القرآن والطبّ الحديث

الدكتور صادق عبدالرضا علي

القرآن والطبّ الحديث

المؤلف:

الدكتور صادق عبدالرضا علي


الموضوع : الطّب
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٤

٢٦١

وهنا نتساءل : كيف أنّ هذه الخلايا المتماثلة تخصصت من تلقاء ذاتها لتعطي مراكز الاحساس والشعور والعاطفة ، والمراكز العصبية الاخرى ، وكذلك مختلف الأعضاء والأجهزة ، علما بأنّ هذا التخصص والتكامل يحصل والجنين لا يزال صغيرا جدا ، إذ لا يزيد طوله على (٣٠) ملم ووزنه (٢ ـ ٣) غم عند نهاية الاسبوع السابع؟!

بعد عملية التخلق وإعجازاتها تنقلنا الآية الكريمة إلى حكمة إلهية اخرى تمس مستقبل البشرية كافة. ويتجلى فيها الحب والعطف واللطف الالهي بأسمى وأجمل معانيه ، وهي : أنّ الله وحده هو الذي يقرر ما يشاء في الأرحام : ذكرا كان أم انثى ، ولمدة محدودة لا يعلمها إلّا هو.

وصدق الله العلي العظيم عند ما قال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) (١).

* * *

__________________

(١) سورة الحج : الآية ٥.

٢٦٢

الموضوع الثاني

«آيات ناطقة»

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (١).

هلم تعلم : ـ

١ ـ أنّ التجاويف الموجودة في الرأس هي للموازنة واتقاء الصدمات التي قد يتعرض لها الانسان خلال حياته اليومية.

٢ ـ وأنّ الشعر لحفظ الرأس والبدن من الحر والبرد.

٣ ـ وأنّ الجبهة بدون شعر لأنها مصب النور إلى العينين ، وجعل فيها التجاعيد لمنع وصول العرق بسهولة إلى العينين والحاجبان مفرق العينين ليردا عليهما النور.

٤ ـ وأنّ درجة حرارة الانسان ثابتة بالرغم من الفعاليات المختلفة التي يقوم بها الانسان ، وهذا ما لا يوجد في أحسن الماكنات المصنوعة في العالم ، حيث تتجاوز حرارتها حرارة جسم الانسان أضعاف المرات ، بالرغم من صغرها وعدم قيامها إلا بوظيفة واحدة فقط.

٥ ـ وأنّ العين لا توازيها أكبر وأحدث الكاميرات العالمية الموجودة ، لأنها تصور ملايين الصور يوميا بدون إزعاج أو ضوضاء ، وبمختلف الأحجام والألوان ، وليس لها جهاز تحميض معقد مثل الكاميرات الحالية.

٦ ـ وأنّ الأنف جعل في وسط العينين ليقسم النور إلى العينين بالتساوي ، وأنّ ثقبه إلى الأسفل ليكون مصب الرواشح ، والشارب والشفة لمنع نزول سوائل وروائح الأنف إلى الفم (٢).

__________________

(١) سورة الذاريات : الآية ٢٠ ـ ٢١.

(٢) طب الإمام الصادق (ع) : للاستاذ محمد الخليلي.

٢٦٣

٧ ـ وأنّ شرايين الدماغ والرأس والكلية والقلب والرئتين والجسم ، تختلف من حيث التركيب والوظيفة بعضها عن البعض الآخر.

٨ ـ وأنّ الشعر والأظافر خالية من الحياة ، لأنّ طولهما سمج وقبيح وقصهما حسن ، ولو كانت فيهما حياة لآلم الانسان قصهما.

٩ ـ وأنّ الأذن لا تسمع الذبذبات الصوتية التي هي أقل من (١٦) موجة في الثانية ، وأكثر من (١٦) ألف موجة في الثانية. وهذه نعمة من الله لأنّ الانسان لو سمع جميع الأصوات لأصيب بالخوف والهلع والموت وذلك من شدة الضوضاء التي قد يتعرض لها.

١٠ ـ وأنّ عدد ضربات القلب (٧٦) ضربة في الدقيقة ، وتصل بمعدل (١٠٠) ألف ضربة يوميا أي (٤٠) مليون ضربة بالسنة أو ما يعادل (٢٠٠٠) مليون ضربة في الشخص المتوسط العمر (١).

١١ ـ وأنّ طي الركبة إلى الخلف لأنّ الانسان يمشي إلى الأمام ، فتعتدل الحركات ، ولو لا ذلك لسقط في المشي. والقدم مقوسة لأنّ المشي إذا وقع على الأرض بكامل القدم ثقل الجسم وتعب.

١٢ ـ وأنّ جدار الأنف البسيط على الرغم من صغر مساحته ودقته ، والذي يمر فيه الهواء ليل نهار بمعدل (٢٠) مرّة بالدقيقة ، يعتبر من أدق وأعظم أجهزة التكيف الهوائي في العالم.

١٣ ـ وأنّ في المعدة يوجد (٣٥) مليون غدة معقدة التركيب لأجل الافراز ، أمّا الخلايا الجدارية التي تفرز حامض (كلور الماء) فتقدّر بمليار خلية.

١٤ ـ وأنّ في العفج والصائم يوجد (٣٦٠٠) زغابة معوية في كل (سم ٢) لامتصاص الأغذية المهضومة ، وفي الدقاق (٢٥٠٠) زغابة ، مع العلم أنّ طول الأمعاء الدقيقة (ثمانية) أمتار.

__________________

(١) الأيديولوجية الإسلامية : للشيخ عبد الحميد المهاجر.

٢٦٤

١٥ ـ وأنّ في مخاطية الفم يتوسف (٠٠٠ ، ٥٠٠) خلية تعوض فورا وذلك كل خمس دقائق.

١٦ ـ وأنّ في اللسان (٩٠٠٠) حليمة ذوقية لتمييز الطعم الحلو والحامض والمر والمالح.

١٧ ـ وأنّ الكريات الحمراء الموجودة في جسم الانسان لو وضعت بجانب بعضها في صف واحد ، لأحاطت بالكرة الأرضية (٥ ـ ٦) مرات ، أمّا مساحتها فتقدر ب (٣٤٠٠) متر مربع ، وعددها (خمسة) ملايين كرية حمراء في كل (مليمتر مكعب) من الدم ، وأنّه يوجد في دم الانسان الكامل (٢٥) مليون المليون كرية حمراء لنقل الأوكسجين ، و (٢٥) مليار كرية بيضاء لمقاومة الجراثيم ، ومليون مليون صفيحة دموية لمنع النزف داخل الأوعية الدموية في حالة النزف.

١٨ ـ وأنّ دفقة المني الواحدة عند الرجل تحوي (ثلاثمائة) مليون حيوانا منويا ، ولا يتخلق الانسان إلّا من حيوان منوي واحد يندمج مع بيضة واحدة من الانثى.

١٩ ـ وأنّ الكلية الواحدة تحوي (مليون) وحدة وظيفية لتصفية الدم تسمى (النفرونات) ، ويرد إلى الكلية في مدى (٢٤) ساعة (١٨٠٠) ليترا من الدم ، ويتم رشح (١٨٠) ليترا منه ثم يعاد امتصاص معظمه في الأنابيب الكلوية ، ولا يطرح منه سوى (٥ ، ١) ليترا وهو المعروف ب (البول) ويبلغ طول أنابيب (النفرونات) حوالي (٥٠) كيلومترا ، وأنّ الكلية الطبيعية بالرغم من صغر حجمها تقوم بمئات الوظائف ، ولو أردنا أن نقوم بصنع كلية اصطناعية مماثلة لتطلب منّا مصانع كبيرة وكثيرة تأخذ حوالي (خمسة) كيلومترات مربعة من الأرض.

٢٠ ـ وأنّ لسان المزمار الصغير الحجم الكثير الفعالية يعتبر أمهر وأحسن وأعظم شرطي مرور في العالم.

٢١ ـ وأنّ تحت سطح الجلد يوجد (٥ ـ ١٥) مليون مكيّفا لحرارة البدن ألا وهي الغدد العرقية.

٢٦٥

٢٦٦

٢٢ ـ وأنّ بصمات أصابع الانسان لا تتشابه من إنسان لآخر حتى في حالة التوائم.

٢٣ ـ وأنّ الجسم يستهلك من خلاياه (١٢٥) مليون خلية في الثانية الواحدة أي بمعدل (٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٥٠٠ ، ٧) مليون خلية في الدقيقة الواحدة ، وبنفس الوقت يتشكل ويتركب نفس العدد من الخلايا تقريبا.

٢٤ ـ وأنّ الكبد بحجمه المعروف يقوم بأكثر من (٦٠٠) عملية فيزيولوجية في اليوم.

٢٥ ـ وأنّ الرغامي عند الانسان تتفرع إلى قصبات ثم قصبات وهكذا ، حتى تصل إلى فروع دقيقة على مستوى الأسناخ الرئوية ، ويبلغ عد الأسناخ الرئوية حوالي (٧٥٠) مليون سنخا ، وكل سنخ يتمتع بغلاف رقيق ويتصل بجداره عرق دموي صغير يتم خلاله تبادل الغازات (١).

٢٦ ـ في الدماغ (١٣) مليار خلية عصبية و (١٠٠) مليار خلية دبقية إستنادية تشكل سدا منيعا لحراسة الخلايا العصبية من التأثر بأية مادة ، والأورام تنمو خاصة على حساب الخلايا الدبقية وكأنّ الخلايا العصبية مستعصية على السرطان. وأنّ الخلايا العصبية في جسم الانسان لو وضعت بصف واحد لبلغ طولها أضعاف المسافة بين القمر والأرض (٢).

٢٧ ـ تبدأ أسنان الانسان بالتعظم في بداية الشهر السابع من عمر الجنين ، وتبدأ بالظهور في الشهر الخامس أو السابع وتسمى الأسنان اللبنية ، وعددها (٢٠) سنّا وتبدأ بالسقوط في بداية السنة السادسة وحتى الثالثة عشرة ، كي تسمح بنمو الأسنان الدائمية التي تعدادها (٣٢) سنّا.

واقتضت الحكمة الالهية جعل تلك الأعداد ثابتة عند الصغار والكبار ، وذات

__________________

(١) مع الطب في القرآن الكريم.

(٢) الطب محراب الإيمان : للدكتور خالص جلبي.

٢٦٧

٢٦٨

نسق جميل غير قابل للتغيير ، ولها وظائف متعددة لتسهيل عملية الهضم.

والأسنان ذات تركيب قوي ومحكم ، بحيث لو قورنت بأقوى آلات الطحن المصنوعة من الحديد الخاص لتفوقت عليها بالقوة والادامة.

وللأسنان خاصية فريدة ومتميزة ، وهي عدم ذوبانها بأقوى الحوامض المعروفة كحامض (النتريك).

ويستفاد من الأسنان في تقدير عمر الانسان في حالات الطب العدلي ، وفي تنظيم الصوت والكلام.

* * *

٢٦٩

٢٧٠

الفصل الثامن

ـ الطب العدلي أو الشرعي ـ

هو علم تخصصي يضم بين دفتيه مجموعة من العلوم الطبية الحديثة ، كعلم الكيمياء والسموم ، وعلم الفيزياء والمجهر ، وعلم النفس الشرعي ، وعلم الجريمة والأسلحة وكيفية التعرف عليها ، إضافة إلى دراسات كثيرة لبعض التأثيرات المختلفة التي تنتج عن العوامل الطبيعية.

كما أنّ للطب العدلي دورا فعالا في معرفة السبب أو الأسباب الحقيقية لظاهرة أو جريمة معينة مع كشف الظروف والملابسات التي أحيطت بها ، وتشخيص الفاعل الأصلي الذي ارتكب تلك الجريمة من خلال إعطاء الاحتمالات أو الرأي القطعي وفق قواعد واسس علمية قويمة ، يمكن بموجبها التعرف على مجمل أحداث الفعل الواقع وكونه جنائيا أم انتحاريا أم عرضيا ، وتشخيص الجاني أو الجناة والآلة المستعملة ، أو المادة السامة التي استخدمت حين حدوث الجريمة ، وإعطاء التقرير النهائي عن المدة التقريبية التي وقعت فيها الجريمة أو الحادثة ، وتفصيل حدوثها وفق أسانيد علمية وطبية واضحة.

وكان الطب العدلي في بدايته علما بسيطا يعتمد على الظواهر والأحداث والمشاهدات التي يتركها الجاني عند ارتكاب الجريمة أو الشروع بها ، ولم يكن يواكب الأحداث والتطورات التي بدأت بالظهور في المجتمع وعصفت بأمنه واستقراره والتي منها :

١ ـ استخدام التكنولوجيا العلمية الحديثة.

٢ ـ اكتشاف الآلات والأسلحة النارية وتطورها.

٣ ـ اكتشاف أنواع السموم المستخدمة لأغراض شتى.

٢٧١

٤ ـ تعاطي المسكرات والمخدرات بكثرة.

٥ ـ زيادة تناول الأدوية والعقاقير المختلفة خصوصا المنومة منها والمسكنة.

٦ ـ تطور الأساليب الاجرامية وتنوعها ، وطرق تنفيذ الجريمة بشكل لم يكن في الحسبان أو التصور العقلي.

لهذا توجهت جهود العلماء والمختصين في حقل الطب العدلي للكشف عن طرق ووسائل علمية جديدة تواكب الأحداث وتفسرها وفق الامكانات المتاحة ، ولتجعل من مهنة (الطب العدلي) مهنة متطورة تساير التطورات والوقائع التي تستجد داخل المجتمع بما توفر لديها من علوم ووسائل حديثة ـ علمية وطبية ـ تكون كفيلة بإعطاء القرار النهائي في ذلك الحدث الجنائي أو تلك الظاهرة.

الأمر الذي حدا بالدول والحكومات إلى إنشاء معاهد الطب العدلي وفق أحدث الدراسات الطبية والعلمية ، وتتناول دروس هذه المعاهد وأبحاثها آخر ما وصل إليه العلم الحديث ، حيث ادخلت الآلات الحديثة في شتى مرافق الطب العدلي ، إضافة إلى إلحاق المختبرات العلمية العديدة به ، والتي قدمت الكثير من الدعم العلمي الذي يمكّن الطبيب العدلي من إبداء رأيه والأخذ به واعتباره قطعيا استنادا إلى النتائج المختبرية المعطاة.

وقد وظف الطب العدلي إمكاناته في خدمة العدالة والانسانية ، وأخذت العدالة مجراها الطبيعي دون أن ينازعها منازع أو يراودها شك نتيجة رأيه العلمي الذي يتربع على جانب الصواب.

٧ ـ ازدياد الجرائم الجنسية ـ كما تشير إليها الاحصاءات الرسمية بين فينة واخرى ـ دليل واضح على هذه المشكلة الخطيرة وأهميتها ، والتي تقف عوامل اجتماعية وراءها من فقر وتفاوت طبقي وتحلل أخلاقي ، وتمارس هذه الجرائم بشكل طبيعي في بعض بلدان العالم دون موانع وقيود تحد من انتشارها.

٨ ـ ضعف الوازع الديني عند الفرد العادي وعدم إيمانه جعله فريسة الاصطياد والوقوع في حبائل الانحرافات والجرائم المختلفة التي شغلته عن نفسه ،

٢٧٢

وعزلته عن دينه ، الأمر الذي لم يدع له فرصة يراجع فيها دينه ، ويلتمس المدنية الكاملة الصادقة ، من معدن هذا الدين ، ومن نسيج ثوبها القشيب من خيوط أحكامه ومبادئه.

٩ ـ التسابق السريع للحصول على الأموال بطرق غير مشروعة ، وبالجري اللاهث وراءها ، نتيجة التقليد الأعمى والنظرة العجول ، والشهوة الحمقاء ، التي ساقت الكثير من الشبان ، والكهول ، بل والشيوخ ، إلى هذا المزلق الخطر دون رادع من إيمان أو قانون أو ضمير.

الفوائد المتوخاة من الطب العدلي

١ ـ مساعدة الجهات القضائية في كشف الحقيقة ، وتشخيص السبب والمسبب خدمة للحق والعدل.

٢ ـ رفع المظلومية التي تقع نتيجة الخطأ أو الشك أو الالتباس ، عن بعض المتهمين ، بسبب الحكم الظاهري على الحادث.

٣ ـ كشف الجريمة وملابساتها ، والتعرف على ظروف الحدث وغيره.

٤ ـ تعيين الزمن الذي مضى على الحادث ، أو ما يقرب منه.

٥ ـ تشخيص الآلة أو السلاح المستعمل ونوعه.

٦ ـ بيان الوسيلة التي استخدمت في تنفيذ العملية.

٧ ـ التعرف على المادة الكيمياوية أو السم المستخدم عند الحادث.

٨ ـ تقدير العمر للجاني والمجني عليه على وجه التقريب.

٩ ـ بيان سلامة الجاني والمجني عليه من الناحية العقلية والنفسية.

١٠ ـ إجراء الفحوصات المختبرية لمعرفة كمية المواد السمّية ، أو المسكر ، أو المخدرات ، التي سببت الحادث.

١١ ـ معرفة جنس الجاني والمجني عليه.

٢٧٣

١٢ ـ إصدار القرار النهائي بصدد الجروح المختلفة ، سواء أكانت جنائية أو عرضية أو انتحارية.

١٣ ـ التعرف على حوادث الاختناق أو الغرق ، وكونها جنائية أم عرضية أو انتحارية.

١٤ ـ تشخيص حالات الاعتداء الجنسي ، وإصدار القراره النهائي من كونها حالات اغتصاب أو لا.

١٥ ـ تشخيص البكارة وبيان سلامتها أو عدمها ، وإعطاء المدة التقريبية لإزالتها.

١٦ ـ كشف حالات اللواط المختلفة.

١٧ ـ إجراء الفحوصات الخاصة بشأن الحمل ، والتأكد من حالاته الحقيقية والكاذبة.

١٨ ـ التحقق من كون الجنين أو الطفل المولود ، هل جاء نتيجة عمل مشروع أو لا؟

١٩ ـ التعرف على ظواهر الشنق والخنق المختلفة ، وكونها حالات جنائية أم عرضية أم انتحارية.

٢٠ ـ بيان حالة الوفاة وكونها طبيعية أو مشبوهة ، وإصدار التقرير اللازم بصددها.

٢١ ـ إجراء الفحوص على البقع الدموية والمنوية والشعور الموجودة للتوصل لمعرفة المتهم أو المجني عليه.

والقرآن الكريم تعرّض للطب العدلي في آيات عديدة شملت مواضيع مختلفة الجوانب والأبعاد ، وهي تبين بجلاء وعلمية كيفية التعرف على الحقيقة بأسلوب علمي وعملي ، فكانت بحق اللبنات الأساسية التي جعلت الطب العدلي يأخذ حيزا لا بأس به في مجمل حياتنا الاجتماعية (الماضية والمعاصرة).

٢٧٤

ولعلّ أعظم البراهين على عبقرية إنسان ، هو ما يبتكر من الأعمال ، أو الآراء المبتكرة التي لم يسبق إليها. ونحن إذا تصفّحنا حياة الامام علي (عليه‌السلام) بتجرد علمي ، رأينا أنه ابتكر امورا لم يسبق إليها. ووثبة تفكيره إلى هذه الأوليات التي تفرد بها خير دليل على فطرة عبقرية مصفاة.

فالامام علي (عليه‌السلام) اعجوبة من أعاجيب القضاء ، لأنّه أوّل قاض فرّق بين الشهود لئلا يتواطأ اثنان منهما على شهادة تشوه جمال الحق ، أو تطمس معالمه ، فسنّ بهذه السنة الحميدة البارعة للقضاء ، ما يجعل سبيل الحق لهم واضحا ، وينزّه أحكامهم عن الشبهات ، ويحول بين الذين يتلاعبون بضمائر الناس وبين ما طبعوا عليه من الغش ، فلا يتمكنون من خداع القاضي.

وهو أوّل من سجّل شهادات الشهود حتى لا تتبدّل شهادة ـ بإغراء من رشوة ، أو تدليس من طمع ، أو ميل مع عاطفة ـ فكان بذلك مبتكرا من أعظم المبتكرين ، لأنّ صيانة حقوق الناس من العبث والغش أثمن من حياة الناس نفسها. فجاءت الأجيال والامم والحكومات والدول لتسير على الاسلوب الذي رسمه الامام الأعظم (عليه‌السلام). وهو أوّل مكتشف أو مبتكر للتفريق ما بين لبن ام الانثى وام الذكر.

وروي في «كنز العمّال في السنن والأقوال» ج ٣ ص ١٧٠ عن شريح القاضي قال : كنت أقضي لعمر بن الخطاب ، فأتاني يوما رجل فقال : يا أبا اميّة! إنّ رجلا أودعني امرأتين : إحداهما حرة مهيرة ـ أي غالية المهر ، والجمع مهائر ـ والاخرى سريّة ، فجعلتهما في دار ، وأصبحت اليوم وقد ولدتا غلاما وجارية ، وكلتاهما تدّعي الغلام ، وتنتفي من الجارية ، فاقض بينهما بقضائك.

قال : فلم يحضرني شيء فيهما ، فأتيت «عمر» فقصصت عليه القصّة. فقال :«فما قضيت بينهما؟» قلت : «لو كان عندي قضاؤهما ما أتيتك!».

فجمع عمر من حضر من أصحاب النبي (ص) وأمرني فقصصت عليهم ، فشاورهم في ذلك ، فكلّهم ردّ الرأي إليه وإليّ ..

٢٧٥

فقال عمر : لكنّي أعرف حيث مفزعها ، وأين منزعها.

قالوا : «كأنّك أردت ابن أبي طالب».

قال : «نعم ، وأين المذهب عنه؟».

قالوا : «فابعث إليه يأتك!».

فقال : «لا ، له شمخة من هاشم ، وأثرة من علم ، يؤتى لها ، ولا يأتي ، وفي بيته يؤتى الحكم ، فقوموا بنا إليه».

فأتينا إليه ، فوجدناه في حائط يركل فيه على مسحاة ويقرأ : «أيحسب الانسان أن يترك سدى؟» ويبكي ، فأمهلوه حتى سكن ، ثم استأذنوا عليه ، فخرج إليهم ، وعليه قميص قدّ نصف أردانه.

فقال : «يا عمر! ما الذي جاء بك؟»

فقال : «أمر عرض!».

وأمرني فقصصت عليه.

فقال : «فيم حكمت فيها؟».

قلت : «لم يحضرني فيها حكم».

فأخذ بيده من الأرض شيئا ثم قال : «الحكم أهون من هذا!».

ثم استحضر الامرأتين ، وأحضر قدحا ثم دفعه إلى إحداهما فقال : «احلبي فيه» فحلبت ، ثم وزن القدح ، ودفعه إلى الاخرى فقال : «احلبي فيه» فحلبت فيه ، ثم وزنه. فقال لصاحبة اللبن الخفيف : امضي وخذي ابنتك ، ولصاحبة اللبن الثقيل :

خذي ابنك.

ثم التفت (ع) إلى عمر فقال : «أما علمت أنّ لبن الجارية على النصف من لبن الغلام؟ وأنّ ميراثها نصف ميراثه؟ وأنّ عقلها نصف عقله ، وأنّ شهادتها نصف شهادته!».

فقال عمر : «أرادك الحقّ ـ يا أبا الحسن ـ ولكن قومك أبوا ...».

٢٧٦

ومن إنسانيته التي لا تجارى ، خبر المجنونة التي قامت عليها البيّنة في عهد عمر ، أنّه فجر بها رجل ، فأمر عمر بجلدها الحدّ ، فمرّ بها الأمام علي (ع) فقال : «ما بال مجنونة آل فلان تقتل؟». فقيل له : «إنّ رجلا فجر بها وهرب ، وقامت البينة عليها ، فأمر عمر بجلدها!» فقال (ع) : ردّوها إليه وقولوا له : أما علمت أنّ هذه مجنونة آل فلان ، وأنّ النبي (ص) قد رفع القلم عن المجنون حتّى يفيق ، إنّها مغلوبة على عقلها. ونفسها فردّت إليه ، وقيل له ذلك ، فقال : فرّج الله عنه ، لقد كدت أهلك في جلدها! ...

ومن مواهبه (ع) ليتمكن من الوصول إلى الحقيقة ما ذكره عنه الأصبغ بن نباتة قال : «إنّ شابا شكا إلى علي (ع) نفرا ، فقال : إنّ هؤلاء خرجوا مع أبي في سفر فعادوا ، ولم يعد أبي فسألتهم عنه. فقالوا : مات ، ما ترك شيئا ، وكان معه مال كثير ، وترافعنا إلى شريح القاضي فاستحلفهم وخلّى سبيلهم. فدعا عليّ بالشرط ، فوكّل بكلّ رجل رجلين وأوصاهم أن لا يمكّنوا بعضهم أن يدنو من بعض ، ولا أن يمكّنوا أحدا يكلمهم.

ودعا كاتبه ، ودعا أحدهم فقال : أخبرني عن أب هذا الفتى ، أي يوم خرج معكم؟ وفي أي منزل نزلتم؟ وكيف كان سيركم؟ وبأي علة مات؟ وكيف اصيب بماله؟ وسأل عمن غسله ودفنه؟ ومن تولى الصلاة عليه؟ وأين دفن؟ والكاتب يكتب ، فكبر علي (ع) ، فكبّر الحاضرون والمتهمون لا علم لهم ، إلّا أنهم ظنوا أنّ صاحبهم قد أقرّ عليهم.

ثم دعا آخر بعد أن غيّب الأول من مجلسه ، فسأله كما سأل صاحبه ، ثم الآخر كذلك ، حتى عرف ما عند الجميع ، فوجد كل واحد يخبر بضد ما أخبر صاحبه.

ثم أمر برد الأول فقال : يا عدوّ الله قد عرفت عنادك وكذبك بما سمعت من أصحابك ، وما ينجيك من العقوبة إلّا الصدق ، ثم أمر به إلى السجن وكبّر وكبّر معه الحاضرون ، فلمّا أبصر القوم الحال ، لم يشكّوا أن صاحبهم أقرّ عليهم.

فدعا آخر منهم فهدّده فقال : يا أمير المؤمنين ، والله لقد كنت كارها لما صنعوا. ثم دعا الجميع ، فأقروا بالقصة ، واستدعى الذي في السجن. وقيل له : قد أقرّ أصحابك

٢٧٧

ولا ينجيك سوى الصدق ، فأقرّ بما أقرّ به القوم فأغرمهم المال ، وأقاد منهم القتيل».

ونحن إذا رأينا ما يقوم به محققو أيامنا نعلم أنهم ينسجون على منوال الامام الحكيم ، الّلهم إنّ الامام استعمل ذكاءه وفطنته ، وهؤلاء كثيرا ما يستعملون التعذيب ، ليحصلوا من المتهم على الاقرار الذي يبتغونه! ...

ومن ذلك قصة التي ولدت لستة أشهر ، وحادثة المرأة التي زنت وهي حامل ، وقصة التي جحدت ابنها. وهذا الاجتهاد يدل على ما وهب الله لوصي رسول الله (ص) من العلم والذكاء الذي يبلغ حد المعجزة ، ولو لا ذلك لظلم هذا الولد ، لكن الامام (ع) أدرك من ارتباك المرأة أنّ في قضيتها سرا ، وأنّ المرأة إذا كان في قلبها ذرة من الايمان والأنسانية لن تقبل الزواج بابنها ، فكان ذكاؤه وعلمه واجتهاده السبيل إلى حل هذه المعضلة (١).

فهذه القضايا تدل بداهة على ما وهب الله للامام علي (ع) من صفاء العقل ، وذكاء الرأي ، وصفاء الحكمة ، وخلوص النية ، ونقاء الضمير ، بحيث لا تلتاث عليه قضية ، مما جعل عمر بن الخطاب يقول : «لو لا علي لهلك عمر».

وحبّ الامام للعدل ، وتقديسه إيّاه ، جعله يقف أمام قاضي الحكومة مدّعيا بدرع له على خصم يهودي ، ولما لم تتوافر له الأدلة خسر الدعوى فلم يتبّرم ، ولم يتذمّر ، ولو لا إقرار اليهودي بصحة ادعاء الامام ، ما تراجع القاضي عن حكمه.

ولتقديسه العدالة ، باشر تنفيذ الحدّ بنفسه على والي الكوفة ـ الوليد بن عقبة ابن أبي معيط ـ يوم ثبت أنّه يتعاطى الخمر!

وصدق الله العلي العظيم حين قال سبحانه : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ. بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (٢).

__________________

(١) للمزيد من الإطلاع يراجع كتاب «قضاء أمير المؤمنين» للشيخ محمد التستري.

(٢) سورة القيامة : الآيتان ٣ و ٤.

٢٧٨

(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) (١).

(وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (٢).

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) (٣).

(قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٤).

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٥).

(وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) (٦).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (٧).

__________________

(١) سورة يونس : الآية ٩٢.

(٢) سورة يوسف : الآية ١٨.

(٣) سورة يوسف : الآية ٢٤.

(٤) سورة يوسف : الآية ٢٦ ـ ٢٧.

(٥) سورة النور : الآية ٤.

(٦) سورة النساء : الآية ١٥٧.

(٧) سورة النور : الآية ٢٧ ـ ٢٨.

٢٧٩

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) (١).

(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) (٢).

* * *

__________________

(١) سورة يوسف : الآية ٧٠.

(٢) سورة يوسف : الآية ٧٦.

٢٨٠