القرآن والطبّ الحديث

الدكتور صادق عبدالرضا علي

القرآن والطبّ الحديث

المؤلف:

الدكتور صادق عبدالرضا علي


الموضوع : الطّب
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٤

١
٢

٣
٤

٥
٦

الإهداء

إلى / أتباع سيّدنا الرسول الأعظم محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله). المؤمنين بكتاب الله وسنّة رسوله وسيرة الأئمّة المعصومين (عليهم‌السلام).

إلى / الذين يجدون في القرآن والسنّة المطهّرة بلسما شافيا من الأمراض التي تعصف بمجتمعنا الإسلامي.

اقدم

هذه

الصفحات

د. صادق عبد الرضا علي

٧
٨

المحتوى

الفصل الأوّل :

علم النفس الطبي

الفصل الثاني :

علم التغذية الصحية

الفصل الثالث :

علم الأمراض النسائية والتوليد

الفصل الرابع :

علم الجراحة

الفصل الخامس :

علم البيئة الصحية

الفصل السادس :

علم الارشاد الصحي

الفصل السابع :

علم الأجنة

الفصل الثامن :

علم الطب العدلي

٩
١٠

المقدّمة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد الرسول الأمين ، وعلى آله الهداة الميامين ، الذين اجتباهم الله من خلقه ، وجعلهم الدعاة إلى طاعته ، ورحمته وبركاته.

مما يأخذ بالأعناق إلى أهل البيت (عليهم‌السلام) ، ويضطر المؤمن إلى الانقطاع إليهم ، قول الرسول الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إذ أهاب في الجاهلين ، وصرخ في الغافلين ، فنادى : «يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما» (١)

وعنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال «ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : فاني سائلكم عن اثنين : القرآن وعترتي» (٢)

__________________

(١) أخرجه الترمذي والنسائي عن جابر وزيد بن أرقم. ونقله عنهما المتقي الهندي في أول باب الاعتصام بالكتاب والسنة من كنز العمال ص ٤٤ من جزءه الأول. وهو الحديث (٨٧٤).

(٢) أخرجه الطبراني كما في أربعين الأربعين للنبهاني ، وفي إحياء الميت للسيوطي.

١١

وعنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أيضا : «أيها الناس يوشك أن اقبض قبضا سريعا فينطلق بي ، وقد قدمت اليكم القول معذرة إليكم ، ألا إني مخلف فيكم كتاب الله عزوجل ، وعترتي أهل بيتي ، ثم أخذ بيد علي فرفعها فقال : هذا علي مع القرآن ، والقرآن مع علي ، لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض». الحديث (١).

والصحاح الحاكمة بوجوب التمسك بالثقلين متواترة ، وطرقها عن بضع وعشرين صحابيا متضافرة. وقد صدع بها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في مواقف له شتى ، تارة يوم غدير خم كما سمعت ، وتارة يوم عرفة في حجة الوداع ؛ وتارة بعد انصرافه من الطائف ، ومرة على منبره في المدينة ، واخرى في حجرته المباركة في مرضه ، والحجرة غاصة باصحابه ، وقد اعترف بذلك جماعة من أعلام الجمهور.

وحسب أئمة العترة الطاهرة أن يكونوا عند الله ورسوله بمنزلة الكتاب ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وكفى بذلك حجة تأخذ بالأعناق الى التعبد بمذهبهم ، فإنّ المسلم لا يرتضي بكتاب الله بدلا ، فكيف يبغي عن أعداله حولا.

والأحاديث الشريفة واضحة المعنى والمقصد ، فهي تطالب المسلمين بأن يتمسكوا بالقرآن والعترة نصا وروحا واقتداءا. وأن يجعلوهما منهجا يدركون ويفهمون من خلاله جميع مستلزمات ومتطلبات العصور المختلفة ، لأنّ في ذلك خيرهم وسعادتهم وكرامتهم وعزتهم.

وقد وردت في القرآن الكريم آيات علمية كثيرة ، جاء البعض منها كحالة إعجازية وتحد لبني البشر ، كما جاء البعض الآخر بصيغة أمثال علمية لبيان المراد من الآيات السابقة لها ، أو لتقريب بعض الحقائق لذهن الانسان.

هذه الحقائق العلمية أصبحت مصدرا لكثير من الباحثين العلميين والمحققين. فقد أثبت الزمن أنّ تلك المعلومات العلمية الثمينة بقيت شامخة وسط

__________________

(١) راجعه في أواخر الفصل ٢ من الباب ٩ من الصواعق المحرقة لابن حجر ، بعد الأربعين حديثا من الأحاديث المذكورة في ذلك الفصل ص ٥٧.

١٢

النظريات والفرضيات العلمية التي يطرحها العلماء والباحثون ، حتى أصبحت تلك الحقائق التي جاء بها القرآن بمرور الزمن مصدرا أساسيا لكثير من الاكتشافات والاختراعات التي هزت عالمنا المعاصر.

وحتى الآن لم يتمكن العلم الحديث من مخالفة علوم القرآن والعترة ، بل أيدها واعتمد عليها بكل ثقة واطمئنان. كيف لا؟! وهي من لدن حكيم خبير.

إذن فالتمسك بالقرآن الكريم ونهج العترة الطاهرة يمنع الانسان من الزلل والخطأ والسير في المتاهات. ويأخذ بيده نحو شاطئ الأمان والخير والرفاه ، ويجعله في عيشة إنسانية نبيلة هانئة ترضي الله والرسول والمؤمنين. وتخدم البشرية جمعاء.

ومن هنا فإنّ حديث الرسول الأكرم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) جاء مصداقا لقول الله عزوجل : (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ).

فالرسول محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) طلب منا التمسك بكتاب الله ، لأنه هدى ورحمة لكل البشر ونور مبين لكل مؤمن ، وفيه تبيان لكل شيء.

وقد وردت روايات كثيرة عن النبي الأكرم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والأئمة الأطهار (عليهم‌السلام) من : «أن للقرآن ظهرا وبطنا ، ولبطنه بطنا الى سبعة أبطن ، أو سبعين بطنا».

ولهذا نرى الرسول الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قرن التمسك بالقرآن بالتمسك بأهل البيت (عليهم‌السلام) لأنهم الصفوة الخيرة الطاهرة المعصومة ، الذين حباهم الله وعصمهم من الخطأ والاشتباه والزلل. وجعلهم رحمة لامة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والناس جميعا ، لأنّ علمهم من علم رسول الله ، وعلم الرسول الأعظم منحة من الباري جل جلاله ، وعظمهم سبحانه حين قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

ولا يزال التأريخ يقدم لنا صورا مشرقة عن حياة الأئمة الأطهار (عليهم‌السلام) وجهودهم العظيمة التي بذلوها في تفسير سور القرآن الكريم وبيانها للناس ، خلال حياتهم الشريفة التي قضوها في رفعة الاسلام ونفع المسلمين.

١٣

فهم الذين حفظوا القرآن وفسّروا آياته ، كيلا يجهل الناس آيات القرآن ـ سواء التشريعية منها أو الفلسفية أو العلمية ـ وإتمام الحجة عليهم.

والجدير بالذكر أنّ أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) فسروا القرآن وعرضوه للناس حسب إدراكهم وتحملهم العقلي. ولم يبينوا ما حوى القرآن الكريم من تفاصيل رغم أنهم الراسخون في العلم. كل ذلك مراعاة لعقول الناس ومحدوديتها ، إذ ليس بامكانهم أن تستوعب عقولهم أو تتقبل ما جاء به القرآن الكريم من علوم غزيرة ومعان عميقة.

ولعل المناظرة التي حدثت في مسجد الكوفة عند ما خطب أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) وقال قولته المشهورة : «سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض». خير دليل على ما نقول.

روى أحمد بن حنبل في مسنده عن سعيد قال : لم يكن أحد من أصحاب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يقول : سلوني إلّا علي بن أبي طالب (عليه‌السلام).

وقال الغزالي : وهذه الكثرة والسعة والافتتاح في العلم لا يكون إلّا لدني إلهي سماوي.

وروى الثعلبي في تفسير قوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ). روي من طريقين أنّ المراد بقوله تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) هو علي بن أبي طالب. ولا شك أنّ من عنده علم الكتاب قد أحاط بعلم كل شيء لقوله تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) وقوله تعالى : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ).

قال الشيخ الرئيس : «إنّ أمير المؤمنين مركز الحكمة وفلك الحقيقة وخزانة العقل. ولقد كان بين الصحابة كالمعقول بين المحسوس».

وأذكر أشعار الشعراء في مدحهم إياه (عليه‌السلام) بصفة العلم وما يتعلق بها.

١٤

قال ابن أبي الحديد :

يا وارث التوراة والانجيل وال

فرقان والحكم التي لا تعقل

وله أيضا :

ووارث علم المصطفى وشقيقه

أخا ونظيرا في العلى وأواسر

ألّا إنّما التوحيد لو لا علومه

كعرصة ضليل ونهبة كافر

وقال الصاحب بن عباد :

من كان كالوصي علي عند مشكلة

وعلمه البحر قد فاضت نواحيه

وقال السيّد الحميري :

علي أمير المؤمنين أخو الهدى

وأفضل ذي نعل ومن كان حافيا

أسرّ إليه أحمد العلم جملة

وكان له دون البرية داعيا

ودوّنه في مجلس منه واحدا

بالف حديث كلها كان هاديا

وكل حديث من اولئك فاتح

له ألف باب فاحتواها كما هيا

ولله در ابن العودي حيث قال :

ومن ذا يساميه بمجد ولم يزل

يقول : اسألوني ما يحل ويحرم

سلوني ففي جنبي علم ورثته

عن المصطفى ما فاه مني به الفم

سلوني عن طرق السمآء فإنني

بها من سلوك الطرق في الأرض أعلم

ولو كشف الله الغطا لم أزد به

يقينا على ما كنت أدري وأفهم

١٥

فكان (عليه‌السلام) أحفظ الأصحاب لكتاب الله الوهاب. فهذا ابن أبي الحديد يقول : «وأما قراءة القرآن والاشتغال به ، فهو المنظور إليه في هذا الباب. اتفق الكل على أنه يحفظ القرآن على عهد رسول الله ، ولم يكن غيره يحفظ القرآن. إلى أن قال : وإذا رجعت إلى كتب القراءة وجدت أئمة القراءة كلهم يرجعون إليه. إلى أن قال : فقد صار هذا الفن من الفنون التي تنتهي إليه أيضا مثل كثير مما سبق». انتهى.

بل كان نفسه (عليه‌السلام) الكتاب الشريف والخطاب اللطيف. أليس هو (عليه‌السلام) القائل : «أنا كلام الله الناطق ، وخطابه العزيز الفائق. ومن لم يكن مسلوبا عن عقله وحسه يعلم أن الشخص لا يغفل عن نفسه».

ويرى بعض المفسرين بأنّ الحقائق العلمية تركت لجهود الإنسان وفكره ، حيث أعطاه الله وأودع في عقله أعظم أمانة ألا وهو [الفكر] حيث قال سبحانه : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ ـ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً).

إذن فالإنسان بوجود القرآن والسنة وتراث أهل البيت والفكر الذي وهبه الله له ، وما يستنبطه من تجارب وعلوم واكتشافات قديمة وحديثة ، إنما هي أدلة قاطعة وصريحة تدل بلا شك على وجود الخالق الذي أتقن صنع كل شيء.

لم يكن الغرض من الآيات أن يبين الله لنا ما في الطبيعة من حقائق علمية. كلا فإنّ ذلك موكول إلى عقل الإنسان وتجاربه. وإنما الهدف الأول من ذكرها أن نسترشد بالكون ونظامه إلى وجود الله سبحانه. وأنه لا شيء في هذه الكائنات والمعجزات وجد صدفة وفي غير قصد كما يزعم الماديون. بل وجد بارادة علمية حكيمة ، وقد بيّن الله ذلك صراحة في قوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) (١).

__________________

(١) سورة فصلت : الآية ٥٣. عن تفسير الكاشف : ص ٣٨.

١٦

يقول : EDWARD LUTHER KESSEL (١): «أضاف البحث العلمي خلال السنوات الأخيرة أدلة جديدة على وجود الله ، زيادة على الأدلة الفلسفية التقليدية .. فقد كان في الاثباتات القديمة ما يكفي لاقناع أي انسان يستطيع أن ينظر إلى الموضوع نظرة مجردة عن الميل أو التحيّز. وأنا بوصفي ممن يؤمن بالله ارحّب بهذه الأدلة الجديدة لسببين :

فهي أولا تزيد معرفتنا بآيات الله وضوحا.

وهي ثانيا تساعد على كشف الغطاء عن أعين كثير من صرحاء الشكيين حتى يسلّموا بوجود الله.

لقد عمتّ في أمريكا ـ في السنوات الأخيرة ـ موجة من العودة إلى الدين ـ ولم تتخطّ هذه الموجة معاهد العلم لدينا ـ ولا شك أنّ الكشوف العلمية الحديثة التي تشير إلى ضرورة وجود إله لهذا الكون ، قد لعبت دورا كبيرا في هذه العودة إلى رحاب الله والاتجاه إليه. وطبيعي أنّ البحوث العلمية التي أدت إلى هذه الأدلة ، لم يكن يقصد من إجرائها إثبات وجود الخالق. فغاية العلوم هي البحث عن خبايا الطبيعة واستغلال قواها ، وهي لا تدخل في البحث عن مشكلة النشأة الاولى ـ فهذه من المشكلات الفلسفية والعلوم لا تهتم إلّا بمعرفة : كيف تؤدي الأشياء وظائفها؟ وهي لا تهتم بمعرفة : من الذي جعلها تعمل أو تؤدي هذه الوظائف؟

ولكن كل إنسان ـ حتى اولئك الذين يشتغلون بالعلوم الطبيعية لديه ميل أو نزعة نحو الفلسفة ـ ومما يؤسف له أنّ المرموقين من العلماء ليسوا دائما من الفلاسفة الممتازين. فقليل منهم هم الذين يفكرون في امور النشأة الاولى ـ.

ولو أنّ جميع المشتغلين بالعلوم نظروا إلى ما تعطيهم العلوم من الأدلة على وجود الخالق بنفس روح الأمانة والبعد عن التحيّز الذي ينظرون به إلى نتائج

__________________

(١) إدوارد لوثر كيسيل : أخصائي في علم الحيوان والحشرات ـ حاصل على دكتوراه من جامعة كليفورنيا ـ استاذ علم الحياة ورئيس القسم بجامعة فرنسيسكو متخصص في دراسة أجنة الحشرات والسلامند والحشرات ذوات الجناحين. راجع كتاب «حوار بين الإلهيين والماديين» ص ٢١ ـ ٢٣.

١٧

بحوثهم ، ولو أنهم حرّروا عقولهم من سلطان الثائر بعواطفهم وانفعالاتهم فإنّهم سوف يسلّمون دون شك بوجود الله. وهذا هو الحل الوحيد الذي يفسّر الحقائق.

فدراسة العلوم بعقل منفتح سوف تقودنا بدون شك إلى إدراك وجود السبب الأول الذي هو الله.

ولقد منّ الخالق على جيلنا وبارك جهودنا العلمية بكشف كثير من الامور حول الطبيعة ، وصار من الواجب على كل إنسان سواء كان من المشتغلين بالعلوم أم من غير المشتغلين بها أن يستفيد من هذه الكشوف العلمية في تدعيم إيمانه بالله.

«ثم بعد سرد البراهين من العلوم التجريبية على حدوث المادة يستمر قائلا» :

ولا يتسع المقام لسرد أدلة اخرى لبيان الحكمة والتصميم والإبداع في هذا الكون ، ولكنني وصلت إلى كثير من هذه الأدلة فيما قمت به من البحوث المحدودة حول أجنّة الحشرات وتطوّرها ، وكلّما استرسلت في دراستي للطبيعة والكون إزداد اقتناعي وقوى إيماني بهذه الأدلة.

فالعمليات والظواهر التي تهتمّ العلوم بدراستها ، ليست إلّا مظاهر وآيات بينات على وجود الخالق المبدع لهذا الكون ، وليس التطور إلا مرحلة من مراحل عملية الخلق.

وبرغم أنّ صيحات الماديين قد حجبت كثيرا من الباحثين الامناء عن الحقيقة ، فإنّ فكرة التطور الخلقي لا يمكن أن تكون منافية للعقيدة الدينية ، بل على النقيض من ذلك نجد من الحماقة والتناقض في الرأي أن يسلّم الإنسان بفكرة التطور ، ويرفض أن يسلّم بحقيقة وجود الخالق الذي أوجد هذا التطور.

لقد عاش منذ عهد أوجستين العظيم في القرن الرابع حتى اليوم كثير ممن آمنوا بالله ، ورفضوا فكرة الخلق بمعنى الصناعة ، وقبلوا فكرة الخلق على أساس التطور.

١٨

والواقع أنه بالنسبة لهؤلاء ـ وأنا من بينهم ـ نجد أنّ للتطور أهمية من الناحية الدينية ، فهو يقود العقل الأمين المتجرد من التحيّز إلى فكرة وجود الله تعالى.

وأعود فأقول : إنّ دراسة العلوم بعقل منفتح تجعل الإنسان يسلّم بضرورة وجود الله والإيمان به.

ويقول «كرسي موريسن» (١) : «لسنا إلّا في فجر العلوم ، ولكن كل إلمامة جديدة وكل تزايد لنور المعرفة تأتينا ببرهان جديد على أنّ كوننا هو حقا صنيعة عقل خلّاق فعّال. كذا يعتمد الإيمان على المعرفة ، ويشعر العالم في كل مرحلة جديدة يقطعها أنّه يقترب من الله ، وقد وجدت في العلم شخصيا سبع علل كبرى ارسي عليها قواعد إيماني» ثم يستمر في بيانها.

ونلاحظ خلال قراءتنا للقرآن المجيد أنه يحوي الكثير من العلوم ، التي بذل الإنسان جهدا كبيرا وطويلا من أجل التوصل إلى خفاياها وأبعادها ، ليضعها في خدمة الإنسانية جمعاء. ويفسر لنا بعض الأسرار التي لم تكن مفهومة لدى بعض الناس خلال الفترة التي سبقت الاكتشافات العلمية الحديثة. حيث قال جلّ وعلا : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ).

ومن خلال ما مرّ بنا نجد انّ الإنسان الذي أعطاه الله العقل ، وعلّمه العلم ، وسخر له الأرض وما عليها من حيوانات ونباتات ، يحتاج إلى رعاية وعناية ولطف إلهي ، كي يحتفظ بهذا العقل سليما رشيدا يستخدمه في معرفة الخالق وما أعطاه من نعم لا تحصى.

ولهذه الأسباب كلها نجد القرآن الكريم يبني لنا الكثير من الارشادات والقواعد الصحية التي تجعل الإنسان يعيش عيشة سعيدة صحيحة صحية ، تحفظ له جسمه وعقله ، وليستطيع بها معرفة الله وعظمته وجلاله ، ويتمكن من تطبيق

__________________

(١) رئيس المجمع العلمي في نيويورك سابقا ـ ينقلها عنه كتاب «الله محبة» ص ٨٢ ـ ٨٦. وراجع «حوار بين الإلهيين والماديين» ص ١٦٣ ـ ١٦٥.

١٩

التشريعات التي أوصى بها الله سبحانه من أجل خلق مجتمع إسلامي مثالي وإنساني تسوده الصحة والسلامة ، ويرتكز على قواعد صحية سليمة تحفظه من الأمراض والكوارث.

فالإسلام يضع اللّبنة الاولى في بناء المجتمع السليم ، ويخطو الخطوة التي لا بدّ منها في إقامة صرح الامة على أساس متين. فيوجب إعداد الفرد إعدادا بدنيا ، وعقليا ، وخلقيا ، حتى يكون عضوا نافعا لنفسه ، ولأهله ، ولامته ، وحتى يضطلع بالأعباء التي تناط به.

والمقصود بالاعداد البدني المحافظة على سلامة الجسد ، كي يبقى الفرد قويّ البنية ، بعيدا عن الأمراض والعلل ، قادرا على مواجهة الصعاب التي تعترضه ، وهو يعمل ويكدح ، ويكد ويكسب. وإنما يتم ذلك :

١ ـ بما شرعه الإسلام من المحافظة على النظافة في البدن والثوب والمكان. يقول الله تعالى : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (١) ويقول : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) (٢).

٢ ـ وبجانب تشريع النظافة ، يشرع الإسلام الأكل من الطيبات التي تغذي البدن وتقوّيه ، ليؤدي وظيفته ويقوم بنشاطه على خير وجه وأحسنه.

يقول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ* إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ، وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) (٣).

كما يمنع الإسراف في تناول الطعام ، فانه يضر الجسم ، ويعرّضه لكثير من الأمراض والعلل.

قال الله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).

__________________

(١) سورة التوبة : الآية ١٠٨.

(٢) سورة المدثر : الآية ٤.

(٣) سورة البقرة : الآيتان ١٧٢ و ١٧٣.

٢٠