في عالم الموتى .. ولم يؤمن العقل أبدا بأن وراء الموت هذا العالم الذي يلفه العدم المطلق ، كما يتوهمه الماديون الذين عرفهم الناس جيلا بعد جيل.

ولقد كان أهم ما ميّز دين المصريين القدماء ، هو فكرة الخلود ، ووصل الانسان بعد الموت بحياة جديدة ، وتلك الفكرة هي جرثومة التفكير التي تخلقت منها

٢٩١

الديانة الفرعونية ، والتي قامت في ظلها حضارة الفراعنة.

وقد تنقلت هذه الفكرة في الانسانية ، وصحبت أطوار طفولتها ، وصباها ، وشبابها ، وكهولتها ، وتخلق من كل اولئك صورا وأشكالا للخلود ، بعضها ساذج يثير الضحك المشوب بالعطف والألم معا ، على اولئك الذين قدموا أنفسهم قربانا وثمنا للخلود ، وبعضها ذكي عبقري يكشف عن عظمة الانسان ، واستحقاقه للخلود.

ثم جاء دور الديانات السماوية ، فالتقت مع ذكاء الانسان وعبقريته ، وكشفت له عن حقيقة هذا الخلود الذي وقع في تفكيره ، واستقر في ضميره ، ولكنه لا يجد له الدليل الذي يقيمه مقام اليقين في كيانه ، فجاءته كلمات السماء بالبيان المبين عن الحياة الآخرة ، وما فيها من حساب ، وثواب ، وعقاب ، وجنة ونار.

فالديانات السماوية كلها تحمل إلى الناس عقيدة البعث والحساب والجزاء ، وتجعل الايمان بهذه العقيدة مقرونا بالايمان بالله ، ومكملا لهذا الايمان.

واتباع الديانات السماوية الثلاث اليوم ، الموسوية ، والعيسوية ، والاسلامية ، يؤمنون بالحياة الآخرة ، وبالحساب ، والجنة والنار ، ولكن مع اختلاف في المفاهيم والتصورات ..

هذه الشكوك والوساوس الشيطانية تطرح نفسها على الانسان ـ غالبا ـ بصيغة سؤال ملغوم ، وهو : كيف يمكن أن يبعث ويعاد ذلك الانسان الذي أكله الدود وبليت عظامه ، وأصبح ذرات صغيرة متناثرة ، إلى وضعه الأول قبل الموت؟

(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (١).

سؤال ساذج وتفكير محدود شغل ذلك الانسان المسكين ، فلم يعد يتصور أو يفكر في بداية خلقته عند ما كان نطفة لا ترى بالعين المجردة ، وكيف تطورت بأمر الله؟ فأصبحت تدريجيا إنسانا كاملا في الصفات والخلقة ، يمتلك من الأجهزة المعقدة

__________________

(١) سورة يس : الآية ٧٨ ـ ٧٩.

٢٩٢

والعديدة ما يبهر العقول والأبصار.

ومع ذلك ، فأنّ الألطاف الالهية لا تنقطع عن الأنسان ، فهي رحمة دائمة توجه الانسان نحو الخير والهداية ، وهذا من أسمى علامات الحب والرحمة الالهية عليه كي تجعله يدرك الحقيقة والصلاح.

فالباري جلّ جلاله وعظمت أوصافه ، يخاطب الانسان في هذه الآية الكريمة وعقله ، بطريقة علمية وإعجازية مقنعة تذهب عنه الشك وتزيده من اليقين ، وتجعله يرى الحقيقة بأم عينيه ، فيقتنع بها بعد أن يكتشف بنفسه شيئا من القدرة والاتقان والاعجاز الالهي العظيم في كيفية خلق وتصوير الانسان.

ولا عجب في ذلك فالذي خلق الأنسان من تراب قادر على أن يعيد عظامه البالية إلى حالها ووضعها الأوّل ، بل وأكثر من ذلك له القدرة على إعادة البنان إليه بكل ما يحمله من دقة في التركيب والاختلاف ، فلو فحصت البصمات التي يحتويها البنان لما وجد اثنان متشابهان على وجه المعمورة ، وهذه الدقة المتناهية تمثل إحدى وجوه القدرة الالهية التي لا تحصى ولا تعد.

لقد ظل سر بصمات بنان الانسان مجهولا لا تعرف ماهيته فترة طويلة من الزمن ، حتى اكتشف العلماء المجاهر الحديثة التي وقفوا بواسطتها على أحد الأسرار الربانية التي أذهلت العلماء والباحثين ، وجعلتهم يزدادون إيمانا وخشوعا لعظمة الله وقدرته. وأصبح واضحا كوضوح الشمس أنّ لكل إنسان بصمته الخاصة التي تميزه عن الآخرين ، وتدل عليه بطريقة لا تقبل الغلط أو الاشتباه.

ولو سألنا العباقرة من الرسامين والعلماء أن يرسموا (وليس يصنعوا) مئات البصمات المختلفة لعجزوا عن ذلك. وهذا برهان عملي على أنّ مليارات المليارات من البصمات المختلفة التي لا تشبه بعضها بعضا هي من صنع إله قادر متمكن عظيم إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون.

وهنا نصل إلى نتيجة يقبلها العقل والعلم ، وهي أنّ الذي صنع تلك المليارات

٢٩٣

من البصمات التي لا تتشابه أو تتجانس ، له القدرة على إعادتها لأصحابها الأصليين بشكلها وهيئتها الاولى ، وهو بلا ريب قادر على جمع وإعادة عظام الانسان التي أبلاها الدهر.

وفي الوقت الحاضر يطلق على عملية فحص البصمات والتعرف على أصحابها ب (علم الاستعراف بالبصمات). كذلك تمكن العلماء في الوقت الحاضر من كشف معجزة إلهية اخرى للبنان غير البصمات وهي : أنّ ذبذبات الخطوط أو الكتابة التي تتكون من جراء مسك القلم بالبنان والضغط عليه حين الكتابة ، تختلف من شخص لآخر عند ملايين الناس ، ولا يمكن أن تتطابق تلك الذبذبات عند اثنين مهما حاولا التقليد أو التلاعب في ذلك.

وهذه المعجزة الالهية التي حصلت بفضل البنان كان لها دور كبير في حل المشاكل والمعضلات والمنازعات التي حصلت أو سوف تحصل ، حينما يدعي بعض الناس أنّ الكتابة أو التوقيع الموجود في الرسالة أو العهد أو الاتفاق أو المقاولة أو الصك لا يعود إليهم.

وعندها تقوم الجهات القضائية المسؤولة بمقارنة ذبذبات خطوط المدعي والمدعى عليه بالمجاهر الخاصة ، وبعدها تعطي الرأي القاطع حول القضية ، لأنّ الفحوصات دقيقة لا تقبل الطعن أو التشكيك ، حتى قيل : أعجب ما في الانسان أربعة : إختلاف الأصوات ، والوجوه ، والبنان ، وذبذبات الخطوط.

[الاستعراف بالبصمات]

يحوي الجلد من راحة الأيدي والأقدام ولب الأصابع على إنشاءات دقيقة تشكل ارتفاعات وانخفاضات خطية تأخذ أشكالا مختلفة ، وتتكون هذه الانشاءات في الشهر السادس من الحمل ولا يطرأ عليها أيّ تبدل بعد الولادة ، وتبقى بعد الوفاة حتى تفسخ الجثة.

وتختلف أشكال بصمات لب الأصابع من شخص لآخر لدرجة أنّ إحتمال

٢٩٤

وجود بصمتين متشابهتين تماما عند شخصين من سكان العالم بعيد جدا ، قدّر بواحد بين (٦٤) مليارد.

وحاليا صنفت البصمات تصنيفا سهلا لجعلها أفضل وسيلة للاستعراف في الوقت الحاضر. وقسمت البصمات حسب أشكالها إلى أربعة أنواع :

١ ـ الأقواس : وفيها تمر الخطوط من أحد جانبي البصمة إلى الآخر دون أن تشكل زاوية أو مركزا.

٢ ـ المنحدرات اليسارية : وفيها تمر الخطوط بشكل عروة متجهة إلى اليسار تاركة زاوية في الأيمن.

٣ ـ المنحدرات اليمينية : وتكون فيها العروة مفتوحة من الجهة اليمنى ، وتقع الزاوية في الأيسر.

٤ ـ المستديرات : وفيها تدور الخطوط حول مركز في الوسط على شكل دائري ، ولها زاويتان : إحداهما في اليمين ، والاخرى في اليسار.

٥ ـ البصمات المركبة : وهي التي تشتمل على أكثر من نوع واحد من الأنواع السابقة.

* * *

٢٩٥

٢٩٦

(فوائد البصمات)

يترك المجرم عادة بصمات أصابعه في مكان الجرم ، لأنّ الغدد العرقية تنفتح أقنيتها على قمة الخطوط الحليمية في راحة اليد والأصابع ، فيصبح جلد هذه النواحي رطبا بصورة دائمة ، بحيث أنّ تماس هذه المناطق بسطح أملس يترك أثرا واضحا على السطح المذكور.

ولاظهار تلك الانطباعات يذر عليها مساحيق تختلف باختلاف طبيعة الجسم الذي وجدت البصمات عليه وباختلاف لونه.

فإذا وجدت على السطوح اللماعة والزجاجية استعمل لاظهارها مسحوق الأسبيداج الأبيض (فحمات الرصاص) وإن وجدت على سطح أبيض اللون ـ كالورق ـ استعمل مسحوق (سلفور الأنتيموان). ومتى ظهرت البصمة تصوّر وتكبّر.

ولمعرفة صاحب البصمة المأخوذة تقارب وتقارن ببصمات أصابع الضحية ثم ببصمات المتهمين ، وأخيرا تضاهى مع بصمات ذوي السوابق المحفوظة في إدارة الأدلة الجنائية. وتتم المضاهاة بفحص البصمتين في جهاز مكبر يظهر الصورتين متجاورتين.

ولكي نقرر أنّ البصمتين تعودان لشخص واحد يجب أن تتفقا في الشكل (أقواس ، منحدرات ، وفي شكل الزاوية والمركز وفي السعة). وفي وجود أي آثار لجروح أو ندبات وفي الصفات الفرعية للخطوط المكونة للبصمة ، من حيث بداية هذه الخطوط وانتهائها ، وانحرافها ، وتفرعها ، أو اندغامها في خط آخر ، أو تكوّن جزر في طريق الخط.

ويكتفى عادة بوجود اثني عشر نقطة اتفاق للقول بأنّ البصمتين متماثلتان ، وإن كان الحصول على عدد أكبر من نقاط الاتفاق ممكنا في أكثر الأحيان (١).

__________________

(١) الطب الشرعي : الدكتور زياد درويش.

٢٩٧

٢٩٨

الموضوع الثالث

(الإله الغريق)

(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) (١).

كانت (مصر) يحكمها (فرعون) ادعى الربوبية ، فأخذ يتصرف بها وبأهلها كيفما يشاء ، يسخرهم ويستعبدهم وفق مزاجه وهواه ، والويل لمن عصاه ، وكل من تحدثه نفسه بذلك سيكون السجن والتعذيب والقتل مصيره بلا شك.

وقد لقي بنو إسرائيل ـ بشكل خاص ـ أشد الأذى وأسوأ الأعمال على يد فرعون وجلاوزته ، فكان يقتل أبناءهم ، ويستحيي نساءهم لأبسط الأسباب وأدناها.

هكذا كانت مصر ، وهكذا كان فرعون ، حتى بعث الله موسى (عليه‌السلام) وأمره أن يذهب إلى فرعون ويدعوه إلى الايمان بالله ، وترك الادعاء الباطل بالالوهية ، وأن يرفع الأذى والعذاب عن الناس عامة ، وبني اسرائيل بشكل أخص ، باعتبارهم الطبقة التي تحملت القسط الأكبر من الأذى الفرعوني.

وعلى الرغم من الآيات التي جاء بها موسى (عليه‌السلام) بأمر الله تعالى ، فإنّ فرعون يرفض الايمان والتصديق بذلك ، بل زاد من إيذاء بني إسرائيل عمّا كان عليه سابقا : (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ). وكأنه يتحدى النبي موسى (ع) مستغلا في ذلك سطوته وجبروته ، تحركه ـ إضافة إلى ما مرّ ذكره ـ العقد النفسية الكامنة في ذاته ، والكبرياء الزائف إلى ارتكاب الجرائم البشعة والقتل الجماعي الذي جعل من حياة بني إسرائيل جحيما ومأساة ، حتى قال بنو إسرائيل لموسى : لقد اوذينا قبل مجيئك ومن بعد ما جئتنا.

__________________

(١) سورة يونس : الآية ٩٢.

٢٩٩

وهنا يطلب (موسى) من (فرعون) أن يسمح لبني إسرائيل بالرحيل وترك مصر ، ولكن فرعون يرفض ذلك ويثور ، وينزل الله تعالى عليهم الطوفان المدمّر جزاء ذلك ، وعندها يطلب (فرعون) من (موسى) أن يدعو ربه لرفع العذاب ثمنا للموافقة ، ويرفع العذاب ، ويرفض (فرعون) الوفاء بالوعد ، ويأتي العذاب الالهي متعاقبا بصور وأشكال متعددة : كالجراد ، والقمل ، والضفادع.

وفرعون وهامان يرفضان الانصياع والاذعان لتلك الآيات ، فيحول الله ماء النيل إلى دم (فكان القبطي يراه دما ، والاسرائيلي يراه ماء ، فإذا شربه الاسرائيلي كان ماء ، وإذا شربه القبطي يشربه دما ، فجزعوا من ذلك جزعا شديدا ، فقالوا لموسى : لئن رفع عنّا الدم لنرسلنّ معك بني إسرائيل ، ولما رفع عنهم غدروا ولم يخلّو عن بني إسرائيل) (١).

حتى أرسل الله على ـ الفراعنة ـ عذاب الرجز ، فجزعوا وأصابهم الهلع ، وطلبوا من (موسى) أن يدعو ربه لرفع العذاب ، ولما ارتفع أطلقوا سراح بني إسرائيل وأنصارهم ، فاجتمعوا إلى (موسى) الذي أمرهم بالسير والخروج من مصر عبر البحر ، وتجري الرياح بما لا تشتهي السفن ، ويوسوس الشيطان ل (فرعون) وحاشيته ، ويخوفهم من (موسى) وأنصاره حتى يندم (فرعون) على سماحه لبني إسرائيل بالذهاب ، فيجمع جيشا كبيرا تحت قيادته ، ويخرج في طلب (موسى) وقومه.

ولما اقترب (موسى) من البحر ، و (فرعون) من (موسى) قال أصحاب (موسى) : إنّا مدركون ، فأوحى الله إلى (موسى) (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) فضربه ، فكان كل فرق كالطود العظيم فتكوّن اثنا عشر طريقا على عدد فرق بني إسرائيل.

ولما وصل (فرعون) وجنوده إلى البحر ادعى كذبا أنّه هو الذي أقام تلك الطرق ، واقتحم أمامهم البحر بفرسه ، وسار جيشه الجرار خلفه ، حتى إذا توسطوا

__________________

(١) قصص الأنبياء : الفصل الرابع ص ٢٦٩.

٣٠٠